logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(44) باب تحريم تعذيب الهرة- من حديث “عذبت امرأة في هرة أوثقتها..”

(44) باب تحريم تعذيب الهرة- من حديث “عذبت امرأة في هرة أوثقتها..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا.

هذا هو الدرس الرابع والأربعون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، الحادي عشر من شهر ربيع الآخر، من عام 1443.

باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي

وصلنا إلى:

37 – باب تحريم تعذيب الهِرَّةِ ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذِي

قال الإمام مسلمٌ رحمه الله في “صحيحه”:

133 – حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِاللهِ وَعَبْدُاللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ جَمِيعًا، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ، بِمَعْنَى حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ.

134 – (2242) وحَدَّثَنِيهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْأَعْلَى، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَوْثَقَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ.

ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا هذا الحديث بلفظ:

135 – … دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا -أَوْ هِرٍّ- رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمْرِمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا.

عُذِّبت امرأةٌ في هرَّةٍ أَوْثَقَتها [1]، يعني: حبستها -كما في الرواية الأخرى- وأيضًا قوله: من جَرَّاء يعني: بسببٍ، وقوله: تُرَمْرِمُ معناه: تتناول ذلك بشفتيها.

قد أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن امرأةً عُذِّبت بسبب تعذيب هرةٍ، وأنها قد حبست هذه الهرة فلم تطعمها ولم تسقِها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، يعني هوامِّ الأرض وحشراتها.

فوائد من حديث عذبت امرأة في هرة أَوثقتها.. :

من فوائد هذا الحديث:

  • دل هذا الحديث على تحريم تعذيب الحيوان، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعذب الحيوان، وأن من عذبه فإنه يستحق العقوبة، ولهذا؛ دخلت النار امرأةٌ بسبب تعذيب هرةٍ حسبتها، فلم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت من الجوع والعطش، عُذِّبت هذه المرأة بسبب تعذيبها لهذه الهرة.

وهذا يدل على أنه يجب احترام حقوق الحيوان، ولا يجوز تعذيب الحيوان؛ فإن الحيوان من مخلوقات الله ، خلق الله تعالى هذه الحيوانات لأجل مصلحة بني آدم؛ كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، وقال هذا سبحانه على سبيل الامتنان على عباده، فهذه المخلوقات التي على الأرض خلقها الله تعالى لبني آدم لكي يعبدوه ويطيعوه، ولكن لا يجوز لبني آدم أن يتعدوا على هذه الحيوانات، وأن يعذبوها فهذا لا يجوز.

وإذا كان هذا في تعذيب الحيوانات فكيف بتعذيب الإنسان؟! فمن يعذب الإنسان أولى بالعقوبة العظيمة الشديدة، فليس هناك دينٌ من الأديان يحترم حقوق الحيوان -فضلًا عن حقوق الإنسان- مثل هذا الدين العظيم، فإنه يمنع من تعذيب الحيوان ويمنع من باب أولى من تعذيب الإنسان، ومن انتهاك حقوق الإنسان.

ولذلك؛ فالذين يتشدقون بحقوق الإنسان، ويرفعون رايات حقوق الإنسان، نقول: الإسلام سبقهم في ذلك.

الإسلام هو أعظم الأديان مراعاةً لحقوق الإنسان، انظر كيف أن امرأةً عُذِّبت بسبب عدم مراعاة حقوق حيوانٍ، حبست هرةً فلم تطعهما ولم تسقِها، فعُذبت هذا العذاب الشديد، عذبت في النار؛ بسبب انتهاكها لحقوق هذا الحيوان، فكيف بحقوق الإنسان؟!

بل إن حقوق الإنسان عظَّم النبي -عليه الصلاة والسلام- شأنها فقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [2]، فهذا الدين العظيم -دين الإسلام- راعَى حقوق الإنسان، وراعَى حقوق الحيوان، وجعله الله تعالى شاملًا لجميع ما يحتاج إليه بنو آدم، والله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3].

  • دل هذا الحديث على جواز اتخاذ الهر واقتنائه، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لا هي أطعمتها إذ هي حبَسَتها..، دليلٌ على جواز اتخاذ الهر، لكن يطعمه الإنسان ويسقيه، واقتناء الهرة لا بأس به، وإن كانت هذه الهرة من الحيوان الذي يحرم أكله، لكنها كما قال عليه الصلاة والسلام: هي من الطوَّافين عليكم والطوَّافات [3]، لكثرة تَطْوافها على البيت، فيجوز اقتناؤها.
  • وأيضًا سُؤْر الهرة طاهرٌ وليس بنجسٍ؛ كما أخبر بذلك النبي ، يعني: ما يبقى من الهرة بعدما تشرب في الإناء، يكون طاهرًا، هذا يسمَّى السُّؤْر، هذا طاهرٌ وليس بنجسٍ.
    ونحن نعلم أن من أشهر الصحابة الحُفَّاظ لحديث النبي : هو أبو هريرة ، وقد لُقِّب بذلك؛ لهرةٍ كان يحملها، فاقتناء الهرة لا بأس به، اقتناء القطط لا بأس به.
  • دل هذا الحديث على جواز رباط الهر أو الهرة، بشرط أن يطعمها وأن يسقيها إذا اقتضت المصلحة ذلك فلا بأس، يعني لو اتخذ هرًّا أو هرةً ورَبَطَه أو وضعه في قفصٍ، ولكنه أطعمه وسقاه لا بأس بهذا، وهكذا أيضًا بقية الحيوانات، يعني مثلًا: لو ربط ناقةً مثلًا أو بعيرًا أو شاةً أو بقرةً، لكنه يقوم بإطعام هذا الحيوان وعَلْفه وسَقْيه فلا بأس بذلك، المهم أنه لا يعذب الحيوان، لا يربطه ويحبسه، ثم لا يطمعه ولا يسقيه، هذا هو المحرم، لكن لو أنه ربطه لمصلحةٍ لكنه يقوم بعلفه وإطعامه وسقيه فلا بأس بذلك، وأخذنا هذه الفائدة من قول النبي عليه الصلاة والسلام: فلم تُطعمها ولم تَسقها إذ هي رَبَطَتها؛ فدل ذلك على أنها لو أطعمتها وسقتها لم يكن عليها بأس في هذا.

باب تحريم الكبر

38 – بابُ تحريم الكِبْرِ

وساق المصنف رحمه الله حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما، قال:

136 – (2620) ..، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ : الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ.

العزُّ إزاري، وفي لفظٍ: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته.

“الكبرياء”، من الكِبر، والكِبر هو أَرْذَل أخلاق الإنسان.

الكِبر هو في حق الله تعالى كمالٌ، وفي حق المخلوق نقصٌ شديدٌ؛ إذ إنه يختص به الله ​​​​​​​، وأما في حق المخلوق فهو نقصٌ، ويعتبر أرذل أخلاق الإنسان.

معنى الكبر

وما معنى الكبر؟!

الكبر هو رؤية النفس فوق المُتكبَّر عليه، فإن الكِبْر يستدعي مُتكبَّرًا عليه، وبه يعلم الفرق بين الكِبْر والعُجْب؛ فإن العجب لا يستدعي معجبًا عليه، بل كما يقول العماء: لو لم يخلق إلا هذا الإنسان وحده لتصور أن يكون معجبًا، لكن الكِبْر يستدعي متكبَّرًا عليه، فلا يتصور أن يكون متكبِّرًا إلا مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، فهذا هو الفرق بين الكبر والعجب، فكلاهما فيه رؤية للنفس، المُعجَب يرى نفسه ويعتد بنفسه، والكبر كذلك يرى نفسه، لكن الكبر يزيد على العجب بأنه يرى نفسه فوق غيره يرى نفسه ويحتقر غيره، يحتقر الآخر يرى نفسه فوق الآخرين ويحتقرهم بينما المعجب هو يعتد بنفسه، ولا يستدعي ذلك أن يكون معجبًا عليه، لا يستدعي من ذلك أن يكون هناك شخص معجبًا عليه، وإنما هو معجبٌ في نفسه فقط، وليس له علاقة بالآخرين، هو عنده اعتدادٌ بنفسه، عنده إعجابٌ بنفسه لكن لا يستدعي ذلك وجود غيره.

أما الكبر فلا يتصور إلا مع وجود مُتكبَّرٍ عليه؛ لأنه يرى نفسه فوق الآخرين، فهو يعتد بنفسه، ويرى نفسه، ويحتقر غيره، هذا هو الكبر.

ولهذا لما سئل النبي عن الكبر فقيل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً؟ يعني: هل هذا من الكبر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله جميلٌ يحب الجمال يعني: هذا ليس من الكبر، كون الإنسان يلبس الملابس الحسنة، والنعل الحسنة، والمركب الحسن، ويتخذ البيت المناسب الحسن، هذا ليس من الكبر في شيءٍ.

إذنْ، ما هو الكبر؟

قال عليه الصلاة والسلام: الكبر بَطَر الحق، وغَمْط الناس [4]. فالكبر حالةٌ نفسيةٌ تقوم بالإنسان، يرى الإنسان نفسه ويحتقر غيره، ويَرُدُّ بسبب ذلك الحقَّ فلا يقبله ممن أتى به، ويحتقر الناس.

بَطَر الحق يعني: رد الحق ممن جاء به.

وغَمْط الناس يعني: احتقار الناس وازدراؤهم، فهذا هو الكِبر.

فالكبر إذنْ، هو من أسوأ وأرذل الأخلاق، وكما يقال: إن المتكبر هو الإنسان الوحيد الذي لا يُرحم صاحبه، ما من أحدٍ يرحم هذا المتكبر.

فإذنْ، الكبر هو من أرذل وأسوأ الأخلاق.

وهذا يدل على أن هناك أخلاقًا إذا اتصف الله تعالى بها تكون بالنسبة له صفة كمالٍ، وإذا اتصف بها الآدمي تكون صفة نقصٍ ؛كالكِبر.

الكِبر في حق الله صفة كمال؛ لأن الله تعالى هو الذي يستحق أن يتكبر، هو الخالق لهذا الكون، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، هو المستحِقُّ بحقٍّ أن يتكبر، فهو متكبرٌ، ومن أسمائه: “المتكبر”.

أما المخلوق فإنسانٌ ضعيفٌ كيف يتكبر على غيره؟ فليس له أن يتكبر على غيره، ولذلك عُدَّ الكبر من أرذل الأخلاق.

معنى قوله العز إزاري والكبرياء ردائي

هنا في قوله: العز إزاري والكبرياء ردائي، وفي لفظ: العز إزاره والكبرياء رداؤه، هل يفهم من هذا إثبات صفة الإزار والرداء لله ، ونقول: إثبات ذلك على الوجه اللائق بالله سبحانه كسائر صفاته؟! قال بهذا بعض أهل العلم.

والذي يظهر والله أعلم: أن هذا من باب تقريب المعاني بضرب الأمثال، وأنه ليس من صفات الله تعالى الإزار والرداء.

وقد تكلم عن هذا الإمام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية، وذكر هذا المعنى، وقال: ليس ظاهر الحديث: أن لله إزارًا ورداء من جنس الإزار والرداء الذي يلبسه الناس، بل الحديث نصٌّ في نفي هذا المعنى الفاسد، فإنه لو قال بعض العباد: العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه، لكان القول بأن معنى ذلك الرداء والإزار الذي هو من جنس الثياب لكان هذا المعنى غير مقبولٍ، وأن هذا الإنسان لا يصدق عليه هذا المعنى؛ لأن تركيب اللفظ يمنع من ذلك، فكيف في حق الله ؟!

وعلى هذا فيكون المعنى كما قال الخطابي: إني مختصٌّ بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزِر والمرتدي بإزاره وردائه، فلا يصلح أن أنازَع فيهما، هذا هو القول الراجح في معنى هذا الحديث.

إذنْ، القول الراجح -كما قال ابن تيمية رحمه الله- في معنى هذا الحديث: أنه لا يستفاد من هذا الحديث إثبات صفة الإزار والرداء لله ؛ لأن تركيب اللفظ -كما قال أبو العباس ابن تيمية- يأبى هذا المعنى، ولكن المعنى أني مختصٌّ بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزِر بإزاره والمرتدي بردائه، فلا يصلح أن أنازَع فيهما، هذا هو معنى هذا الحديث.

وكما أن نفي الصفات عن الله كبيرةٌ، فكذلك أيضًا إثبات الصفات لله سبحانه مع عدم وضوح المعنى أيضًا لا بد فيه من التثبت، ولا بد فيه من التبين، فإثبات صفة الإزار والرداء لله لا يظهر من هذا الحديث إثبات ذلك، وإنما -كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى- أن المعنى: أني أَختصُّ بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزِر بإزاره والمرتدي بردائه، فلا يصلح أن أنازَع فيهما، هذا هو معنى هذا الحديث، فهذا من باب تقريب المعاني للأذهان، ومن باب ضرب الأمثال، ولا يستفاد من ذلك إثبات صفة الإزار والرداء لله ، وإن كان قد قال بذلك بعض السلف، وبعض أهل السنة قال بذلك، لكن الراجح هو ما قرره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من عدم إثبات صفة الإزار والرداء لله، وإنما هذا من باب تقريب المعاني للأذهان، وأن معنى الحديث أني مختصٌّ بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزر بإزاره، والمرتدي بردائه، فلا يصلح أن أنازَع فيهما، هذا هو المعنى الصحيح لهذا الحديث.

ومما يؤيد هذا قول النبي عن الأنصار: الأنصار شِعَارٌ، والناس دِثَارٌ [5]، ومعنى شعار يعني: اللباس الذي يلتصق بالبدن، وهذا فيه كنايةٌ عن قرب الأنصار من النبي ، وليس المقصود بذلك حقيقة الشعار، وحقيقة الدثار، فهذه ألفاظ تطلقها العرب لتقريب المعنى للذهن.

باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى

ننتقل بعد ذلك إلى:

39 – بابُ النَّهي عن تَقْنِيطِ الإنسان من رحمة الله تعالى

137 – (2621) ..، عَنْ جُنْدَبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  حَدَّثَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَلَّا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ.

هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ.

قوله: من ذا الذي يتألَّى؟، معنى “يتألى”: يحلِف، لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226]، يؤلُون من الإيلاء، وهو الحلف، فالأليَّة والتألي معناه الحلف.

من ذا الذي يتألى عليَّ؟، يعني يحلف عليَّ: ألَّا أغفر لفلانٍ، لقد غفرتُ له، وأحبطت عملك.

فوائد من حديث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان..

وهذا الحديث فيه فوائد:

  • أولًا: دل هذا الحديث على تحريم الإقناط من رحمة الله تعالى، فلا يجوز للإنسان أن يحمل الناس على أن يقنطوا من رحمة الله؛ فإن القنوط من رحمة الله تعالى من كبائر الذنوب؛ كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].
  • ثانيًا: دل هذا الحديث على تحريم رؤية النفس، واستعظام شأنها واحتقار غيرها؛ فإنه من الكبائر، فإن هذا الرجل إنما قال: والله لا يغفر الله لفلانٍ؛ لما يرى من استعظام نفسه، واحتقاره لغيره، فإنه احتقر فلانًا الذي قاله عنه: والله لا يغفر الله لفلانٍ، وأعجب بنفسه وبعمله، فكانت النتيجة أنه حَبِط عمله، والله تعالى قال: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلانٍ، قد غفرت لفلانٍ، وأحبطت عملك، فكان ذلك سببًا لحبوط عمل هذا الرجل.
  • دل هذا الحديث على أنه لا يجوز أن يُشهَد لمعيَّنٍ بأن الله لا يغفر له، فإن هذا إلى الله تعالى، مهما عظمت ذنوبه، ومهما كثرت ذنوبه وخطاياه، فالله تعالى يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فمهما كثرت ذنوب الإنسان، ما دام أن الروح لم تبلغ الحلقوم، فبإمكانه أن يتوب، ومن تاب تاب الله عليه: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فلا يجوز أن يشهد لمعيَّنٍ بأن الله لا يغفر له.وهكذا أيضًا: معتقد أهل السنة والجماعة: أنه لا يجوز أن يشهد لمعيَّنٍ بجنةٍ ولا نارٍ إلا من شهد له الكتاب والسنة، فمثلًا: نشهد بأن أبا لهبٍ في النار؛ لأن الله قال: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3].
    ونشهد أيضًا بأن أبا طالبٍ في النار؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أنه في النار، عليه شِرَاكان من نارٍ يغلي منهما دماغه.
    نشهد بأن أبا بكرٍ وعمر وعثمان وعليًّا في الجنة.
    نشهد بأن العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي -عليه الصلاة والسلام- في الجنة.
    نشهد بأن بلالًا في الجنة، قال: إني سمعتُ دَفَّ نعليك في الجنة.
    نشهد بأن عُكاشة بن مِحْصَنٍ  في الجنة: سَبَقَك بها عكاشة [6]، فمن شهد له الكتاب والسنة بالجنة أو النار فنشهد له بذلك.
    وأما من لم يشهد له الكتاب والسنة فلا يجوز أن يشهد لمعيَّنٍ بجنةٍ ولا نارٍ، ولكن نرجو للمحسنين الإثابة، ونخاف على المسيئين، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
  • رابعًا: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف من حبوط عمله، قال البخاري في “صحيحه”: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قال ابن أبي مُلَيْكة رحمه الله: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه”، فالمؤمن يكون وَجِلًا مشفقًا يخشى من أن يَحبط عمله، ويخشى النفاق على نفسه، فانظر كيف أن ابن أبي مليكة رحمه الله حكَى عن ثلاثين من الصحابة أنهم كلهم يخشى ويخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام، وإنما كلهم يخاف النفاق على نفسه.

وهذا يدل على أن المسلم مهما عمل من أعمالٍ صالحةٍ، فينبغي ألا يستعظمها وأن يخشى من حبوط العمل، ويخشى من عدم قبول العمل، ولهذا؛ قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وجاء في تفسيرها أنه المؤمن الذي يعمل الأعمال من الصلاة والصيام والزكاة والصدقات وغيرها، ثم يخشى ألا يتقبل منه، فهذا هو شأن المؤمن أنه يعمل الأعمال الصالحة الكثيرة، ويخشى من عدم القبول، ويخشى من النفاق، ونحو ذلك، فلا يُعجب بعمله، ولا يستعظم عمله، بل يرى أن عمله قليلٌ بجانب ما يطلب منه من القيام بالعبودية لله .

هذا هو شأن المتقين الصالحين أولياء الله ، أنهم يعملون الأعمال الصالحة العظيمة ثم يستقِلُّونها ولا يستعظمونها.

ولهذا؛ ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن من علامة قبول العمل: أن المؤمن إذا عمله استقلَّه ولم يستعظمه، وأن من علامة رده وعدم قبوله أن العامل يستعظم عمله ويُعجب به.

فإذا رأيت إنسانًا يُعجب بعمله ويستعظمه ويستكثره، هذه ربما تكون أمارةً على عدم قبوله، وأما المؤمن فإنه مهما عمل من أعمالٍ يستقلها بجانب ما هو مطلوبٌ منه في مقام العبودية لله .

  • دل هذا الحديث على أن المسلم ينبغي أن يحذر المعاصي كلها؛ فإنه لا يدري عن مَحَالِّ سُخط الله ، فربما يعمل عملًا يستهين به، لكن يكون سببًا لحبوط عمله، هذا الرجل في هذه القصة قال: “والله لا يغفر الله لفلان”، كأنه رأى فلانًا أسرف على نفسه بالمعاصي، وأعجب هو بعمله، فقال هذه الكلمة التي أدَّت إلى حبوط عمله، وربما أن هذا الرجل لم يشعر بذلك، فقد يعمل الإنسان الذنبَ أو المعصيةَ ثم يكون هذا الذنب أو المعصية سببًا لسُخط الله ​​​​​​​، أو يكون سببًا لحبوط عمله.
    ولذلك؛ فعلى المسلم الحذر من المعاصي كلها، وألا يستقل بعض المعاصي أو يستهين بها، وإنما يحذر من المعاصي؛ فإنه لا يدري عن مَحَالِّ سُخط الله تعالى، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سُخط الله يكتب الله تعالى له بها سخطه إلى يوم يلقاه [7].
    وفي المقابل أيضًا: لا يستهين المسلم بالحسنة؛ فإنه لا يدري عن مَحَالِّ مَحَابِّ الله ​​​​​​​، فربما يعمل عملًا صالحًا يراه قليلًا، لكنه يقع عند الله تعالى موقعًا عظيمًا؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه [8].

وقال بعض أهل العلم: إن من أمثلة هذه الكلمة -والله أعلم- الكلمة التي يَذُبُّ بها عن عرض مسلمٍ انتُهك فيه عرضه، لا سيما إذا كان في مجلس سلطانٍ فانتُهك عرض إنسانٍ فيقوم أحد الحاضرين ويدافع عن ذلك الرجل ابتغاء الأجر من الله ، والثواب من الله سبحانه، فهذا ما أعظم أجره عند الله !

قيل: إن هذه تدخل في الكلمة التي هي من رضوان الله يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه.

جاء في قصة عائشة رضي الله عنها لمَّا أتتها امرأة ومعها ابنتان تستطعمها فأعطتها عائشة رضي الله عنها ثلاث تَمَراتٍ فأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، ورفعت التمرة الثالثة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت هذه التمرة إلى نصفين، وأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها نصف تمرةً.

قالت عائشة رضي الله عنها: فأعجبني شأنها، فذكرتُ ذلك للنبي ، فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار، يعني: هذا عمل ربما أن هذه المرأة تظنه يسيرًا، هي مجرد تمرةٍ أخذتها وقَسَمتها بين ابنتيها نصفين، لكن هذا العمل وقع عند الله تعالى موقعًا عظيمًا؛ فأوجب الله تعالى لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار، وهذا يدل على أن الإنسان لا يدري عن مَحَالِّ مَحَابِّ ومرضات الله ، فلا تحتقر شيئًا من الأعمال الصالحة؛ لا تدري، رُبَّ صدقةٍ تتصدق بها على مسكينٍ، تقع عند الله موقعًا عظيمًا، ربما كلمة تدافع بها عن عرض مسلمٍ انتُهك عرضه يكتب الله تعالى لك بها أجرًا عظيمًا، رُبَّ عملٍ صالحٍ تقوم به يكتب الله تعالى لك بسببه أجرًا عظيمًا، فلا تستقل أي عملٍ صالحٍ؛ فإنك لا تدري عن محال محاب الله ومرضاته.

باب فضل الضعفاء والخاملين

ننتقل بعد ذلك إلى:

40 – بابُ فضلِ الضُّعفاء والخاملِين

ساق المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة  قال:

138 – (2622) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ.

قوله: أشعث يعني: هو المُلبَّد الشعر المُغْبَرُّ غير المدهون، يعني يكون شعره فيه غَبَرَةٌ وغير مدهونٍ، هذا هو الأشعث.

مدفوعٍ بالأبواب يعني: لا قدر له عند الناس، يدفعونه ويطردونه احتقارًا له، فليس عنده وجاهةٌ وقدرٌ وقيمةٌ عند الناس، لكن لو أقسم على الله لأَبَرَّه، أي: لو حلف على وقوع شيءٍ أوقعه الله تعالى إكرامًا له بإجابة سؤاله، وصيانةً ليمينه من الحنث؛ لعظيم منزلته عند الله ، وإن كان حقيرًا عند الناس.

دل هذا الحديث على أن المظاهر ليست معيارًا لمعرفة أولياء الله .

فقد يكون بعض الناس في مظهره ليس كبير الشأن، إنسانٌ فقيرٌ ليس له قدرٌ عند الناس، مدفوع بالأبواب لا يرى الناس له كبير قيمةٍ، لكنه من أولياء الله .

لو أقسم على الله لأبره لو قال: والله لا يحصل كذا، أو: والله ليَحصُلَن كذا، أبرَّ الله بقسمه فحصل ما حلف عليه.

أقرب الناس لنيل الولاية

وهذا يدل على أن الولاية لله لا تختص بأناس معينين، وإنما يمكن أن يكون الولي لله تعالى أي إنسانٍ يمكن أن تحصل الولاية لأي إنسانٍ، فقد تكون الولاية لهذا العالم الذي يعلم الناس، قد تكون الولاية لهذا الفلاح في مزرعته، إنسانٌ فلاحٌ في مزرعته، لكن عنده من الصلاح والتقوى ما نال به مرتبة الولاية لله ، قد يكون هذا العامل المسكين الذي يحتقره الناس وليًّا من أولياء الله ، قد يكون إنسانٌ مدفوعٌ بالأبواب ليس له كبير قيمةٍ، ليس له وجاهةٌ عند الناس، لكن له جاهٌ عظيمٌ عند الله ، فهو من أولياء الله سبحانه.

فولاية الله لا تختص بأناسٍ دون أناسٍ يمكن أن ينال ولاية الله أي إنسانٍ، أي إنسانٍ مرشحٌ لأن ينال ولاية الله سبحانه؛ لأن ولاية الله تحصل بالإيمان والتقوى؛ كما قال الله تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ من هم؟! الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].

فمن كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.

وليس الولي كما تزعمه بعض الطوائف المنحرفة: أنه من يَصِل إلى مرتبةٍ عاليةٍ، وتسقط عنه التكاليف، فهذا من الانحراف الكبير، ومن الخطأ العظيم.

وإنما الولي معناه المؤمن التقي، من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.

وأقرب الناس لنيل ولاية الله هم: العلماء العاملون.

العلماء العاملون هؤلاء هم أقرب الناس لنيل الولاية، كما قال الإمام الشافعي: “إذا لم يكن العلماء أولياء الله فما لله من وليٌّ”، يريد أنهم هم أولى الناس بنيل الولاية لله .

العلماء الصادقون الراسخون في العلم العاملون بعلمهم الذين يبتغون الأجر والثواب من الله ، هؤلاء هم أولى الناس بنيل مرتبة الولاية.

هؤلاء أولياء الله أخبر الله تعالى قال: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنهم شيءٌ؛ لأنهم مقربون عند الله ، ولهم جاه عند الله ، فمن كان له جاهٌ عند الله، ومقربًا عند الله فأي شيءٍ يخاف؟ ومن أي شيءٍ يحزن؟! أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس:62-64].

أما البشرى التي في الآخرة فهي الجنة، والتي هي غاية المُنَى للإنسان، والتي فيها ما تشتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأعين، وأهلها خالدون فيها.

وأما البشرى التي في الدنيا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فهذه تجمع عدة معانٍ يدخل في ذلك: السُّمعة الحسنة للإنسان، فإن النبي لما قيل له: أرأيت الرجل يعمل العمل لله يحمده الناس عليه؟ قال: ذلك عاجل بشرى المؤمن [9]، فيعمل الإنسان الأعمال الصالحة لله سبحانه، لكن يجد من الناس الثناء والشكر، ويجد حسن السمعة والسيرة والقبول، فهذا من عاجل بشرى المؤمن في الدنيا قبل الآخرة.

كذلك أيضًا من عاجل البشرى: الرؤيا الصالحة؛ يراها المؤمن أو تُرى له، فهذه أيضًا تدخل في البشرى المذكورة في الآية.

وتجد الناس يحبون هذا الإنسان الولي لله تتهافت قلوبهم لمحبته، وله قبولٌ عظيمٌ عندهم.

وهذا يدخل في البشرى التي ذكر الله تعالى في قوله: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:62-64]، يعني هذا لا أحد يستطيع أن يغيره أو يبدله مهما كان عليه من جبروتٍ وقوةٍ لا يمكن أن يغير هذا، هذه سنةٌ من سنن الله : أن أولياء الله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا، ولهم البشرى في الآخرة بدخول الجنة، لكن البشرى التي تحصل لهم في الحياة الدنيا لا يمكن لأي أحدٍ أن يُبدِّل هذا أو أن يغيره؛ لأنه شيءٌ من عند الله .

دلت الأدلة على أنه ليس هناك معيارٌ للتفاضل بين الناس، إلا معيارًا واحدًا فقط، وهو: معيار التقوى، وما عدا ذلك ليس هناك أي معيارٍ لتفضيل بعض الناس على بعض، لا معيار النسب، ولا الحسب، ولا المال، ولا أي شيءٍ، إلا التقوى، ولهذا؛ قال الله سبحانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فالأكرم عند الله هو الأتقى لله سبحانه.

وقال النبي : إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم [10]، فمعيار التفاضل بين البشر إنما هو بتقوى الله .

باب النهي عن قول: هلك الناس

41 – بابُ النَّهي عن قول: هَلَكَ الناسُ

ساق المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة :

139 – (2623) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ -[يعني الراوي]- قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا أَدْرِي، أهلَكَهم  بِالنَّصْبِ، أَوْ أهلَكُهم بِالرَّفْعِ.

إذا قال: هلك الناس، فهو أهلكُهُم، وهنا يقول: لا أدري، قال: أهلكَهم أو أهلكُهم، وهذه قد رويت على وجهين.

الوجه الأول: برفع الكاف: فهو أهلكُهم، ويؤيد ذلك: ما جاء في روايةٍ أخرى رواها الحميدي في “الجمع بين الصحيحين”، قال: فهو مِن أهلَكِهم.

والرواية الثانية: من قال هلك الناس، فهو أهلكَهم، يعني جعلهم هالكين.

وقال النووي رحمه الله: الرفعُ أشهر، يعني: فهو أهلكُهم، ومعناه: أشدهم هلاكًا.

ومعنى هذا الحديث: أن من قال: هلك الناس على سبيل الازدراء للناس، وعلى سبيل الاحتقار لهم، وتفضيل نفسه عليهم، فهو أهلكُهم، وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن يبتعد عن مثل هذه الألفاظ.

دل هذا الحديث على أنه ينبغي للمسلم أن يبتعد عن مثل هذه الألفاظ، فلا يقل: هلك الناس، على سبيل الاحتقار والازدراء لهم، فإذا قال ذلك محتقرًا للناس ومعجبًا بنفسه فهو أهلكهم، يعني أشد الناس هلاكًا.

وأما إذا قال ذلك تحزُّنًا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمور الدين، فقال النووي رحمه الله: إنه لا بأس بذلك، يعني: إذا قال ذلك على سبيل التأسف والحزن لما وقع في الناس من النقص في أمور الدين، فلا بأس بذلك.

لكن إذا قال ذلك على سبيل العُجب والفخر بنفسه، واحتقار الناس، وتفضيله لنفسه على الآخرين، فهذا يكون أهلَكَ الناس.

ولذلك؛ ينبغي ألا تستخدم هذه العبارات، يعني الناس أيضًا يكون فيهم الخير، ويكون فيهم العُبَّاد، ويكون فيهم الصالحون، فينبغي أن يبتعد المسلم عن مثل هذه العبارات، لا يقول: هلك الناس، ونحو ذلك.

ولهذا؛ قال الخطابي: معنى هذا الحديث: لا يزال الرجل يَعِيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعلوا ذلك فهو أهلكُهم، يعني أسوأ حالًا منهم؛ بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العُجب في نفسه، ورؤيته أنه خيرٌ منهم.

ثم أيضًا إذا قال الإنسان: هلك الناس، على سبيل التعميم، فإنه قد أخطأ بهذا الوصف؛ لأنه لا بد أن يكون في هؤلاء الناس من هو صالحٌ، لا بد، فتعميم العبارة: “هلك الناس”، أو نحو ذلك، أو “فسد الناس”، أو “فسد المجتمع”، بهذه العبارات التي فيها تعميمٌ، هذا خطأٌ؛ لأن الناس فيهم من هو من أهل الصلاح، ومن أهل التقوى، ومن أهل العبادات الخفية، الذين لا يحبون أن تظهر عبادتهم لله أمام الناس، يعبدون الله تعالى في السر والخفاء.

فأيضًا هذه العبارة من حيث الواقع هي خطأٌ؛ لأن فيها تعميمًا بهلاك الناس، ولذلك؛ فعلى المسلم أن يتحرى ألفاظه، وألا يتكلم إلا بالطيب من القول، وأن يبتعد عن الألفاظ التي قد تسبب له أمورًا مشكِلةً في أمور دينه ودنياه.

باب الوصية بالجار والإحسان إليه

42 – بابُ الوصيَّة بالجار والإحسان إليه

ساق المصنف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها:

140 – (2624) ..، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ  يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وفي لفظٍ: ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَيُوَرِّثَنَّهُ.

هذا الحديث يدل على عظيم حق الجار، وعلى فضل الإحسان إليه، وقد أخبر النبي بأن جبريل  كان يوصيه كثيرًا بالجار، وجبريل إنما أوصى النبي بذلك بوحيٍ من الله ، حتى إنه من كثرة وصية جبريل للنبي -عليه الصلاة والسلام-بالجار، قال: ظننت أنه سيورِّثه، يعني: سيجعل للجار حقًّا في الميراث؛ من كثرة وصية جبريل للنبي بالجار.

وهذا يدل على عظيم حق الجار عند الله ، ولذلك؛ يقول الله : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]، فأوصى الله تعالى بالجار، وذكر نوعين من الجار، قال:

والجارِ ذي القُربى يعني: الجار القريب، كأن يكون جارك هو أخوك، أو جارك هو أبوك أو عمك أو نحو ذلك، فهذا له حقان: حق الجوار، وحق القرابة.

والجارِ الجُنُب، يعني: الجار الذي ليس بينك وبينه قرابةٌ، وإنما هو بعيدٌ عنك من جهة النسب فله حق الجوار.

فأوصى الله تعالى بالإحسان إلى الجار؛ سواءٌ أكان قريبًا أو بعيدًا في النسب.

وهذا يدل على عظيم حق الجار، وعلى أنه يجب الإحسان للجار، ويحرم أذية الجار بأية صورة من صور الأذية؛ فإن إيذاء الجار من كبائر الذنوب، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول لله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه [11]، فإذا كان جارك لا يأمن شرَّك ولا أذاك، فهذا يدل على نقص الإيمان عند هذا الإنسان.

من صور الإحسان إلى الجار

فينبغي الإحسان للجار بجميع صور الإحسان؛ ومن ذلك:

  • إلقاء السلام عليه إذا لقيته، والبشاشة في وجهه.
  • ومن ذلك أيضًا: الزيارة.
  • ومن ذلك أيضًا: عيادته إذا مرض.
  • وكذلك: تشييع الميت إذا كان من الجيران، فإن تشييع الجنازة يكون متأكِّدًا في حق الإنسان؛ لأن هذا الجار له حق على جاره.

ينبغي الإحسان للجار بجميع صور الإحسان؛ ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننته سيورِّثه.

ومن الأمور المشْرقة في المجتمع: إنشاء مجموعاتٍ على (الواتساب)، مجموعاتٍ إلكترونيةٍ على (الواتساب) للجيران، يتبادلون فيها التحية والمحبة والمودة، وأيضًا الأخبار أخبار الحي الأخبار المتعلقة بالحي، أيضًا يوضع فيها المقاطع المفيدة الهادفة، فهذا نوعٌ من التواصل الحسن بين الجيران، فالذي يدخل في هذه المجموعات بهذه النية يؤجر على ذلك إن شاء الله تعالى؛ لأنه يحسن إلى جيرانه بما يكتبه في هذه المجموعة من الطيب من القول، وبما يرسله من المقاطع النافعة الهادفة، فهو يحسن بذلك إلى جيرانه، فهذه صورة من صور الإحسان للجار.

  • أيضًا من صور الإحسان للجار: ما ورد في الحديث الذي ساقه المصنف، حديث أبي ذرٍّ  قال:

142 – (2625) ..، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بلفظ:

143 – (2625) ..، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ.

وهذا يدل على استحباب الإهداء للجيران، سواءٌ كان الإهداء بطعامٍ أو بغيره مما يحبه الجيران؛ فإن هذا داخل في الإحسان للجار.

وكان الناس في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان معظمهم فقراء، ولذلك؛ قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذرٍّ : إذا طبختَ مرقةً فأكثِر ماءها، وتعاهد جيرانك.

كذلك أيضًا في وقتنا الحاضر: لا بأس بإهداء الطعام للجيران، أو إهداء ما يناسبهم من الهدايا؛ فإن هذا داخل في الإحسان للجار.

فبعض الجيران يُهدي لجيرانه، يهدي لهم مثلًا إما تمرًا، أو يهدي لهم هدايا مناسبةً؛ من أطعمة أو غيرها، تدخل السرور عليهم، وتزيد من المحبة والألفة بين الجيران، فهذا داخلٌ في الإحسان للجار.

والنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث مثَّل بالمَرَقَة؛ لأن الناس في ذلك الوقت كانوا في حال فقرٍ وشدةٍ، فقال: إذا طبخت مرقةً فأكثِر ماءها، وتعاهد جيرانك.

باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء

43 – بابُ استحباب طَلَاقَة الوجه عند اللّقاء

144 – (2626) ..، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ : لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ.

قوله: بوجه طلق، رُوي على ثلاثة أوجهٍ كما قال النووي: بإسكان اللام: “طَلْقٍ”، وكسرها: “طَلِقٍ”، والوجه الثالث بزيادة الياء: “طَلِيقٍ”، فهو قد رُوي بهذه الوجوه الثلاثة، “بوجه طلْق”، و”طلِق” و”طليق”، وهي بمعنًى واحدٍ.

ومعنى الطلق والطليق، يعني: السهل المنبسِط.

دل هذا الحديث على فضل المعروف وما تيسر منه وإن قلَّ، حتى طلاقةُ الوجه عند اللقاء داخلةٌ في المعروف الذي يؤجر ويثاب عليه الإنسان.

وطلاقة الوجه مما تزيد المحبة بين الناس، عندما يقابلك الإنسان بوجهٍ طليقٍ، بوجهٍ مبتسمٍ، بوجهٍ معه البشاشة وطلاقة الوجه، ويَهَشُّ في وجهك ويَبَشُّ، فإنك تأنس بهذا الإنسان وتحبه، ويكون ذلك من أسباب المحبة والمودة، لكن قارِن هذا بمن يقابلك بوجهٍ عَبوسٍ فإنك تشك فيه وتَستَرِيب تقول يعني: ما في خاطر هذا الإنسان عليَّ؟! ما الذي في خاطر هذا الإنسان عليَّ؟ إذا قابلك إنسانٌ بوجهٍ عَبوسٍ.

ولهذا ينبغي للإنسان عند مقابلته للآخرين أن يقابلهم بوجهٍ طليقٍ، أن يقابلهم بالبشاشة وبالابتسامة، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: تبسمك في وجه أخيك صدقة [12]، الابتسامة لا تُكَلف الإنسان شيئًا، لكن أثرها كبيرٌ، فقارِن حال من يقابلك بابتسامة، ومن يقابلك بوجهٍ عَبوسٍ، ألست تجد فرقًا كبيرًا بينهما؟! وهذا فقط إنما ابتسم، والآخر سار على سَجِيَّته بوجهٍ عَبوسٍ، ولم يُلقِ بالًا لهذه المعاني، فتجد الفرق الكبير بين من يقابلك بوجهٍ طلقٍ مبتسمٍ، وبين من يقابلك بوجهٍ عبوسٍ.

كون الإنسان يقابل أخاه المسلم بوجهٍ طلقٍ مبتسمٍ، يَهَشُّ ويَبَشُّ لأخيه المسلم، هذا من المعروف الذي يؤجر ويثاب عليه، ولهذا؛ قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث: لا تَحقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، دل هذا على أن طلاقة الوجه عند اللقاء من المعروف الذي يؤجر عليه المسلم، فلا تحتقر هذا الأمر؛ فهذا معروفٌ تؤجر عليه.

وبعض الناس بطبيعته عنده عُبوسٌ، يعني: دائمًا وجهه منقبضٌ، عنده عُبوسٌ، ينبغي أن يغير هذا الخُلق وهذه الصفة، يتكلف في البداية أن يكون طَلْق الوجه مبتسمًا للآخرين، ربما في البداية يجد صعوبةً، لكن مع مرور الوقت يصبح هذا خلقًا راسخًا لهم، فمن كان عنده هذه الخصلة -وهي عبوس الوجه، إذا قابل الناس يقابلهم بوجهٍ عَبوسٍ- فينبغي أن يغير هذا الخلق، وأن يحرص على أن يقابل الناس بوجهٍ طلقٍ مبتسمٍ، يهش ويبش للناس، ويرحب بهم، ويناديهم بأحسن أسمائهم وألقابهم التي يحبون أن ينادوا بها؛ فهذا من حق المسلم على المسلم.

وهذا يعتبر من المعروف الذي يؤجر عليه المسلم، تبسمك في وجه أخيك صدقةٌ: لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند: باب استحباب الشفاعة.

الأسئلة

السؤال: شخصٌ اشترى أسهمًا في شركةٍ بنية المضاربة بها، ولكن الشركة خسرت، وقال: سأنتظر، وبعد مُضِي سنةٍ ونصفٍ ارتفع سهمه، فقال سأنتظر أكثر هل عليه زكاة أم لا؟ وهل يعتبر مستثمرًا أو مضاربًا؟

الجواب: إذا كان السائل داخل المملكة العربية السعودية، فهذا الشخص لا زكاة عليه، باعتبار أن الشركة قد زكَّت؛ لأن الشركات تُخرج الزكوات لمصلحة الزكاة والدخل، فالمال لا يُزكَّى مرتين، ما دام أن هذا المال بقي سنةً كاملةً يعني هذه الأسهم بقيت سنةً كاملةً، فمعنى ذلك: أن الشركة قد زكَّتها؛ فلا زكاة عليه.

لكن إذا كان السائل من خارج المملكة العربية السعودية، فلا بد أن يَعرف مقدار الوعاء الزكوي لكل سهمٍ، ويضربه في عدد الأسهم ويزكيها، وهذا يعتبر مستثمِرًا ولا يعتبر مضارِبًا، لكن من كان داخل المملكة لا يزكي، باعتبار أن الشركة زكَّت، أما من كان خارج المملكة فيسأل الشركة عن مقدار الوعاء الزكوي للسهم، ويضربه في عدد الأسهم، ويخرج الزكاة.

السؤال: هل الرجل الذي يذهب إلى مدينةٍ فيها بيت والده أو والدته لا يعتبر مقيمًا بحجة أنه لا يذهب إليهم إلا مرتين أو ثلاثًا في العام؟

الجواب: هذه المسائل -مسائل السفر- هي من أشكَلِ مسائل الفقه، هذه المسائل يعني إنسانٌ عنده بيتٌ في بلدٍ آخر، أو بيت أبيه أو بيت أمه في بلدٍ آخر هل يعتبر مسافرًا يترخص برخص السفر، ومثل ذلك لو كان عنده مزرعةٌ في بلدٍ آخر، عنده استراحةٌ في بلدٍ آخر يبعد أكثر من (80 كيلو مترًا)، يملك هذه المزرعة، يملك هذه الاستراحة، أو بيت أبيه أو بيت أمه، هذه المسائل الحكم فيها في الشريعة: أن المرجع في ذلك للعُرف، فما عدَّه الناس في عرفهم سفرًا فهو سَفَرٌ، وما عدوه إقامةً فهو إقامةٌ.

ولكن الإشكال هو في تحديد عرف الناس في ذلك، فلا بد من محددات لهذا العرف، نقول:

  • أولًا: الأصل في الإنسان، هل الأصل فيه الإقامة أم السفر؟
    الجواب: أن الأصل في الإنسان الإقامة وليس السفر.
    إذنْ نتمسك بهذا الأصل، فنقول: الأصل فيك أنت أيها الإنسان أنك مقيمٌ، ولا تخرج عن هذا الوصف إلى وصف السفر إلا بشيءٍ واضحٍ.
  • ثانيًا: لو أنك ترخصت برخص السفر في مثل هذه المسائل، فإنك عند طائفةٍ من أهل العلم، بل ربما نقول: عند أكثر أهل العلم لا تصح صلاتك، بينما لو لم تترخص وأتممت صحت صلاتك عند جميع العلماء.
    فإذنْ، الاحتياط في هذه المسألة أنك لا تترخص.
  • ثالثًا: إذا نظرنا إلى العرف في هذه المسألة أحسن ما يوضح العرف ليس هي مسألة القصر أو الجمع، وإنما مسألة الفطر في نهار رمضان هي التي تحدد العرف بوضوحٍ، فأنت إذا كنت في مزرعتك في بلدٍ آخر يبعد عن بلدك مثلًا (100 كيلو) أو (200)، أو أكثر، وأنت في مزرعتك التي هي ملكك، أو في استراحتك التي هي ملكك، أو حتى في بيت أبيك، أو أمك لو أنك أفطرت أمام الناس علانيةً بعد صلاة الظهر في نهار رمضان، هل الناس ينكرون عليك أو يعذرونك؟

الجواب: أن الناس تنكر عليك، وإذا اعتذرت بأنك مسافرٌ، الناس لا تقبل منك هذا العذر، كيف تكون مسافرًا وأنت في مزرعتك؟! كيف تكون مسافرًا وأنت في استراحتك التي تملكها؟! كيف تكون مسافرًا وأنت في بيت أبيك وأمك؟!

فالناس لا تقبل منك هذا العذر، بل ينكرون عليك.

هذا يدل على أنك لست مسافرًا، وأنك مقيمٌ إقامةً ثانيةً؛ لأن الإنسان ربما يكون له أكثر من إقامةٍ، يعني ليس بالضرورة ألا يكون للإنسان إلا إقامةٌ واحدةٌ، قد يكون للإنسان أكثر من إقامةٍ، مثلًا من له زوجتان أو أكثر، له إقامةٌ في هذا البلد عند هذه الزوجة، وإقامةٌ أخرى في بلدٍ آخر عند زوجةٍ أخرى، فقد يكون للإنسان أكثر من إقامةٍ.

فعلى هذا: الذي يظهر في هذه المسائل: أن من له مِلكٌ في بلدٍ آخر؛ من مزرعةٍ، أو استراحةٍ، أو بيتٍ، أنه يعتبر صاحب إقامتين، فهو مقيمٌ في بلده الأصلي، ومقيمٌ أيضًا في هذه المزرعة التي يملكها، أو هذا البيت، أو هذه الاستراحة، فلا يترخص برخص السفر، لا هنا ولا هناك، إنما يترخص في الطريق، ما دامت المسافة أكثر من (80 كيلو مترًا).

وهكذا أيضًا لو كان في بيت أبيه وأمه، فإنه أيضًا يعتبر هذا بالنسبة له إقامةً ثانيةً، ولذلك؛ تجد أنه يتبسط في بيت أبيه وأمه، وتجد أنه يدعو الناس إليه، وإذا رأى ضيفًا، إذا رأى شخصًا غريبًا دعاه، وقال: تفضل معنا، فهو يتبسط كما يتبسط في بيته، فهذا يدل على أنه أيضًا يعتبر صاحب إقامة، ولا يعتبر مسافرًا.

هذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة.

والخلاف بين العلماء في هذه المسألة، ليس الخلاف في أصل المسألة؛ فإن أصل المسألة متفقٌ عليه ليس فيه خلافٌ، إذا اعتبرناه مسافرًا له أن يترخص، وإذا اعتبرناه مقيمًا لا يترخص.

وإنما الخلاف في تحقيق المناط، الخلاف في تحديد العرف في هذه المسائل، وتحقيق المناط مما تختلف فيه الأنظار، وتختلف فيه الاجتهادات.

لكن الذي يظهر -والله أعلم- هو أن الإنسان لا يعتبر مسافرًا في هذه الحالات، وإنما يعتبر مقيمًا فليس له الترخص برخص السفر إلا في الطريق فقط.

السؤال: هل يجب ترتيل القرآن عند قراءته؟

الجواب: يستحب، والله تعالى يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، فيستحب ترتيل القرآن، وذلك بتجويد قراءته وتحسين الصوت به، والتغني به، هذا معنى الترتيل، وهذا لا يكون إلا إذا جهر بالقراءة، أما الذي يقرأ بدون جهرٍ وبدون صوتٍ فكيف يرتل القرآن؟

بعض الناس تجد أنه يفتح المصحف ويقرأ ويحرك لسانه، يثاب على هذه القراءة لكن من غير صوتٍ، فهذا كيف سيرتل؟ كيف سيتغنى بالقرآن؟ فلذلك الترتيل لا بد أن يصحبه صوتٌ، فالذي يريد أن يرتل القرآن يرفع صوته بالقدر الذي لا يؤذي من حوله، ويُحسِّن صوته بالتلاوة ما أمكن، ويحرص أيضًا على تطبيق أحكام التجويد، ويقرأ القرآن بتمهلٍ وبتأنٍّ، هذا هو الترتيل، وقد أمر الله تعالى به فقال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، وقال النبي : ليس منا من لم يتغن بالقرآن [13].

بعض الناس هذه قراءته؛ يفتح المصحف، ويقرأ قراءة صامتةً من غير صوتٍ، طيب أين التغني؟ أين الترتيل؟

تفوته هذه المعاني، ولذلك؛ نقول: الأفضل أن ترتل وتتغنى بالقرآن، وهذا لا يكون إلا إذا جهرت بالتلاوة، لكن إذا كان حولك أحدٌ لا تجهر جهرًا تؤذي به من حولك.

السؤال: ما حكم التنكيس بين سور القرآن أثناء التلاوة؟

الجواب: من حيث الحكم يجوز، لكنه خلاف الأفضل.

والدليل للجواز: هو أن النبي لمَّا صلى صلاة الليل وصلى معه حذيفة قرأ في الركعة الأولى سورة البقرة، ثم قرأ سورة النساء، ثم قرأ سورة آل عمران [14].

فبدأ بالنساء قبل آل عمران؛ فدل هذا على الجواز.

ولكن غالب هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يرتب سور القرآن، ولذلك؛ فالأفضل ترتيب السور وعدم تنكيسها، ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب، وإنما على سبيل الاستحباب.

وإنما الممنوع تنكيس الآيات، يقرأ الإنسانُ مثلًا من آخر السورة قبل أولها هذا هو الممنوع، أما عدم ترتيب السور يقرأ مثلًا سورة الناس قبل سورة الفلق هذا جائزٌ، لكنه خلاف الأفضل.

السؤال: ما حكم الإفرازات الصفراء في غير زمن الحيض هل هي نجسةٌ؟ وكيف التمييز بين الصفرة والإفرازات الطبيعية؟

الجواب: هذه الإفرازات التي تسمى الصُّفْرة والكُدْرة إن كانت في زمن الحيض فإنها تأخذ حكم الحيض، وهكذا لو كانت أيضًا قبل الحيض أو بعده متصلةً به فتأخذ حكمه؛ لأنها كالمقدمة للحيض أو كالخاتمة له.

لكن إذا كانت بعد الطهر فإنها لا تعد شيئًا؛ لقول أم عطية رضي الله عنها: “كنا لا نعد الصُّفْرة ولا الكُدْرة بعد الطهر شيئًا”، فهذه الإفرازات حتى لو كثرت من المرأة إذا كانت بعد الطهر فإنها لا تُعدُّ شيئًا.

وأما قول السائل أو السائلة: كيف التمييز بين الصفرة والإفرازات الطبيعية؟

فنقول: جميع الإفرازات؛ سواءٌ كانت صفرةً أو كدرةً أو أي إفرازاتٍ تخرج من المرأة، إذا كانت بعد الطهر فإنها لا تعد شيئًا، وإنما التي تعتبر التي تكون زمن الحيض.

السؤال: ما نصيحتكم لمُحَرِّشٍ بين العلماء، ويسعى للتفرقة بينهم ويترك طلب العلم؟

الجواب: يعني هذا من إحدى البلاد العربية، نقول: هذا عمل المنافقين، الذي يُحَرِّش بين طلبة العلم، ويسعى للتفريق بينهم، وإدخال الشحناء بينهم، هذا من عمل المنافقين، المنافقون هم الذين يعملون ذلك، وإلا المؤمن الصادق لا يفعل هذا، المؤمن الصادق يحرص على ما فيه جَلْب المحبة والمودة بين المسلمين، أما الذي تجد أن همه فقط فلانٌ وفلانٌ، وقيل وقال، وتصنيف فلانٍ، والحكم على فلانٍ، فهذا بعيدٌ عن التوفيق، هذا من قلة التوفيق، وهذا لا تجد لعلمه بركةً، تجد أن البركة تنزع من علمه، وأيضًا تجد القساوة في قلبه، ويحرم لذة العبادة، ويحرم لذة التوفيق.

فعلى المسلم أن يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، وأن يتعامل مع إخوانه المسلمين بأخلاق المؤمنين خاصةً مع طلاب العلم والدعاة إلى الله ، وأن يحسن الظن فيهم، وأن يبتعد عن كل ما يؤدي إلى إيقاع الشحناء والبغضاء بين المسلمين، هذه ليست من أخلاق المؤمنين، فالذي يفعل ذلك فهذه من أخلاق المنافقين -نسأل الله السلامة والعافية- هم الذين يسعون للتحريش بين المسلمين، وإيقاع العداوة والشحناء بينهم.

فعلى من فعل ذلك أن يتقي الله ، وأن يتوب إلى الله سبحانه من هذا الذي يعمله؛ فإن هذه من أعمال المنافقين، عليه أن يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، عليه أن يخفض الجناح لإخوانه المؤمنين، عليه أن يتعامل معهم بأخلاق المؤمنين.

السؤال: هل السُّنة في الصلاة الإطالة، أم مراعاة أحوال المصلين، خاصةً مع كثرة المشاغل في هذا الزمن؟

الجواب: السُّنة بالنسبة للإمام أن يُطبِّق السُّنة، السُّنة في القراءة: أن يقرأ في صلاة الفجر من طِوَال المُفَصَّل، وفي صلاة الظهر والعصر والعشاء من وسَطه، وفي المغرب من قصاره غالبًا، وطوال المفصل تبدأ من سورة ق إلى سورة عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، ووسطه يبدأ من عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1]، إلى الضحى، وقصاره من الضحى إلى الناس، فإذا التزم بهذا فإنه لن يطيل، فمثلًا الذي يقرأ من وسط المفصل، إذا قرأ مثلًا سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، أو سورة الغاشية، أو سورة والشمس [الشمس:1]، أو سورة والليل [الليل:1]، لا يعتبر هذا إطالةً، فإذا طبَّق السُّنة فإنه لن يطيل، لكن بعض الناس يخرج عن السُّنة، تجد أنه يقرأ من الطِّوَال فيطيل على الناس، وإلا لو التزم بالسُّنة وقرأ من المفصَّل فإنه لن يطيل.

ثم أيضًا إطالة الإمام للقراءة إطالةً منفرةً هذا لا ينبغي، لا ينبغي للإمام أن يقرأ ويطيل إطالةً تنفر بعض المأمومين، ولهذا؛ لمَّا قال رجلٌ للنبي عليه الصلاة والسلام: إني لأتأخر عن صلاة الغداة مما يطيل فلانٌ؟ غضب النبي غضبًا شديدًا، وقال: أيها الناس، إن منكم مُنَفِّرِين، فأيكم أمَّ الناس فليخفف؛ فإن من ورائه الصغير والكبير وذا الحاجة [15].

مراعاة أحوال المصلين مطلوبةٌ؛ فأحوال الناس في زماننا هذا ليست كأحوال الناس في زمن الصحابة أو زمن التابعين أو تابعيهم.

لا بد أيضًا أن يراعي الإمام أحوال الناس، ليس معنى هذا أنه يُخِلُّ بركن الطمأنينة، لا بد أن يأتي بالطمأنينة، لكن أيضًا ليس له أن يطيل إطالةً تنفر الناس من الصلاة في المسجد، وإنما ينبغي أن يكون معتدلًا، ولهذا؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لمعاذٍ: هلَّا قرأتَ بـ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى [الليل]؟، فسمى له هذه السور، فالذي يقرأ مثلًا بـ: سبح اسم ربك الأعلى، أو والشمس وضحاها، أو والليل إذا يغشى، فهذه ما تستغرق تقريبًا دقيقتين في قراءتها، فلن يطيل أصلًا، ولهذا؛ فمراعاة أحوال الناس هذا هو المطلوب، أن يراعي الإمام أحوال الناس؛ فلا يطيل بهم إطالةً منفرةً.

السؤال: ما أفضل عَددٍ في صلاة الوتر؟

الجواب: النبي كان في غالب أحواله يصلي إحدى عشرة ركعةً، كما قالت عائشة رضي الله عنها، فالأكمل والأحسن أن تصلي إحدى عشرة ركعةً، مثنى مثنى، ثم توتر بواحدةٍ، ولو أردت أن تزيد، وجدت من نفسك نشاطًا فلا بأس، فإن صلاة الليل لا حد لها؛ لقول النبي : صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدةٍ [16]، فلو أردت مثلًا أن تزيد على إحدى عشرة ركعةً تصلي مثلًا ثلاث عشرة ركعةً، أو تصلي خمس عشرة ركعةً، أو أكثر، فلا بأس بذلك، والصلاة هي أحب العمل إلى الله تعالى، والنبي يقول: واعلم أنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً [17]، فالوتر أقله ركعةٌ، ولا حد لأكثره، لك أن توتر بركعةٍ، لك أن توتر بركعتين ثم ركعةٍ، لك أن توتر بركعتين ثم ركعتين ثم ركعةٍ..، وهكذا، لكن غالب هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعةً.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2242.
^2 رواه البخاري: 4406، ومسلم: 1679.
^3 رواه أبو داود: 75، والترمذي: 92، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 22636.
^4 رواه مسلم: 91.
^5 رواه البخاري: 4330، ومسلم: 1061.
^6 رواه البخاري: 5705، ومسلم: 220.
^7 رواه الترمذي: 2319، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 3969.
^8 سبق تخريجه.
^9 رواه مسلم: 2642.
^10 رواه مسلم: 2564.
^11 رواه البخاري: 6016، ومسلم: 46.
^12 رواه الترمذي: 1956، وقال: حسنٌ.
^13 رواه البخاري: 7527.
^14 رواه أبو داود: 874.
^15 رواه البخاري: 704، ومسلم: 466.
^16 رواه البخاري: 472، ومسلم: 749- 753.
^17 رواه مسلم: 488.
zh