عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذا الدرس، في هذا اليوم الثلاثاء، الرابع من شهر ربيعٍ الآخر، من عام 1443 للهجرة.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا.
هذا هو الدرس الثالث والأربعون في “صحيح مسلمٍ” في شرح كتاب البِرِّ والصلة والآداب.
باب النهي عن ضرب الوجه
وكنا قد وصلنا إلى:
32 – بابُ النَّهيِ عن ضربِ الوجهِ
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله تعالى في “صحيحه:
112 – (2612) حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْنِي الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ.
ثم ساقه المصنف رحمه الله عن أبي هريرة بلفظ:
113 – (2612) ..، إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ.
ثم ساقه أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ:
114 – (2612) ..، إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلَا يَلْطِمَنَّ الْوَجْهَ.
ثم أيضًا ساقه:
115 – (2612) ..، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ حَاتِمٍ [يعني من حديث أبي هريرة ] عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ؛ فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ.
ثم ساقه أيضًا من حديث أبي هريرة :
116 – (2612) ..، أن النبيَّ ، قَالَ: إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ.
هذه الأحاديث فيها النهي عن ضرب الوجه.
معنى قوله: فإن الله خلق آدم على صورته
وقال النووي رحمه الله: قال العلماء: هذا تصريحٌ بالنهي عن ضرب الوجه؛ لأنه لطيفٌ يَجمَع المحاسن، وأعضاؤه نفيسةٌ لطيفةٌ، وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشَّيْن فيه فاحشٌ؛ لأنه بارزٌ ظاهرٌ لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من شَينٍ غالبًا، ويدخل في النهي: إذا ضرب زوجته أو ولده أو عبده ضرب تأديبٍ فليجتنب الوجه.
يعني هكذا علل النووي رحمه الله، وهذا التعليل يريد به الخروج من التعليل المذكور في الحديث، وهو: فإن الله خلق آدم على صورته.
والنووي رحمه الله وعفا الله عنا وعنه عنده أشعريةٌ، ولذلك؛ حاول أن يتأول هذا الحديث: فإن الله خلق آدم على صورته، وقال: ومن العلماء من يمسك عن تأويلها، ويقول: نؤمن بأنها حقٌّ، وأن ظاهرها غير مرادٍ، ولها معنًى يليق بها، وهذا مذهب جمهور السلف، وهو أحوط.
وقول النووي: إن هذا مذهب جمهور السلف، هذا غير مُسَلَّمٍ، فليس هذا مذهب جمهور السلف؛ وإنما مذهب جمهور السلف -كما حكاه ابن تيمية رحمه الله- أن المراد: فإنَّ الله خلق آدم على صورة الله.
وهذه المسألة حصل فيها كلامٌ كثيرٌ، ولكن القرون الثلاثة المفضلة: قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، لم يكن فيها خلافٌ.
ولهذا؛ قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: لم يكن بين السلف في القرون الثلاثة نزاعٌ في أن الضمير في هذا الحديث: فإن الله خلق آدم على صورته، عائد إلى الله، ولكن لمَّا انتشرت الجهمية في المئة الثالثة جعل طائفةٌ الضمير فيه عائدًا إلى غير الله.
فالصواب إذنْ خلاف ما ذكره النووي رحمه الله، الصواب: أن جمهور السلف على أن الضمير في قوله: فإن الله خلق آدم على صورته، أنه عائدٌ إلى الله.
ولكن يعني هناك عالِمٌ جليلٌ ذهب إلى خلاف ذلك وهو ابن خزيمة رحمه الله في كتابه التوحيد، قال: المراد على صورة المضروب أو المشتوم، وتعقَّبه أهل العلم، وقال ابن تيمية رحمه الله: إنه لم يتابع ابن خزيمة رحمه الله عليه أحد من أئمة الحديث من قبل ولا من بعده.
واعتذر عنه أهل العلم، وممن اعتذر عنه الحافظ الذهبي رحمه الله، وقال: يعتذر عن ابن خزيمة في هذا التأويل، ثم قال: لو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع.
والصحيح في معنى الحديث الذي عليه جمهور السلف: إثبات الصورة لله تعالى كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي يسمَّى بها المخلوق على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله تعالى اختُصت به، مثل: العليم، الرحيم، السميع، البصير، الرؤوف، فمثلًا: الرؤوف من أسماء الله تعالى، والله تعالى قال عن نبيه محمدٍ : بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
وهكذا الرحيم من أسماء الله، ووصف الله تعالى نبيه بأنه رحيمٌ.
لكن رحمة الله على الوجه اللائق به، التي لا تُشابِه رحمة المخلوقين، ورحمة المخلوق على الوجه اللائق به، رأفة الله على الوجه اللائق به، التي لا تُشابه رأفة المخلوقين، ورأفة المخلوق على الوجه اللائق به، سمْع الله على الصفة اللائقة بالله ، والتي لا تشابه سمع المخلوقين، وهكذا بصر الله، وهكذا بقية صفات الله .
ولهذا؛ فليست الصورة بأعجب من بقية صفات الله .
وكل موجودٍ لا بد له من صفاتٍ تقوم به، فلا بد له من صورةٍ يكون عليها، ويَمتنِع في الوجود قائمٌ بنفسه ليس له صورةٌ.
وعلى هذا يكون معنى الحديث: فإن الله خلق آدم على صورته: أن الله تعالى خلق آدم سميعًا بصيرًا متكلمًا إذا شاء، وهذا وصف الله تعالى؛ فإنه سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ إذا شاء.
لكن ليس سمع المخلوق كسمع الله تعالى، ولا بصر المخلوق كبصر الله تعالى، ولا كلام المخلوق ككلام الله تعالى، ولا صفات المخلوق كصفات الله تعالى.
فللعبد صفاتٌ تليق به، ولله تعالى الصفات اللائقة به، التي لا تشابه صفات المخلوقين.
وإنما بعض العلماء جنحوا لتأويل قوله: فإن الله خلق آدم على صورته؛ فرارًا من التشبيه والتمثيل، وليس في هذا تشبيهٌ ولا تمثيلٌ؛ لأننا نقول: على صورته، يعني على صورة الله اللائقة به، كما نقول على سمع الله اللائق به، على بصر الله اللائق به، فأين التمثيل وأين التشبيه؟!
ولهذا؛ يقول النبي : أول زُمْرةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر [1]، هل المقصود أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة كالقمر؟ مثل القمر تمامًا؟
لا، المقصود على صورة القمر في الوضاءة والحسن، واستدارة الوجه، فصورتهم فيها شبه بالقمر بدون مماثَلةٍ، فلا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلًا له، الذين يدخلون الجنة -أول زمرة تدخل الجنة- على صورة القمر، فهل هم مماثلون للقمر؟
الجواب: إنما المقصود على صورته في الحسن والجمال والبهاء واستدارة الوجه ونحو ذلك.
ولهذا؛ فالصواب في معنى الحديث: أن الله خلق آدم على صورة الرحمن.
قال عبدالله بن الإمام أحمد رحمه الله: قال رجلٌ لأبي: إن رجلًا يقول: خلق الله آدم على صورته، أي على صورة الرجل؟ قال: كذب هو قول الجهمية.
وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضًا: من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهميٌّ، وأي صورةٍ كانت لآدم قبل أن يخلقه؟!
فالصواب إذنْ في معنى الحديث: أن الله خلق آدم على صورة الرحمن على صورة الله .
وقد جاء هذا مصرَّحًا به في إحدى الروايات: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن [2]، وأن ما يُخشى منه من التشبيه والتمثيل غير موجودٍ، وإنما الصورة كسائر صفات الله ؛ كيَدِهِ وسمعه وبصره وكلامه وبقية صفاته جل وعلا، والله تعالى له الصفات اللائقة به والمخلوق له صفاتٌ تليق به، والله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فهذا التوهُّم الذي توهَّمه من توهمه وتأول الحديث هذا لا وجه له.
وذكرنا هذا عن ابن خزيمة رحمه الله، واعتذر عنه العلماء، وابن خزيمة رحمه الله على مذهب السلف، وعلى طريقة السلف، لكن اعتبروا أن هذه زلَّةٌ من ابن خزيمة رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه.
والقرطبي رحمه الله كذلك -أبو العباس القرطبي- صاحب “المُفْهِم” أيضًا تأوَّل هذا الحديث، وأيضًا المازري رحمه الله تأول هذا الحديث، قالوا: إن الصورة تفيد التركيب، وكل مركَّبٍ مُحدَثٌ، والله ليس بمُحدَثٍ وليس مركَّبًا، هذا كلامٌ غير مقبولٍ وغير مُسلَّمٍ، الله تعالى ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، ولا نُسلِّم بأن صورة الله تفيد التركيب، صورة الله ليست كصورة الآدمي حتى يقال: إنها تفيد التركيب، وكل مركبٍ مُحدَثٌ، وإنما صورة الله لا نعلم حقيقتها ولا كُنْهَها، كما لا نعلم كيفية سمع الله تعالى وكيفية بصره وكُنْهَ صفاته جل وعلا.
لكنا نعلم معنى السمع، ومعنى البصر، ومعنى الصورة، ومعنى صفات الله تعالى، نعلم معناها، وأما كيفيتها وحقيقتها فهذه لا نعلمها؛ فالله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
وعلى هذا قول المازري رحمه الله: إن الصورة تفيد التركيب، وكل مركبٍ مُحدَثٌ، والله ليس بمُحدَثٍ، نقول: إن قوله: إن الله ليس بمُحدَثٍ صحيحٌ؛ لأن الله تعالى أزليٌّ ليس كمثله شيءٌ وليس قبله شيءٌ، هو الأول ليس قبله شيءٌ، لكن لا نُسَلم بأن الصورة تفيد التركيب؛ لأن المقصود صورة الله التي لا نعلم كيفيتها ولا حقيقتها، وإنما قال ذلك؛ لأنه اعتقد أن صورة الله تعالى مثل صورة الآدمي، وهذا غير صحيحٍ، الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
حكم ضرب الوجه
دل هذا الحديث على تحريم ضرب الوجه مطلقًا، حتى ضرب وجه الدابة لا يجوز، ومن ذلك: صفْع الوجه ولطْم الوجه، هذا محرَّمٌ؛ لأن النبي نهى عنه وقال: فليجتنب الوجه، وقال: فليتق الوجه، وقال: فلا يلطمن الوجه، وهذا نهيٌ صريحٌ في وجوب اجتناب الوجه، وأن من ضرب الوجه أو لطم الوجه وقع في المخالفة.
وعلى هذا: لا يجوز الصفع في الوجه، ولا يجوز اللطم في الوجه، ولا يجوز ضرب الوجه مطلقًا، لا إنسانٍ ولا حتى حيوانٍ، فهذا قد نهى عنه النبي .
حكم وسم الدابة في الوجه
ومن ذلك أيضًا: الوَسْم، وسم الدابة في الوجه، فإنه محرَّمٌ، وقد جاء في حديث جابرٍ ، أن النبي مرَّ على حمارٍ قد وسِمَ في وجهه، فقال: لعن الله من وَسَمَه [3]، وهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب، فلا يجوز وسم الحيوان في الوجه، وإن كان وسم الحيوان في غير الوجه فلا بأس به، إذا اقتضت المصلحة ذلك، لكن وسم الحيوان في الوجه محرَّمٌ، بل من كبائر الذنوب.
وقوله عليه الصلاة والسلام: لعن الله من وسمه، هذا يدل على تشديد الشارع في هذه المسألة، وهذا يؤكد القول بتحريم ضرب الوجه ولطم الوجه.
حكم تقبيح الوجه
ومن ذلك أيضًا: تقبيح الوجه فإنه محرَّمٌ، فلا يجوز أن تقول لإنسان: قبَّح الله وجهك، أو تقول لإنسان يعني كما تقول بعض العامة: قطع الله وجه فلانٍ، قطع الله وجهك، هذا لا يجوز، لا يجوز تقبيح الوجه.
ويدل لذلك: ما جاء عند أحمد رحمه الله بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة ، أن النبي قال: إذا ضَرَب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقل: قبَّح الله وجهك ووجْهَ من أشبه وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته [4]، فقد ورد النهي عن تقبيح الوجه.
وقد جاء في حديث بَهْز بن حَكيمٍ عن أبيه عن جده، أن النبي قال: لا تُقبِّح الوجه ولا تضرب [5]، أخرجه أبو دواد والنسائي وابن ماجه بسندٍ صحيحٍ.
فإذنْ، لا يجوز أن يقول إنسانٌ لآخر: قبَّح الله وجهك، أو قطع الله هذا الوجه، أو نحو ذلك مما فيه التقبيح للوجه، هذا محرمٌ، وقد نهى عنه النبي .
فنَخلُص من هذا إلى: أن الوجه يجب صَونه عن الضرب وعن الوَسْم وعن التقبيح، فلا يجوز الضرب في الوجه، ولا يجوز تقبيح الوجه، ولا يجوز الوسم في الوجه بالنسبة للدابة ونحوها، كل هذا محرمٌ.
بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- في وسم الدابة في الوجه قال: لعن الله من وسمه، وهذا يدل على تشديد الشارع في هذه المسألة.
باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق
ننتقل بعد ذلك إلى:
33 – بابُ الوعيد الشديد لمن عذَّب الناس بغير حقٍّ
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله في “صحيحه”:
117 – (2613) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُؤوسِهِمِ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ، يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث أيضًا:
118 – (2613) ..، عن هشام بن حكيم بن حزامٍ، أنه مَرَّ على أناسٍ من الأنباط.
والأنباط: هم فَلَّاحُو العَجَم.
بِالشَّامِ، قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا.
ودل هذا الحديث على تحريم تعذيب الناس بغير حقٍّ، وأن الذي يفعل ذلك فإن الله تعالى يعذبه في نار جهنم.
وهذا محمولٌ على التعذيب بغير حقٍّ، فلا يدخل فيه التعذيب بحقٍّ؛ كالقصاص والحدود والتعزير ونحوه، وإنما هو محمولٌ على التعذيب بغير حقٍّ، وأن الله تعالى يُعذِّب الذين يُعذِّبون في الدنيا.
وهذا التعذيب من الله لهؤلاء الذين يعذبون في الدنيا، يكون في الآخرة في نار جهنم، ويحتمِل أيضًا: أن الله تعالى يعذبهم في الدنيا قبل الآخرة، بحسَب ما تقتضيه حكمة الله البالغة.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:
118 – ..، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: قَالَ وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ.
عمير بن سعدٍ الأنصاري الأوسي، ولَّاه عمر بن الخطاب على حِمْصٍ، وجدُّه أبو زيدٍ الأنصاري، أحد الذين جمعوا القرآن، وقد كان أمير حمصٍ ولَّاه عمر على حمصٍ، لكن مرَّ عليه هشامٌ، وهو أميرٌ على فلسطين، فلسطين هكذا تنطق -بكسر الفاء وفتح اللام- فِلَسطين، وهي بلاد بيت المقدس وما حولها، وهي فلسطين المعروفة، وهذا يدل على أنها كانت تسمى فلسطين من ذلك الحين، يعني منذ زمن الصحابة وهي تسمى: فلسطين.
فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا.
وهذا الصحابي الجليل دخل على أمير فلسطين، وأنكر عليه تعذيب هؤلاء، وكانوا أناسًا من أهل الذمة لم يدفعوا الجزية، فحدَّثه بما سمع من النبي من قوله: إن الله يعذب الذين يُعذِّبون في الدنيا [6]، فاستجاب هذا الأمير لنصيحة هذا الصحابي فأمر بهم فحُلُّوا.
وهذا يدل على ما كان عليه الصحابة من الصدع بالحق، فقد دخل هذا الصحابي هشام بن حكيمٍ على أمير فلسطين، وذكَّره بحديث النبي ، واستجاب هذا الأمير أيضًا لنصيحة هذا العالم.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:
119 – (2613) ..، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ، وَجَدَ رَجُلًا وَهُوَ عَلَى حِمْصَ يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ.
يعني: يضعهم في الشمس.
فَقَالَ: مَا هَذَا؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ، يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا.
وأيضًا جاء في الحديث الآخر: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: صنفان من أهل النار لم أرهما قط يعني: لم أر عذابًا مثل عذابهما قوم معهم سياطٌ كأذناب البقر [7]، يعني هؤلاء الذين يعذبون الناس بغير حقٍّ، ويضربون الناس بغير حقٍّ، هؤلاء جرمهم عظيمٌ عندالله ، وعذابهم كبيرٌ، ولهذا؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر هذا الصنف من الناس أنهم من أشد الناس عذابًا.
قال: صنفان من الناس لم أر مثلهما قط، يعني في تعذيبهم يوم القيامة بسبب تعذيبهم للناس في الدنيا.
باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق..
ننتقل بعد ذلك إلى:
34 – بابُ أمْر من مر بسلاحٍ في مسجدٍ أو سوقٍ أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس، أن يمسك بِنِصَالها
120 – (2614) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا- سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ بِسِهَامٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا.
والنِّصَال جمع نَصْلٍ: وهي حديدة السهم أو الرمح.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:
121 – (2614) ..، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي الْمَسْجِدِ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا.
ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا هذا الحديث عن جابرٍ بلفظ:
122 – (2614) ..، أن رسول الله أَمَرَ رَجُلًا، كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالنَّبْلِ فِي الْمَسْجِدِ، أَلَّا يَمُرَّ بِهَا إِلَّا وَهُوَ آخِذٌ بِنُصُولِهَا.
ثم ساق المصنف رحمه الله حديث أبي موسى :
123 – (2615) حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسٍ أَوْ سُوقٍ وَبِيَدِهِ نَبْلٌ، فَلْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لِيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لِيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا.
وهذا دليل على تأكد الأمر.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: وَاللهِ مَا مُتْنَا حَتَّى سَدَّدْنَاهَا بَعْضُنَا فِي وُجُوهِ بَعْضٍ.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:
124 – (2615) عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ؛ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ أَوْ قَالَ: لِيَقْبِضَ عَلَى نِصَالِهَا.
وهذا الحديث يدل على هذا الأدب، وهو الإمساك بنصال السهام عند إرادة المرور بين الناس في مسجدٍ أو سوقٍ أو غيره؛ لأنه إذا كانت السهام بارزةً فإنه ربما يأتي أحدٌ مسرعًا فتصيبه، ومثل ذلك أيضًا العصا فلا تُمسَك عَرْضًا؛ لأنها إذا مسكت عرضًا فقد يؤذي الإنسان مَن وراءه إذا أمسكها عرضًا هكذا، قد يؤذي من وراءه، ولكن تمسَك طُولًا هكذا بحيث يكون رأسها إلى السماء، ويكون أسفلها إلى الأرض حتى لا يؤذي الإنسان من خلفه.
دل هذا الحديث على أنه يجب على الإنسان أن يَتَوقَّى كل ما فيه أذيةٌ للناس؛ لأن أذية المؤمنين من كبائر الذنوب، والدليل لذلك: قول الله : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية في قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا قال: يَنسبون إليهم ما هم براءٌ منه، لم يعملوه ولم يفعلوه.
فهذا ذنبه عند الله عظيمٌ، الذي يأتي بمسلمٍ وينسب إليه ما هو براءٌ منه، لم يفعله ولم يعمله ولم يتصف به، فينسبه إلى ذلك الشيء ويؤذيه بذلك، يقول الله تعالى: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا أي: ارتكبوا أفحش الكذب.
البهتان هو: أفحش الكذب، وأفحش الزور.
وإثمًا مبينًا يعني: أتوا ذنبًا ظاهر القبح، وهذا يدل على أن هذه الأذية من كبائر الذنوب: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، فمن أتى لإنسان ونسبه لأمرٍ لم يفعله ولم يقع منه ولم يتصف به، فما أعظم مصيبته عند الله ! قد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب.
وجاء في الآية الأخرى في سورة النور قول الله : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، فمن يرمي إنسانًا غافلًا عن هذا الشيء الذي قد رمي به لم يتصف به فإنه يدخل في الوعيد الشديد في هذه الآية، أي أنه يستحق اللعنة في الدنيا والآخرة، في الدنيا يطرد من رحمة الله، وفي الآخرة أيضًا يطرد من رحمة الله تعالى، وإذا طرد في الآخرة من رحمة الله كان جزاؤه جهنم وبئس المصير.
لكن حتى أيضًا في الدنيا تحق عليه اللعنة فيطرد من رحمة الله .
ولذلك؛ لا يجد هذا الإنسان التوفيق في حياته كلما أتى بابًا وجده مغلقًا، ولا يجد التوفيق، ولا يجد السعادة في حياته؛ بسبب أذيته لغيره من المؤمنين، ولعنة الله تعالى له، ولهذا؛ قال سبحانه: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، فحقوق العباد أمرها عند الله عظيمٌ جدًّا، وأمرها شديدٌ، ولذلك؛ لا أحد يتعرض لمؤمنٍ بغير حقٍّ ويؤذيه، وينسبه بنسبةٍ غير صحيحةٍ، أو يؤذيه بقولٍ أو فعلٍ أو كتابةٍ، فإنه يدخل في هذا الوعيد الشديد، يستحق اللعنة في الدنيا والآخرة، ويكون قد ارتكب بهتانًا وإثمًا مبينًا، وهذا يدل على شدة هذا الأمر، وعلى عظيم إثمه عند الله ، وعلى تشديد الشارع في هذا الأمر؛ لأن فيه أذيةً شديدةً للمؤمنين.
ولهذا؛ فهذا الأمر قد يتساهل فيه بعض الناس خاصةً في مواقع التواصل الاجتماعي، فيأتون لإنسان بريءٍ ويقذفونه بما هو منه براءٌ، أو ينسبونه لأمرٍ هو منه براءٌ فيعَرِّضون أنفسهم لهذا الوعيد الشديد، وهو اللعنة في الدنيا والآخرة: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وأيضًا قد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا.
فهذا يدل على شدة هذا الأمر في الشريعة الإسلامية، وعلى تشديد الشارع على هذه القضية؛ لأن أذيتها شديدةٌ، وألمها كبيرٌ، فلهذا؛ شدد الشارع فيها هذا التشديد العظيم.
باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم
ننتقل بعد ذلك إلى:
35 – بابُ النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلمٍ
وقد ساق فيه الإمام مسلمٌ رحمه الله عدة أحاديث؛ أولها حديث أبي هريرة .
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله في “صحيحه”:
125 – (2616) حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث عن أبي هريرة قال:
126 – (2617) ..، قَالَ رَسُولُ اللهِ : لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ.
وفي هذا الحديث النهي عن أن يشير الإنسان إلى غيره بسلاحٍ أو بحديدةٍ أو بحجرٍ أو نحو ذلك، كأنه يريد أن يرميه به؛ لأنه ربما إذا فعل ذلك نزع الشيطان في يده، فأصاب أخاه المسلم بتلك الحديدة أو ذلك السلاح، فيقع في حفرةٍ من حفر النار.
حكم الإشارة بالسلاح على سبيل المزاح
ولهذا؛ هذا العمل -الإشارة بالسلاح- ولو على سبيل المزاح محرمةٌ، بل إنها من كبائر الذنوب؛ لأن النبي قال: فإن الملائكة تلعنه حتى يَدَعه، فأمرٌ يترتب عليه لعن الملائكة لا شك أنه من كبائر الذنوب.
قال: وإن كان أخاه لأبيه وأمه، حتى ولو كان هذا قريبًا منك تمزح معه، فلا يجوز المزح بالسلاح، فهذا يفعله بعض الناس، يمزح بعضهم على بعضٍ بالسلاح بأن يصوِّب بندقيته أو مسدسه إليه، أو سكينًا أو أي شيءٍ يرفعه عليه يريد بذلك ممازحته، فلا يجوز ذلك، بل هو من كبائر الذنوب، ومتى ما رفع السلاح على أخيه فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، فهذا يقتضي لعنة الملائكة لهذا الذي قد رفع السلاح ولو كان على سبيل المزاح، والغالب أن هذا إنما يقع على سبيل المزاح.
فالمزاح يكون بغير هذا، هذا من صورة المزاح الممنوع، أن يشير الإنسان بالسلاح على أخيه المسلم، فهذا من صورة المزاح الممنوع.
والعلة في ذلك بيَّنها النبي قال: فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده، وجاء في نسخةٍ: ينزغ في يده، ولكن أكثر النسخ على: ينزع في يده، يعني: ربما أن الشيطان يتسبب في أن يصيب أخاه، خاصةً السلاح في وقتنا الحاضر، بالمسدس وما يسمَّى بالرشَّاش والبندقية ونحو ذلك، فإنه ربما يضع أصبعه على هذا السلاح فينزع الشيطان فيه فيصيب أخاه فيقتله، ولهذا؛ نهى النبي عن هذا.
ثم إذا قتله يبوء بإثمه، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: فيقع في حفرةٍ من النار، بسبب أنه خالف نهي النبي -عليه الصلاة والسلام- بحمله السلاح على أخيه المسلم، حتى ولو كان ذلك على سبيل الممازحة.
فهذا يدل على أن هذا العمل من كبائر الذنوب، ولهذا؛ ينبغي أن يُشاع هذا الحكم في المسلمين؛ لأن بعض الناس يتساهل في هذه المسألة؛ فيمزح مع غيره بالسلاح، فيرفع عليه السلاح، يرفع عليه المسدس، يرفع عليه البندقية، يرفع عليه السلاح يمازحه بذلك، يريد تخويفه، فهذا العمل محرمٌ بل من كبائر الذنوب، ومن فعل ذلك فإن الملائكة تلعنه حتى يَدَعَه.
ثم أيضًا: الشيطان قد يدخل أثناء رفعه للسلاح فينزع يده فيصيب أخاه المسلم فيقتله، وكم سمعنا من قصصٍ في هذا؛ أن هناك من كان يمزح مع صديقٍ له ثم قتله، فهذا هو السبب، أنه يأتي ممازحًا له، ويرفع عليه السلاح، ثم يأتي الشيطان وينزع في يده حتى يصيب أخاه أو صديقه فيقتله.
فعلى هذا يجب التأدب بهذا الأدب الذي أرشد إليه النبي ، وهو أنه لا يشير على أخيه بالسلاح، لا يرفع السلاح على أخيه المسلم مطلقًا؛ سواءٌ كان جادًّا أو مازحًا، لا يجوز أن يشير بالسلاح على أخيه مطلقًا.
حكم اللعب بالسيارة بقصد المزاح
أخذ بعض العلماء المعاصرين من هذا -مِن نهي النبي عن الإشارة إلى أخيه بالسلاح- ما يفعله بعضهم من اللعب بالسيارة، أن يقصد إنسانًا بالسيارة مسرعًا، فإذا قرب منه حركها بسرعة عنه، يريد بذلك اللعب والمزاح وتخويف هذا الشخص، فهذا يدخل في النهي الوارد في هذا الحديث، بل إنه يدخل في قول النبي : من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنه، وكونه يأتي إليه مسرعًا بالسيارة هذا أعظم من الإشارة إليه بالحديدة، ولذلك؛ ربما يأتي إلى صاحبه بالسيارة مسرعًا يريد بذلك اللعب وربما يدهسه؛ لأنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فلا يتحكم في السيارة، فيدهسه فيقع في حفرةٍ من النار.
فنقول إذنْ: اللعب بالسيارة بقصد المزاح يدخل في النهي الوارد في هذا الحديث، فهذا من المزاح الممنوع.
من أراد أن يمازح أخاه فليمازحه بالأشياء البعيدة عن هذه الأمور، لا يمازحه بسلاحٍ يرفعه عليه، ولا يمازحه بسيارةٍ يقصده بها مسرعًا، فهذه الأمور يصعب التحكم فيها، والشيطان يكون حاضرًا، فربما في السلاح ينزع في يده فيصيب صديقه أو أخاه فيقتله، وربما في السيارة كذلك، ربما ينزع الشيطان على قدمه فلا يتحكم في السيارة فيدهس أخاه أو صديقه فيقتله.
هذه الأمور ليست مجالًا للمزاح، فمن أراد أن يمازح أخاه أو صديقه يمازحه بأمور غير هذه، بالأمور المسموح بها، وليست بهذه الأمور الممنوعة.
وفي هذا الحديث: النهي عن التعاطي لأسباب الهلاك ولو على سبيل المزاح، فما كان من أسباب الهلاك فيمنع منه، حتى لو كان على سبيل المزاح.
قال النووي رحمه الله: وفيه تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه، والتعرض له بما قد يؤذيه.
وقوله : وإن كان أخاه لأبيه وأمه، مبالغةٌ في إيضاح عموم النهي في كل أحدٍ؛ سواءٌ من يُتَّهم فيه ومن لا يتهم، وسواءٌ أكان هذا هزلًا ولعبًا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرامٌ بكل حالٍ.
باب فضل إزالة الأذى عن الطريق
ننتقل بعد ذلك إلى:
36 – بابُ فضل إزالة الأذى عن الطريق
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله في “صحيحه”:
127 – (1914) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.
ثم ساق أيضًا المصنف رحمه الله هذا الحديث:
128 – (1914) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:
129 – (1914) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ.
ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا هذا الحديث من طريقٍ أخرى عن أبي هريرة ، ثم ساقه عن أبي بَرْزَة :
131 – (2618) ..، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ: اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث أيضًا:
132 – (2618) ..، عن أبي برزة قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي لَا أَدْرِي، لَعَسَى أَنْ تَمْضِيَ وَأَبْقَى بَعْدَكَ، فَزَوِّدْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : افْعَلْ كَذَا، افْعَلْ كَذَا -أَبُو بَكْرٍ نَسِيَهُ- وَأَمِرَّ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ.
هذا الحديث يدل على فضل إزالة الأذى عن الطريق؛ سواءٌ كان الأذى شجرةً تؤذي، أو غصن شوكٍ، أو حجرًا يُعثَر فيه، أو جيفةً، أو نحو ذلك، فإماطة الأذى عن الطريق شعبةٌ من شعب الإيمان.
وقد بيَّن النبي في هذا الحديث فضل إماطة الأذى عن الطريق، وأنه قد يكون سببًا لمغفرة الله للعبد، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: بينما رجلٌ يمشي في الطريق، وجد غصن شوكٍ في الطريق فأخَّره فشكر الله له فغفر له [8]، غفر الله تعالى له بسبب أنه أخَّر غصن شوكٍ في الطريق كان يؤذي الناس.
وفي الحديث الآخر: أُدخِلَ الجنةَ، لمَّا مر رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ، قال: والله لأنحينَّ هذا عن المسلمين فأدخل الجنة.
وقال عليه الصلاة والسلام: رأيت رجلًا يتقلب في الجنة بشجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس، وهذا يدل على الفضل العظيم لإزالة الأذى عن الطريق، وأنه من أسباب مغفرة الذنوب، ومن أسباب دخول الجنة.
وبعض الناس يستهين بهذه المسألة، والفضل الوارد فيها عظيمٌ، فقد يكون ذلك الأمر سببًا لمغفرة ذنوبك، وقد يكون سببًا لدخول الجنة.
عِظَم أعمال القلوب
ودلَّ هذا الحديث على أن الأعمال تتفاضل بحسَب ما في القلوب، وإلا فليس كل إنسانٍ أخَّر غصن شجرةٍ عن الطريق يغفر له، وليس كل إنسانٍ قطَع شجرةً في ظهر الطريق تؤذي الناس يدخل الجنة بسبب ذلك، ولكن هذا كما قال ابن تيمية رحمه الله وجمع من المحققين من أهل العلم، أن هذا الرجل قد قام في قلبه من أعمال القلوب من الإخلاص والصدق واليقين ما نال به هذا الفضل الوارد في الحديث من مغفرة الذنوب ومن دخول الجنة.
وهذا يدل على عظيم شأن أعمال القلوب، وأن الإنسان قد يعمل عملًا يسيرًا لكن يقترن به أعمالٌ قلبيةٌ يرفعه الله تعالى بهذا العمل درجاتٍ، وقد يكون هذا العمل سببًا لدخوله الجنة.
ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه [9]، ربما يكون هذا العمل الذي تعمله كلمةً تتكلم بها، لكن صاحَبَها أعمالٌ قلبيةٌ؛ من الإخلاص والصدق واليقين يكتب الله تعالى لك بسببها رضوانه إلى يوم يلقاه.
فهذا يدل على أن الأعمال القلبية تَرفع صاحبها درجاتٍ عليَّةً عند الله .
ولهذا؛ عندما ننظر في تراجم بعض الصحابة والتابعين والسلف الصالح، نجد أن بعضهم كان عمره قصيرًا، ولكن كان أثره عظيمًا؛ فمِن هؤلاء: سعد بن معاذٍ ، سعد بن معاذٍ أسلم وعمره واحدٌ وثلاثون، ومات وعمره سبعٌ أو ثمانٍ وثلاثون، يعني بقي في الإسلام ست أو سبع سنواتٍ، ومع ذلك، يقول النبي عنه إنه لما مات اهتز لموته عرش الرحمن [10]، سبحان الله! بقي في الإسلام ست أو سبع سنواتٍ، ومع ذلك، لما مات اهتز لموته عرش الرحمن، معنى ذلك أنه ملأ هذه السُّنَيَّات بأعمالٍ عظيمةٍ اقترن بها أعمالٌ قلبيةٌ.
فأعمال القلوب هي التي يتفاضل بها الناس، أعمال القلوب من اليقين والإخلاص والصدق هذه هي التي يتفاضل بها الناس.
وإن الرجلين ليصليان وهما متجاوران وبينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك؛ أن أحدهما قام بقلبه من الأعمال من الأعمال القلبية ما قام فرفعه الله تعالى بهذه الصلاة درجاتٍ عليَّةٍ.
فالأعمال القلبية شأنها عظيمٌ وأجرها كبيرٌ، فينبغي أن يُعنى المسلم بتحقيق هذه الأعمال القلبية، ولهذا؛ ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلًا تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
تصدَّق بصدقةٍ ربما تكون مبلغًا يسيرًا ربما يكون بعشرة ريالاتٍ أو نحو هذا، لكنه اقترن بها أعمالٌ قلبيةٌ من الإخلاص الشديد، والصدق، ولذلك؛ أخفى هذه الصدقة حتى لو قُدِّر أن اليد الشمال تبصر ما استطاعت أن ترى اليد اليمين من شدة الإخفاء؛ لأنه لا يريد من هذا الفقير جزاءً ولا شكورًا، إنما يبتغي الأجر من الله ، فكان جزاؤه بأن يكون من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
هذا عمل يراه الناس يسيرًا تصدق بصدقةٍ يسيرةٍ على فقيرٍ، مبلغٍ يسيرٍ، لكن مع ذلك كان هذا العمل سببًا لأن يكون من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، لماذا؟ لأنه اقترن بهذا العمل اليسير أعمالٌ قلبيةٌ رفعت هذا العمل من كونه يسيرًا لأن يكون عند الله تعالى عظيمًا، وأن يكون صاحبه من الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ولذلك؛ لا يدري الإنسان عن مَحَاِّل مَحَابِّ الله تعالى ومرضاته، رُبَّ عملٍ تظنه أنت يسيرًا، لكنه يقع عند الله تعالى موقعًا عظيمًا.
جاء في “صحيح مسلم” عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأةٌ ومعها ابنتان تستطعمني، يعني امرأةٌ فقيرةٌ مسكينةٌ، قالت عائشة: فأعطيتها ثلاث تَمَراتٍ، فأعطت كلَّ واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، ورفعت التمرة الثالثة إلى فيها لتأكلها، فاستطعَمَتها ابنتاها، فأخذت التمرة وشقَّتها نصفين، وأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها نصف تمرةٍ وبقيت هي لم تأكل شيئًا، قالت عائشة رضي الله عنها: فأعجبني شأنها، فذكرتُ ذلك للنبي فقال: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنة [11].
سبحان الله! أوجب الله لها بها الجنة! ماذا عملت؟ أخذت تمرةً وشقتها بين ابنتيها نصفين، ومع ذلك أوجب الله تعالى لها بها الجنة، فالإنسان لا يدري عن مَحَالِّ مَحَابِّ الله تعالى ومرضاته، ربما تعمل عملًا تظنه يسيرًا، لكنه يقع عند الله تعالى موقعًا عظيمًا.
وفي المقابل: ربما يرتكب الإنسان ذنبًا يظنه يسيرًا وسهلًا، لكنه يكون عند الله تعالى عظيمًا.
ولذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام: وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يلقي لها بالًا يكتب الله تعالى سخطه عليه إلى يوم يلقاه [12]، كلمةٌ يكتب الله تعالى بسببها سخطه عليه إلى يوم يلقاه.
وأيضًا قال الله تعالى في شأن القَذْفَة، قال: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، يعني من قذف مسلمًا بريئًا هو عند الله تعالى عظيمٌ، وبعض الناس يظنه أمرًا سهلًا وأمرًا هينًا: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
أيضًا: قد يستهين الإنسان ببعض المعاصي لكنها تكون عند الله تعالى عظيمةً.
ولهذا؛ فعلى المسلم الحذر من المعاصي كلها، ولا يستهين بمعصيةٍ من المعاصي بحجة أن هذه المعصية سهلةٌ، وأنها كذا، وأنها صغيرةٌ، فإنه -ما يدريك؟!- ربما تكون عظيمةً عند الله ، إذا كانت كلمة كتب الله تعالى بسببها سخطه على هذا الإنسان: إن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يلقي لها بالًا، يكتب الله تعالى له بها سَخَطه إلى يوم يلقاه [13].
وقال رجلٌ: والله لا يغفر الله لفلانٍ، قال الله: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألَّا أغفر لفلانٍ، فقد غفرت له وأحبطت عملك، قال أبو هريرة : قال كلمةً أَوْبَقَت دنياه وآخرته [14].
فعلى هذا؛ على المسلم ألا يستهين بأي معصيةٍ، وأن يجتنب المعاصي وأن يحذر منها.
ونكتفي بهذا القدر.
ونقف عند: باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
السؤال: هل مفهوم التقوى: أن يكون الإنسان بلا ذنوبٍ؟
الجواب: هذا غير صحيحٍ، من الذي يَسلم من الذنوب؟! كل بَنِي آدم خطاءٌ، وخير الخطائين التوابون [15]، والله تعالى يقول لنبيه محمدٍ : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فليس هناك أحدٌ من البشر يَسلم من الذنوب، ولكن معنى التقوى لله : أن يجعل المسلمُ بينه وبين عذاب الله وقايةً؛ باتباع أوامره واجتناب نواهيه، تكون حسناته أكثر من سيئاته، ويكون إلى الله تعالى أقرب، فهذا هو المتقي لله سبحانه، وهذا هو ميزان التفاضل بين الناس: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
السؤال: هل يدخل أهل الأعذار ممن يُصلُّون في بيوتهم في وقت الإجابة بين الأذان والإقامة، أم أنه خاصٌّ بمن يصلي في المسجد؟
الجواب: النبي يقول في الحديث الصحيح: لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة [16]، فبيَّن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن هذا الوقت وقت فاضل وأنه من أوقات إجابة الدعاء، ولهذا يستحب للمسلم بين الأذان والإقامة أن يستقبل القبلة ويرفع يديه، ويدعو الله تعالى بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة إلى أن تقام الصلاة.
وأما قول الأخ السائل: هل هذا يختص بمن كان في المسجد؟
الجواب: لا يختص بمن كان في المسجد؛ لأن قول النبي : لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، عامٌّ يشمل من كان في المسجد، ويشمل من كان خارج المسجد، فالمرأة في بيتها أيضًا يشملها هذا الحديث، ذَوُو الأعذار؛ كالمرضى ونحوهم أيضًا يشملهم هذا الحديث، هذا يدل على أن هذا الوقت -ما بين الأذان والإقامة- من مواطن إجابة الدعاء.
السؤال: أهل مكة إذا قَدِموا من سفرٍ على مطار جدة، هل يجوز لهم القصر والجمع في المطار قبل أن يذهبوا إلى مكة؟
الجواب: نعم يجوز، لأنهم لازالوا في سفرٍ، ما داموا لم يَصِلوا إلى عمران مكة فيجوز لهم القصر والجمع، بل حتى لو كانوا في جدة بل حتى لو كانوا قبل مكة بكيلو، يجوز لهم الترخص برخص السفر من الجمع والقصر ونحو ذلك؛ لأنهم لا زالوا في سفر، وإنما تنقطع الرخصة في حقهم إذا وصلوا إلى عمران البلد، إذا وصلوا إلى أول عمران البلد انقطعت الرخصة في حقهم.
السؤال: هل يجوز للمؤذن أن يخرج من المسجد بعد رفع الأذان ويرجع قبل الإقامة بثوانٍ؟
الجواب: نعم لا بأس بذلك، وأما الذَّم الوارد في حق من خرج من المسجد بعد الأذان -كما جاء في حديث أبي هريرة أنه لما رأى رجلًا خرج من المسجد بعدما أذَّن المؤذن قال: “أما هذا فقد عصى أبا القاسم “- فهذا محمولٌ على من خرج من المسجد بعد الأذان وفاتته الصلاة مع الجماعة في المسجد، فإنه لم يُصَلِّ مع الجماعة في المسجد، بل هذا هو الذي يلحقه الذنب.
أما من كان سيصلي في المسجد فلا يدخل في هذا الذم الوارد في الحديث.
وعلى هذا: فهذا المؤذن إذا كان سيأتي قُبيل الإقامة ويقيم الصلاة فلا بأس بذلك.
وهكذا أيضًا لو أذَّن المؤذن وأراد إنسانٌ أن يصلي في مسجدٍ آخر؛ كأن يكون مثلًا عنده شغلٌ أو نحو ذلك، فأراد أن يصلي في مسجدٍ آخر فلا بأس بذلك.
المهم أنه لا يترتب على خروجه من المسجد بعد الأذان تفويته الصلاة مع الجماعة في المسجد، فإذا كان لا يترتب عليه تفويت الصلاة مع الجماعة في المسجد، جاز ذلك مطلقًا.
فمحل الذم في هذا الحديث إنما هو في حق من خرج من المسجد بعد الأذان، وتسبب خروجه في تفويته الصلاة مع الجماعة في المسجد.
السؤال: ما طريقة إخراج زكاة الصناديق العقارية (الرايت) وهل الزكاة على كامل رأس المال أم الأرباح؟
الجواب: زكاة الصناديق العقارية (الرايت) عندنا في المملكة العربية السعودية، بعض هذه الصناديق تُخرِج الزكاة عن مُلَّاك الوحدات، وبعضها لا تخرج، ولذلك؛ فمن ملك وحدات من هذه الصناديق فعليه أن يسأل ويستفسر: هل أنتم تخرجون الزكاة أم لا؟ فإذا كانوا يخرجون الزكاة فيكفي ذلك، أما إذا كانوا لا يخرجون الزكاة فيجب عليه أن يخرج الزكاة، وذلك بأن يسأل عن مقدار الوعاء الزكوي للوحدة، ثم يضربها في عدد الوحدات، وأما بالنسبة للأرباح فأرباح هذه الصناديق تنزل في الحساب؛ إما في الحساب الجاري، أو في حساب المحفظة، ولذلك؛ تكون كسائر أمواله، يعني يزكيها كسائر أمواله، أما بالنسبة لزكاة الصناديق نفسها -فكما ذكرت- بعض الصناديق تُخرِج الزكاة، فهنا لا يلزم مالك الوحدة أن يخرجها، وإذا كانت لا تُخرِج فيلزمه أن يخرجها، هذا بالنسبة لزكاة هذه الوحدات.
لكن إذا كان الإنسان متاجرًا مضاربًا في هذه الوحدات، يبيع ويشتري فيها أو في الأسهم عمومًا، هنا يلزمه أن يزكي، بغَضِّ النظر عن زكاة الشركات، فزكاة الأسهم على قسمين:
- القسم الأول: أن يكون المساهِم مضارِبًا أي متاجرًا يبيع ويشتري فيها، فهذه عُروض تجارةٍ فتزكَّى زكاة عروض التجارة، وذلك بأن ينظر إلى قيمة المحفظة عند تمام الحول، ويخرج ربع العشر (2.5%) من قيمتها.
- القسم الثاني: أن يكون المساهم مستثمرًا وليس مضاربًا، بأن تكون عنده أسهمٌ تَرَكَها، إما أنه اكتُتب فيها وتركها، أو اشتراها وتركها، وبقيت عنده لا يبيع ويشتري فيها، وإنما تركها يريد بذلك الإفادة من ريعها وأرباحها، أو أنه يريد أن ترتفع أسعارها ثم يبيعها فيما بعد، فهذه بالنسبة لمن كان في المملكة العربية السعودية لا تجب عليهم الزكاة، باعتبار أن الشركات تخرج الزكوات إلى “مصلحة الزكاة والدخل”، والمال لا يزكى مرتين، فتكفي زكاة الشركات عنهم.
السؤال: إخوةٌ يقولون: والدهم تجاوز الثمانين عامًا، وكان في كامل قواه العقلية، لكنه يَسب الدين ويسب المسلمين، وينكر عذاب القبر، مع أنه يصلي، فهل نطيع والدنا ونصله ونعطيه مالًا وهو على هذه الحال؟ ولو تكلم مثل هذا الكلام ونحن عنده هل يجوز الجلوس معه؟
الجواب: هذا الأب عليكم أن تنصحوه، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، فإذا أردتم أن تَقُوا والدكم النار فعليكم أن تنصحوه، وأن تستمروا في مناصحته، وإذا كان لا يقبل منكم فوَسِّطوا من يقبل منه؛ فإن كل إنسانٍ له مفاتيح، ابحثوا عن مفاتيح والدكم، ووسطوا من ينصحه ويعظه ويذكره بالله ، خاصةً أنه يصلي، ما دام أنه يصلي ففيه خيرٌ، لكن ربما أن هذا السباب الذي يحصل منه أنه بحكم العادة، أو نحو ذلك، فهو يحتاج إلى مناصحةٍ، فوالدكم يحتاج إلى مناصحةٍ، من البِرِّ به أن تنصحوه، وأما صِلَته فتجب صلته، والله قال في الوالدين اللذين يأمران ولدهما بالشرك، بأعظم ذنب عصي الله به، يقول: فلا تطعهما، يعني فيما أمراك به من الشرك، ولكن وصاحبهما في الدنيا معروفًا [لقمان:15]، لا يَسقط بِرُّه بذلك، فبره واجبٌ عليكم حتى وإن حصل منه ما حصل، لكن من أعظم البر به أن تنصحوه، وإذا تكلم بهذا الكلام عندكم تنكرون عليه، أَنكِروا عليه واصبروا على ما قد يلحقكم من أذًى، لكن يجب عليكم أن تنكروا عليه وأن تنصحوه، وأن تسعَوا لتخليصه من هذه المعاصي التي يقع فيها، وهي من كبائر الذنوب.
السؤال: ما حكم التعامل بالعملات الرقمية؟
الجواب: التعامل بالعملات الرقمية؛ مثل: (البيتكوين) هذه للعلماء المعاصرين فيها اتجاهان:
اتجاه للقول بالجواز، وأن هذه عملاتٌ رائجةٌ، فيجوز التعامل بها كسائر العملات الرائجة.
والاتجاه الآخر اتجاه بالتحريم، وذلك لما ينطوي على التعامل بها من مخاطر، ومن غَرَرٍ كثيرٍ، فإنها سريعة التقلب؛ فتارة ترتفع بسرعةٍ، وتارةً تنخفض بسرعةٍ، فقالوا: بعدم الجواز.
وأما بالنسبة لرأيي فأنا متوقف فيها؛ لأن هناك أمورًا لم تتضح بعد، فيها أمورٌ لم تتضح، فلا نريد أن نقول للناس: تجوز فيكون في هذا نوع من التغرير بهم، ولا أيضًا نقول: إنه لا يجوز، فأيضًا لا ندري ربما يكون في السنوات المقبلة تكون هي العملة الرائجة، يعني بعد 5ـ10 سنوات ما ندري، ربما تكون هي العملة الرائجة في العالم، ولذلك؛ فأرى عدم الاستعجال في الفُتيا فيها، فرأيي الخاص: أنا لم يتضح لي فيها رأي، لكن هناك بعض الجهات حذَّرت من التعامل بها؛ لما ينطوي عليها من المخاطر الكبيرة، ومن ذلك عندنا في المملكة: مؤسسة النقد البنك المركزي، حذَّر في سنةٍ خَلَت من التعامل بها؛ لما ينطوي عليها من مخاطر كبيرةٍ، ومن تَعَامل بها اعتمادًا على فُتيا من أجاز ذلك، يعني هذه المسألة ما دام فيها خلافٌ فالأمر فيها واسعٌ، أما بالنسبة لرأيي الشخصي: فأنا متوقفٌ فيها.
السؤال: متى يكون قَلْب اللِّباس في صلاة الاستسقاء؟ هل يكون حالَ دعاء الخطيب واستسقائه، أم بعد انتهاء الخطبة؟
الجواب: ظاهر الأدلة أنه يكون قبل الدعاء، يعني قبل أن يدعو الخطيب في الخطبة يكون قلب اللباس؛ لأنه يتقرب إلى الله بذلك، ويتفاءل بأن الله تعالى يغير حالة الناس من القحط إلى نزول المطر والخصب والرخاء؛ فالأنسب أن يكون ذلك وقت الدعاء، وليس بعد الدعاء، وهذا هو ظاهر الأحاديث، فقبل أن يدعو في الخطبة الخطيب وكذلك المستمعون للخطبة يقلبون اللِّباس، الخطيب مثلًا إذا كان عليه مِشلَحٌ يقلب المشلح، والناس كذلك من كان عليه مشلحٌ يقلب المشلح، ومن لم يكن عليه يقلب الغُترة أو الشماغ، ويدعون الله تعالى وقد قلبوا اللباس، هذا أقرب لتحقيق مقصود الشارع من أن يكون ذلك بعد الخطبة، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 3327، ومسلم: 2834. |
---|---|
^2 | رواه الطبراني: 13580. |
^3 | رواه مسلم: 2117. |
^4 | رواه أحمد: 7420. |
^5 | رواه أبو داود: 2143، والنسائي في السنن الكبرى: 9115، وابن ماجه: 1850. |
^6 | رواه مسلم: 2613. |
^7 | رواه مسلم: 2128. |
^8 | رواه البخاري: 652، ومسلم: 1914. |
^9 | رواه الترمذي: 2319، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 3969. |
^10 | رواه البخاري: 3803، ومسلم: 2466. |
^11 | رواه مسلم: 2630. |
^12, ^13 | سبق تخريجه. |
^14 | رواه مسلم: 2621. |
^15 | رواه ابن ماجه: 4251. |
^16 | رواه أبو داود: 521. |