logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(40) باب تحريم الظلم- من حديث “إن الله​​​​​​​ يملي للظالم..”

(40) باب تحريم الظلم- من حديث “إن الله​​​​​​​ يملي للظالم..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في شرح «صحيح مسلم»، وفي هذا اليوم الثلاثاء، 13 من ربيع الأول من عام 1443 للهجرة، حسب تقويم أم القرى.

وأسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، والتوفيق لما يحب ويرضى.

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا.

من كان عنده سؤال أو استفسار فليرسله، وإن شاء الله، نجيب عن الأسئلة والاستفسارات بعد الدرس إن شاء الله تعالى.

تتمة باب تحريم الظلم

كنا قد وصلنا في التعليق على «صحيح مسلم» إلى باب تحريم الظلم، وأخذنا فيه جملة من الأحاديث، ووصلنا إلى حديث أبي موسى .

قال الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه»:

61 – (2583) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِنَّ اللهَ ​​​​​​​ ​​​​​​​​​​يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102].

الظلم عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، وقد حرَّم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله مُحرَّما على عباده، ويقول النبي : واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [1]. فدعوة المظلوم -في الغالب- مستجابة في الدنيا، وقد يؤخر الله تعالى عقوبة الظالم إلى الآخرة بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة جل وعلا، ولهذا؛ قال ربنا سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42].

ولكن في الغالب أنَّ الظالم عقوبته معجلة في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الله تعالى لا يرضى بالظلم، ولا يحب الظالمين، تكرر قوله جل وعلا: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57، 140]. في عدة آيات في كتابه الكريم.

وقال تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [البقرة: 270]. يعني هذا الظالم لا أحد يشفق عليه، ولا أحد ينصره بسبب ظلمه.

ويقول النبي : ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره له في الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم [2]. فالبغي الذي هو الظلم عقوبته عقوبة مُعجلة في الغالب، هو وقطيعة الرحم.

ولهذا فينبغي للمسلم أن يحذر من الظلم بجميع أشكاله وصوره وأنواعه، حتى لو كان ظلم حيوان لا يجوز، فما بالك بظلم الإنسان؟! 

والله تعالى أقام السماوات والأرض على العدل، وأمر بالعدل وأمر بالقسط جل وعلا، وأخبر بأنه يحب المقسطين بل أخبر بأنه يحب الذين يأمرون بالقسط والمقسطين، ولا يحب الظالمين، وهذا يدل على خطورة الظلم، وسوء عاقبته.

معنى: إنَّ اللهَ يُملِي للظالم 

وفي هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله ليُملِي للظالم.

معنى يُملِي: يعني يمهل ويؤخر ويطيل له في المدة، حتى يتمادى في ظلمه،

فإذا أخذه لم يُفْلِتْهُ: إذا نزلت العقوبة وأخذه جل وعلا لم يفلته، يعني: لم يُطْلِقْه، وإنما يأخذه أخذًا شديدًا، ويعاقبه عقوبة عظيمة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]. فالله تعالى قد يملي للظالم، قد يمهله ويستدرجه، وهذا من أشد ما يكون من البلاء؛ لأن هذا الظالم يتمادى في ظلمه، وربما أصلًا لا يشعر بالظلم، ربما يفسره بتفسير آخر، لا يفسره بأنه ظلم، ويتمادى في ظلمه وبغيه، حتى إذا أخذه الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وإن أخذه أليم شديد.

ولهذا؛ فعلى المسلم أن يحذر من الظلم، وأن يبتعد عن الظلم.

وأيضًا ألا يركن للظالمين؛ كما قال الله سبحانه: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113]. حتى مجرد الركون والميل لا يجوز.

فالظلم عاقبته وخيمة، فينبغي أن يُعوِّد المسلم نفسه على العدل في قوله، والعدل في أفعاله، والعدل في حكمه، والعدل في كل شيء، والله تعالى أخبر بأنه يحب المقسطين، يعني العادلين الذين يعدلون في كل شيء، في كلامه، في حكمه على الأشخاص، بين أولاده، بين زوجاته -لمن كان له أكثر من زوجة- بين الطلاب بالنسبة للمُعلِّم، من ولي ولاية بين الموظفين الذين تحت ولايته،.. وهكذا.

لماذا تستجاب دعوة المظلوم؟

تستجاب دعوة المظلوم؛ لأن المظلوم عندما يدعو على ظالمه يدعو بحرارة وبإخلاص وبصدق، وكذلك أيضًا لأن الله لا يحب الظالمين، فهذا المظلوم إنسان تعرض لمظلمة، والله تعالى لا يحب الظالمين، وهذا المظلوم يدعو الله تعالى بحرقة وبإخلاص وصدق، فتستجاب دعوته.

ولذلك غير المظلوم إذا دعا الله تعالى بنفس المشاعر التي يدعو بها المظلوم، فإنه أيضًا في الغالب تستجاب دعوته، ولهذا؛ تستجاب دعوة المضطر: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ [النمل: 62].

لماذا تستجاب دعوة المضطر؟

لأن المضطر يدعو بإخلاص شديد، ويدعو الله تعالى بقلب مقبل على ربه .

فإذا وصلَت حالتك مثل حالة المضطر والمظلوم عند الدعاء فإن الدعاء يستجاب، بل إن هذا السبب -وهو الإخلاص الشديد والاضطرار إلى الله ، ودعاء الله بإخلاص وبإنابة وبإقبال- يقوى حتى على دفع المانع من إجابة الدعاء، وإن كان المانع شركًا، ولهذا أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65]، مع أنهم مشركون والشرك من موانع الإجابة، ومع ذلك إذا وصلوا إلى حال الاضطرار، ودعوا الله تعالى وهم مضطرون، استجاب الله تعالى لهم فنجَّاهم مما هم فيه من الكرب.

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ يعني: وأصابتهم كربة دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. 

فوائد من حديث: إنَّ اللهَ ​​​​​​​ يُمْلِي للظالم..

  • في هذا الحديث: تغليظ الظلم وشدة الوعيد فيه، وقد ذكرنا أنه من الذنوب والمعاصي التي شؤمها كبير على الإنسان، وعاقبتها عظيمة، وعقوبتها معجلة في الغالب في الدنيا قبل الآخرة.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: أن فيه تسلية للمظلوم ووعيدًا للظالم، وأنه لا يغتر بالإمهال؛ فإنه ليس بإهمال؛ وإنما هو إمهال لمدة قليلة ثم يأخذ الله تعالى الظالم، وأخذه جل وعلا أليم شديد.

انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا

ننتقل بعد ذلك إلى: 

16 – بَابُ نَصْرِ الْأَخِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

قال الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه»:

62 – (2584) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ؛ غُلَامٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَنَادَى الْمُهَاجِرُ أَوِ الْمُهَاجِرُونَ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟! دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ!. قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. قَالَ: فَلَا بَأْسَ، وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ؛ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ.

قوله: اقتتل غلامان؛ غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار. يعني: حصل هذا الاقتتال بين المهاجري والأنصاري، غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى بعض المهاجرين: يا للمهاجرين! ونادى بعض الأنصار: يا للأنصار!

ومعنى: يا للمهاجرين! يعني: أدعو المهاجرين وأستنصرهم.

ويا للأنصار! يعني: أدعو الأنصار وأستنصر بهم.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ما هذا؟! دعوى الجاهلية؟!. وفي بعض الألفاظ: دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم! [3].

فقالوا: لا يا رسول الله، إنما غلامان اقتتلا.

فكسع، “كسع” يعني: ضرب دبره وعجيزته بيده أو رجله، هذا معنى الكسع، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: فلا بأس.

وقوله عليه الصلاة والسلام: فلا بأس. معناه: لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته؛ فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم يوجب فتنة وفسادًا وليس هو عائدًا إلى كراهة الدعاء بدعوى أهل الجاهلية، يعني قوله: لا بأس. ليس عائدًا إلى كراهة الدعاء بدعوى أهل الجاهلية.

وإنما قوله: لا بأس يعني لا بأس أنني رأيت الأمر أقل مما كنت أخاف منه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خَشِيَ أن يكون هناك أمر عظيم، فلما رأى أن الأمر أقل من ذلك قال: لا بأس.

وهذه الكلمة تقال عندما يريد الإنسان أن يخفف من شأن أمر من الأمور، أو عند الموافقة على أمر، أو نحو ذلك، يقول: لا بأس.

كيف ينصر الأخ إذا كان ظالمًا

ثم أرشد عليه الصلاة والسلام قال: ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا. جاء في بعض الروايات: أنهم قالو: يا رسول الله، ننصره إذا كان مظلومًا، فكيف ننصره إذا كان ظالمًا؟! قال: بنهيه عن الظلم وحجزه عنه [4].

وهنا في هذا اللفظ قال: إن كان ظالمًا فلينهه، فإنه له نصر. ولهذا؛ فتجب نُصْرة المظلوم لمن كان قادرًا على نصرته، وهذا من حق المسلم على المسلم، أن ينصره إذا كان مظلومًا وكان هذا الإنسان قادرًا على نصرته.

وكذلك أيضًا: ينصره حتى إذا كان ظالمًا، وذلك بنهيه عن الظلم وحجزه عنه، وأن يبين له سوء عاقبة الظلم، فإن هذا من حق المسلم على المسلم، إذا رأيت أخاك المسلم قد ظَلَم وبَغَى فمن حقه عليك أنك تنكر عليه، وأنك تنهاه بالأسلوب المناسب؛ لأن بعض الناس قد يبغي وقد يظلم ولا يشعر بسوء ما فعل، وربما له تأويل آخر، ولذلك؛ ينبغي أن يبين له أن هذا العمل منكر، وأنه ظلم، وأنه لا يجوز، فينهاه عن الظلم، فهذا من نصره.

قصة حديث: دَعُوها؛ فَإنَّها مُنتِنَةٌ

ثم ساق المصنف رحمه الله هذه القصة:

63 – (2584) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا. وقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا- سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرَ بْنَ عَبْدِالله يَقُولُ:

فالسند إذَنْ إلى جابر

كُنَّا مَعَ النَّبِيّ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ.

وقلنا: إن معنى: كسع يعني: ضرب دبره وعجيزته.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟!. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَسَمِعَهَا عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ: دَعْهُ؛ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث أيضًا عن جابر بلفظ آخر:

قَالَ: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى النَّبِيَّ فَسَأَلَهُ الْقَوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ : دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ.

هنا أورد الإمام مسلم رحمه الله هذه القصة بزيادات أخرى، فهذه القصة التي حصل فيها هذا الأمر بين المهاجري والأنصاري، والذي كان قد ابتدأ هو المهاجري، ولذلك؛ طلب الأنصاري القود من رسول الله .

فالنبي عليه الصلاة والسلام لما سمعهم يقولون: يا للمهاجرين! وهذا يقول: يا للأنصار! قال: ما بالُ دعوى الجاهلية؟!. وفي الرواية السابقة قال: فلا بأس. ثم قال: دعوها؛ فإنها منتنة. يعني: دعوا دعوى الجاهلية؛ فإنها منتنة.

فسمع عبدالله بن أُبيٍّ رأسُ المنافقين، وقال: قد فعلوها! -يعني المهاجرين- والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل، وهذا ذكره الله تعالى في سورة المنافقون: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]، قال عمر ، يعني ابن الخطاب: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي : دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.

من فوائد قصة دعوها؛ فإنها منتنة

  • أولًا: النهي عن عادات الجاهلية المخالفة للشريعة الإسلامية قولًا وفعلًا، والإسلام قد جاء لإبعاد الناس عن هذه العادات السيئة وجاء بهداية الناس إلى ما هو الصواب والحق.
    ولذلك ينبغي الإنكار الشديد على من يثير أمور الجاهلية، ويثير النعرات، ويثير العصبية، ويثير القبلية، ويثير التحزب، فهذه أمور قد نبذها الإسلام، ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على من أثار ذلك، وقال: دعوها فإنها منتنة. فينبغي للمسلم أن يتأدب بآداب الإسلام، وأن يبتعد عن هذه الأمور، يبتعد عن دعوى الجاهلية، يبتعد عن النعرات، يبتعد عن العصبية، يبتعد عن القبلية، يبتعد عن احتقار الناس: المسلم أخو المسلم [5].
    وميزان التفاضل بين الناس هو التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، هذا هو ميزان التقوى، فليس هناك ميزان آخر في تفاضل الناس عند الله سوى ميزان التقوى، لا الحسب ولا النسب، ولا المال، ولا العرق ولا الجِنس، ولا أي شيء آخر سوى التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
    ميزان التفاضل بين الناس هو التقوى، من كان أتقى لله كان أكرم عند الله ، وهذا هو غاية العدل، فالله تعالى يحب المقسطين، ويحب العدل، وعلى العدل قامت السماوات والأرض، ولا يحب الظالمين، ولذلك فميزان التقوى هو ميزان التفاضل بين الناس: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].
  • أيضًا من فوائد هذه القصة: بيان ما كان عليه المنافقون من بذاءة اللسان والأذية للنبي ولأصحابه، فقد كانوا يسعون بكل ما كان فيه أذية للنبي وأصحابه قولًا وفعلًا، ولهذا؛ قال الله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة: 61]. فمنهم من كان يؤذي النبي ، ويؤذي الصحابة، ويسعى بالأذية بينهم، ويتكلم بالكلام القبيح والكلام المؤذي.
    ولهذا، رأس المنافقين عبدالله بن أُبيٍّ قال: قد فعلوها! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز -يقصد نفسه ومن معه من المنافقين- ليخرجن الأعزل منها الأذل! ويقصد بالأذل: النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه، خاصة من المهاجرين.
    وقد أنزل الله تعالى في ذلك قرآنا يتلى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].
    فالذي يؤذي المؤمنين ويتخذ أذية المؤمنين منهجًا له في حياته، هذا يشبه المنافقين الذين كانوا يؤذون رسول الله وأصحابه، وإنما المطلوب من المسلم أن يحترم إخوانه المؤمنين، وأن يحسن إليهم، وأن يبتعد عن كل ما يؤذيهم.
  • من فوائد هذا الحديث: بيان ما كان عليه النبي من الصبر على ما يناله من أذى المنافقين، ومن الحِلم العظيم؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كان حليمًا كريم الأخلاق صبورًا.
    والحلم سيد الأخلاق، والحلم صفة عظيمة أثنى الله تعالى بها على بعض أنبيائه، فأثنى الله تعالى بها على إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114]. وأثنى بها على إسماعيل : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101].
    ونبينا محمد كان حليمًا، وأثنى الله تعالى عليه بما هو أعظم من ذلك كله فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]. فالحِلم صفة العظماء من الناس، وصفة الأنبياء والرسل.
    فينبغي أن يحرص المسلم على اكتساب هذه الصفة، صفة الحِلم الذي هو سيد الأخلاق، وأن يبتعد عن الغضب وعن أسبابه؛ لأن سرعة الغضب وشدة الغضب تنافي مكارم الأخلاق.
    الإنسان سريع الغضب وشديد الغضب، الناسُ يتحاشونه وينفرون من مجالسته؛ لأنهم لا يأمنون من غضبه في أي لحظة، وإذا غضب ربما تكلم بكلام غير لائق، أو تصرف بتصرفات غير لائقة، لهذا؛ ينبغي أن يُعَود الإنسان نفسه على الحلم.
  • دل قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. دل ذلك على أن للإمام ولولي الأمر أن يترك بعض من يستحق القتل تعزيرًا لمصلحة راجحة، فإذا كان هناك من يستحق القتل تعزيرًا، لكن رأى الإمام ورأى ولي الأمر أن المصلحة تكون في ترك قتله فلا بأس بذلك، إذا كان في ذلك مصلحة راجحة، ولهذا ترك النبي قتل رأس المنافقين عبدالله بن أُبيٍّ، مع أنه مستحق للقتل، لكن ترك ذلك النبي لاعتبارات معينة؛ منها: ألا يتحدث الناس، يعني: يتحدث -كما يسمى في الوقت الحاضر بالرأي العام العالمي- عن النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يقتل أصحابه؛ فحتى لا يتحدث الناس بذلك، ترك النبي قتل هذا الرجل المستحق للقتل؛ لأن هذا الاعتبار مهم في باب السياسة الشرعية؛ حتى لا يتحدث الناس: أنَّ محمدًا يقتل أصحابه.
    يتحدث الناس.. يعني يتحدث الناس: مَن حوله من قبائل العرب ومن حولهم، والناس في ذلك الوقت لا تشيع فيهم هذه الشائعة، ولا يتحدثون بأن محمدًا يقتل أصحابه.
    فالنبي عليه الصلاة والسلام راعى هذه الاعتبارات؛ فترك قتل هذا الرجل المستحق للقتل.

تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم

ننتقل بعد ذلك إلى:

17 – بَابُ تَرَاحُمِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ

ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث: 

عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث: 

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.

ثم ساق هذا الحديث بألفاظ أخرى قريبة من هذا اللفظ.

وهذه الأحاديث تدل على تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وتدل على الحث على التراحم بين المسلمين، والتعاضد والملاطفة في غير إثم، ولذلك شبَّه النبي المؤمن للمؤمن بالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، أرأيت البنيان؟ تجد أن بعضه يشدُّ بعضًا حتى يستقيم هذا البنيان، هكذا أيضًا حال المؤمن مع أخيه المؤمن.

وأيضًا شبهه بتشبيه آخر في حديث النعمان قال: مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

جسد الإنسان إذا اشتكى عضو من أعضائه تداعى له سائر الجسد، لو مثلًا اشتكيت من ألم سِنّ، تجد أن الجسد كله يؤلمك، اشتكيت من ألم في الرجل تجد أن الجسد يؤلمك، اشتكيت من ألم في العين تجد أن الجسد يؤلمك، وقد تسهر وربما أيضًا تصاب بالحمى، يعني بشدة الحرارة بسبب ذلك الألم، فالجسد يتألم إذا حصل مصاب في أي جزء من أجزائه فترتفع الحرارة، وهذا معنى قوله: والحُمَّى، وربما يسهر الإنسان بسبب ذلك الألم، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى.

هكذا أيضًا المسلمون بعضهم مع بعض، في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد.

فالأُمَّة الإسلامية تعتبر جسدًا واحدًا، إذا اشتكى منه عضو ينبغي أن يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى، وهذا يدل على أنه ينبغي أن تسود المحبة والمودة والتعاطف والتراحم بين المسلمين.

النهي عن السِّباب

ننتقل بعد ذلك إلى:

18 – بَابُ النَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ

وساق المصنف رحمه الله هذا الحديث: 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ.

قوله: المستبان: تثنية مُسْتّبٍّ، من السَّبِّ وهو الشتم والذم، وهذا الشتم والذم قد يكون باللعن، قد يكون بالتقبيح، قد يكون بأي لفظ من ألفاظ الذم والشتم.

فقوله: المستبان ما قالا فعلى البادئ.. . معنى الحديث: أنَّ إثم السِّبَاب إنما يكون على المبتدئ به، ولا يكون على المعتدى عليه إثم إذا رد ودفع عن نفسه، بشرط: قال: ما لم يعتد المظلوم. فإذا اعتدى المظلوم فإن هذا الذي قد سُبَّ يكون آثمًا باعتدائه.

إذَنْ، معنى هذا الحديث: المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. أن إثم السباب والشتم إنما يكون على المبتدئ بالسباب والشتم، ولا يكون الإثم على من سُبَّ؛ لأن من سُبَّ إنما دافع عن نفسه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40].

لكن بشرط ألا يعتدي المظلوم، فلو أن رجلًا سبَّ رجلًا فرد السب بمثله، فهنا: الإثم كله على المبتدئ بالسبِّ، أما الذي قد سُبَّ ليس عليه إثم؛ لأنه إنما دافع عن نفسه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40]، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194].

لكن لو أنه اعتدى المظلوم فلما سبَّه سبَّه وسبَّ والديه، فهنا يأثم كِلا الطرفين، يأثم الذي ابتدأ السباب، ويأثم الذي سُبَّ لكونه قد اعتدى بأي صورة من صور السباب والشتم.

فلو أن رجلًا سب آخر قال مثلًا: لعنك الله! فالآخر سبَّه وقال: بل أنت لعنك الله! هنا الإثم كله على المبتدئ بالسباب، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: المستبان ما قالا، فعلى البادئ.. . فالمعتدَى عليه ليس عليه إثم.

لكن لو أن المعتدى عليه لما سبَّه الأول سبَّه وسب والديه، قال: بل لعنك الله ولعن والديك! فهنا يشترك معه في الإثم، فيكون الإثم على البادئ بالسباب، ويكون الإثم أيضًا على المعتدَى عليه باعتبار أنه تعدى في الرد.

وخير من ذلك ألا يرد السباب بمثله؛ والله تعالى يقول: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55].

حكم الرد على الساب بمثل سبه

فالأحسن والأفضل أن الإنسان لا يقابل السباب بمثله، لكن من حيث الحكم الشرعي: يجوز لمن سُبَّ أن يرد على من سبَّه بمثل سبه، لكن لا يزيد.

شتمك، لك أن تشتمه بمثل ما شتمك، لكن لا تشتمه وتشتم والديه، أو تشتم أولاده، أو تشتم أهله؛ فهذا يعتبر اعتداء ولا يجوز.

فمن حيث الحكم يجوز لمن شُتِم أن يَشتِم من شَتَمه، ويكون الإثم كله على المبتدئ بالشتم.

لكن إذا اعتَدَى المظلوم وشتمه وشتم غيره معه من أقاربه؛ شتم والديه، شتم أولاده، شتم إخوانه، شتم زوجته، فيأثم هذا الذي قد شُتِم لاعتدائه، ويأثم الطرفان جميعًا؛ يأثم المبتدئ بالشتم، ويأثم المعتدى عليه لكونه أيضًا قد تعدى في الشتم فلم يكتف بشتم هذا الذي قد شتمه؛ وإنما شتم معه بعض أقاربه، فهذا هو معنى الحديث.

فوائد من حديث: المستبَّان ما قالا، فعلى البادئ..

  • من فوائد هذا الحديث: الزجر عن السب؛ لأن واجب المسلم تجاه أخيه المسلم نصره واحترامه، لا خذلانه واحتقاره وإيذاؤه.
    والمسلم ينبغي أن يبتعد عن السباب، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر [6]. فالسباب فسوق في حد ذاته، فينبغي أن يبتعد المسلم عن السباب ويطهر لسانه منه، ويعود نفسه على البعد عنه.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز الانتصار، وأن الإنسان له أن ينتصر ممن ظلمه.

وقال النووي رحمه الله: لا خلاف في جواز الانتصار، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسُّنة.

قال الله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41]. وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]. ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]. لكن الانتصار يجوز، فمن اعتدي عليه يجوز أن يعتدي على من اعتدى عليه بمثل ما اعتدى عليه: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41]، فالانتصار يجوز في حق من اعتُدي عليه، لكن العفو أفضل.

  • من فوائد هذا الحديث: جواز الانتصار، ولكن يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]. فهل هذا يدل على استحباب الانتصار؟ ونحن قد قررنا: أن الانتصار حكمه أنه جائز، لكن هذه الآية فيها الثناء على من انتصر، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39].

قال أهل العلم: معنى هذه الآية: أن هؤلاء الذين أصابهم البغي ليسوا عاجزين، وليسوا أَذَلِّين؛ وإنما ينتصرون ممن بغى عليهم، ثم بعد ذلك إذا قدروا عفَوا، ولهذا؛ قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان المؤمنون يكرهون أن يُستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا. فهذا هو المعنى لهذه الآية.

وذلك حتى لا يتجرأ السفهاء على الإنسان؛ لأن الإنسان إذا لم ينتصر فربما يتجرأ عليه بعض السفهاء ويتمادون في إيذائه، لكنه إذا انتصر ثم بعد القدرة عفا كان هذا أفضل؛ ولهذا؛ ذكر الله تعالى هذا في معرض الثناء عليهم: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]، ذكر هذا في معرض الثناء عليهم.

من تكلم في عرضك هل الأفضل السكوت عنه؟

مثال ذلك: إنسان تكلَّم في عرضك بغير حق، وقدح فيك بغير حق، فهل الأفضل أن تسكت، أو الأفضل أن تطالب بحقك؟

الجواب: أن الأفضل أن تطالب بحقك، لكن إذا حُكِم لك، وعرفت أنه حُكِم لك، وأنه سيُنتصَر لك ممن بغَى عليك، وطلب منك هذا الذي قد بغى عليك أن تعفو عنه، أو طُلب منك أن تعفو عنه، فهنا الأفضل العفو، وهذا العفو أصبح عن مقدرة، فالعفو عند مقدرة هو أفضل درجات العفو، فهنا تأتي تعفو وتأتي فضيلة العفو، وقول الله : وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134]. وقول النبي : مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا [7]. فهذا هو العفو المحمود، العفو الذي يكون عند المقدرة، وبهذا تكون قد كسبت فضل العفو، وفي الوقت نفسه أيضًا: كسبت الثناء المذكور في الآية: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:39].

وأيضًا: جعلتَ رادعًا لهذا الذي قد يبغي عليك في المستقبل؛ لأنك إذا طالبت بحقك تردعه وتردع غيره من ذوي النفوس الدنيئة؛ حتى لا يتعدوا عليك، وحتى لا يبغوا عليك، وربما أيضًا: تردعهم عن غيرك كذلك، ولهذا؛ أثنى الله تعالى على المنتصرين في هذه الآية: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]، لكنهم إذا قدروا عفوا، إذا كان في العفو مصلحة راجحة كأن يطلب منه العفو أو يرى المصلحة الراجحة في هذا العفو، فالأفضل بعد القدرة العفو، فهذا العفو يكسب به أجرًا عند الله ، وينال فضيلة العافين عن الناس.

أما أن الإنسان يسكت عن حقه ولا يطالب بحقه، فهذا يؤدي إلى تمادي السفهاء عليه، وتماديهم أيضًا على الأخيار، ولهذا؛ فإن الله ذكر الانتصار في معرض المدح في حق من انتصر، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]، فإذا قدروا عَفَوا عمن ظلمهم.

استحباب العفو والتواضع

19 – بَابُ اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ وَالتَّوَاضُعِ

ساق المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ.

فذكر النبي في هذا الحديث العظيم ثلاثة أمور: ذكر الصدقة، وذكر العفو، وذكر التواضع.

وهذه كلها أعمال صالحة وأمور عظيمة.

فضائل الصدقة

الأمر الأول: الصدقة.

بيَّن النبي أن الصدقة لا تنقص المال، قال: ما نقصت صدقةٌ من مال. وأما لفظة: بل تزيده، بل تزيده. فهذه غير محفوظة؛ وإنما المحفوظ هو هذه الرواية التي ذكرها مسلم رحمه الله: ما نقصت صدقة من مال.

وكيف نوفق بين قوله عليه الصلاة والسلام: ما نقصت صدقة من مال. وبين ما نراه في الحس والواقع: أن الصدقة تنقص المال، لو كان مثلًا عندك مئة وتصدقت بعشرة نقص المبلغ الذي عندك من مئة إلى تسعين؟

والعلماء لهم أجوبة عن هذا؛ فقال بعضهم: إنَّ المقصود بذلك أنه وإن حصل النقص الحسي، إلا أنه ليس هناك نقص معنوي، وذلك بأن الله يبارك في هذا المال، فهذه البركة تعوض النقص الحسي الذي حصل في هذا المال، فيبارك الله تعالى في المال بهذه الصدقة.

وقال بعضهم: إن هذا الحديث على ظاهره، وأن الصدقة لا تنقص المال حقيقة؛ لأن الله يخلف على المتصدق، واستدلوا بقول الله : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ: 39]. وهنا ذكر الله تعالى في هذه الآية، قال: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. وأتى بالجملة الاسمية مع التأكيد: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أيضًا بأسلوب الشرط وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، جواب الشرط: فَهُوَ يُخْلِفُهُ.

وكون ربنا يذكر هذا في كتابه الكريم الذي يقرأه الناس وتقرأه الأجيال جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، ويقول ربنا سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. فلا بد أن يتحقق هذا الخلف، ولا يمكن أن يتخلف وعد الله ، فما أنفق الإنسان من أموال في سبل الخيرات فإن الله يخلفه عليه.

قال بعض أهل العلم: إن الصدقة لا تنقص المال حقيقة، فهذا أحد الأقوال في المسألة.

وقال أيضًا بعض أهل العلم: إن الخلف ليس بالضرورة أن يكون زيادة في المال، وأن الخلف له صور متعددة؛ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، فقد يكون الخلف بالبركة، وقد يكون الخلف بدفع البلاء عن الإنسان، وقد يكون الخلف بدفع الآفات عن المال، وقد يكون الخلف بأن الله تعالى يرزق الإنسان من حيث لا يحتسب، ويسوق له رزقًا من حيث لا يحتسب، فصور الخلف كثيرة ومتنوعة.

لكن لا بد أن يتحقق الخلف لهذا المنفق ولهذا المتصدق.

والأقرب والله أعلم: أن كل هذه المعاني صحيحة ومرادة، فالصدقة أولًا، إذا تصدق الإنسان فإن الله يخلف عليه بأي صورة من صور الخلف؛ إما بأن يسوق له رزقًا من حيث لا يحتسب، وإما بأن يخلف عليه بالبركة، وإما بأن يدفع عنه الآفات التي تذهب المال أو تنقصه، ونحو ذلك، فالخلف لا بد منه.

وأيضًا الصدقة من أسباب حلول البركة في المال، وهذا أمر ظاهر ومشاهد، أن من يتصدق فإن الله يبارك له في ماله.

والصدقة تدفع البلاء عن الإنسان، وكم من بلاء قد انعقدت أسبابه، ثم دفع الله تعالى عن الإنسان -بسبب هذه الصدقة- البلاء، والقصص في هذا كثيرة ومتواترة.

ومن القصص التي قد اشتهرت وتواترت: أن بعض الناس يقول: إن الله تعالى نجَّاه من حادث كاد أن يقع له، وعندما يتذكر، يتذكر أنه تصدق على مسكين بمبلغ زهيد، بخمسة ريالات، أو عشرة ريالات، ويقول: إنَّ الله تعالى قد نجَّاه من هذا الحادث.

فالصدقة تدفع البلاء عن الإنسان، الصدقة شأنها عظيم، وأثرها كبير، ولهذا ينبغي للمسلم أن يعود نفسه على البذل والصدقة، وأن يحرص على أن يتصدق كل يوم بصدقة ولو بمبلغ يسير، حتى يدخل في قول النبي : مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ، أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ، أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا [8] هذا الحديث رواه البخاري ومسلم.

كل يوم ينزل ملكان من السماء يدعوان بهذا الدعاء؛ أحدهما يقول: اللهم أعط منفقًا خلفًا، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكًا تلفًا، فإذا أردت أن تنال دعوة المَلك بالخلف، فاحرص كل يوم على أن تتصدق بصدقة ولو بمبلغ يسير، حتى تدخل في دعوة الملك، بأن يدعو المَلَكُ لك بأن يُخلف الله تعالى عليك بأية صورة من صور الخلف.

كان أحد التابعين لا يمضي عليه يوم إلا تصدق فيه لله بصدقة، وذات مرة لم يجد ما يتصدق به، بحث في بيته ولم يجد إلا بصلًا، فأخذ هذا البصل وحمله على رأسه يريد أن يتصدق به، فلقيه أحد الناس، وقال: رَحِمك الله لم يكلفك الله بهذا، يعني أن هذه صدقة تطوع وليست واجبة، فلماذا تشق على نفسك وتريد أن تتصدق بهذا البصل؟ قال: إني أردت ألا يمضي علَيَّ يوم إلا وتصدقت فيه لله بصدقة، إنه بلغني: أن رسول الله قال: إن المؤمن يكون تحت ظل صدقته يوم القيامة [9]. فأردت ألا يمر عليَّ يوم إلا تصدقت لله فيه بصدقة.

فينبغي لك أخي المسلم أن تحرص على أن تتصدق كل يوم ولو بمبلغ يسير؛ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، ما نقصت صدقةٌ من مال.

جزاء العفو والصفح

الأمر الثاني من الأمور المذكورة في هذا الحديث: وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا.

من عفا لله سبحانه فإن الله يرزقه العز ويورثه العز، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، فهذا الحديث على ظاهره، وأن من عُرف بالعفو وبالصفح سادَ وعظم في القلوب، وزاد عزه وإكرامه، وهذا أمر واقع، تجد أن الإنسان الذي يعفو عن الناس ويعفو عن الآخرين يعزه الله ، ويعظم جاهه بين الناس؛ لأن هذا الإنسان الذي يعفو عن الآخرين غالبًا ما يقترن هذا العفو بأخلاق كريمة، والإنسان يَكسب الآخرين بأخلاقه الكريمة، وبخاصة بالتواضع، وبالعفو وبالصفح، وبلين الجانب وبخفض الجناح، يكسب الناس بهذه الأخلاق الكريمة.

ولهذا؛ أثنى الله تعالى على العافِين عن الناس، فقال : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134]، فذكر الله تعالى من صفات أهل الجنة أنهم يعفون عن الناس: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، فينبغي أن يستحضر المسلم هذه الآية: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وأن يتصف بصفة العفو ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وإذا تردد الإنسان بين العفو والعقوبة فينبغي أن يُغلِّب جانب العفو، فالخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.

إذا ترددت هل تعاقب أحدًا أو أنك تعفو عنه، فغلِّب دائمًا جانب العفو، واجعل هذا مبدأ لك في الحياة، غلِّب جانب العفو دائمًا، ولَأَنْ تخطئ في العفو خير من أن تخطئ في العقوبة: وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا.

فضل التواضع

الأمر الثالث من الأمور المذكورة في هذا الحديث: التواضع.

قال عليه الصلاة والسلام: وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ. والتواضع هو الخلق أو الصفة التي لا يُحسد عليها أحد، الشيء الذي لا يُحسد عليه أي إنسان هو التواضع، والتواضع صفة محبوبة للجميع، ومن تواضع لله رفعه، وهنا تأمل قول النبي : من تواضع لله ليس تَوَاضَع فقط، رفعه الله؛ وإنما لله، يتواضع لله ، يريد بذلك الثواب من الله سبحانه، يتقرب بهذا التواضع إلى الله، فما هي النتيجة؟ إلا رفعه الله، يرفعه الله تعالى بين العباد، يرفع قَدْره وذِكره، ويكون له السمعة الحسنة، والسيرة الطيبة، ولسان الصدق، بسبب هذا التواضع.

وهنا لا بد أن يكون التواضع لله ؛ لأن بعض الناس قد يتواضع رياء، قد يتكلف صفة التواضع ويُحقِّر مثلًا من نفسه، أو يريد أن يفعل أفعال المتواضعين، يريد الثناء من الناس عليه بأنه متواضع، فهذا لا ينال الرفعة المذكورة في الحديث، ولهذا؛ لا بد أن يكون التواضع لله ​​​​​​​، فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. ولم يقل: ما تواضع أحد إلا رفعه؛ وإنما قال: ما تواضع أحد لله. يعني: يريد بذلك التواضع التقرب إلى الله ، فإن الله يرفع قدره وذكره بين الناس.

تحريم الغيبة

ننتقل بعد ذلك إلى:

20 – بَابُ تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ

ساق الإمام مسلم رحمه الله حديث أبي هريرة  قال:

70 – (2589) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟. قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ.

تعريف الغِيبة

في هذا الحديث بين النبي معنى الغيبة، وعرفها بتعريف جامع مانع، موجز مختصر، فعرَّف الغيبة قال: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. يعني أن تذكر أخاك المسلم في غيبته بما يكره؛ سواء ذكرته بما يكره في نسبه، أو في خُلقه، أو في خَلقه، أو في أي صفة من صفاته، كونك تذكر أخاك المسلم وهو غائب بشيء يكرهه، فهذه هي حقيقة الغيبة.

قيل: يا رسول الله، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ يعني أنا لم أكذب عليه، وإنما ذكرته بما فيه، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟

قال: نْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ. يعني: إن كان فيه ما تقول حقيقة فهذه هي الغيبة.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ. يعني: جمعت مع الغيبة البهتان والكذب عليه؛ فهو أشد في الإثم.

ولذلك؛ فعلى المسلم أن يجتنب الغيبة، لا تذكر أخاك في غيبته بما يكره، والله يقول: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ثم شبَّه ربنا سبحانه الغيبة بصورة بشعة قال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]. أليس يكره الإنسان أن يأكل لحم أخيه ميتًا؟ فكيف يقع في عرض أخيه وهو غائب؟! هذا الذي يقع في عرض أخيه وهو غائب، بمثابة من يأكل لحم أخيه وهو ميت.

فعلى المسلم أن يجتنب الغيبة، وأن يحذر من أن يتكلم في عرض أخيه المسلم في غيبته بما يكره؛ سواء كان فيه ما يقول أو لم يكن فيه ما يقول، فإن كان فيه ما يقول فهذه هي الغيبة، وإن لم يكن فيه ما يقول فقد جمع مع الغيبة البهتان.

فوائد من حديث: أتدرون ما الغِيبة؟..

  • من فوائد هذا الحديث: بيان ما كان النبي يستخدمه من الأساليب في التعليم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان بإمكانه أن يقول للصحابة: الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره. وإنما أتى بهذا الأسلوب الحواري، فطرح أولًا على الصحابة سؤالًا: أتدرون ما الغيبة؟. فلفت نظرهم وانتباههم وتركيزهم، فقالوا: الله ورسوله أعلم. ثم بيَّن لهم معنى الغيبة وهم في حالة تركيز وانتباه شديد، قال: الغيبة ذكرك أخاك بما يكره. فهنا تفاعلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام وسألوه، قال رجل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته. فانظر إلى حسن تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه، انظر إلى هذا الأسلوب التعليمي الفائق الرائع، فكل الصحابة فهموا المقصود بالغيبة بهذا الأسلوب، لكن لو أنه عليه الصلاة والسلام تكلم وقال: الغيبة هي كذا وكذا. ربما بعضهم ينتبه، وبعضهم لا ينتبه، لكن أتى بهذا الأسلوب، أسلوب السؤال والجواب، والأسلوب الحواري: أتدرون ما الغيبة؟. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره. هنا بدأوا يستفسرون منه: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول: فقد بهته. فهذا الأسلوب من أساليب التعليم التي كان يسلكها النبي في تعليم أصحابه. 

وكما قال معاوية بن الحكم: فوالله ما رأيت مُعلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه!

المواضع التي تجوز فيها الغِيبة

دل هذا الحديث على تحريم الغيبة، ولكن ذكر العلماء أن الغيبة تجوز في مواضع، وذكروا أنها تجوز في ستة مواضع، وقد جمعها الناظم رحمه الله في قوله: 

الذَّمُّ ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلمٍ ومُعرِّفٍ ومُحذِّرِ
ولمُظهِرٍ فسقًا ومُستَفْتٍ ومَنْ طَلَبَ الإعانة في إزالة منكرِ
  • فالموضع الأول: متظلم، عندما يتكلم في من ظلمه، فهذا موضع تجوز فيه الغيبة، لكن لا يتكلم في غير من ظلمه، ولا يزيد أيضًا، إنما يتكلم بقدر مظلمته.
  • الموضع الثاني: المُعرِّف، أن تُعرِّف، تقول: فلان الأعمى، فلان الأعرج، فلان الأعمش، على سبيل التعريف؛ كما قال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس: 1، 2]. فهذا لا بأس به ولا يعتبر غيبة.
  • الموضع الثالث: ومُحذِّر، أن تحذر الإنسان، تقول: فلان لا تصحبه؛ لأن فلانًا فيه كذا وكذا وكذا. فهذا من المواضع التي تجوز فيها الغيبة؛ لما يترتب على ذلك من المصلحة.
  • الموضع الرابع: لمُظهرٍ فسقًا، الذي أظهر فسقًا تجوز غيبته فيما جاهر فيه من الفسق، ولا تجوز غيبته فيما عدا ذلك، ولكن فيما جهر فيه من الفسق، قال العلماء: إنه تجوز غيبته في هذا الذي قد جاهر به؛ لأنه قد جاهر به، فيعتبر هذا موضعًا من المواضع التي تجوز فيها الغيبة؛ لأنه نوع من إنكار المنكر على هذا المظهر للفسق.
  • الموضع الخامس: مُستَفْتٍ، في مقام الفتيا لا بأس هنا، أو تجوز الغيبة في هذا الموضع.

ولهذا؛ قالت امرأة أبي سفيان: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح -وهذه غيبة- قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح؛ لا يعطيني ما يكفيني وولدي. فقال لها النبي : خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف [10]. فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليها مقولتها إن أبا سفيان رجل شحيح؛ لأن هذا في مقام الاستفتاء.

فإذا ذهبت إلى مُفتٍ وذكرت له مثلًا عن فلان أنه كذا وكذا، أو امرأة عن زوجها كذا، أو رجل يذكر من زوجته كذا، أو يذكر من والده أو من والدته أو من أخيه في مقام الاستفتاء، فهذا لا بأس به، ومن المواضع التي تجوز فيها الغيبة.

  • الموضع السادس: ومن طلب الإعانة في إزالة منكر، يعني: إذا كان ذلك لأجل إنكار المنكر وإزالته، فهذا أيضًا من المواضع التي تجوز فيها الغيبة.

ما عدا هذه المواضع الستة فلا تجوز الغيبة، وهي من المحرمات، وقد نهى الله تعالى عنها فقال: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12].

نقف عند باب بشارة من ستر الله عليه في الدنيا بأن يَستر عليه في الآخرة، فنكتفي بهذا القدر.

وبقية الوقت نجيب فيه عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة والأجوبة

حكم رد السلام على المصلين عند الانصراف

س: هل ورد السلام على المصلين بعد الانتهاء من الصلاة عند الانصراف؟

ج: نعم هذا من السُّنة، من السنة أن الإنسان إذا أتى مجلسًا أن يسلم عليهم فإذا أراد أن ينصرف من المجلس يسلم عليهم فليست الأولى بأحق من الآخرة [11]، كما جاء في الحديث.

فإذا أتيت المسجد فتسلم على الحاضرين، وإذا أردت أن تنصرف من المسجد أيضًا تسلم على الموجودين، فهذا من السُّنة، والسنة قد وردت بإفشاء السلام، ليس فقط بإلقاء السلام، بل بإفشاء السلام أيضًا، كما قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم [12].

وقوله: أفشوا. يدل على كثرة السلام، يعني: ينبغي أن يَفشوَ السلام بين المسلمين، وأن يكون كثيرًا؛ لأن كلمة أفشوا تدل على الكثرة.

فينبغي إذا دخل المسلم المسجد أن يسلم على الحاضرين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم أيضًا إذا أتى بتحية المسجد، أو أتى بالسنة الراتبة يسلم على من عن يمينه وعن يساره، حتى لو كان سلَّم عليهم في البداية؛ فهذا من السُّنة، ولهذا؛ لما أتى المسيء صلاته ودخل المسجد وصلى، ثم أتى النبي ، سلَّم عليه فرد عليه السلام ثم قال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصل. ثم رجع وصلى ثم رجع مرة أخرى وسلَّم عليه مرة ثانية مع أن الفاصل يسير، وهي هذه الصلاة السريعة التي لم يطمئن فيها فرد عليه سلام وأقره على سلامه المرة الثانية، وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصل ثم رجع المسيء صلاته وصلى صلاة خفيفة ثم أتى وسلَّم المرة الثالثة مع أن الفاصل يسير أيضًا، فرد عليه السلام وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلَّمه النبي كيف يطمئن في صلاته [13].

الشاهد: أنه عليه الصلاة والسلام أقره على تكرار السلام، سلَّم عليه ثلاث مرات.

فإذا أتيت بالسنة الراتبة أو أتيت بتحية المسجد فسلِّم على من عن يمينك وعن يسارك، كذلك إذا أردت أن تنصرف من المسجد فإنك أيضًا تُسلِّم.

فالمطلوب هو إفشاء السلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: أفشوا السلام بينكم.

هل تجب الزكاة في الأرض المتردد في بيعها؟

س: لدي قطعة أرض وأنا متردد فيها بين البيع وبين تركها للأبناء، وبين البيع حين ارتفاع سعرها، هل فيها زكاة؟

ج: هذه الأرض لا زكاة فيها، ما دمت مترددًا بين البيع وبين عدم البيع فلا زكاة فيها؛ لأنه يشترط لوجوب الزكاة أن يكون المالك جازمًا بنية البيع، أما إذا لم يكن جازمًا؛ وإنما مترددًا؛ تارة يقول أبيعها، وتارة يقول أتركها، كما ذكر السائل: أتركها للأبناء أو أتركها لأبني عليها مسكنًا، أو لأبني عليها استراحة، أو لأبني عليها عقارًا لتأجيره، فهذه الأرض مع النية المترددة لا زكاة فيها.

كيف تصلَّى السنة التي قبل العصر؟

س: أصلي أربع ركعات قبل العصر، أسلم من كل ركعتين، فما الحكم؟

ج: هذه هي السنة، قد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي قال: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا [14] أخرجه أبو داود والترمذي بسند صحيح، هذا الحديث إسناده صحيح، صححه ابن القيم وجماعة من أهل العلم.

وهذا يدل على استحباب أن يصلي المسلم أربع ركعات قبل صلاة العصر وبعد دخول وقت صلاة العصر، يعني: بعد أذان العصر وقبل الفريضة، تصلي أربع ركعات، ركعتين ثم ركعتين؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: رحم الله امرَأً صلى قبل العصر أربعًا.

أجر من ظُلِم فعَفَا

س: إذا عفوت عمن اغتابني، وهو لم يعف عن غيبتي له، فهل عفوي له يبعد عني أخذ حقه يوم القيامة؟

ج: إذا عفوت عن أي إنسان ظلمك، فإن الله تعالى يعوضك خيرًا مما تأخذه منه، يعوضك الله تعالى خيرًا؛ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، فإذا عفوت عمن ظلمك، بأية صورة من صور الظلم، فإن الله تعالى يعوضك خيرًا مما تأخذه منه لو لم تَعْفُ.

هل الصدقة عبر التطبيقات تدخل في الأجر؟

س: هل الصدقة عبر التطبيقات البنكية تدخل في الأجر؟

ج: نعم، إذا كانت هذه من جهة موثوقة فإنها تدخل في الأجر، إذا كانت من جهات معروفة ومرخصة وموثوقة تدخل في الأجر والثواب وأجر الصدقة إن شاء الله تعالى.

أفضل أوقات الدعاء

س: أي الأوقات أفضل للدعاء؟

ج: يقول النبي : أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن يعني: حَرِيٌّ أن يستجاب لكم [15].

أفضل وقت للدعاء هو في السجود، فعندما تسجد، وخاصة في النافلة، تدعو الله بما يحضرك من خيري الدنيا والآخرة؛ لأنك في هذه الحال تكون قريبًا جدًّا من الله ؛ أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكيف إذا وافق ذلك الثلث الأخير من الليل؟! دعوت الله تعالى في السجود في الثلث الأخير من الليل؛ فالثلث الأخير من الليل ينزل ربنا جل وعلا نزولًا يليق بجلاله وعظمته إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له [16]. كما أخبر بذلك النبي ، فإذا وافق ذلك أنك دعوت الله تعالى في السجود وفي الثلث الأخير من الليل، فهذا من أعظم الأوقات التي ترجى فيها الإجابة.

كذلك أيضًا: الدعاء في آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة، فإنها ترجى موافقة ساعة الإجابة يوم الجمعة؛ فإن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه [17].

كذلك أيضًا جاء في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة [18]. ما بين الأذان والإقامة تَرفع يديك مستقبلًا القبلة، تدعو الله بما يحضرك من خيري الدنيا والآخرة، فهذه أيضًا من الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعاء.

كذلك أيضًا: الصائم: إنَّ للصائم عند فطرة له دعوة لا تُرد [19]. قبيل اللحظات التي تسبق الإفطار ينبغي أن يغتنمها المسلم ويدعو الله فيها.

كذلك أيضًا: عند متابعة المؤذن، عندما تسمع المؤذن تقول مثلما يقول، ثم تصلي على النبي ، ثم تأتي بالدعاء الوارد: اللهم رب هذه الدعوة التامة.. إلخ [20]، ثم تدعو الله .

يقول النبي لما قيل له: إن المؤذنين يفضلوننا، قال: قل مثلما يقول المؤذن ثم سل تعطه [21]. يعني: تابع المؤذن إلا في الحيعلتين، يعني: تقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم بعد ذلك تدعو الله ، هذا الدعاء حري بالإجابة، قل مثلما يقول المؤذن ثم سل تعطه. هذا أيضًا من مواطن إجابة الدعاء.

هل يؤجر من سامح بلسانه وقلبه كاره؟

س: لو أن رجلًا أساء إلى رجل آخر، وطلب منه أن يسامحه فسامحه، بقوله: سامحتك. لكن في قرارة نفسه عنده شيء من الكره والبغض لهذا الرجل؛ بسبب إساءته له. فهل يؤجر على مسامحته، أم لا يُكتب له الأجر بسبب بغضه؟

ج: نعم يؤجر على مسامحته، وهذا يعتبر عفوًا، وأما المشاعر الداخلية فهذه لا يؤاخذ عليها الإنسان، ولهذا؛ النبي عليه الصلاة والسلام طلب من وحشي ألا يراه؛ لأنه قتل عمه، مع أنه أسلم وحسن إسلامه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام بَشَرٌ، فطلب منه ألا يرى وجهه، فهذه المشاعر التي تنتاب الإنسان لا يؤاخذ عليها، فإذا قال: سامحتك أو عفوت عنك. فإنه ينال بإذن أجر العفو والمسامحة، حتى وإن كان في قرارة نفسه أثر الجرح؛ لأنه أحيانًا الجرح يكون عميقًا، لكن الإنسان يتغلب على مشاعره ويعفو ويتسامح؛ طلبًا للأجر والثواب من الله ، لكن تبقى آثار هذا الجرح في النفس غائرة، فمثل هذا لا يضر، المهم أنه قد عفا وسامح، وهذه المشاعر التي تنتابه تجاه هذا الذي قد أساء إليه لا يؤاخذ عليها.

حكم البيع الصوري للعقار بغرض الحصول على الدعم الحكومي

س: ما حكم البيع الصوري للعقار بغرض الحصول على الدعم العقاري الحكومي، مثلًا: أشتري شقة أبي صوريًّا للحصول على قرض من البنك تتحمل فائدته الدولة؟

ج: هذا العمل لا يجوز، هذا من الالْتفاف على الأنظمة التي وضعت لأجل تحقيق المصلحة العامة، وأيضًا فيه حيلة على الربا؛ لكونه كأنه يبيع من نفسه، ويحتال بشقة أبيه يشتريها صوريًّا ثم ترجع لأبيه، والغرض هو فقط الحصول على السيولة، ففيه: أولًا الحيلة على الربا، ثم فيه أيضًا الْتفاف على الأنظمة التي الأنظمة التي وضعتها الدولة لأجل تحقيق المصلحة العامة، فهذا العمل لا يجوز.

حكم صلاة من صلى وهو يدافع الأخبثين

س: هل الذي يحبس ريحه في الصلاة تصح صلاته؟ حيث إنه لا يحصل معه الطمأنينة؟

ج: أما من جهة صحة الصلاة فصلاته صحيحة، من صلى وقد حبس الريح، أو حبس البول، أو الغائط فالصلاة صحيحة؛ لأنها صلاة مكتملة الأركان والشروط والواجبات، لكن مع الكراهة، يُكره له أن يصلي وهو حاقن؛ سواء كان حاقنًا لبوله، أو للغائط، أو للريح.

وإنما السُّنة: أن يقضي حاجته ثم بعد ذلك يصلي، ولو أن يصلي وحده؛ لأن كونه يصلي وحده بخشوع خير من كونه يصلي مع الجماعة من غير خشوع، فالنبي قال: لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان [22]. فمن كان يدافعه الأخبثان: البول أو الغائط، ومثل ذلك الريح، فينبغي أن يقضي حاجته، ثم بعد ذلك يقبل على صلاته، لكن لو أنه دافع الأخبثين، أو دافع الريح وصلى فصلاته صحيحة مع الكراهة.

ما المخرج لبيع ما ليس عند البائع؟

س: ما هو المخرج لبيع ما ليس عندي؟ هل أقوم بأخذ وعد بالشراء دون إتمام عقد البيع، ومن ثَمَّ أشتري هذا المنتج، وبعد أن أتملكه أبيعه للعميل، هل هذه طريقة شرعية؟

ج: نعم، أولًا النبي يقول: لا تبع ما ليس عندك [23]. لا يجوز لإنسانٍ أن يبيع شيئًا لا يملكه.

لكن من المخارج: المخرج الذي ذكره الأخ السائل: أن يكون ذلك على سبيل الوعد، فيعده بأنه سيوفر له هذه السلعة التي يريدها، قال مثلًا: أريد هذا المنتج، يعده بأنه سيوفر له هذا المنتج، وإذا وفَّر له هذا المنتج يعقد عقد البيع، ولذلك؛ لا يستلم الثمن من المشتري حتى يوفر المنتج، أو يقول مثلًا: الاستلام عند التوصيل، أما أن يبيعه وهو لا يملك لا يجوز، لكن ما قبل ذلك إذا أراد المخرج أو البديل لهذا، هو أن يكون تفاوضه مع العميل على سبيل الوعد، وليس على سبيل العقد، فيعده بأنه سوف يشتري له هذا المنتج بهذه المواصفات بهذا الثمن، ثم بعد ذلك إذا اشتراه وتملكه يبيعه له ويعقد معه البيع، فهذا مخرج من المخارج.

من المخارج أيضًا: أن يكون وكيلًا عنه، يكون وكيلًا عن الزبون في الشراء، ويكون وكيلًا بأجرة فهذا أيضًا مخرج آخر.

حكم ترك صلاة الجماعة

س: ما حكم ترك الصلاة مع الجماعة؟

ج: الصلاة مع الجماعة في المسجد واجبة؛ ولهذا جاء في «صحيح مسلم»: أن رجلًا أعمى أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني رجل أعمى وليس لي قائد يلائمني يقودني إلى المسجد، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي : هل تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم، قال: فأجب [24]. وجاء في رواية عند غير مسلم: فإني لا أجد لك رخصةً [25].

فإذا كان النبي لم يجد رخصة لهذا الأعمى الذي ليس له قائد يقوده إلى المسجد، فكيف بالصحيح المبصر القادر؟! لو كانت صلاة الجماعة غير واجبة لرخص النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الأعمى، ولم يقل له: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة. وهذا من أوضح الأدلة الدالة على وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد، ولهذا؛ قال ابن مسعود كما في «صحيح مسلم»: ولقد رأيتنا -يعني الصحابة- وما يتخلف عنها -يعني عن الصلاة مع الجماعة في المسجد- إلا منافق معلوم النفاق. فكان التخلف عن الصلاة مع الجماعة من شعار المنافقين، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهَادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف. يعني: كان الرجل يكون مريضًا ومعذورًا عن الصلاة، معذورًا في ترك الصلاة مع الجماعة في المسجد، لكنه يتحامل على نفسه حتى إنه يُهَادَى بين الرجلين يعَضَّد له من اثنين، حتى يقام في الصف، من شدة حرص الصحابة على الصلاة مع الجماعة في المسجد، وهذا يبين لنا أهمية الصلاة مع الجماعة في المسجد. 

فعلى المسلم أن يحرص على أداء الصلاة مع الجماعة في المسجد، فإذا ترك الصلاة مع الجماعة في المسجد بدون عذر فإنه آثم، بناءً على القول الراجح، وهو وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد.

ما الأفضل للمرأة سماع الدرس في المسجد أم من منزلها؟

س: هل الأفضل للمرأة حضور الدروس في المساجد، أم استماعها في منزلها؟

ج: الأمر في هذا واسع، إذا حضرت المرأة في مصَلَّى النساء الدرس في المسجد فهذا أمر حسن، وإذا استمعت للدرس وهي في بيتها فكذلك أمر حسن، فتفعل ما هو الأيسر والأرفق بها، وأيضًا ما تشعر معه أنها تستفيد أكثر، فالأمر في هذا واسع؛ لأن حضور المرأة للمسجد هي تحضر في مصلى النساء، وبعيدة عن الرجال الأجانب، وإذا استمعت للدرس وهي في بيتها -والآن كثير من الدروس تنقل بالصوت والصوت- فربما يكون أفضل حتى من حضورها للمسجد؛ لأنها تتابع الدرس بالصورة والصوت، ومع وضوح الصوت أكثر ربما مما لو كان في المسجد، المهم أن الأمر في هذا واسع، والمرأة تختار ما ترى أنه الأيسر لها، والأكثر فائدة لها أيضًا وانتفاعًا بالدرس، إن كان الأيسر والأكثر فائدة وانتفاعًا حضورها في المسجد فلا بأس، وإن كان الأفضل لها أن تتابع الدروس في البيت فالأمر في هذا واسع.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2448.
^2 رواه أبو داود: 4902، والترمذي: 2511، وقال: صحيحٌ، وابن ماجه: 4211.
^3 ينظر: تفسير الطبري: 5/ 627.
^4 رواه البخاري: 6952.
^5 رواه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.
^6 رواه البخاري: 48، ومسلم: 64.
^7 رواه مسلم: 2588.
^8 رواه البخاري: 1442، ومسلم: 1010.
^9 رواه أحمد: 17333.
^10 رواه البخاري: 5364.
^11 رواه أبو داود: 5208، والترمذي: 2706، وقال: حسنٌ.
^12 رواه مسلم: 54.
^13 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^14 رواه أبو داود: 1271، والترمذي: 430، وقال: حسنٌ.
^15 رواه مسلم: 479.
^16 رواه أحمد: 16745.
^17 رواه البخاري: 935، ومسلم: 852.
^18 رواه أبو داود: 521، والترمذي: 212، وقال: حسنٌ.
^19 رواه ابن ماجه: 1753.
^20 رواه البخاري: 614.
^21 رواه أبو داود: 524.
^22 رواه مسلم: 560.
^23 رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232، والنسائي: 4627، وابن ماجه: 2187.
^24 رواه مسلم: 653.
^25 رواه أبو داود: 552.
zh