عناصر المادة
- تتمة حديث: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي..
- من فوائد الاستغفار
- حديث: اتقوا الظُّلْمَ..
- حديث: المسلم أخو المسلم
- مشروعية الستر على المسلمين
- حديث المفلس
- التحلل من المظالم
- الأسئلة والأجوبة
- حكم رفع اليدين أثناء الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة
- حكم زكاة العسل
- هل يُحرِم من جدة من يأتي بالطائرة ويمكث عدة أيام؟
- هل يشرع أثناء الدعاء النظر إلى السماء؟
- حكم الجهر بالقراءة في صلاة الضحى والرواتب
- حكم تقديم الطعام لأهل الميت والمعزين مدة ثلاثة أيام
- الصلاة الإبراهيمية هل تشرع بعد الأذان؟
- هل يجوز التحدث بزلات الآخرين للعظة والعبرة؟
- من صَلَّت التطوع جالسة لمرض هل عليها شيء؟
- من لم يصل المغرب وأدرك الإمام في صلاة العشاء ماذا يعمل؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في التعليق على «صحيح مسلم»، في كتاب البر والصلة والآداب، في هذا اليوم الثلاثاء 6 ربيع الأول لعام 1443.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما عملتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا.
اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول وبك أجول، وعليك نتوكل.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا حي يا قيوم.
تتمة حديث: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي..
كنا قد وصلنا في «صحيح مسلم» إلى حديث أبي ذر ، الحديث العظيم، وهو حديث قدسي، فيما يروي عن الرب تبارك وتعالى، يقول النبي فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:
يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
وشرحنا بعض جمل هذا الحديث، وقلنا: إن هذا الحديث من أعظم الأحاديث، ولهذا؛ قال الإمام مسلم رحمه الله: “قال سعيد رحمه الله: كان أبو إدريس الخولاني رحمه الله إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه”. وقال الإمام أحمد رحمه الله: “ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث”. وأفرد الإمام ابن تيمية رحمه الله كتابًا في شرح هذا الحديث.
تكلمنا عن الجملة الأولى من هذا الحديث قوله:
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.
الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل، وهو الغفور الغفار واسع المغفرة جل وعلا.
والله تعالى يغفر الذنوب مهما بلغت ومهما عظمت؛ كما قال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر: 53]. فالله تعالى ينادي عباده يقول: وأنا أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفر لكم. ولهذا ينبغي أن يكثر العبد من الاستغفار؛ فإن الاستغفار له منافع عظيمة في الدنيا والآخرة.
من فوائد الاستغفار
- أما منفعته في الآخرة: فإن الاستغفار سبب لمغفرة الذنوب، والذنوب هي سبب البلاء على الإنسان في الدنيا والآخرة، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[الشورى: 30]، وإذا كثرت الذنوب على الإنسان ورجحت كفة سيئاته كان مستحقًّا لدخول النار.
فالذنوب شؤم على الإنسان، والاستغفار سبب لمغفرة الذنوب والمعاصي، فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ[العنكبوت: 40].
- كذلك أيضًا من فوائد الاستغفار: ما ذكره الله تعالى في قوله عن نوح : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا[نوح: 10]، ثم ذكر منافع دنيوية لهذا الاستغفار: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[نوح: 11، 12]، فهذه فوائد دنيوية للاستغفار، وثمرات دنيوية معجلة للمستغفر.
- كذلك أيضًا من فوائد الاستغفار: أنه سبب ألا يعذَّب الإنسان في الدنيا بسبب ذنوبه، والدليل لذلك: قوله الله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال: 33]. فالاستغفار أمانٌ من العذاب، وأمان من نزول العقوبة، ولهذا؛ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنزل الله تعالى أمانين:
- أمان انتهى بموت نبينا محمد ، وهو يشير بذلك إلى قول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ[الأنفال: 33]، وأمان باق إلى قيام الساعة، يشير بذلك إلى قول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال: 33].
والأمان الثاني: الأمان من نزول العقوبة وحلولها على العبد، وهو باق إلى قيام الساعة: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال: 33].
ولذلك؛ فالذي يكثر من الاستغفار، فهذا الاستغفار يكون سببًا -بإذن الله – لوقايته من العقوبة، أنه لا تحل عليه عقوبة الله وعذاب الله ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال: 33]، فهذه بعض فوائد الاستغفار، ولذلك؛ ينبغي لك أخي المسلم أن تجعل من يومك وقتًا للاستغفار تستغفر الله فيه.
من صيغ الاستغفار
- أشهر صيغ الاستغفار أن تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله [1].
- ومن ذلك أيضًا: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. فإنه قد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أن من قالها حطت عنه ذنوبه، وإن كان قد فرَّ من الزحف [2]، والمقصود بذلك الصغائر.
- ومن صيغ الاستغفار: ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد: ربِّ اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور مئة مرة [3].
- أيضًا من صيغ الاستغفار: سيد الاستغفار: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ [4]، هذا هو سيد الاستغفار.
فهذه صيغ للاستغفار، أشهرها: أستغفر الله، وأتوب إليه.
فينبغي كل يوم أن تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور.
- أيضًا من صيغ الاستغفار: رب إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين، وهذا هو الذي تلقاه آدم من ربه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37].
ما هي هذه الكلمات؟
هي: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
فهذه أيضًا من صيغ الاستغفار.
- أيضًا: من صيغ الاستغفار: االلهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة إنك أنت الغفور الرحيم [5]. فهذه كلها صيغ للاستغفار، والذي ينبغي هو التنويع بينها، لكن أشهر صيغ الاستغفار: أن تقول: أستغفر الله وأتوب إليه.
ولا بد أن يصحب الاستغفار التوبة، وإلا فإن الإنسان إذا استغفر ولم يتب من الذنوب فإن هذا الاستغفار لا ينفعه، فالذي هو مُصرٌّ على المعصية ويستغفر لا يفيده هذا الاستغفار، لا بد من التوبة.
شروط التوبة
والتوبة يشترط لها ثلاثة شروط:
- الشرط الأول: الندم على فعل الذنب وفعل المعصية، ولهذا؛ جاء في بعض الأحاديث: التوبة ندم [6]؛ لأن الندم يدل على الصدق في التوبة.
- الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب، أما إذا كان الإنسان يزعم أنه تاب من الذنب وهو مُصرٌّ عليه فهذا أشبه بالمستهزئ، كيف يقول: يا رب إني تبت إليك. وهو لا زال مصرًّا على الذنب؟! فلا بد من الإقلاع عن الذنب أو عن المعصية.
- الشرط الثالث: العزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، فيعزم عزمًا صادقًا أكيدًا ألا يعود إلى هذه المعصية أو إلى هذا الذنب مرة أخرى.
وإذا كانت المعصية متعلقة بحقوق العباد فلا بد من التحلل من ذلك الشخص؛ فإن كانت غيبة مثلًا، أو كانت قذفًا، أو كان سخرية، أو كان نميمة، أو كان أكلًا للمال، أو نحو ذلك، فلا بد من التحلل من ذلك الشخص.
لكن بالنسبة للغيبة خاصة، قال بعض أهل العلم، وممن ذكر هذا: ابن تيمية رحمه الله وجمع من المحققين، قالوا: إن الأفضل ألا يخبر من اغتابه بغيبته له؛ لأن إخباره له سيحدث شحناء بينهما، وعدم إخباره يبقي صفاء النفوس بينهما، ولذلك؛ فإن إخباره بأنه قد اغتابه قد يترتب عليه مفسدة، فالأفضل ألا يخبره بذلك.
وأذكر أن شخصًا أخبر آخر بأنه قد اغتابه البارحة، وطلب منه أن يُحَلِّلَه فرفض، وقال: لا أحللك. وحصل بينهما شحناء وقطيعة بسبب إخباره بأنه قد اغتابه، فقد يترتب على هذا الإخبار مفسدة، ولهذا؛ بالنسبة للغيبة فالأفضل ألا يخبره؛ وإنما يثني عليه في المواضع التي اغتابه فيها، ويدعو له ويستغفر له.
غِنَى الله عن خلقه
ثم قال الله تعالى في هذا الحديث القدسي:
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
الله تعالى غني عن عباده، فعباده لن يبلغوا نفعه فينفعوه، ولن يبلغوا ضره فيضروه، الله إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس: 82].
لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، الله غني عن عباده.
يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، خلَق هذا الكون كله، ولو شاء الله سبحانه لخلق مثل هذا الكون بكلمة: “كن” فيكون؛ فهو سبحانه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[المائدة: 17]، لو أراد الله أن يهلك جميع من في الأرض ومن في السماء فهو على كل شيء قدير، ويخلق مثلهم مرة أخرى، بمجرد أن يقول: كن. فيكون، فهو على كل شيء قدير، إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، لكنه سبحانه حكيم عليم، وهو أحكم الحاكمين جل وعلا.
ثم قال الله تعالى في هذا الحديث القدسي:
يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
فالله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين؛ كما قال سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ[الزمر: 7]، فإن اهتديت أنت فلنفسك، وإن ضللت فعليها، والله غني عنك وغني عن الخلق كلهم جل وعلا.
ثم قال الله تعالى في هذا الحديث القدسي:
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
قوله: إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر. قال العلماء: إنه من باب تقريب الأفهام، وإلا، فما عند الله تعالى لا يدخله نقص؛ إنما يدخل النقصُ المحدودَ الفانيَ، وإلا، فهذا من باب فقط تقريب الأفهام للأذهان.
فالله تعالى لو أن العباد كلهم؛ أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد، وأعطى كل واحد تمنى أمنيات وطلب من الله أعطيات، وأعطى كل واحد مسألته وكل واحد ما تمنى ما نقص من ملك الله شيئًا.
يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم البشر في هذه الدنيا مكلَّفون، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
أمانة التكاليف
وقد أخذ الله تعالى الأمانة على بني آدم: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[الأحزاب: 72]، فهذه الأمانة: أمانة التكاليف، عرضها الله تعالى على السماوات فأشفقت منها وأبت، ثم عرضها على الأرض فأشفقت منها وأبت، ثم عرضها على الجبال فأشفقت منها وأبت، ثم عرضها على الإنسان فقبل: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[الأحزاب: 72].
فإن قال قائل: أنا لا أتذكر أني قبلتُ أمانة التكاليف.
فالجواب: وهل تتذكر لما كنت في بطن أمك؟! وهل تتذكر وقت ولادتك؟! وهل تتذكر أيام طفولتك في السنة الأولى والثانية والثالثة أيام طفولتك الأولى هل تتذكرها؟! كونك لا تتذكر الشيء لا يقتضي إنكاره، فأنت كنت في بطن أمك تسعة أشهر، فلا يحق لك أن تنكر ذلك لكونك لا تتذكره، أنت قد ولدت وعشت أيام الطفولة الأولى ولا تتذكر ذلك، فلا يحق لك أن تنكره، فكونك لا تتذكر شيئًا لا يقتضي هذا أن تنكره.
فالله تعالى أصدق القائلين: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[النساء: 87]، هو الذي أخبرنا بذلك، فيجب علينا أن نؤمن بذلك كما أخبرنا ربنا، وأنه عرض هذه الأمانة على الإنسان فقبلها الإنسان.
لمَّا قبل الإنسان أمانة التكاليف، كلَّفه الله تعالى وجعله في هذه الدنيا في دار ابتلاء وامتحان، وأمره بأوامر ونهاه عن نواهيَ، ووكَّل بكل إنسان مَلَكين يكتبان جميع أقواله وأعماله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌمَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 17، 18].
وهذا معنى قوله جل وعلا: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم. فهذه الملائكة الآن تُحصِي هذه الأعمال في هذه الدنيا لك، هذه الدنيا ليست هي دار التَّوْفِيَة، وليست هي دار الجزاء على الأعمال.
ثم أوفيكم إياها يعني: في الدار الآخرة، دار التوفية والجزاء، في الآخرة عندما توزن الأعمال، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء: 47].
أما الدنيا فليست بدار توفية، وإن كان قد يجزي الله تعالى أحيانًا العبد على بعض أعماله الصالحة في الدنيا، لكن الجزاء الكامل الشامل الوافي إنما يكون في الدار الآخرة، الدنيا ليست بدار عدالة، الدنيا فيها ظالم ومظلوم، قد يبقى الظالم لا يُعاقب في الدنيا، لكن الله تعالى يؤخر عقوبته للآخرة؛ كما قال الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[إبراهيم: 42].
وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا فيعجل له عقوبته، فهذه الدنيا ليست بدار عدالة مطلقة، فيها ظالم ومظلوم، وليست بدار توفية على الأعمال، دار التوفية على الأعمال هي دار الآخرة.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه، فانظروا إلى هذه المعاني العظيمة التي تضمنها هذا الحديث العظيم، الذي كان العلماء يعظمونه.
حديث: اتقوا الظُّلْمَ..
ننتقل بعد ذلك إلى حديث جابر :
56 – (2578) حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ؛ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.
ففي هذا الحديث نهى النبي عن الظلم، وهذا الظلم يشمل ظلم النفس، ويشمل ظلم الغير.
ظلم النفس
ظلم النفس بارتكاب المعاصي والذنوب، فإن الإنسان إذا أذنب وعصى الله تعالى ظلم نفسه بهذه المعصية وهذا الذنب، ولهذا؛ فالكلمات التي تلقاها أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام من الله لمَّا أكلا من الشجرة هي: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
ويونس عليه الصلاة والسلام كان يقول لما كان في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فهذا هو ظلم النفس.
ظلم الغير
القسم الثاني: ظلم الغير، ظلم العباد بالتعدي عليهم في أبدانهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، فهذا الظلم عاقبته وخيمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [7]. أي: أن دعوة المظلوم معجلة في الدنيا -في الغالب- قبل الآخرة.
وقد يؤخر الله تعالى إجابة دعوة المظلوم فلا يستجيب له في الدنيا، ويدخرها له في الآخرة، والله تعالى أحكم الحاكمين لا يُسأل عما يفعل جل وعلا.
لكن المقصود أن الظلم عاقبته وخيمة، وما من إنسان ولغ في الظلم وأكثر من الظلم إلا ووجد سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، ولذلك؛ قال ربنا سبحانه: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[البقرة: 270]. حتى لا يجد له نصيرًا، ما من أحد ينصره، تقع عليه المصائب ولا يجد من ينصره جزاء ظلمه.
معنى قوله: الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وقوله عليه الصلاة والسلام: الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
- قيل: إنه على ظاهره، وأن الظلم يكون يوم القيامة يكون ظلمات على صاحبه، لا يهتدي سبيلًا، حتى يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم، وهو يعيش في ظلمة، ويكون في ظلمة حقيقية.
- والقول الثاني: أن المقصود بالظلمات يوم القيامة، أي: الشدائد، يعني: يكون سببًا للشدائد على الإنسان وسوء العاقبة.
وقالوا: ومما يدل لذلك: قول الله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[الأنعام: 63]. أي: من شدائدهما، فأحيانًا العرب تطلق الظلمات على الشدائد.
والأقرب: أنه يشمل الأمرين جميعًا.
ما المقصود بالشح؟
قال صلى الله عليه وسلم: واتقوا الشُّحَّ؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
“الشُّحُّ” المقصود به: الحرص الشديد، يعني: هو أشد ما يكون من البخل، فهو الحرص الشديد على المال، وعلى حظوظ الدنيا، فيكون حريصًا حرصًا شديدًا، متعلقًا بالدنيا قبل الحصول على المال وبعد الحصول عليه، وعلى هذا؛ فالشح أعم من البخل، فكل شحيح بخيل، وليس كل بخيل شحيحًا، فالبخيل هو من منع بذل المال، هذا يكون بخيلًا، لكن الشحيح يمنع بذل المال، ويكون حريصًا على المال قبل حصوله، فهذا الحرص الشديد على حظوظ الدنيا، الذي هو الشح.
أهلك من كان قبلكم أهلكهم بأي شيء؟
قال: حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم؛ لأن هذا الحرص الشديد يحمل الإنسان على الطمع فيما في أيدي الآخرين، هذا معنى قوله: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم.
حديث: المسلم أخو المسلم
ننتقل بعد ذلك إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
58 – (2580) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
هذا حديثٌ عظيمٌ تضمَّن معانيَ جليلةً.
قوله: المسلم أخو المسلم. فالمسلم تربطه بإخوانه المسلمين أخوة الإسلام وأخوة الإيمان، ومقتضى هذه الأخوة: أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكره لأخيه ما يكره لنفسه، وأن يتعامل مع إخوانه المؤمنين بأخلاق المؤمنين، يتعامل معهم بالمحبة والمودة الصادقة، والنصح والتواضع ولين الجانب وخفض الجناح وأخلاق المؤمنين، هذا هو المطلوب في تعامل المسلم مع إخوانه المسلمين.
لا يظلمه، من مقتضى هذه الأخوة ألا يظلم المسلم أخاه المسلم، فإن الظلم عاقبته وخيمة.
ولا يُسلِمه، يعني: لا يخذله عند حاجته إلى النصرة.
من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته جزاء وفاقًا، فمن كان في حاجة أخيه المسلم، وسعى في حاجته -سواء كانت حاجة مالية، أو كانت حاجة في مساعدة، أو في شفاعة، أو نحو ذلك- كان الله في حاجته، وقضى الله تعالى حوائجه، فإذا سعيت -يا أخي- في قضاء حوائج إخوانك المسلمين فإن الله تعالى يقضي حوائجك، ويجعل لك من همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا: ومن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج الله عنه بها كُربةً من كُرَب يوم القيامة، من سعى في تفريج كربة أخيه المسلم فإن جزاءه عند الله عظيم، ويفرج الله عنه بها كربته يوم القيامة.
وذلك بأن يكون أخوك المسلم في كربة؛ كأن يكون في ضائقة مالية مثلًا، فتسعى لتفريج كربته؛ إما بمساعدته، أو بالشفاعة له عند من يساعده، فما أعظم أجرَ من فرج كربة أخيه عند الله ! يُفرِّج الله عنه كُرَبَه في الدنيا والآخرة جزاءً وفاقًا.
فينبغي للمسلم أن يتلمس حوائج إخوانه المسلمين، وأن يسعى في قضائها، وإذا وجدت مسلمًا مكروبًا، فهذا خير قد وفقك الله له، فلا تتردد في أن تسعى لحاجة أخيك المسلم، وأن تفرج كربة أخيك المسلم.
هذا نعمة من الله أن الله تعالى دَلَّك على هذا الإنسان المكروب، وهذا الإنسان المحتاج لكي تسعى في حاجته، وتُفرِّج كربته، فتنال الأجور العظيمة من الله ، ويقضي الله حوائجك، ويفرج عنك الكرب في الدنيا والآخرة.
بعض الناس إذا رأى إنسانًا مكروبًا يعرض عنه، وربما يتبرم ويحاول أن يتهرب منه.
أقول: يا أخي الكريم، إذا رأيت هذا المكروب فقل: الله تعالى أنعم علَيَّ بأن دَلَّني على هذا المكروب لكي أقضي حاجته، ولكي أفرج كربته، إن استطعتُ أن أقضي حاجته بنفسي وأفرج كربته بنفسي، فهذا هو المطلوب، وإن لم أستطع فإني أدله على من يفرج له كربته، وأشفع له عند من يفرج له كربته، فمن فعل ذلك فما أعظم أجره عند الله وما أعظم ثوابه! ويفرج الله عنه كربه في الدنيا والآخرة، ويقضي الله تعالى عنه حوائجه.
مشروعية الستر على المسلمين
قال: وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
المقصود بالستر هنا: الستر على ذوي الهيئات، أي غير المعروف بالفساد والفسق، ويتكرر منه الشر والفساد والفسق، إنسان معروف بالستر حصل منه زلة، فينبغي أن تستر عليه ولا تفضحه، بعض الناس إذا وجدت زلة عند أخيه المسلم فرح بها، وأصبح يتحدث بها في المجالس، وطار بها، وربما شَمِت بأخيه المسلم، وهذا لا يليق بك أن تفعل هذا مع أخيك المسلم، بل إذا وقع أخوك المسلم في زلة فاستر عليه، ولا تتحدث بذلك لأحد، وأَقِلْ عَثْرَتَه [8]، ومن ستر مسلمًا ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة.
وهذا الخلق الكريم، وهو ستر المسلم، هذا من الأخلاق الكريمة، من الأخلاق الفاضلة؛ لأن النفس بطبيعتها عندها فضول، ويحب الإنسان أن يتحدث بهذه الأمور لغيره، فإذا كتم ذلك وستر على أخيه المسلم وأقال عثرته، كان جزاؤه عند الله عظيمًا، وستره الله تعالى في الدنيا والآخرة.
فاحرص يا أخي المسلم، إذا وجدت زلة من أخيك فلا تفضحه، لا تتحدث بتلك الزلة، استر عليه، وأقل عثرته، يسترك الله في الدنيا والآخرة.
ننتقل بعد ذلك إلى حديث أبي هريرة :
حديث المفلس
قال الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه»:
59 – (2581) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟. قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.
هنا النبي قال لأصحابه: أتدرون ما المُفْلِس؟، وفي لفظ: من المفلس؟.
من هدي النبي عليه الصلاة والسلام في تعليمه لأصحابه: أنه يسلك معهم أحسن الأساليب التربوية التعليمية، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يلقي الكلام هكذا؛ وإنما كان يستخدم أساليب التعليم.
ولذلك؛ كان الصحابة يحفظون كلماته عليه الصلاة والسلام، فعندما أراد أن يخبرهم بحقيقة المفلس طرح هذا السؤال، قال: أتدرون ما المفلس؟. وهذا السؤال يستدعي أن يلفت النظر والانتباه من الحضور أتدرون ما المفلس؟ فكلهم انتبهوا، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. ولما أراد أن يبين معنى الغيبة طرح سؤالا: أتدرون ما الغيبة؟ [9]. فكان عليه الصلاة والسلام أحيانًا يستخدم هذه الأساليب، وهي من أرقى الأساليب التعليمية، طرح السؤال، أن يطرح السؤال ثم يستمع إلى جوابهم ثم يأتي بالجواب الصحيح.
قال: أتدرون ما المفلس؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
المُفْلِس عند الفقهاء: من كانت ديونه أكثر من ماله، يسمونه: المفلس، وعندهم الحَجْر على المفلس الذي يكون دينه أكثر من ماله، فيحجر عليه، وتفاصيل أحكام الحجر على المفلس مذكورة في كتب الفقه.
لكن لما قال الصحابة: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، بيَّن النبي حقيقة المفلس، قال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار. هذا هو المفلس.
المفلس إنسان يأتي بحسنات من صلاة وزكاة وصيام وحج وصدقات وأذكار وتلاوة قرآن ونحو ذلك، يجمع هذه الحسنات، وربما يكون ممن يحافظ على الجمعة والجماعة، لكن عنده سوء خلق، وعنده تَعَدٍّ على الآخرين، لا يتورع في مسألة التعدي على الآخرين، إما أن يتعدى عليهم في أبدانهم -ولذلك؛ قال: وسفك دم هذا، وضرب هذا.. هذا نوع من التعدي على البدن، أو يتعدى عليهم في أموالهم، يأخذ أموالهم بغير حق، بأي صورة من الصور- أو يتعدى عليهم في أعراضهم بالغيبة والنميمة، والسخرية والقذف، والكذب عليهم ونحو ذلك، فهذا التعدي على الآخرين يكون سببًا لأن يأخذوا منه من حسناته، فيؤخذ من حسناته وتُعطَى أولئك الذين تَعدَّى عليهم.
فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار.
نسأل الله السلامة والعافية.
أعظم الحسرات أن يرى الإنسان أن حسناته التي كانت على أعماله التي عملها في الدنيا؛ من صلاة وزكاة وصيام وصدقات وأذكار، هذه الحسنات تذهب لموازين غيره؛ بسبب تعديه عليهم بالغيبة وبالسخرية وبالقذف وبالتعدي على أموالهم ونحو ذلك، هذا من أعظم الحسرات على الإنسان، هذه الحسنات التي جمعها يراها تتطاير منه، تذهب لفلان ضربه، ولفلان قذفه، ولفلان سخر منه، ولفلان اغتابه، ولفلان أخذ ماله، وفي الأخير أن الناس أخذوا حسناته وهو ينظر.
ثم إن فنيت حسناته، الرصيد انتهى عنده، أصبح صفرًا ما عنده حسنات، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه. هذا والله هو المفلس حقيقة.
وهذه من أعظم الحسرات: أن الإنسان يأتي بحسنات عظيمة ثم تتطاير هذه الحسنات، وتذهب لغيره بسبب سوء خلقه، ولهذا؛ لا يكفي في العبادة أن يُحسن الإنسان العبادة فيما بينه وبين الله فحسب، بل لا بد كذلك من أن يحسن التعامل مع الآخرين؛ لأنه إذا أحسن العبادة فيما بينه وبين الله، وأساء للآخرين بأية صورة من صور الإساءة فإن حسناته تذهب إليهم، ويبقى في الأخير مفلسًا.
أخرج الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قيل للنبي : يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. فقال النبي : هي في النار. قالوا: وإن فلانة ليست بكثيرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، غير أنها أحيانًا تتصدق بأثوار من قط على جيرانها، وتحسن لجيرانها، فقال النبي : هي في الجنة [10]. فالدِّين المعاملة، ما الفائدة أنك تكثر من الصلاة والصيام والصدقة لكنك تؤذي جيرانك وتسيء إلى الآخرين؟!
خير من ذلك أن تحسن لجيرانك وتأتي بالواجبات الشرعية من الصلاة والصيام والصدقة.
أما أن الإنسان يكثر من الشعائر التعبدية فيما بينه وبين الله، ويكون كثير الصيام، وكثير الصدقة، وكثير الصلاة، وكثير الذكر؛ لكنه سيئ التعامل مع الآخرين، يؤذي الآخرين بلسانه، ويؤذي الآخرين بتصرفاته، فهذا ربما يكون في الأخير مفلسًا، فلا بد أن يكون في حياة المسلم التوازن، فيحسن في العبادة فيما بينه وبين الله، ويحسن كذلك في علاقته بالآخرين؛ في علاقته بجيرانه، في علاقته بأولاده، في علاقته بأهله، في علاقته بوالديه، في علاقته بأصحابه، في علاقته بجميع الناس: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة: 83].
وبعض الناس مبتلًى بسوء الخلق، وربما لا يشعر بذلك، وكما أن الأجساد تصاب بالأمراض؛ فكذلك الأخلاق، قد يكون بعض الناس مريضًا في أخلاقه، عنده مرض في أخلاقه، عنده مشاكل في أخلاقه، فلا بد أولًا -كما أنه بالنسبة لمرض الجسد عندما يراد علاجه لا بد أولًا من تشخيصه، وأن يكون التشخيص صحيحًا، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة العلاج؛ هكذا بالنسبة لأمراض الأخلاق لا بد من تشخيصها- أن تشخص هذه الأمراض، ثم يأتي بعد ذلك العلاج، وكما أن الدواء والعلاج للمرض الجسدي قد يكون مُرًّا، ويتجرع المريض مرارة الدواء؛ كذلك أيضًا علاج مرض الأخلاق قد يكون مُرًّا، فلا بد من تجرع مرارته، وأن يحسن الإنسان من أخلاقه، وأن يبتعد عن الأخلاق السيئة.
وإنك لتعجب عندما ترى بعض وسائل التواصل الاجتماعي، تَدخُل حسابات بعض الناس فلا ترى فيها إلا السخرية والقذف والاستهزاء، والوقوع في أعراض الآخرين.
وسبحان الله! تتعجب من هذه الجرأة على الوقوع في أعراض الناس، ولا تكاد تجد في هذا الحساب الطيب من القول، فهذا ما أعظم مصيبته عند الله ! وهذا يَصدُق عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار.
التحلل من المظالم
ننتقل بعد ذلك إلى حديث:
أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ.
الشاة الجلحاء والشاة القرناء:
“القرناء” يعني: ذات القرن.
و”الجلحاء” يعني: التي ليس لها قرن.
فعند تناطح هاتين الشاتين: شاة ذات قرن، وشاة ليست ذات قرن، يكون هناك يوم القيامة قصاص بينهما، مع أن البهائم غير مكلفة، ولكن هذا من باب إظهار تمام عدل الله ، فإنه تحشر الوحوش والبهائم والحيوانات حتى يقاد للشاة الجلحاء، يعني التي لا قرن لها. من الشاة القرناء التي نطحتها، من باب إظهار تمام عدل الله ، ثم بعد ذلك يقال لها: كوني ترابًا.
يقال لهذه الحيوانات بعد حشرها: كوني ترابًا، فعندما يرى الكافر ذلك يتمنى أن لو كان ترابًا: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
هنا النبي يقول: لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها. يعني: من كان لأخيه عنده مظلمة فينبغي أن يؤدي الحق له، وأن يرجع مظلمته، وأن يتحلل منه، ما دام بالإمكان فعل ذلك، وإلا فإنه يوم القيامة سيكون قصاص بين الناس بالحسنات والسيئات في غاية العدل، حتى إنه ليقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فالدار الآخرة دار العدالة المطلقة: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ[غافر: 17].
أما الدنيا فليست بدار عدالة، الدنيا فيها ظالم ومظلوم، وقد يؤخر الله تعالى عقوبة الظالم إلى يوم القيامة: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[إبراهيم: 42]. وقد ينتقم الله منه ويُعجِّل عقوبته في الدنيا.
فالدنيا ليست بدار العدالة المطلقة، فبعض الناس يقول: لماذا لا نرى أن الله ينتقم من الظالم، ونحن نرى هناك من يظلم ظلمًا فاحشًا ونحو ذلك؟
نقول: الدنيا ليست بدار عدالة، الدنيا فيها ظالم ومظلوم، دار العدالة المطلقة هي الدار الآخرة، عندما يقال: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[غافر: 17].
ولذلك؛ ينبغي أن يحاسب المسلم نفسه، وإذا كان لأحد عنده حقٌّ أن يذهب إليه ويتحلل منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند حديث أبي هريرة .
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة والأجوبة
حكم رفع اليدين أثناء الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة
س: ما حكم رفع اليدين أثناء الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة في صلاة الجنازة؟
ج: لا بأس بذلك، ومأثور عن بعض الصحابة، وعلى هذا فالسُّنة رفع اليدين عند التكبير مطلقًا، عند التكبيرة الأولى، والثانية والثالثة والتكبيرة الرابعة، ثم يسلم تسليمة واحدة.
فالقول الراجح: أنه يشرع رفع اليدين عند التكبيرات في الصلاة على الجنازة.
حكم زكاة العسل
س: ما الراجح من أقوال العلماء في مسألة زكاة العسل؟
ج: الراجح: أنه لا تجب الزكاة في العسل؛ لأن جميع الأحاديث المروية في زكاة العسل كلها ضعيفة، ولا تثبت من جهة الصناعة الحديثية.
وعلى هذا؛ فنقول: إن العسل لا زكاة فيه، إلا أن يُعِدَّه صاحبه للتجارة فيزكيه زكاة عروض التجارة، فمثلًا: أصحاب محلات بيع العسل يجب عليهم أن يزكوها زكاة عروض التجارة، لكن من كان عنده مزرعة مثلًا، وفيها مناحل ولم يقصد بها التجارة فلا زكاة عليه.
هل يُحرِم من جدة من يأتي بالطائرة ويمكث عدة أيام؟
س: هذا سائل يقول: إقلاع الطائرة يوم الثلاثاء، ولم يتيسر الحج والعمرة إلا يوم الخميس، فهل يجوز المكث في جدة بقية اليومين ثم الإحرام منها؟ أم يلزم الذهاب للميقات والإحرام منه؟
ج: أنت بين أمرين:
- إما أن تحرم وأنت في الطائرة، وتبقى على إحرامك في جدة إلى أن يحين وقت العمرة، ثم تذهب إلى مكة وتعتمر، وهذا الخيار ربما يكون فيه مشقة؛ لأنك ستبقى يومين أو أكثر وأنت بإحرامك لكنه يبقى خيارًا.
- الخيار الثاني: أنك تذهب إلى جدة من غير إحرام، فإذا أردت العمرة ترجع للميقات وتحرم منه.
أما أنك تحرم من جدة فليس لك ذلك؛ لأنك مررت بالميقات وأنت قد نويت النسك، فليس لك أن تحرم من جدة، وإنما الواجب أن تحرم من الميقات.
هل يشرع أثناء الدعاء النظر إلى السماء؟
س: هل يشرع أثناء الدعاء النظر إلى السماء أو إلى السقف، إذا كان داخل البيت أو المسجد؟
ج: لا يشرع ذلك، وإنما عندما يدعو المسلم يرفع يديه، وينظر إلى كفيه. والله قريب من الداعي: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ[البقرة: 186]. فينبغي لك وأنت تدعو الله أن تستحضر قرب الرب جل وعلا منك: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[البقرة: 186]، الله تعالى قريب من عبده إذا دعاه، سميع الدعاء، فلا حاجة لأن ترفع نظرك إلى السماء أو إلى السقف؛ وإنما تنظر إلى يديك وتدعو هكذا، السُّنة رفع اليدين عند الدعاء تدعو الله ، وتستحضر قرب الرب منك وأنت تدعوه، تستحضر قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[البقرة: 186].
حكم الجهر بالقراءة في صلاة الضحى والرواتب
س: ما حكم الجهر بالقراءة في صلاة الضحى والرواتب؟
ج: الأمر في ذلك واسع، لكن الأفضل في صلاة النافلة التي تكون في النهار ألا يجهر بالقراءة فيها؛ لأنه إذا كان لا يفعل ذلك في صلاة الفريضة ففي النافلة من باب أولى، ففي صلاة الضحى الأفضل عدم الجهر، وهكذا أيضًا في السنن الرواتب النهارية الأفضل عدم الجهر.
وأما في صلاة الليل وهكذا أيضًا في النوافل التي تفعل في الليل، فالأفضل هو الأصلح لقلب الإنسان، يختار المسلم ما هو الأصلح لقلبه، مثلًا إذا أرادت أن تصلي صلاة الليل، فتنظر؛ هل الأصلح لقلبك أن تجهر بالقراءة أو أن تسر؟ تختار ما هو الأصلح، إلا إذا كان حولك من يتأذى برفع الصوت فليس لك في هذه الحالة أن ترفع صوتك؛ لأنك تؤذيه برفع الصوت، وأذية المؤمن مُحرَّمة، فلا تفعل سُنة وتقع بسببها في أمر محرم، وهو الأذية، لكن إذا كنت وحدك فأنت مخير بين الإسرار والجهر، والأفضل أن تختار ما هو الأصلح لقلبك.
حكم تقديم الطعام لأهل الميت والمعزين مدة ثلاثة أيام
س: في قريتنا عادة في العزاء، أنه إذا مات الميت قام أقارب الميت بالتناوب بوضع ولائم الغداء والعشاء لأهل الميت، ومن حضر مجلس العزاء لثلاثة أيام، فهل يجوز ذلك؟
ج: لا بأس به؛ لقول النبي : اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم [11]. بل إن هذا مستحب، يستحب لأقارب الميت ولجيرانه وأصدقائه ونحوهم، أن يصنعوا طعامًا لأهل الميت؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم. ولأن هذا يحقق مقصدًا من مقاصد الشريعة، وهو المحبة والمودة بين المسلمين، والتكافل الاجتماعي، ويقوي أواصر العلاقة بينهم، وهذا مقصد شرعي عظيم، لكن ينبغي عدم التوسع في ذلك، وألا يكون في هذا إسراف أو مباهاة أو تكلف، وإنما يصنع الطعام بقدر الحاضرين، فصنع الطعام من أقارب الميت ومن جيرانه ومن أصحابه هذه سُنة: اصنعوا لآل جعفر طعامًا، إنما الذي أنكره العلماء أن أهل الميت أنفسهم هم الذين يصنعون الطعام للناس، فهذا هو الذي أنكره أهل العلم وقالوا: إن أهل الميت ينبغي ألا يفعلوا ذلك، لكن أن يُفعل ذلك لا من أهل الميت وإنما من غيرهم؛ من أقاربهم، من جيرانهم، من أصحابهم، فهذا أمر مستحب.
الصلاة الإبراهيمية هل تشرع بعد الأذان؟
س: هل تشرع الصلاة الإبراهيمية بعد الأذان؟
ج: يقول النبي : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة [12]. فالسنة إذَنْ متابعة المؤذن، وأن يقول المستمع الأذان مثلما يقول المؤذن، إلا في الحيعلتين: حي على الصلاة، حي على الفلاح، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والسنة أن يقول المتابع للمؤذن بعد أن يقول المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله المرة الثانية أن يقول: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، ثم إذا فرغ المؤذن من الأذان يقول بعد ذلك المؤذن والمستمع له: اللهم صل وسلم على رسولك محمد، وإن أتى بالصلاة الإبراهيمية فلا بأس، لكن الأفضل أن يقول: اللهم صل وسلم على رسولك محمد، اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم مقامًا محمودًا الذي وعدته [13] من غير زيادة: والدرجة الرفيعة؛ لأنها لا تثبت، ومن غير زيادة: إنك لا تخلف الميعاد [14]، فإنها أيضًا لا تثبت.
ثم بعد ذلك ينبغي أن يتخير من الدعاء أعجبه؛ لأن هذا الموضع موضع إجابة دعاء.
يقول النبي لما قيل له: إن المؤذنين يَفْضُلوننا يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: قل مثلما يقول المؤذن، ثم سَلْ تُعْطَهْ [15].
فهنا بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن الدعاء بعد متابعة المؤذن من مواضع الإجابة؛ لقوله : ثم سل تعطه. فينبغي لك يا أخي إذا استمعت إلى المؤذن وتابعته، وأتيت بالذكر الذي يقال بعد متابعة المؤذن، أن تغتنم هذا الزمن، وأن تدعو الله بما يحضرك من خيري الدنيا والآخرة، فهذا من مواطن ومواضع إجابة الدعاء، ثم سل تعطه.
هل يجوز التحدث بزلات الآخرين للعظة والعبرة؟
س: إذا كانت الزلة فيها عظة وعبرة لكنها تسيء إلى محدثها، فهل يجوز ذكرها للعظة والعبرة؟
ج: يجوز ذكرها من غير تسمية فاعلها، وبذلك تحصل العظة والعبرة، فيقال: شخص من الناس حصل منه كذا وكذا وكذا، ولا داعي لأن تسمي من وقعت منه تلك الزلة.
فإذا كان المقصود هو العظة والعبرة فلا حاجة للتسمية، وإنما تذكر هذه ويشار للعبرة منها من غير تسمية لفاعلها، ينبغي أن يكون لدى المسلم روح الستر على إخوانه المسلمين، وأن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، هل أنت ترضى أن أحدًا يشيع زلاتك ويظهرها للناس؟! إذا كنت لا ترضى بذلك فينبغي كذلك ألا تفعل هذا مع إخوانك المسلمين، وأن تستر عليهم، فينبغي أن يكون لدى المسلم روح الستر على إخوانه لا يفرح بزلات إخوانه ويُشِيع بها؛ وإنما يستر عليهم، يُقيل ذوي الهيئات عَثَراتِهم.
فإذا أراد -مثلما ذكر الأخ السائل- العبرة مما وقع، فيمكن أن يذكر الفعل من غير أن يذكر قائله، يقال: حصل كذا وكذا من شخص من الناس، ولا يعرفه أحد، ويحصل ما أشار إليه الأخ الكريم من العظة والعبرة.
من صَلَّت التطوع جالسة لمرض هل عليها شيء؟
س: عندي الغضروف وأُصَلي الفروض وأنا واقفة، وأما الرواتب والسنن وأنا جالسة، فهل علي شيء؟
ج: ليس عليك شيء، وأحسنتِ بصلاتك الفرض وأنت واقفة؛ لأن القيام ركن من أركان الصلاة في صلاة الفريضة، وأما في صلاة النافلة فالقيام ليس بركن؛ وإنما هو مستحب، ويرجى أن تنالي أجر الصلاة كاملة حتى وإن صليتِ وأنتِ جالسة؛ لأنك معذورة، والنبي يقول: إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [16].
من لم يصل المغرب وأدرك الإمام في صلاة العشاء ماذا يعمل؟
س: ما الأفضل للمسافر الذي يريد أن يصلي المغرب والعشاء، ودخل مع إمام يصلي العشاء، هل الأفضل أن يجلس بعد الثالثة ويدعو ثم يسلم مع الإمام ثم يقصر العشاء، أو ينفصل ويسلم ثم يكبر مع الإمام بنية صلاة العشاء والإمام في الركعة الأخيرة، ثم يقوم هذا المسافر ويأتي بثلاث ركعات؟
ج: الأفضل هو الثاني، أنه إذا دخل المسافر مع إمام مقيم يصلي العشاء، يصلي معه الثلاث ركعات بنية المغرب فإذا قام الإمام إلى الرابعة جلس هذا المأموم، وأتم لنفسه وسلَّم، ثم قام وأدرك الإمام في الركعة الرابعة في حق الإمام وهي الأولى في حق هذا المسافر، لكن يلزم هذا المسافر أن يتم ثلاث ركعات؛ لأن المسافر إذا ائتم بمقيم لزمه الإتمام، وبذلك يكون قد حصَّل أجر الجماعة في الصلاتين جميعًا في المغرب والعشاء.
بخلاف ما إذا جلس بعد الثالثة ينتظر الإمام حتى يصل إلى التشهد، فإنه سيصلي صلاة العشاء منفردًا، ولذلك؛ فالأفضل أن يدخل مع الإمام، فإذا قام الإمام للرابعة أكمل لنفسه وسلَّم، ثم دخل مع الإمام في الركعة الرابعة، وهي في حقه الأولى، ثم إذا سلم الإمام قام وأتى بثلاث ركعات.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 591. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1517، والترمذي: 3577. |
^3 | رواه أبو داود: 1516، والترمذي: 3434، وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^4 | رواه البخاري: 6306. |
^5 | رواه البخاري: 7387، ومسلم: 2705. |
^6 | رواه ابن أبي شيبة: 27751. |
^7 | رواه البخاري: 2448. |
^8 | أي: اصفح عنه. ينظر: “تاج العروس”: 15/ 644 (ق ي ل). |
^9 | رواه مسلم: 2589. |
^10 | رواه أحمد: 9675. |
^11 | رواه الترمذي: 998، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1610. |
^12 | رواه مسلم: 384. |
^13 | رواه البخاري: 614. |
^14 | ينظر: “إرواء الغليل” للألباني: 1/ 260، 261 |
^15 | رواه أبو داود: 524. |
^16 | رواه البخاري: 2996. |