عناصر المادة
- بشارة من ستر عبدًا في الدنيا
- فوائد من حديث: لا يَستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا..
- مداراة من يُتقى فحشه
- فوائد من حديث: بئس أخو العشيرة
- فضل الرفق
- فوائد من أحاديث الرفق
- النهي عن لعن الدواب وغيرها
- فوائد من حديث: خذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونة
- اللعانون ليسوا شهداء ولا شفعاء يوم القيامة
- لم أُبعث لعَّانًا؛ وإنما بعثت رحمة
- من لعنه النبي ولم يكن أهلًا لذلك
- قصة يتيمة أم سليم
- فوائد من قصة ابن عباس ودعاء معاوية
- الأسئلة والأجوبة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله تعالى في هذا الدرس العلمي، في شرح «صحيح مسلم»، في هذا اليوم الثلاثاء 20 ربيع الأول من عام 1443 للهجرة.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما عملتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
اللهم ارزقنا الفقه في الدين.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا.
بشارة من ستر عبدًا في الدنيا
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كنا قد وصلنا إلى:
21 – بَابُ بِشَارَةِ مَنْ سَتَرَ اللهُ تَعَالَى عليه فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ
يعني هذه العنونة من النووي فيها إشكال: باب بشارة من ستر الله عليه في الدنيا بأن يستر عليه في الآخرة.
يظهر أن المقصود من ستر عبدًا في الدنيا بأن يستر عليه في الآخرة.
الذي يهمنا هو الحديث الوارد في ذلك.
قال الإمام مسلم في «صحيحه»:
71 – (2590) حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ- حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ، قَالَ: لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثم ساق المصنف هذا الحديث بلفظ:
لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
والرواية الثانية مفسرة للرواية الأولى: لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
والرواية الثانية: لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وهذا هو الموافق لأكثر الروايات والرواية التي اتفق عليها الشيخان، وأن المقصود أنه لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة.
والمعنى الثاني صحيح، أنه لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة؛ لأنه إذا ستره الله عليه في الدنيا ستره الله يوم القيامة من باب أولى.
ويدل لذلك: الحديث القدسي في «الصحيح»، أن الله تعالى عندما يقرر عبده بذنوبه، يقول: سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم [1].
فوائد من حديث: لا يَستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا..
- وهذا الحديث يدل على فضل الستر على المسلمين، وأنه من الأعمال الصالحة العظيمة، وأن مَن ستر عبدًا في الدنيا ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة.
ولكن قال أهل العلم: إن الشيء المندوب إليه الستر إنما هو على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس معروفًا بالأذى والشرِّ والفساد، أما من كان معروفًا بالشر والفساد فلا يُستر عليه؛ لأنَّ الستر عليه يشجعه على مزيد من الشر والفساد، إنسان مثلًا من أرباب الجرائم ومن أرباب الفساد والشر فهذا لا يستر عليه؛ لأن الستر عليه يشجعه على أن يستمر في فساده وشره؛ لأنه معروف بذلك متجرئ على انتهاك حرمات الله مجاهرة، فهذا لا يستر عليه، إنما الذي يستر عليه من كان من ذوي الهيئات ونحوهم حصل منه زلة، حصل منه خطأ، ثم بعد ذلك اطلع أحد على ما حصل منه فستر عليه ولم يُشِعْ ذلك، فإن الله تعالى يستر على هذا الذي قد ستر عليه في الدنيا والآخرة جزاءً وفاقًا. - ثانيًا: من فوائد هذا الحديث: أنه إذا كان الستر على المسلم عملًا صالحًا، فستر الإنسان على نفسه كذلك، إذا وقع في معصية مندوب إليه من باب أولى، ومن لم يستر على نفسه وجاهر بذلك كان من المجاهرين الذين قال عنهم النبي : كل أمتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة: أن يعمل الرجل عملًا بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا. وقد بات ربه يستره ويصبح يكشف ستر الله عليه [2] رواه البخاري.
فينبغي إذا وقع الإنسان في معصية أن يستر على نفسه، وألا يجاهر بتلك المعصية، سَتَرَ الله عليك فلا تتحدث بهذه المعصية؛ لأنك إذا تحدثت بها وقعت في المجاهرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: كل أمتي معافًى إلا المجاهرين. وهذا من قلة التوفيق، أن بعض الناس يقع في المعصية وقد ستره ربه، ثم يصبح ويفضح نفسه ويجاهر بتلك المعصية، ويقول: فعلتُ البارحة كذا وكذا، وفعلتُ كذا وكذا. وربه يستره وهو يأبى إلا أن يجاهر بتلك المعصية ويفضح نفسه، وهذا يدخل فيما ذكره النبي بقوله: كل أمتي معافًى إلا المجاهرين.
فالمجاهرة بالمعصية والمجاهرة بالذنب هي معصية أخرى، فكون الإنسان يعمل المعصية ويستتر بستر الله ، ويسأل الله المغفرة وأن يتوب عليه، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن بعض الناس يعمل المعصية ثم يجاهر بهذه المعصية، فهذا يدخل في الذم الوارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام: كل أمتي معافى إلا المجاهرين.
بعض الناس مبتلًى بالتنقيب عن عيوب غيره، وإذا وجد زلةً أو عيبًا طار به وفرح به، وأصبح يحرض على هذا الإنسان ويؤلِّب عليه، هذه ليست من أخلاق المؤمنين، إذا وجدت زلة من أخيك المسلم أو عيبًا فاستر ذلك عليه وناصحه في السرِّ، هذه هي أخلاق المؤمنين، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [3].
فقد يقع الإنسان في خطأ، قد يقع في زلة، قد يكون له عثرة، قد يكون له عورة، فينبغي أن تستر على أخيك المسلم، وأن تبذل له النصيحة فإنَّ الدين النصيحة [4]. والنصيحة تكون في السر ولا تكون في العلن.
أما هذا الذي إذا وجدت عثرة من أخيه قام وفرح بها وفضحه، فليست هذه من أخلاق المؤمنين، وهذا متتبع لعورات المسلمين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته [5]. هذا مَن تتبع عورات المسلمين، وهذه تنافي ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من المحبة لإخوانه المسلمين، ومن التواضع ولين الجانب والرفق، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فهذه تنافي أخلاق المؤمنين، بل هذه أقرب إلى أخلاق المنافقين الذين يؤذون المؤمنين ويفرحون بكل عثرة وبكل سوأة وعورة للمؤمنين، لكي يفشوها ويبدوها، ويبدؤون بأذيتهم ولمزهم ونبزهم فهذه أخلاق المنافقين وليست هذه من أخلاق المؤمنين.
مداراة من يُتقى فحشه
ننتقل بعد ذلك إلى:
22 – بَابُ مُدَارَاةِ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ
وساق المصنف في هذا حديث: عائشة رضي الله عنها.
73 – (2591) ..، أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ، أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.
ثم ساق المصنف هذا الحديث بلفظ:
أَنَّهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْقَوْمِ وَابْنُ الْعَشِيرَةِ.
هذا الرجل الذي دخل على النبي عليه الصلاة والسلام واستأذن عليه، هو عيينة بن حصن الفزاري، وهذا الرجل كان يُسمى “الأحمق المطاع”، وجاء في بعض الروايات: أنه لما دخل على النبي وعنده عائشة قال: من هذه؟ قالوا: هذه أم المؤمنين عائشة. قال: ألا أنزل لك عن أجمل منها؟ وعائشة تسمع، فغضبت عائشة وقالت: من هذا؟ قال النبي : هذا أحمق مطاع، وهو على ما ترين سيد قومه!.
فيقال له: الأحمق المطاع، ومع ذلك سيد قومه، وهذا من العجائب! أن يكون بهذا الوصف: أحمق، ومع ذلك هو سيد في قومه!
هذا الرجل لما استأذن على النبي عليه الصلاة والسلام كان معروفًا بالفحش والشر، فقال النبي : ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة أو بئس رجل العشيرة أو في الرواية الأخرى: بئس أخو القوم وفي رواية البخاري: بئس أخو العشيرة [6]. والمقصود بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، أي: بئس هذا الرجل منها.
فلما دخل على النبي ألان له القول.
وفي رواية البخاري: فلمَّا جلس تطلَّق النبي في وجهه أي: أبدى طلاقة الوجه له، وانبسط له، يعني تبسط له وأبدى له طلاقة الوجه.
فقالت عائشة، استغربت كيف يكون هذا من النبي عليه الصلاة والسلام؟! فقالت: يا رسول الله، قلتَ الذي قلتَ -يعني قلتَ: بئس أخو العشيرة- ثم ألنت له القول؟! فكيف تقول: بئس أخو العشيرة ثم لما دخل ألنت له القول؟!
فقال النبي : يا عائشة، إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه. وفي رواية البخاري: اتقاء شره.
الفحش: هو القبيح من القول، ورواية البخاري توضح أن المقصود به: الشر، يعني أن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الذي تتحاشاه الناس وتخاف منه وتتركه اتقاء شره، إنسان معروف بالشر والفساد والفحش ولا يُؤمَن شره، فالناس تتركه، فيكون هذا من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة.
فوائد من حديث: بئس أخو العشيرة
- أولًا: في هذا الحديث علَم من أعلام النبوة؛ حيث إن النبي قال عن هذا الرجل: بئس أخو العشيرة، أو بئس ابن العشيرة. وحصل من هذا الرجل ما حصل مما ذكر في ترجمته؛ فإنه ارتد مع المرتدين بعد وفاة النبي وقاتل مع المرتدين وجيء به إلى أبي بكر أسيرًا، ولذلك وصفه النبي بهذا الوصف، ولما جيء به أسيرًا رجع إلى الإسلام بعد الردة، وهذا يدل على أنه كان عنده ضعف في إسلامه.
- أيضًا: من فوائد هذا الحديث: مشروعية مداراة من يُتَّقى فحشه، فينبغي للإنسان أن يداري من يُتَّقى شره ومن يتقى فحشه ولا يتصادم معه؛ لأن هذا الذي يتقَى فحشه أو شره إذا تصادم معه الإنسان فسيبقى معه في صدام وفي معارك، ويستنزف جهده مع هذا الإنسان، فمن كان من ذوي الشخصيات الصعبة فينبغي أن يُدارى.
ما معنى المداراة؟
قال ابن بطَّال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ، يعني يتألفه بلين القول وخفض الجناح ولا يغلظ عليه، ويتبسط في وجهه فيداريه اتقاء شره، واتقاء فحشه، وهذه من أخلاق المؤمنين.
وكان النبي يستعمل هذا الخُلق: المداراة مع من يُخشى شره، ومن يخشى فحشه، وكان يفعل ذلك معهم؛ اتقاء لشرهم ولفحشهم.
ولذلك؛ لما أُتي بأَقْبِيَة للنبي عليه الصلاة والسلام، أتاه رجل ممن يُتقَى فحشه، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام بقَبَاءٍ وقال: خبأتُ لك هذا [7]. يعني: لما وزَّع النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأَقْبِيَة على الناس تذكَّر أن رجلًا معروفًا بالشرِّ والفساد، وأنه سيأتي وبالفعل صدقت فراسة النبي عليه الصلاة والسلام وأتاه هذا الرجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى مسرعًا وأعطاه هذا القَبَاء وقال: خبأتُ لك هذا يا أبا المسور.
فهذا من باب المداراة واتقاء شر هذا الإنسان.
فمن كان بهذا الوصف، من كان يخشى الناس شره وفحشه فهذا من أشر منزلة عند الله يوم القيامة.
ولذلك؛ ينبغي أن يكون المسلم هيِّنًا ليِّنًا، سمحًا منبسطًا، يأمن الناس شره ويرجون خيره، ولا يكون الإنسان ممن لا يأمن الناس شره، ويتركه الناس ويتحاشون الاحتكاك به، ويتحاشون مخالطته اتقاء شره وفحشه، فهذا من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة.
والناس -كما قال عليه الصلاة والسلام- هم شهود الله في أرضه [8]، فإذا كان أكثر الناس يتحاشون هذا الإنسان، ويقللون الاحتكاك به، وربما تركوه اتقاء شره واتقاء فحشه؛ فمعنى ذلك أن هذا الإنسان على قدر كبير من سوء الأخلاق، ومن الفحش، وهذا الإنسان من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة.
لا يمكن أن هؤلاء الناس كلهم يجمعون على اتقاء شر هذا الإنسان، ومداراته وتركه أيضًا، وترك الاحتكاك به، إلا وعنده مشكلة في أخلاقه وفي تعامله مع الآخرين.
وفي المقابل: المسلم الهيِّن اللَّيِّن السَّمْح المنبسط الذي يحب الناس مخالطته، ويحبون مجالسته، ويأنسون بذلك ويفضون له بهمومهم ومشاكلهم، فهذا من خير الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: إنَّ من خيركم وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقًا [9].
- أيضًا: دل هذا الحديث على مشروعية المداراة، ولا يفهم من ذلك جواز المداهنة؛ فإن المداهنة ممنوعة.
الفرق بين المداراة والمداهنة
قال القرطبي في الفرق بينهما: المداراة بَذْلُ الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا، وهي مباحة، وربما استبحت.
إذَنْ، المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا.
يعني: تبذل من دنياك شيئًا؛ تعطيه مالًا تتألفه، تعطيه مالًا لكي تَكسِبه في أمور دينه بتقوية إسلامه مثلًا، كذلك أيضًا تُلِين له في الحديث تتألفه، فهذه تسمى مداراة.
أما المداهنة: فهي ترك الدين لصلاح الدنيا، يعني: يتنازل عن دينه، أو عن بعض أمور دينه لأجل الحصول على دنيا فهذه مداهنة، وليست مداراة.
كأن يترك الإنسان إنكار منكر هو قادر على إنكاره من غير أن يلحقه ضرر؛ لأجل الحصول على لُعَاعة من الدنيا، أو لأجل أمر دنيوي، فهذه هي المداهنة.
فالمداراة، قد يرى الإنسان المنكر لكن قد عزم على إنكاره، لكن يرى أن هذا الوقت ليس مناسبًا لإنكاره، وإنما يريد تأجيل إنكار المنكر، أو يختار أسلوبًا مناسبًا لإنكاره، لكن المداهنة لا ينكر المنكر أصلا ولا بقلبه؛ وإنما يقر صاحب المنكر ويتبسط معه ويرضى بفعله مداهنة له لأجل حظوظ الدنيا.
فهذا هو الفرق بين المداهنة وبين المداراة.
النبي في هذه القصة استعمل المداراة، كيف استعملها؟ بذل له من دنياه حسن عشرته، والرفق في مكالمته، ولين الجانب معه، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يمدح هذا الرجل، فقط مجرد أن ألان له الكلام، لكن لم يمدحه ولم يُثنِ عليه، فلم يناقض قولُه فعلَه.
فكونك تلين الحديث مع إنسان تتبسط معه في الحديث مداراةٌ له، لكنك لا تمدحه بما ليس فيه؛ فمدح الإنسان بما ليس فيه لا يدخل في المداراة، وإنما المداراة في اللطف، وفي لين الجانب، وفي خفض الجناح ونحو ذلك.
ففقه هذه الأخلاق مهم جدًّا؛ لأن هذه تعترض للإنسان في حياته، فلا بد من أن يكون عنده فقه في هذه الأخلاق، وكيف يستعمل كل خلق في المقام الذي يناسبه.
- أيضًا: من فوائد هذه القصة: أن هذا الموضع من المواضع التي تجوز فيها الغِيبة، ولهذا ذكر الإمام مسلم هذه القصة بعد أن ذكر حديث الغيبة الذي شرحناه في الدرس السابق، كأن الإمام مسلمًا رحمه الله يشير إلى أن هذه الحالة من الحالات التي تجوز فيها الغِيبة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: بئس أخو العشيرة. قال هذا في غَيبته، وهذا قد ذكره بما يكره، لكن هذا من المواضع التي تجوز فيها الغيبة، وهذا الموضع هو غيبة من كان معروفًا بالشر والفساد، فتجوز غيبته فيما جاهر به، يعني: إنسان سليط اللسان فهذا تجوز غيبته في سلاطة لسانه، أو أنه يجاهر بمعصية من المعاصي تجوز غيبته فيما جاهر به، ولهذا؛ قال الحسن: أترغبون عن غيبة الفاسق؟! اذكروه بما فيه كي يحذره الناس.
وجواز غيبته لكي يحذره الناس، خاصة إذا كان هذا الإنسان ممن قد يُلبِّس على الناس بفصاحته وبلاغته، فهنا تجوز غيبته؛ لأجل تحذير الناس منه، بعض الناس قد يكون بليغًا فصيحًا يبهر الناس بحديثه، لكنه من أهل الشر والفساد، فهنا يبين للناس، ويبين للعامة أن هذا الإنسان يُغتاب بما فيه، فتكون هذه من المواضع التي تجوز فيها الغيبة.
ولهذا؛ جاء في «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي قال: ما أظن أن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئًا [10]، وكانا من المنافقين.
يعني إذا كان هذا الإنسان بليغًا، لكنه لا يعرف من الدين شيئًا، يُبين هذا للناس حتى يحذره الناس، ولا يُقال إن هذا من الغيبة، بل هذا من النصح للمسلمين.
فضل الرفق
ننتقل بعد ذلك إلى:
23 – بَابُ فَضْلِ الرِّفْقِ
ساق المصنف في هذا الباب حديث جرير.
74 – (2592) ..، عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ ، قَالَ: مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ.
ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا بهذا اللفظ من رواية أخرى، ثم أيضًا ساقه بلفظ:
76 – (2592) .. : مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ، حُرِمَ الْخَيْرَ أَوْ مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ.
ثم ساقه أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها:
77 – (2593) ..، أَنَّ النبيَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
وهذا إنما كان لمَّا أتى بعضُ اليهود ودخلوا على النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: السام عليك. السام، معناه: الموت، فسمعت عائشة رضي الله عنها كلامهم، فقالت: وعليكم السام واللعنة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: قولوا: وعليكم. إذا قالوا: السام عليكم. قولوا: وعليكم، يعني أنتم تقولون: السام عليك! وعليكم، مردود عليكم، هذا من الرفق أن تقول: وعليكم. ما في داعي: وعليكم السام واللعنة، لا داعي لهذا، هذا من العنف الذي ينافي الرفق.
ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا بلفظ:
78 – (2594) ..، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
وأيضًا جاء هذا في قصة أخرى عن عائشة رضي الله عنها، ذكرها المصنف قال:
79 – (2594) ..، رَكِبَتْ عَائِشَةُ بَعِيرًا، فَكَانَتْ فِيهِ صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ.. . ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ.
فيظهر أنهما قصتان أوصى النبي فيهما عائشة رضي الله عنها بالرفق.
فوائد من أحاديث الرفق
- أن الرفق يدخل مكارم الأخلاق.
- وأن من يحرم الرفق يحرم الخير كله، وذلك؛ لأن الإنسان إذا كان عنيفًا؛ فإن من يُعنِّفه تكون له رِدَّة فعل، وربما تأجج الخلاف بسبب ذلك، ووقع ما لا تحمد عقباه.
فإذا كان الإنسان مثلًا عنيفًا مع زوجته، فربما أدى ذلك لوقوع الطلاق؛ لأنه إذا استعمل العنف مع زوجته فربما يكون لها رِدَّة فعل؛ فيؤدي هذا إلى الطلاق، أو إلى أمور لا تحمد عقباها.
وكذلك إذا كان الإنسان عنيفًا في تعامله مع أولاده؛ فإن أولاده يكرهونه، ويؤدي ذلك إلى أن يعقوه ولا يبروه.
كذلك إذا كان الإنسان عنيفًا مع الناس؛ فربما يصادف إنسانًا أحمق يقابل العنف بعنف أشد، وربما يؤدي هذا إلى ما لا تحمد عقباه، بل ربما يؤدي إلى القتل، وهذا حصل في وقائع كثيرة، فإذَنْ، من يحرم الرفق يحرم الخير كله.
ولذلك؛ ينبغي أن يتحلى المسلم بالرفق، وفي حديث عائشة رضي الله عنها، يقول عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه، وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
فالله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره.
فالإنسان إذا ترفق في حديثه، وترفق في معاملته، فإن هذا يكون من أسباب تيسير أموره، ومن أسباب تأليف القلوب.
فإذا كان الإنسان رفيقًا في تعامله مع أهله، في تعامله مع أولاده، في تعامله مع جيرانه، في تعامله مع زملائه، في تعامله مع أصحابه، فإنه يَحمد العاقبة؛ لأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، ولهذا؛ ينبغي أن يحرص المسلم على الرفق في أموره كلها وفي شؤونه كلها.
- أيضًا: دل هذا الحديث على وصف الله تعالى بصفة الرفق، وعلى ما يليق بجلال الله وعظمته .
هل «الرفيق» من أسماء الله تعالى؟
واختلف العلماء: هل الرفيق من أسماء الله تعالى أم لا؟
وظاهر هذه الأحاديث: أن «الرفيق» من أسماء الله ، ولذلك؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله في النونية:
وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل | يعطيهمُ بالرفق كل أمانِ |
واختار أيضًا هذا القول -وهو أن «الرفيق» من أسماء الله تعالى- سماحةُ شيخنا عبدالعزيز بن باز، وكذلك شيخنا محمد بن عثيمين، رحمهما الله تعالى.
فالأقرب -والله أعلم- أن «الرفيق» من أسماء الله ؛ لأن النبي قال: إن الله رفيق، وهو كقوله: إن الله جميل يحب الجمال [11].
فـ«الرفيق» إذَنْ من أسماء الله تعالى، ويكون هذا الاسم مما ثبت لله تعالى بالسُّنة، فإن أسماء الله تعالى منها ما ثبت بالقرآن، ومنها ما ثبت بالسُّنة.
فهذا من أسماء الله تعالى التي ثبتت بالسُّنة.
ولله تعالى تسعة وتسعون اسمًا، من أحصاها دخل الجنة [12].
النهي عن لعن الدواب وغيرها
ننتقل بعد ذلك إلى:
24 – بَابُ النَّهْيِ عَنْ لَعْنِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا
ساق المصنف رحمه الله حديث عمران بن حصين .
80 – (2595) ..، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ.
وساق المصنف هذا الحديث أيضًا من طريق أخرى:
81 – (2595) ..، قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا، نَاقَةً وَرْقَاءَ، وَفِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَأَعْرُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ.
وساق المصنف أيضًا هذا الحديث:
82 – (2596) ..، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ ، وَتَضَايَقَ بِهِمِ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ : لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ.
وفي لفظ:
83 – (2596) ..، لَا، أَيْمُ اللهِ لَا تُصَاحِبْنَا رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ مِنَ اللهِ!. أَوْ كَمَا قَالَ.
هذه قصة امرأة كانت مع النبي في إحدى أسفاره، وكانت امرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت من هذه الناقة، تضايق بهم الجبل، فقالت: حَلْ. وهي كلمة زجر واستحثاث للإبل.
“اللهمَّ الْعَنْهَا”، فلُعِنت هذه الناقة، فقال عليه الصلاة والسلام: خذوا ما عليها يعني: ما على الناقة وَدَعُوها؛ فإنها ملعونة. وإنما قال ذلك عليه الصلاة والسلام من باب التعزير لهذه المرأة، لكونها لعنت من لا يستحق اللعن.
وبالفعل أخذ الصحابة ما على هذه الناقة وتركوها.
قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يَعْرِض لها أحد.
وهذا من تربية النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه؛ لأن اللعن من كبائر الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: لعنُ المؤمن كقتله [13]، سباب المسلم فسوق [14]. وكذلك أيضًا حتى لَعْنُ من لا يستحق اللعن من الحيوانات ونحوها يدخل في النهي.
فأراد عليه الصلاة والسلام أن يُربِّي أصحابه، فهذا الموقف الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة ينظرون، لا شك أنه سيكون له أعظم الأثر في نفوسهم في أن يجتنبوا اللعن، فكون النبي عليه الصلاة والسلام يقول: خذوا ما على هذه الناقة من المتاع واتركوها؛ فإنها ملعونة. سيكون هذا مؤثرًا في نفوس أصحابه، وفي نفس هذه المرأة التي بَدَرَت منها هذه الكلمة.
فوائد من حديث: خذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونة
- خطورة اللعن، وأنه من كبائر الذنوب؛ فإن النبي أمر بأن يؤخذ ما على الناقة من المتاع، وأن تترك بسبب اللعن، وهذا يدل على خطورته، فلولا أنه من الكبائر ما فعل النبي ذلك، ولَمَا كان تعزير المرأة بهذه الصورة، فهذا يدل على خطورة اللعن.
واللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، وهذا لا يجوز أن يطلقه الإنسان على من لا يستحق اللعن.
- أيضًا: من فوائد هذا الحديث: تحريم اللعن، حتى وإن كان لغير الإنسان، فهذه المرأة إنما لعنت ناقة، ومع ذلك أنكر عليها النبي إنكارًا شديدًا، بل بلغ من إنكاره أنه أمر بأن يؤخذ المتاع الذي على هذه الناقة ثم تطلق وتسرح، وقال: لا تصاحبنا ناقة ملعونة.
وهذا يدل على أنه لا يجوز اللعن مطلقًا، حتى لعن غير الإنسان، لعن الحيوان لا يجوز، بل حتى لعن الجماد؛ لعن السيارة مثلًا، أو لعن القلم، أو لعن الكتاب أو لعن أي شيء لا يستحق اللعن، لا يجوز.
أما من كان يستحق اللعن فلا بأس بلعنه، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد [15]. وقال: لعن الله المصورين [16]. وقال: لعن الله من غيَّر منار الأرض [17]. وورد اللعن في عدة أحاديث، فاللعن بالوصف لِمَا ورد لعنه في الكتاب أو السُّنة لا بأس به.
والله تعالى قال عن الشيطان: لَعَنَهُ اللهُ[النساء:118]. فالشيطان ملعون وقد لعنه الله تعالى.
فلعن من لعنه الله أو لعنه رسول الله لا بأس به، لكن لعن من لا يستحق اللعن هذا من كبائر الذنوب.
ثم ساق المصنف بعد ذلك حديثًا آخر أيضًا، في باب النهي عن اللعن، وهو حديث أبي هريرة فقال:
84 – (2597) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا.
اللعن ليس من أخلاق الصديقيين
فالصِّدِّيق لا يمكن أن يكون لعَّانا، إنسانًا يكثر اللعن، هذا لا ينبغي أن يكون صِدِّيقًا، ولا يتصف بالصِّدِّيقية من يكون لعَّانًا.
واللعن ليس من أخلاق المؤمنين؛ لأن اللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
والمطلوب في العلاقة بين المؤمنين أن تسودهم أخلاق الرحمة والتعاون على البر والتقوى، وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه.
ومن دعا على أخيه باللعنة، فهو يدعو عليه بأن يبعده الله، وأن يطرده من رحمته، وهذا -كما قال أهل العلم- هو نهاية المقاطعة والتدابر، عندما تدعو على أخيك المسلم بأن يطرده الله من رحمته، فهذا أقصى ما يكون من المقاطعة والتدابر، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: لعنُ المؤمن كقتله [18].
فاللعن ليس من صفات المؤمنين الصادقين، ليس من صفات الصالحين، ولا من صفات الصديقين، ولا من صفات عباد الله المتقين، ولذلك؛ ينبغي أن يبتعد المسلم عن اللعن مطلقًا، وأن يحفظ لسانه من اللعن.
ثم إن النبي ذكر أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار، فإنه لما خطب النساءَ يوم العيد قال: تَصَدَّقْنَ؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار. قلن: لِمَ يا رسول الله؟ قال: تُكثِرنَ اللعن، وتَكفُرنَ العَشِير [19]. فذكر عليه الصلاة والسلام أنَّ من أسباب دخول النار كثرة اللعن، فالذي يكثر اللعن، كل مرة يلعن فيها يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وهذا من أسباب دخول النار.
ولذلك من ابتلي باللعن فعليه أن يتوب إلى الله ، وأن يحفظ لسانه من اللعن، وأن يستبدل هذا اللعن بالكلام الحسن والكلام الطيب، فيستبدله بالدعاء لأخيه المسلم، الدعاء له بالهداية، الدعاء له بالتوفيق، الدعاء له بالصلاح، فبدل أن يقول: لعنك الله. يقول: هداك الله. أو يقول: أصلحك الله. ونحو ذلك.
اللعانون ليسوا شهداء ولا شفعاء يوم القيامة
أيضًا: ساق الإمام مسلم في هذا الباب قصة في اللعن، وهي قصة عبدالملك بن مروان مع أم الدرداء، قال:
85 – (2598) حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عَبْدَالْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، بَعَثَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قَامَ عَبْدُالْمَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ، فَدَعَا خَادِمَهُ، فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ، لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ. فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثم ساق المصنف هذا الحديث أيضًا من طريق أخرى:
86 – (2598) ..، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قوله: بعث بأنجاد. أنجاد جمع نجَد: وهو متاع البيت الذي يزينه؛ من فرش وستور ونحوها.
هذه القصة فيها أن عبدالملك بن مروان لعن خادمه لمَّا أبطأ عليه، فأنكرت عليه أم الدرداء أولًا، وذكرت حديثًا عن النبي ، نقلته عن زوجها أبي الدرداء، قال: سمعتُ رسول الله يقول: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة.
وهذا الحديث يدل على خطورة اللعن، وعلى أنه من أسباب حرمان من يقع في اللعن من الشهادة ومن الشفاعة.
واختلف العلماء في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة.
قال النووي رحمه الله: معناه: لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، ولا شهداء فيهم.@@@
وذلك أن من مات من أهل التوحيد وهو من أهل الكبائر من هذه الأمة، يكون لبعض المؤمنين الحق في أن يشفعوا له، فالنبي عليه الصلاة والسلام يشفع، أيضًا بعض المؤمنين يشفعون لمن دخل النار من أهل الكبائر، يشفعون لبعضهم في ألا يدخلوا النار، ويشفعون فيمن دخل النار في الخروج منها، وهذا يدل على فضل التوحيد؛ لأن من مات على التوحيد فحتى وإن دخل النار لا يخلد في النار.
معتقَد أهل السنة والجماعة فيمن كان موحدًا لكنه من أهل الكبائر: أنه في الدنيا مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يكفر بارتكاب الكبيرة؛ وإنما يكون فاسقًا بها ويبقى على إيمانه، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله ؛ إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه، وإذا دخل النار لا يخلد فيها، وإنما يكون مصير أهل الكبائر -ممن مات على التوحيد- إلى الجنة في نهاية المطاف، حتى وإن دخلوا النار يعذبون على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة برحمة أرحم الراحمين.
وهذا يدل على فضل التوحيد، وعلى عظيم شأنه، وأن من مات على التوحيد حتى وإن دخل النار لا يخلد في النار.
يقبل الله تعالى شفاعة بعض المؤمنين في ألا يدخل من استحق دخول النارِ النارَ، وأيضًا في إخراج بعض من دخل النار من النار وإدخالهم الجنة، فيقبل الله تعالى شفاعتهم إكرامًا لهم.
لكن من كان من اللعانين لا يَقبل الله شفاعته، من كان يكثر اللعن واللعن على لسانه يُحرَم من الشفاعة، لا يشفع لأحد ولا يقبل الله تعالى شفاعته لو شفع.
وهذا يدل على حرمان من كان مكثرًا للَّعنِ من أن يكون شفيعًا يوم القيامة.
وكذلك أيضًا: يُحرم من الشهادة، وذلك أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم أنهم قد بلغوهم؛ كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[البقرة: 143].
ولهذا؛ جاء في «الصحيح» عن النبي أنه قال: يؤتى يوم القيامة بنوح ويقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم ويقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، فيقول الله لنوح: من يشهد معك؟ فيقول: أُمة محمد، فتأتي أُمة محمد وتشهد معه، فيقول قوم نوح: كيف تشهدون معه وأنتم إنما جئتم بعدنا، فيقولون: أخبرنا نبينا بأن نوحًا قد بلغكم فصدَّقناه فنحن نشهد على ذلك. وهذا معنى قول الله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] [20].
لكن لا يدخل في هذه الشهادة من كان لعَّانًا، اللعَّانين يحرمون من هذه الشهادة، ويحرمون من الشفاعة بسبب وقوعهم في اللعن، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: لا يكون اللعَّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة.
لم أُبعث لعَّانًا؛ وإنما بعثت رحمة
أيضًا: ذكر المصنف حديثًا في آخر باب النهي عن اللعن، وهو حديث أبي هريرة .
87 – (2599) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا؛ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً.
وهذا يدل على كريم خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى رحمته بالناس؛ كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]. فهو يحمل قلبًا كبيرًا رحيمًا رفيقٌا، لما قيل له: ادع على المشركين. قال: إني لم أُبعث لعَّانًا. يعني: أدعو على الناس، أدعو باللعن وبالطرد من رحمة الله ، وأدعو عليهم بما يسوؤهم؛ وإنما بعثت رحمة؛ كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
وإذا كان قد بُعث رحمة فهو لا يدعو عليهم بل يدعو لهم، ولهذا؛ لما قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: ادع على دَوْسٍ. قال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم!. فهدى الله تعالى دوسًا، وهم قوم أبي هريرة ، فهداهم الله تعالى وأسلموا وحسن إسلامهم.
وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في تعامله مع الآخرين، يتعامل معهم بالرحمة، حتى مع غير المسلمين، يتعامل معهم بالرحمة؛ فإن هذا الدين دين رحمة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:107].
أنت قد منَّ اللهُ عليك بالدين الحق، ومنَّ عليك بدين الإسلام، فينبغي أن تنظر لهؤلاء الذين لم يهتدوا بعين الرحمة، وأن تسعى لهدايتهم وإنقاذهم من النار.
من لعنه النبي ولم يكن أهلًا لذلك
ننتقل بعد ذلك إلى:
25 – بَابُ مَنْ لَعَنَهُ النَّبِيُّ ، أَوْ سَبَّهُ، أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ أَهْلًا لِذَلِكَ، كَانَ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا وَرَحْمَةً
وهذه من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، أن من لعنه أو سبَّه وهو لا يستحق ذلك، أن الله يجعل هذا السبَّ زكاةً ورحمةً.
وأورد الإمام مسلم في هذا عدة أحاديث:
الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها:
88 – (2600) ..، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ رَجُلَانِ، فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ. قَالَ: وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا. قَالَ: أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا.
ثم ساق المصنف هذا الحديث:
89 – (2601) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً.
وهذا الحديث يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام بشر، وأنه خشي عليه الصلاة والسلام أن يدعو على أحد فتصيبه دعوته؛ فشارط ربه في أنَّ أيَّ أحد من المسلمين لعنه أو سبَّه أو جلده، أن يُجعل له ذلك زكاةً وأجرًا، وهذا من خصائص النبي .
ولذلك؛ هذان الرجلان لما أغضبا النبي عليه الصلاة والسلام سبَّهما لعلمه بأن هذا سيصير لهما زكاةً وأجرًا؛ فلهذا استغربت عائشة رضي الله عنها ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبرها بالسبب، قال: أوَ ما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأيُّ المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاةً وأجرًا.
وهذا من رحمة النبي لأمته ورفقه بهم، أنه سأل الله تعالى وقد أجاب الله دعوته، فجعل كل من سبَّه أنه يجعل له ذلك زكاةً وأجرًا.
ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة :
90 – (2601) ..، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك؟
أولًا نسوق الروايات:
أيضًا: ساق المصنف هذا الحديث، حديث أبي هريرة :
91 – (2601) ..، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وأيضًا: ساق المصنف هذا الحديث:
92 – (2601) ..، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ، يَقُولُ: اللهُمَّ فَأَيُّمَا عَبْدٍ مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وفي لفظ:
93 – (2601) .. اللهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وساق المصنف هذا الحديث أيضًا:
94 – (2602) ..، عن جابر قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي ، أَيُّ عَبْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا.
كيف يدعو النبي على من ليس أهلًا لذلك؟
السؤال: كيف يدعو النبي على من ليس بأهل للدعاء عليه أو يسبه؟
أجاب العلماء عن ذلك فقالوا: إن هذا يقع وهو ليس بمقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في كلامها، كقولهم: تربت يداك، وعَقْرَى وحَلْقَى، ونحو ذلك.
فهذه مما يجري على اللسان من غير قصد؛ فخشي عليه الصلاة والسلام أن يستجاب دعاؤه على بعض أصحابه، فسأل الله تعالى أن يجعل ذلك صلاة وزكاة وقربة.
وقال بعضهم في الجواب عن ذلك: إن المراد: من ليس بأهل لذلك عند الله وفي باطن الأمر، لكنه في الظاهر مستوجب له، والله يتولى السرائر.
والأول: أظهر.
ثم أيضًا: النبي عليه الصلاة والسلام يتعامل مع جميع الشرائح، فقد يأتيه من يغضبه، بعض الشرائح شرائح صعبة، بعض الشرائح فيها الأحمق، وفيها من يغضب النبي عليه الصلاة والسلام، فهو يتعامل معه جميع الشرائح، كل الناس تقصده، ولذلك؛ احتاط عليه الصلاة والسلام لأمته فسأل الله أن يجعل أي سبٍّ سبَّه، أو آذى أحدًا من الناس، أن يجعل الله تعالى له ذلك زكاةً وأجرًا وقربةً تقربه إلى الله تعالى، وهذا من رحمته عليه الصلاة والسلام بأصحابه وبأمته.
قصة يتيمة أم سليم
ثم ساق المصنف أيضًا في هذا الباب حديث أنس :
95 – (2603) ..، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يُتَيِّمَةٌ..
هنا قال: بالتصغير في المواضع الثلاثة يُتَيِّمَةٌ.
فَقَالَ: آنْتِ هِيَهْ؟ لَقَدْ كَبِرْتِ لَا كَبِرَ سِنُّكِ. فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ ، أَلَّا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا -أَوْ قَالَتْ- قَرْنِي. فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا -يعني تديره على رأسها- حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ : مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟. فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي؟ قَالَ: وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَلَّا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
هذا يؤكد المعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يأتي بهذه الألفاظ، لكنه لا يقصد معناها، فهو مما يجري على اللسان من غير قصد.
لما قال لهذه الجارية: كبرتِ لا كَبِر سنُّكِ. يعني يمازحها، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يقصد الدعاء عليها، ومع ذلك قال لأم سليم، يعني حتى لو قصدت الدعاء عليها، اشترطت على ربي أن من دعوتُ عليه، وهو ليس بأهل، أن يجعل الله تعالى له ذلك زكاة وطهورًا وقربة يقربه بها يوم القيامة.
ونختم بهذه القصة.
96 – (2604) ..، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ، قَالَ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً.
وفي لفظ: قفدني، وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين.
وَقَالَ: اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِيَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ.
فوائد من قصة ابن عباس ودعاء معاوية
- هذه القصة أيضًا هنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا أشبع الله بطنه هذا من الكلام الذي يجري على اللسان من غير قصد، كما قال عن الجارية: لا كبر سنك. وهنا قال: لا أشبع الله بطنه. فهذا مما يجري من الكلام على اللسان من غير قصد، هو كقول: حَلْقَى، عَقْرَى، تربت يداك، تربت يمينك، ثكلتك أمك،.. فهذه من أساليب العرب تجري على اللسان بلا قصد.
ثم أيضًا حتى لو كان دعاء ولم يكن مستحقًّا للدعاء عليه فإن الله يجعله لمعاوية رحمةً وزكاةً وأجرًا وقربةً تقربه إلى الله .
ولهذا بعض العلماء جعل هذا الحديث من مناقب معاوية ؛ لأننا لو اعتبرناه دعاء فيكون دعاء له وليس دعاء عليه.
وبعض الناس يأخذ هذا الحديث ويشنع به على معاوية والحقيقة أنه من مناقب معاوية ؛ لأنه حتى لو قلنا إنه ليس مما يجري على اللسان بغير قصد، فهو دعاء له؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: أيما رجل دعوت عليه وهو ليس بأهل فإن الله يجعل ذلك له زكاة وقربة وأجرًا، فهو قد يكون بهذا قد دعا على معاوية فاعتبره كثير من أهل العلم من مناقب معاوية .
- وأيضًا في هذه القصة من الفوائد: جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام؛ لأن حياة الصبي غالبًا تقوم على اللعب واللهو، ولذلك؛ لا بأس أن يُترك للصبي مجال ليلعب فيه ويلهو فيه بما ليس محرمًا.
وينبغي تعليمه وتأديبه، لكن أيضًا يجعل له مساحة للعب واللهو؛ لأن هذه السِّنّ سِنُّ لعب لهذا الصبي، ولهذا لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الصبيان يلعبون أقرهم على ذلك.
- أيضًا: في هذا الحديث من الفوائد: قال النووي رحمه الله: وفيه اعتماد الصبي فيما يُرسَل فيه من دعاء إنسان ونحوه.
يعني: النبي عليه الصلاة والسلام أرسل ابن عباس لكي يدعو له معاوية .
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب ذم ذي الوجهين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة والأجوبة
كيفية التوبة من الغيبة
س: من اغتاب أناسًا كثيرين لا يحصيهم، ويريد التوبة فكيف يتوب؟
ج: من اغتاب غيره فالصحيح أن الأفضل: ألا يخبر من اغتابه بذلك، وإنما يدعو له بظهر الغيب ويذكره بمناقبه وبأحسن ما يعرفه من جميل صفاته في المواضع التي اغتابه فيها؛ لأنه لو أخبره بذلك وطلب منه أن يحلله فربما ترتب على ذلك مفسدة وشحن للنفوس؛ لأن هذا الذي قد اغتيب سيقع في نفسه ما يقع، ولذلك؛ فالقول المرجح عند كثير من المحققين من أهل العلم: أن من اغتاب غيره لا يخبره بذلك، وإنما يذكره بجميل صفاته في المواضع التي اغتابه فيها ويدعو له.
س: نريد نصيحة محفزة لمن يتابع هذا الدرس
ج: هذا الدرس يعتبر مجلس علم، والنبي يقول: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة [21]. فالذي يتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادة، وذكر العلماء، ونصَّ على هذا الإمام الشافعي: أن الاشتغال بطلب العلم أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، فكونك تشتغل بطلب العلم وتَحْضُر مثل هذه الدروس، وتستمع لها وتقيد الفوائد ونحو ذلك، هذا أفضل مما لو اشتغلت بنافلة نفعُها قاصر؛ لأن طلب العلم نفعه متعد، ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم على مثل هذه الدروس، وأن يكون منتظمًا؛ لأن بعض الناس يحضر درسًا ويغيب عن دروس، هذا لا يستفيد كثيرًا، لا بد أن يكون منتظمًا، يعني يجعل حضور مثل هذا الدرس جزءًا أساسيًّا في حياته يفرغ نفسه في هذا الوقت لمتابعة هذه الدروس، ويستحضر قول النبي عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [22]. فإذا وجدت من نفسك الحرص على التفقه في دين الله فهذه أمارة -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
حكم صلاة الرجل مع زوجته قيام الليل جماعة
س: هل يجوز أن يصلي الرجل مع زوجته صلاة الليل جماعة؟
ج: إذا كان ذلك بصفة عارضة فلا بأس بذلك، أما أن يكون بصفة دائمة فهذا غير مشروع، ولهذا لم يكن النبي يؤم زوجاته في صلاة الليل، إنما كان يصلي وحده، لكن كان عليه الصلاة والسلام أحيانًا يصلي معه بعض الصحابة صلاة الليل، صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما، وصلى معه ابن مسعود وصلى معه حذيفة ، فدل ذلك على أنه لا بأس بأن تكون صلاة الليل جماعة أحيانًا، لكن لا تكون دائمًا، فإذا أراد أن يؤم زوجته في صلاة الليل أحيانًا لا بأس، لو خرج مثلا مجموعة في بَرِّيَّةٍ أو في سفر فقالوا: نريد أن يشجع بعضنا بعضًا فقالوا: نصلي صلاة الليل جماعة وأمَّهم أحد فلا بأس، وهذا ربما يكون فيه تشجيع لهم؛ لأن الإنسان يتشجع إذا رأى غيره يفعل الخير، لكن لا يكون هذا بصفة مستمرة؛ وإنما يكون بصفة عارضة.
من أفضل ما صُنِّف في أسماء الله وصفاته
س: ما أفضل كتاب صُنِّف في أسماء الله الحسنى وصفاته؟
ج: في نظري أن من أفضل الكتب المصنفة في ذلك كتاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: “القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته الحسنى”، فالشيخ رحمه الله اختصر كلام أهل السُّنة في أسماء الله تعالى وصفاته في هذا الكتاب، وضبط هذه القواعد التي ذكرها الشيخ، فقد ضبط أبرز الأصول والقواعد في أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، ثم إن الشيخ أيضًا اجتهد وجمع -بحسَب ما ظهر له من الأدلة- تسعة وتسعين من أسماء الله تعالى الحسنى، ولذلك يمكن أن تأخذ هذه الأسماء التي جمعها الشيخ وتدعو الله تعالى بها؛ فإن الشيخ عالم محقق، جمع هذه الأسماء من الأدلة من الكتاب والسُّنة.
الاستخارة وكيفيتها
س: متى تصلى صلاة الاستخارة، وما كيفيتها؟
ج: صلاة الاستخارة تشرع في الأمور التي يتردد فيها الإنسان ولا يترجح له فيها رأي، فيشرع له أن يستخير، كأن يتردد الإنسان في الزواج، الرجل يتردد في أن يتزوج بامرأة، المرأة تتردد في قبول الخاطب مثلًا، أو أن يتردد في سفر، أو أن يتردد الطالب في دخول تخصص من التخصصات، أو أن يتردد إنسان في قبول وظيفة من الوظائف أو نحو ذلك.
فعند تردده يشرع له أن يستخير الله .
وأكمل صور الاستخارة: أن يصلي ركعتين، وبعدما يسلم يرفع يديه مستقبلًا القبلة ويأتي بدعاء الاستخارة، إن كان يحفظه أتى به حفظًا، وإلا لا بأس أن يقرأه من ورقة: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ -ويسميه- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، وعَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي وعَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي [23].
وإذا لم يتبين له الأمر كرر الاستخارة، هذه أكمل صور الاستخارة.
لكن أيضًا من صور الاستخارة: أن يقتصر على الدعاء، فإذا لم يتيسر له أن يصلي ركعتين اقتصر على الدعاء؛ كأن يكون مثلًا الأمر مستعجلًا عليه ويريد أن يستخير لكي يتخذ قرارًا، فيكتفي بالدعاء لا بأس.
ومن ذلك أيضًا: المرأة في حال الحيض والنفاس تريد أن تستخير تكتفي بالدعاء.
فهذا من صور الاستخارة.
أيضًا من صور الاستخارة: أن يأتي بدعاء الاستخارة بعد نافلة من النوافل كأن يصلي ركعتي الضحى ثم يأتي بدعاء الاستخارة، أو مثلًا يأتي بسنة راتبة ثم يأتي بدعاء الاستخارة، فهذه كلها من صور الاستخارة.
ما علامة الاستخارة؟
علامة الاستخارة هو أن يُيَسَّر لك أحد الأمرين ولا ييسر لك الآخر، فأنت إذا استخرت الله وتيسر لك أحد الأمرين وسلكت هذا الأمر، هذه علامة الاستخارة، تيسير أحد الأمرين وعدم تيسير الأمر الآخر.
وليس من علامة الاستخارة الميل النفسي؛ لأن الميل النفسي قد يكون بحسب ما ينطبع في ذهنك، فأنت أخذت فكرة عن هذا الشيء، فكرة حسنة، نفسك تميل إليه، أخذت فكرة غير حسنة عن هذا الأمر، نفسك تنفر منه، ولذلك؛ العبرة بتيسير أحد الأمرين وعدم تيسير الآخر، إلا إذا كان الأمران في نفس المنزلة، يعني من التيسير أو عدمه، فهنا تبني الأمر على انشراح الصدر لأحد الأمرين.
حكم اللعن على سبيل المزاح
س: ما حكم اللعن على سبيل المزاح؟
ج: اللعن على سبيل المزاح مُحرَّم بل من كبائر الذنوب، اللعن محرم؛ سواء كان جدا أو هزلًا، لا يجوز أن يجعل الإنسان مزحه باللعن، فهذه ليست من صفات المؤمنين؛ لأن هذا من صفات المنافقين، أنه إذا لقي بعضهم بعضًا قابله باللعن، بدل أن يقابله بتحية الإسلام وبالسلام وبالطيب من القول يقابله باللعن، فلا يجوز للإنسان أن يلعن ولو على سبيل المزاح.
التوبة من اللعن
س: ما هي التوبة من اللعن؟
ج: التوبة من اللعن كالتوبة من بقية الذنوب، وذلك بأن تتوفر شروط التوبة.
وشروط التوبة:
- الشرط الأول: الندم على فعل المعصية.
- الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب.
- الشرط الثالث: العزم على ألا يعود إليه مرة أخرى.
وإذا كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين فيشترط شرط رابع، وهو: التحلل من ذلك الآدمي الذي اعتدى عليه.
فلا بد من هذه الشروط، وإذا تخلف واحد منها لم تصح التوبة.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2441. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6069. |
^3 | رواه البخاري: 13، ومسلم: 45. |
^4 | رواه مسلم: 55، وذكره البخاري تعليقًا: 1/ 21. |
^5 | رواه الترمذي: 2032، وقال: حسنٌ. |
^6 | رواه البخاري: 6032. |
^7 | رواه الترمذي: 2818، وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^8 | رواه البخاري: 1367، ومسلم: 949. |
^9 | رواه الترمذي: 2018، وقال: حسنٌ. |
^10 | رواه البخاري: 6067. |
^11 | رواه مسلم: 91. |
^12 | رواه البخاري: 2736، ومسلم: 2677. |
^13 | رواه البخاري: 6105، ومسلم: 110. |
^14 | رواه البخاري: 48، ومسلم: 64. |
^15 | رواه البخاري: 435، ومسلم: 531. |
^16 | رواه البخاري: 5347. |
^17 | رواه مسلم: 1978. |
^18 | سبق تخريجه. |
^19 | رواه البخاري: 304، ومسلم: 80. |
^20 | رواه البخاري: 3339. |
^21 | رواه مسلم: 2699. |
^22 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
^23 | رواه البخاري: 1162، 6382، 7390. |