عناصر المادة
الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع.
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
هذا هو الدرس الثالث عشر في شرح كتاب الفضائل، أو في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ” في هذا اليوم، الثّلاثاء (26 صفر 1442هـ).
فضائل موسى
ولا زلنا في فضائل موسى عليه الصلاة والسلام:
وسبق أن قلنا: إن موسى من أعظم الأنبياء، ولذلك؛ النبي قال: عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرُّهيط، ورأيت النبي وليس معه إلا رجلان أو ثلاثةٌ، والنبي وليس معه أحدٌ، فإذا سوادٌ عظيمٌ قد سدَّ الأفق، فظننت أنهم أمتي، فقيل: هذا موسى ومن معه [1].
وهذا يدل على كثرة من آمن معه، وعلى فضل هذا النبي العظيم، فهو من أُولِي العزم من الرسل، ومن أفضل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعًا.
قصة موسى مع ملك الموت
كنا قد وصلنا إلى قصة موسى مع ملك الموت:
قال:
وحدثني محمد بن رافعٍ وعبد بن حُميدٍ، -قال عبدٌ: أخبرنا، وقال ابن رافعٍ: حدثنا- عبدالرّزاق، أخبرنا مَعمرٌ عن ابن طاووسٍ عن أبيه، عن أبي هريرة قال: «أُرسل ملك الموت إلى موسى ، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثورٍ، فله بما غطت يده بكل شعرةٍ سنةٌ، قال: أي ربِّ، ثم مَهْ؟ قال: الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يُدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجرٍ، وقال رسول الله : فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر [2].
ثم ساقه الإمام مسلم رحمه الله بعدة طرقٍ ورواياتٍ، قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى، ولَم يُسمَّ ملك الموت، والمشهور عند الناس أن ملك الموت هو عزرائيل، ولكن ذلك لم يثبت، قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله: “لم يصرَّح باسم ملك الموت في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح”، وقال الحافظ السيوطي رحمه الله: “لم ترد تسميته في حديثٍ مرفوعٍ”.
وقد ورد ذكره في القرآن الكريم باسم: ملك الموت: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11].
فالأحسن أن يقال: ملك الموت، ولا يقال: عزرائيل؛ لأن عزرائيل لم يثبت ذلك في حديثٍ صحيحٍ، لم يرد ذلك في القرآن، ولم يثبت في حديثٍ صحيحٍ عن النبي ، ولذلك؛ فالأحسن أن يقال: ملك الموت، ولا يقال: عزرائيل.
قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى ، فلما جاءه صكَّه: أُرسل ملك الموت إلى موسى على هيئة رجلٍ، وكان ملك الموت في تلك الأزمنة يتمثل بصورة بشرٍ، ولهذا؛ ذكر بعض المفسرين: أن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، لما كان ذات مرةٍ في مجلسه، وإذا بإنسانٍ غريبٍ يُصعِّد النظر في أحد الجالسين، فهذا الجالس لما رأى هذا الإنسان الغريب يصعد فيه النظر خاف منه، وكانوا يخشون إذا وجدوا إنسانًا غريبًا أن يكون ملك الموت؛ لأن ملك الموت كان يتمثل بصورة إنسانٍ في تلك الأزمنة، فقال هذا الرجل -وكان من جلساء سليمان – قال: يا نبي الله، أرغب منك أن تأمر الريح أن تلقيني إلى أقصى الدنيا، إلى بلاد الهند، -كانت بلاد الهند في ذلك الوقت هي أقصى الدنيا، فقال سليمان: لك ما طلبت، فأمر الريح فأخذته لتلقيه في بلاد الهند.
فلما أراد ملك الموت أن يخرج، قال لسليمان : إني لأعجب من هذا الرّجل! أنا مأمورٌ بقبض روحه بعد قليلٍ في بلاد الهند، وهو الآن عندك!
فسبحان الله! ذهب إليه ملك الموت في بلاد الهند وقبض روحه، فكان ملك الموت في تلك الأزمنة يأتي على صورة إنسانٍ.
هنا في هذه القصة ملك الموت أتى موسى على صورة رجلٍ، لما جاءه صكَّه، يعني: لطمه موسى؛ لأنه وجد إنسانًا غريبًا داخل بيته، دخل بدون إذن، فأراد أن يدفعه فلطمه، ففقأ عينه. فرجع ملك الموت إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه يعني: رده على صورتِها السابقة.
وقال: ارجع إليه –يعني: على صورتك السابقة- فقل له يضع يده على متن ثورٍ يعني: على جلد ثورٍ، متن ثورٍ يعني: على ظهر ثورٍ.
فله بما غطت يده بكل شعرةٍ سنةٌ: وهذه سنواتٌ كثيرةٌ؛ لأنه إذا وضع يده على ظهر الثور، ستغطي يده شعراتٍ كثيرةً، قال له بكل شعرة سنةٌ، قال موسى: أي رب! ثم مَهْ؟، يعني: ماذا بعد ذلك؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، ما دام أن المسألة: الموت سيأتيني في النهاية، إذنْ أريد الموت الآن، فقبض الموت روحه.
فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يقبض نبيٌّ حتى يخُير بين الموت والحياة، سنة الله في الأنبياء، أن الله تعالى لا يقبض أرواحهم حتى يرسل إليهم فيخيرهم بين الموت والحياة، حتى نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام خيره الله تعالى بين الموت والحياة، فقال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى [3].
فهنا خُير موسى عليه الصلاة والسلام بين أن يضع يده على ظهر ثورٍ، وله بكل شعرةٍ سنةٌ، وبين أن يموت، فقال: أريد الموت الآن.
فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة يعني: من بيت المقدس.
رميةً بحجرٍ يعني: مسافةً بقدر ما تصل إليه رمية الحجر، بقدر ما يبلغ إليه رمى الحجر، معنى ذلك: أنه مات في مكانٍ قريبٍ من بيت المقدس.
فقال رسول الله : فلو كنت ثَمَّ –يعني: هناك- لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكَثيب الأحمر، والكثيب الأحمر: هو الرمل المستطيل المُحْدَوْدِب، هو في طريق بيت المقدس.
فوائد قصة موسى مع ملك الموت
هذه القصّة فيها فوائد؛ منها:
- أن الملك قد يتمثل بصورة إنسانٍ، كما في هذه القصة، وأيضًا جاء في حديث عمر بن الخطاب قال: “أتى النبيَّ رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقال: يا محمد…”، سأل النبي عدة أسئلةٍ: ما الإسلام؟ والنبي يجيب، ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ ما أشراطها؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم [4]، فتمثل جبريل بصورة إنسانٍ، هذا يدل على أن الملك قد يتمثل بصورة إنسانٍ.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: استدل بعض أهل العلم بقوله: فله بكل شعرةٍ سنةٌ على أن الذي بقي من الدنيا كثيرٌ جدًّا؛ لأن عدد الشعر الذي تغطيه اليد قدر المدة التي بين موسى وبين بعثة محمدٍ مرتين أو أكثر، وهذا ظاهرٌ، فنحن الآن بعد بعثة محمدٍ عليه الصلاة والسلام في القرن الخامس عشر الهجري، فإن قال قائلٌ: أليس الله تعالى قال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين [5]، فنقول: المقصود بذلك القرب النِّسْبي، والزمن عند الله يختلف عن الزمن عند البشر، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، أرأيت لو كنت قادمًا من بلادٍ بعيدةٍ من أقصى الغرب، أو من أقصى الشرق، كنت قادمًا مثلًا إلى مكة من أقصى الشرق، من الصين أو ما بعدها، فإذا وصلت إلى الرياض تقول: أنا قريبٌ جدًّا من مكة، مع أن بينك وبين مكة أكثر من ألف كيلو؟ لكن المقصود هنا القرب النِّسبي، يعني: أن ما تبقَّى من المسافة مقارنةً بما مضى قليلٌ جدًّا؛ هكذا أيضًا ما تبقَّى من الدنيا مقارنةً بما بقي منها يعتبر قليلًا جدًّا، والساعة قريبةٌ جدًّا.
حكم الدعاء بزيادة العمر
- استدل بعض أهل العلم بهذه القصة على جواز طلب الزيادة في العمر؛ لأن الله أرسل إلى موسى وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثورٍ، فله بما غطت يده بكل شعرةٍ سنةٌ [6]، وأن موسى فقأ عين ملك الموت، وهو لم يكن يعرف أنه ملك الموت، وكأنه يريد الزيادة في العمر، وهذا استنباطٌ من بعض أهل العلم، سواءٌ صح هذا الاستنباط أو لم يصح؛ فقد دلت السُّنة على أنه لا بأس بالدعاء بطول العمر، لكن ينبغي تقييد ذلك بـ”على طاعة الله”؛ فإن النبي دعا لأنس بن مالكٍ بطول العمر، وقال: خيركم من طال عمره، وحسُن عمله [7]، فطول العمر مع حسن العمل نعمةٌ عظيمةٌ، بينما طول العمر مع سوء العمل نقمةٌ؛ لأن طول العمر مع حسن العمل تزيد به الحسنات والأجور، بينما طول العمر مع سوء العمل تزيد به السيئات والذنوب، ولهذا؛ فلا بأس بالدعاء بطول العمر، لا بأس بأن تقول لغيرك: أطال الله عمرك، ولكن ينبغي تقييد ذلك بأن تقول: أطال عمرك على طاعته، ولا بأس بأن تقول: اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسُن عمله.
- بوَّب البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: “باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها”؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يُدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجرٍ، يعني: بقدر المسافة التي يصل إليها الحجر إذا رُمي، فسأل الله الدنو من الأرض المقدسة، فقالوا: إنه لا بأس بطلب الدفن في الأرض المقدسة؛ تعرُّضًا لرحمة الله .
وقال بعض أهل العلم: إن موسى عليه السلام إنما طلب ذلك؛ لأجل أن الأرض المقدسة هي أرض المحشر، فأراد أن يكون عند المحشر قريبًا، والله تعالى أعلم.
قبر موسى لا يُعرف، لا يثبت مكان قبر نبِيٍّ من الأنبياء عليهم السلام، إلا قبر نبينا محمدٍ ، وقيل: وقبر إبراهيم في الخليل، لكن قبر إبراهيم أثبته من أثبته في ناحيةٍ، من غير قطعٍ بعين ذلك القبر أنه قبر إبراهيم ، وأما من عداهما فلا يثبت قبر نبِيٍّ من الأنبياء عليهم السلام ، فمن ادَّعى أنه يعرف قبر موسى، أو قبر يوسف، أو قبر نوحٍ، أو قبر أي نبيٍّ من الأنبياء عليهم السلام فهو كاذبٌ، لم يثبت ذلك أبدًا، سوى قبر نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وعلى ما قيل من قبر إبراهيم ، وأنه أيضًا في ناحيةٍ، ولا يُقطع بعين ذلك القبر.
ولله الحكمة في هذا: أنه لو عُلم بقبور الأنبياء فربَّما غلا الناس فيهم، وعبدوهم من دون الله ، لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد [8]، وحمى الله تعالى قبر نبيه ، وأحيط بثلاثة جدران، فلا أحد يصل إليه.
قبر نبينا عليه الصلاة والسلام محاطٌ من جميع الجهات بالبناء بثلاثة جدران، وذلك؛ حمايةً لجناب التوحيد؛ حتى لا يغلوا فيه بعض الناس، فيطوفوا به، أو يعبدوه من دون الله تعالى.
لماذا موسى عليه الصلاة والسلام فقأ عين ملك الموت؟
قلنا: فعل ذلك؛ دفاعًا عن نفسه؛ لأنه ظن أنه رجلٌ قصَده يريد نفسه، فدفعه، فأدت المدافعة إلى فقء عينه، وهو إنما فعل ذلك؛ دفاعًا عن نفسه.
ثم ذكر المصنف رحمه الله طرقًا ورواياتٍ لهذا الحديث:
جاء ملك الموت إلى موسى، فقال: أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي، فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثورٍ، وما توارت يدك من شعرةٍ فإنك تعيش بها سنةً، قال: ثم مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريبٍ، رب أمتني من الأرض المقدسة رميةً بحجرٍ، قال رسول الله : لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر [9].
هذه قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع ملك الموت.
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث الذي بعده:
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله في “صحيحه”:
نهي النبي عن المفاضلة بين الأنبياء
حدثني زهير بن حربٍ، حدثنا حُجَين بن المثنَّى، حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة، عن عبدالله بن الفضل الهاشمي، عن عبدالرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: “بينما يهوديٌّ يَعرض سلعةً له أُعطي بها شيئًا كرهه أو لم يرضه -شك عبدالعزيز- قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فسمعه رجلٌ من الأنصار فلطم وجهه، قال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر، ورسول الله بين أَظْهُرنا، قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله ، فقال: يا أبا القاسم! إن لي ذمَّةً وعهدًا، وقال: فلانٌ لطم وجهي، قال رسول الله : لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله، والذي اصطفى موسى على البشر، وأنت بين أظهرنا؟ قال: فغضب رسول الله حتى عُرف الغضب في وجهه، ثم قال: لا تفضِّلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصُّور ويصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون في أول من بُعث، أو في أول من بُعث، فإذا موسى آخذٌ بالعرش، فلا أدري: أحُوسب بصعقته يوم الطور، أو بُعث قبلي، ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متَّى [10].
هذه القصة حصلت بين أنصاريٍّ ويهوديٍّ، اليهودي كان يعرض سلعةً في السوق، فأُعطي بها شيئًا كرهه، يعني: كأنه أعطي مبلغًا أقل من مبلغ السلعة المعتاد، وقال: لا، يعني: لن أبيعك، قال: والذي اصطفى موسى عليه الصلاة والسلام على البشر، الأنصاري لما سمع هذا الكلام لطم اليهودي، قال: تقول هذا والنبي عليه الصلاة والسلام بين أظهرنا؟ اليهودي ذهب واشتكى للنبي عليه الصلاة والسلام هذا الأنصاري، فالنبي عليه الصلاة والسلام غضب حتى عرف الغضب في وجهه، وقال: لا تفضلوا بين أنبياء الله، فهنا نَهى النبي عليه الصلاة والسلام عن التفضيل بين الأنبياء، مع أن الله قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، وأفضل الأنبياء بالإجماع هو نبينا محمدٌ ، والشفاعة العظمى هو الذي يشفع عندما يعتذر عنها أولو العزم من الرسل عليهم السلام، لكن هنا قال عليه الصلاة والسلام: لا تفضّلوا بين أنبياء الله.
المراد من عدم المفاضلة بين الأنبياء
قال أهل العلم: المراد هنا لا تفضلوا بين الأنبياء على وجهٍ يلزم منه نقص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والنزاع، فإذا كان التفضيل يفهم منه انتقاص المُفضَّل عليه؛ فيكون التفضيل ممنوعًا، أما إذا كان على سبيل الإخبار فلا بأس.
إذنْ نقول في التفضيل بين الأنبياء: إذا كان التفضيل بين الأنبياء على سبيل الإخبار فلا بأس، فإن الله قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253].
أما إذا كان على وجه الانتقاص من المفضَّل عليه فإن هذا لا يجوز، وهو الذي يَرِد عليه النهي في قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفضلوا بين أنبياء الله، إذا كان على سبيل انتقاص من المفضَّل لمن فُضل عليه، فإن هذا هو الذي يرد عليه النهي في قوله: لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه لا يجوز انتقاص أي نبيٍّ من الأنبياء.
ويجب على المسلم أن يؤمن بجميع أنبياء الله تعالى جملةً، وأن يؤمن بمن سمَّى الله تعالى منهم، ولا يجوز انتقاص أي نبيٍّ من الأنبياء عليهم السلام بأية صورةٍ من صور الانتقاص.
فإذا كان التفضيل بين الأنبياء يفهم منه انتقاص النبي المفضَّل عليه فإن هذا التفضيل لا يجوز، أما إذا كان التفضيل على سبيل الإخبار فلا بأس به.
وهذا يدل على تواضع النبي وإلا فإنه هو أفضل الأنبياء، ومع ذلك قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله، ويدل على احترامه لإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال: فإنه ينفخ في الصُّور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله.
النفخ في الصور
النفخ نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث.
أما نفخة الصعق فهذه تكون في آخر الدنيا، عندما يأذن الله بانتهاء هذه الدنيا؛ فإن الله تعالى يأمر الملك الموكَّل (إسرافيل) بالنفخ في الصور، فينفخ في الصور، فيُصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله؛ كما قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، ويبقى الناس مدةً زمنيةً طويلةً، جاء في الحديث: أنَّها أربعون، ولا ندري عن تحديد هذه المدة، ولهذا؛ لما سُئل أبو هريرة : أربعون عامًا؟ قال: “أبيت”، قال: أربعون شهرًا؟ قال: “أبيت”، قال: أربعون يومًا؟ قال: “أبيت”، هي مدةٌ زمنيةٌ الله أعلم بحقيقتها.
ثم بعد ذلك يأمر الله بإنزال ماءٍ كمني الرجال على القبور، فتنبت الأجساد، وكل جسدٍ ينبت من عَجْب الذَّنَب، الذي هو العُصعص آخر العمود الفقري، هذا لا يبلى: كل شيءٍ من ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب [11]، وهو صغيرٌ جدًّا لا يُرى بالعين المجردة، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة، فتنبت الأجساد، حتى إذا تكامل نُموُّها، جمَع الله تعالى الأرواح في الصُّور، ثم أمَر إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة البعث، فتتطاير الأرواح وتذهب كل روحٍ إلى جسدها، ويقوم الناس من قبورهم حفاةً عراةً غُرْلًا.
سبحان الله العظيم! انظر إلى عظمة الرب وعظيم قدرته.
فهما إذنْ نفختان:
- نفخة الصعق، تكون في آخر الدنيا: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].
- ثم بعد ذلك تكون نفخة البعث: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
قال: ويصعق يعني: نفخة الصعق، ويصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى يعني: نفخة البعث.
فأكون في أول من بُعث: أول من يبعث بعد نفخة البعث، وأول من يُفيق، هو نبينا محمدٌ ، ولهذا في الرواية الأخرى: فأكون أول من يُفيق.
قال: أو في أول من بعث، فإذا موسى آخذٌ بالعرش، فلا أدري: أحُوسب بصعقته يوم الطور، أو بعث قبلي؟.
إذا بعث النبي محمدٌ عليه الصلاة والسلام وجد موسى آخذًا بالعرش، وفي الرواية الأخرى التي ساقها مسلمٌ: فإذا موسى باطشٌ بجانب العرش.
نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام أول من بُعث، لكن يجد أن موسى سبقه، يقول: فلا أدري: أحُوسب بصعقته يوم الطور، أو بعث قبلي؟، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ربما أنه بعث قبلي، وربما أنه لم يصعق مع من صعق، وحوسب بصعقته يوم الطور؛ وذلك أن موسى قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ، قال الله : لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، مُجرَّد تجلٍّ، الجبل ما تحمل، على عظمته وضخامته ما تحمل، سبحان الله! فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]، أيضًا موسى من هول الموقف صُعق، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] غُشي عليه، سبحان الله! فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].
فالله له العظمة والجلال: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشّورى:5]، من شدة عظمته جل وعلا، وفَرَقًا وخوفًا منه .
فموسى عليه السلام قد صعق في ذلك الموقف، فيقول عليه الصلاة والسلام: فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور، أو بعث قبلي؟.
قال القاضي عياض رحمه الله: “وهذا من أشكل الأحاديث؛ لأن موسى قد مات، فكيف تدركه الصعقة، وإنما تدرك الصعقة الأحياء؟!”، الله تعالى أعلم، هذا الإشكال الذي طرحه القاضي عياض رحمه الله واردٌ، لكن الله تعالى أعلم، بعض أهل العلم أجاب عن ذلك بأن المقصود هنا: نفخة الفزع، وجعلوا النفخات ثلاثًا:
- نفخة الصعق.
- ونفخة الفزع.
- ونفخة البعث.
ولكن الصحيح أنهما نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث.
ولكن نقول جوابًا عن ذلك: إن عالَم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا، فهناك أمورٌ لا نستطيع أن ندركها الآن بعقولنا الصغيرة المحدودة، فنؤمن بها كما وردت، والله تعالى أعلم وأحكم، هذا أحسن ما يقال في الجواب عن ذلك.
قال: ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى عليه السلام هنا أيضًا لما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن التفضيل بين أنبياء الله تعالى على سبيل التنقُّص، قال: لا أقول إن أحدًا أفضل من يونس، يعني نهى هنا عن أن ينتقص أحدٌ يونس عليه الصلاة والسلام، فيقول: يونس أفضل منه أو من غيره، ولكن هذا على سبيل التواضع من النبي عليه الصلاة والسلام، وإلا فهو أفضل الأنبياء والرسل.
سبب ذكره يونس دون سائر الأنبياء
وإنما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام يونس من بين سائر الأنبياء؛ لأن الله تعالى قد ذكر قصته في القرآن وما جرى له، من أنه لما غضب على قومه قد آمن قومه لمَّا غضب وذهب، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:142]، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فاستجاب الله تعالى له، وأمر الحوت فلفظه، وأنبت عليه شجرةً من يقطينٍ.
فبعض الناس قد ينتقص يونس عليه الصلاة والسلام، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك، وقال: لا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس، فلا يجوز انتقاص أي نبيٍّ من الأنبياء، لا موسى ولا يونس عليهما السلام، ولا غيرهم، ولا أيضًا يجوز التفضيل الذي يفهم منه انتقاص نبيٍّ من الأنبياء، أو لمز نبيٍّ من الأنبياء، لا يجوز ذلك، إنما إذا كان على سبيل الإخبار فلا بأس، فأنبياء الله ورسله عليهم السلام هم صفوة البشر، وهم خير البشر، فالواجب الإيمان بهم، وبالكتب المنزلة عليهم، وتعظيمهم وتوقيرهم، ومحبتهم، والإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله… [12].
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث أيضًا من طريقٍ أخرى:
“استبَّ رجلان: رجلٌ من اليهود ورجلٌ من المسلمين؛ فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، قال: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله ، وأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فقال رسول الله : لا تُخيِّروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطشٌ بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله [13].
المستثنَون من الموت بالصَّعق
ممن استثنى الله: يعني في قوله : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]؛ لأن الله تعالى استثنى أناسًا لا يموتون بالصعق، وهؤلاء الذين استثناهم الله للعلماء فيهم كلامٌ كثيرٌ؛ قيل: إن المقصود بهم الحور العين، وقيل أيضًا: إنهم الأرواح؛ لأن الإنسان عندما يموت، روحه تفارق جسده، الجسد يصبح ترابًا، يبلى إلا عَجْب الذَّنَب، والروح إن كان من أهل الجنة، تكون في أعلى عليين، وإن كان أهل النار تكون في أسفل سافلين في سجِّين.
لكن عند نفخة الصعق هل تفنى الروح، أو لا تفنى؟ هل الروح تفنى ثم يحيها الله ، أو أنها تبقى فلا تفنى؟
قولان لأهل العلم:
فبعض أهل العلم قال: إنها تفنى، ويشملها قول الله : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68].
وقال آخرون: إنها تكون ممن استثنى الله في قوله: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، فالله تعالى أعلم.
تقي الدين بن السُّبكي رحمه الله استظهر القول بأنها لا تفنى، لكن ليس على ذلك دليلٌ ظاهرٌ، والله تعالى أعلم، الأحسن عدم الخوض في هذه المسائل؛ لأنه لا يترتب عليها كبير فائدةٍ.
قال:
وحدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي، وأبو بكرٍ بن إسحاق، ثم ساق الحديث من طريقٍ أخرى، عن أبي هريرة قال: “استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود”، بمثل حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهابٍ.
ثم ساق الحديث أيضًا من طريقٍ أخرى عن أبي سعيدٍ قال:
“جاء يهوديٌّ إلى النبي قد لُطِم وجهه”، وساق الحديث بمعنى حديث الزهري، غير أنه قال: فلا أدري أكان ممن صَعِق فأفاق قبلي، أو اكتفى بصعقة الطور؟ [14].
ثم أيضًا ساق الحديث عن أبي سعيدٍ :
لا تُخيِّروا بين الأنبياء
أي: لا تفضلوا بين الأنبياء على وجه الانتقاص للنبي المفضَّل عليه.
لقاء نبينا بموسى
انتقل بعد ذلك للحديث الذي بعده، قال:
حدّثنا هدَّاب بن خالدٍ، وشيبان بن فَرُّوخَ قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابتٍ البُنَاني وسليمان التيمي، عن أنس بن مالكٍ ، أن رسول الله قال: أتيت -وفي رواية هدَّابٍ: مررت- على موسى ليلة أُسرِي بي عند الكثيب الأحمر وهو قائمٌ يصلي في قبره [15].
وحدثنا علي بن خشرمٍ، أخبرنا عيسى -يعني: بن يونس- ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جريرٌ، كلاهما عن سليمان التيمي، عن أنسٍ، ح وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان عن سفيان، عن سليمان التيمي، سمعت أنسًا يقول: قال رسول الله : مررت على موسى وهو يصلي في قبره، وزاد في حديث عيسى: مررت ليلة أسري بي [16].
هذا الحديث ذكر فيه النبي أنه ليلة أسري به مر على موسى عند قبره عند الكثيب الأحمر عند بيت المقدس.
نحن قلنا: إن موسى مات في مكانٍ قريبٍ من بيت المقدس عند الكثيب الأحمر، والنبي عليه الصلاة والسلام أُسرِي به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو في طريقه يقول: رأيت موسى يصلي عند قبره، وهذه الصلاة قد تكون بمعنى الذكر والدعاء، ويحتمل أنه رآه يصلي في قبره قبل صعوده إلى السماء ليلة المعراج، وإلا، فقد التقى نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام بموسى في السماء السادسة، وهو الذي طلب من نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام أن يراجع ربه فيسأله التخفيف على أمته؛ لأن الصلاة أول ما فرضت خمسين صلاة في اليوم والليلة، وموسى لمَّا سأل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: ما فرض ربك على أمتك؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، إلى أن استقرت على خمس صلوات [17].
فهنا المحاورة التي حصلت بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين موسى كانت في السماء السادسة. وفي هذا الحديث يقول: رأيت موسى يصلي في قبره ليلة أسري بي، فيحتمل أنه كان يصلي في قبره، ثم بعد ذلك صعدت روحه إلى السماء السادسة.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله عن صلاة موسى المذكورة في هذا الحديث، أن موسى كان يصلي في قبره، قال: “هذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت ويتنعم بها، كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح؛ فإنهم يُلهمون التسبيح، كما يلهم الناس في الدنيا النفَس، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يُطلب له ثوابٌ منفصلٌ، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به”.
هذا هو تفسير أبي العباس ابن تيمية رحمه الله لهذه الصلاة، وهو أجود ما قيل في هذه المسألة وفي تفسير هذا الحديث.
وهذا الحديث صريحٌ في إثبات حياة موسى في قبره، موسى عليه الصلاة والسلام مات ودفن في الأرض -كما ذُكر- عند الكثيب الأحمر، لكن روحه باقيةٌ، والله يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وهذا لا يختص بالشهداء فقط؛ وإنما يشمل ذلك جميع الأموات، فإن لهم حياةً، لكن الحياة تتفاوت، هي حياةٌ برزخيةٌ، يتفاوتون فيما بينهم في هذه الحياة، فأعلى درجات هذه الحياة حياة الأنبياء، ثم حياة الصدِّيقين، ثم حياة الشهداء، ثم حياة الصالحين، ثم حياة بقية المؤمنين.
وإنما قال الله : وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا [آل عمران:169]، ردًّا على من يعتقد أن هؤلاء الذين قُتلوا في سبيل الله أنهم قد فنوا وماتوا، والله تعالى يذكر أن لهم حياةً أخرى، هي الحياة البرزخية، فهم أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، ولهذا قال جمعٌ من أهل العلم، ومنهم أبو العباس ابن تيمية وغيره: “إن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، ليست خاصةً بالشهداء؛ وإنما جميع المؤمنين بعد موتهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون”.
فجميع المؤمنين تكون لهم حياة الأرواح، وهذه الأرواح لها حياةٌ برزخيةٌ خاصةٌ، والإنسان في فترة البرزخ إما أن ينعم أو يعذب، ونعيم القبر وعذابه أتت به الأدلة المتواترة، لكن هذه الحياة حياةٌ خاصةٌ لا ندركها، ليست كالحياة في الدنيا، فهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون، إذا كانوا من أهل الجنة، فهم يكونون في الجنة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن روح المؤمن تكون على شكل نسمة طائرٍ تسرح في الجنة حيث شاءت [18].
فإذنْ بعدما تفارق روح الإنسان بدنه، وبعدما يدفن في قبره، تعاد روحه إلى جسده حتى يُسأل الأسئلة من الملائكة: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا النبي الذي بُعث فيكم؟ بعدما يُمتَحن ويُسأل؛ إن كان من أهل الجنة صعدت روحه في أعلى عليين، وإن كان من أهل النار، فإنها تكون في سجِّين، وفي أسفل سافلين.
ثم ساق المصنف رحمه الله بسنده حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال:
يعني الله تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبدٍ لي -وقال ابن المثنى: لعبدٍ- أن يقول: أنا خيرٌ من يُونس بن مَتَّى [19].
يعني: هنا جاء من كلام الرب .
ثم ساق حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن النبي قال:
ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متَّى، ونسبه إلى أبيه [20].
هذا كما سبق: من أنه لا يجوز أن يُنتقص من يونس عليه الصلاة والسلام بأية صورةٍ من الصور، ولا أن يُذكر فعله مع قومه على سبيل الانتقاص له، فإنه عليه الصلاة والسلام لما لم يؤمن قومه، ذهب مغاضبًا، فقدَّر الله عليه والْتقمه الحوت، إلى آخر ما قص الله تعالى علينا.
وهذا الذي حصل لا يجوز أن يكون سببًا في انتقاص يونس عليه الصلاة والسلام، أو تفضيل بعض الأنبياء عليه على سبيل الانتقاص من يونس عليه الصلاة والسلام.
من فضائل يوسف
باب من فضائل يوسف
حدثنا زُهير بن حربٍ ومحمد بن المثنَّى، وعُبيدالله بن سعيدٍ، قالوا: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عبيدالله، أخبرني سعيد بن أبي سعيدٍ عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قيل: “يا رسول الله، من أكرمُ الناس؟ قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا [21].
سبب كون يوسف أكرم الناس
فهنا لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: من أكرم الناس؟ قال: إنه يوسف عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جمع مكارم الأخلاق، مع شرف النبوة وشرف النسب، لأنه نبيٌّ وأبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جده نبيٌّ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، هل هناك أشرف من هذا؟! يوسف نبيٌّ، وأبوه يعقوب نبيٌّ، وجده إسحاق نبيٌّ، وأبو جده إبراهيم نبيٌّ، فهو قد جمع شرف النسب مع شرف النبوة مع مكارم الأخلاق، ولهذا؛ لما قيل للنبي : من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله -يعني: يعقوب- بن نبي الله -يعني: إسحاق- ابن خليل الله يعني: إبراهيم .
فيوسف عليه الصلاة والسلام سبحان الله إخوته حسدوه على حب أبيه له؛ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، يوسف وبنيامين ماتت أمهما، فكان أبوهما يعقوب يعطف عليهما؛ لأجل وضعهما؛ لأنهما أمهما ميتةٌ، بينما بقية أبنائه أمهم موجودةٌ، لكن إخوة يوسف لم يعذروه، انظر ماذا قالوا؟ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وصفوا أباهم بالضلال، وأيضًا ضلالٍ مبينٍ: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا [يوسف:9]، إلى هذه الدرجة! انظر إلى الحقد إذا كان لدى الإنسان، يجعله يتصرف تصرفاتٍ لا يحسب لها حسابًا، وإلا، كيف يقتلون أخاهم لأجل أن أباهم يحبه أكثر منهم؟!
ثم بعد ذلك اقترح أحدهم: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:10]، لعل هذا هو أحسنهم وأطيبهم، قال: هذا أهون الشر، فالتقطه بعض السيارة فقالوا: هذا عبدٌ هرب منا فباعوه.
يوسف سبحان الله! انظر إلى حقارة الدنيا، يوسف نبيُّ الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله، يباع عبدًا رقيقًا، ثم بعد ذلك حصل له ما حصل مما قصَّه الله تعالى علينا في سورة يوسف، إلى أن أصبح عزيز مصر، وأصبح على خزائن الأرض، فأعطاه الله من مُلك الدنيا، وأعطاه علم التأويل، وأيضًا شرف النسب، وشرف النبوة، فهو أكرم الناس بهذه الاعتبارات.
قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا.
قال العلماء: لما سئل : أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم وأعمه فقال: أتقاهم لله، ثم لما قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: يوسف الذي جمع خيرات الآخرة والدنيا وشرفهما، قالوا: ليس عن هذا نسألك، ففهم أن مرادهم قبائل العرب، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا.
ومعنى الحديث: أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية، إذا أسلموا وفقهوا، فهم خيار الناس.
وهذا الحديث يدل على:
- أن الكرم كله؛ عمومه وخصوصه، ومجمله ومُبهمه، إنما هو في تقوى الله : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
- وعلى أن خيار الناس في الجاهلية، هم خيارهم في الإسلام إذا أسلموا وفقهوا وحسن إسلامهم، لأن هذا يدل على طيب معدنهم؛ لأن خيار الناس في الجاهلية يدل على طيب المعدن، فهم خيار الناس في الإسلام إذا فقهوا، وأصبح عندهم فقهٌ وعلمٌ، وهذا يدل على أن طيب المعدن، أنه يؤثر على الإنسان.
نقف عند باب: من فضل زكريا ، نفتتح به درسنا القادم إن شاء الله تعالى.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة الواردة.
الأسئلة
السؤال: ما حكم لبس الكمَّامة لمن أراد العمرة في هذا الوقت مع جائحة (كورونا)؟
الجواب: إذا كان رجلًا فلا بأس بلبس الكمَّامة؛ لأن غاية ما فيها تغطية الوجه، أو تغطية جزءٍ من الوجه، ولا بأس بتغطية المُحرِم لوجهه على القول الراجح، والرواية المحفوظة إنما هي في النهي عن تغطية الرأس فقط، لا تُخمِّروا رأسه [22]، وأما زيادة: ولا وجهه [23]، فهي غير محفوظةٍ.
القول الراجح: أن المحرم يجوز له أن يغطي وجهه، وعلى ذلك: فلا بأس بلبس الكمامة للمحرم.
وأما بالنسبة للمحرمة: فإذا كان الكمَّام يغطي الفم والأنف فقط، فلا بأس به؛ لأن هذه مجرد تغطية لجزءٍ من الوجه، أما إذا كانت الكمامة تغطي معظم الوجه على وجهٍ يشبه النقاب، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا فرق حينئذٍ بين النقاب وبين هذه الكمامة.
السؤال: إمامٌ صلى في الوقت، وأطال في الصلاة إلى أن خرج وقتها، هل تصح هذه الصلاة؟
الجواب: هذا الإمام قد أخطأ بهذا التصرف، والأحوط إعادة تلك الصلاة؛ لأن شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة.
السؤال: هل يوجد فضلٌ في الجلوس في المصلَّى بعد صلاة المغرب، وذكر الله وقراءة القرآن حتى صلاة العشاء؟
الجواب: الذي ورد هو فضل الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فقد كان هذا هو هدي النبي غالبًا، يجلس في مصلاه بعد صلاة الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس، وأما ما عدا ذلك من الصلوات؛ كصلاة المغرب، فلا أعلم في ذلك فضلًا خاصًّا، لكن يشمله قول النبي : ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟… وذكر منها: وانتظار الصلاة بعد الصلاة [24]، فالذي يجلس بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء يكون منتظرًا للصلاة بعد الصلاة، فيدخل في هذا الفضل.
السؤال: هل تقرأ سورة السجدة والإنسان فجر الجمعة من الوسط؟
الجواب: هذا غير مشروعٍ، قد ذكر هذا ابن القيم وجماعة من أهل العلم، وقالوا: إن السُّنة أن يقرأ سورتي السجدة والإنسان كاملتين، أو يدعهما لا يقرؤهما، أما أن يجتزئ -يقرأ فقط سورة الإنسان يقسمها بين الركعة الأولى والثانية فجر الجمعة- فهذا خلاف السُّنة، أو يجتزئ سورة السجدة، أو يقرأ آخر السجدة، أو آخر الإنسان، فهذا خلاف السنة، فإما أن يقرأ السورتين جميعًا، أو يدعهما ويقرأ من غيرهما.
السؤال: ما فضل قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؟
الجواب: هذا الذكر من أعظم الأذكار، قد قال عليه الصلاة والسلام: من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قديرٌ، مئة مرةٍ، كان له عَدل عشر رقابٍ، وكتبت له مئة حسنةٍ، ومحيت عنه مئة سيئةٍ، وكانت حرزًا له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضل منه، إلا رجلٌ عمل مثلما عمل أو زاد [25]، فهذا الذكر من الأذكار العظيمة، ينبغي أن يأتي به المسلم بعد صلاة الفجر مئة مرةٍ، هذا هو الأكمل والأفضل، وكذلك يُكثر منه في أي وقتٍ، لكن يتأكد ذلك حين يصبح مئة مرةٍ.
السؤال: الاشتراط للحج أو العمرة، هل اللفظة الصحيحة: “إن حبسني حابسٌ فمَحِلِّي حيث حبستني”، أو: “فمَحَلِّي”؟
الجواب: “فمحِلِّي حيث حبستني”، وهذا الاشتراط إنما يقوله من خشي من عائقٍ يعوقه عن إتمام الحج أو العمرة، أما من كان لا يخشى من عائقٍ يعوقه، فالأفضل ألا يشترط، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: “حسْبكم سُنة نبيكم “، يعني: أن النبي لم يشترط، ولم يشترط بقية الصحابة ، وإنَّما أمر امرأةً واحدةً، هي ضُبَاعة بنت الزبير رضي الله عنها، أن تشترط؛ لأنها كانت مريضةً [26].
فمن كان مريضًا ويخشى من عدم إتمام الحج أو العمرة، أو كان يخشى من معوِّقاتٍ، خاصةً في ظل الظروف الحالية، يخشى من عائقٍ يعيقه عن إتمام العمرة، فهنا لا بأس أن يشترط، أما إذا كان لا يخشى من عائقٍ يعيقه، فالأفضل عدم الاشتراط.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 3410، ومسلم: 220. |
---|---|
^2, ^9 | رواه مسلم: 2372. |
^3 | رواه البخاري: 6509، ومسلم: 2444. |
^4, ^12 | رواه مسلم: 8. |
^5 | رواه البخاري: 6504، ومسلم: 2951. |
^6 | رواه البخاري: 1339، ومسلم: 2372. |
^7 | رواه الترمذي: 2329 بنحوه، وقال: حسنٌ. |
^8 | رواه مالك في “الموطأ”: 85. |
^10, ^13 | رواه مسلم: 2373. |
^11 | رواه البخاري: 4814، ومسلم: 2955. |
^14, ^15 | رواه مسلم: 2374. |
^16 | رواه مسلم: 2375. |
^17 | رواه البخاري: 3887. |
^18 | رواه مسلم: 1887. |
^19 | رواه مسلم: 2376. |
^20 | رواه مسلم: 2377. |
^21 | رواه مسلم: 2378. |
^22 | رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206. |
^23 | رواه مسلم: 1206. |
^24 | رواه مسلم: 251. |
^25 | رواه البخاري: 3293، ومسلم: 2691. |
^26 | رواه البخاري: 5089، ومسلم: 1207. |