logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(66) أحكام الوديعة- حكم قبولها وتلفها والجهل بصاحبها

(66) أحكام الوديعة- حكم قبولها وتلفها والجهل بصاحبها

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

سبق أن تكلمنا في الحلقة السابقة عن حقيقة الوديعة شرعًا، وفرّعنا على ذلك الحديث عن ودائع البنوك، وهل تُعتبر ودائع بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، أو أنها وإن سُمّيت ودائع فهي في حقيقتها قروض.

وذكرنا أن القول الصحيح أنها قروض، وبيّنا وجه ذلك.

وننتقل في هذه الحلقة للحديث عن جملة أخرى من المسائل المتعلقة بالوديعة، فنقول:

حكم قبول الوديعة

قبول الوديعة مستحبٌ لمن علم من نفسه أنه ثقة قادرٌ على حفظها؛ لما في هذا من التعاون على البر والتقوى، والنبي  يقول: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه [1].

وقد كان النبي  توضع عنده الودائع لما كان بمكة قبل الهجرة إلى المدينة؛ وذلك لأمانته العظيمة، حتى إنه كان يُعرف قبل بعثته عليه الصلاة والسلام بالصادق الأمين.

وجاء في سنن البيهقي بإسنادٍ جيد: أن النبي  لما أراد الهجرة إلى المدينة أقام علي بن أبي طالب  ثلاث لياليٍ وأيامها، حتى أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله [2].

ولكن من لا يعلم من نفسه القدرة على حفظ الودائع فيُكره له قبولها حينئذ.

حكم الوديعة إذا تلفت

ومن أحكام الوديعة: أنها أمانة، فإذا تلفت من غير تعدٍ ولا تفريط من المودَع فليس عليه ضمان، سواءٌ ذهب معها شيءٌ من ماله أو لم يذهب.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وهذا قول أكثر أهل العلم، وقد روي ذلك عن أبي بكر وعلي وابن مسعود ، وبه قال شريح ومالك وأبو الزناد والثوري والشافعي وأصحاب الرأي؛ وذلك لأن الله تعالى سماها أمانة، والضمان ينافي الأمانة”.

ومراد الموفق رحمه الله بذلك أن الله تعالى سماها أمانة في قوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فسمّى الودائع أمانات.

وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده  أن النبي  قال: ليس على المودع ضمانٌ [3]، وهذا الحديث في سنده ضعف، ولكنه قد روي من طرقٍ متعددة لعله يرتقي بمجموعها إلى درجة الحسن.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ولأن المستودع إنما يحفظها لصاحبها متبرعًا من غير نفعٍ يرجع إليه، فلو لزمه الضمان لامتنع الناس من الاستيداع -أيْ من قبول الودائع؛ ولكن قد روي عن أنس بن مالك : أن عمر بن الخطاب ضمّنه وديعةً سُرِقت من بين ماله [4]، أخرجه البيهقي بسندٍ جيد، وقد أجاب العلماء عن هذا بأن عمر إنما ضمّن أنسًا إياها لكونه قد فرّط في حفظها، قال البيهقي رحمه الله: يحتمل أن أنسًا كان قد فرّط في حفظها فضمّنها إياه، أيْ ضمّن أنسًا تلك الوديعة بالتفريط..

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: ما روي عن عمر محمولٌ على التفريط من أنس في حفظها، فلا ينافي ما ذكرناه”.

وبهذا يتبين أيها الإخوة أن الوديعة إذا تلفت من غير تعدٍ من المودَع، ولا تفريطٍ منه أنه لا ضمان عليه، وأما إذا تعدى أو فرّط في حفظها فإنه يضمنها، قال الموفق: “بغير خلافٍ علمناه؛ لأنه متلفٌ لمال غيره فضمنه كما لو أتلفه من غير استيداع”.

هل شرط الضمان مُلزم للمودَع؟

ولكن ما الحكم فيما لو شرط المودِع على المودَع ضمان الوديعة، فقبِل المودَع بهذا الشرط، كما يوجد في بعض البنوك والمؤسسات المصرفية في الوقت الحاضر، حيث يوجد قسمٌ فيها لحفظ الأشياء النفيسة كالسبائك من الذهب والفضة ونحو ذلك، ويشترط المودِع على البنك ضمان تلك الوديعة ويقبل البنك بهذا الشرط.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن شرط المودِع على المستودَع ضمان الوديعة فقبِله أو قال: أنا ضامنٌ لها لم يضمن، قال أحمد في المودع إذا قال: أنا ضامنٌ فسُرِقت لا شيء عليه، وكذلك كل ما أصله الأمانة كالمضاربة ومال الشركة والرهن والوكالة، وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر؛ وذلك لأنه شرط ضمان ما لم يوجد سب ضمانه فلم يلزمه، كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه”.

وإذا كانت الوديعة أمانة في يد المودع فلا يضمنها عند تلفها بغير تعدٍ ولا تفريط، فإن المودَع أمينٌ فيُقبل قوله في دعوى تلف الوديعة أو في ضياعها أو سرقتها من غير تعدٍ منه ولا تفريط.

قال الموفق رحمه الله: “إذا ادعى المستودع تلف الوديعة فالقول قوله بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المودَع إذا أحرز الوديعة ثم ذكر أنها ضاعت أن القول قوله، وقال أكثرهم: مع يمينه”.

وأما إذا اختلف المودِع والمودَع في ردّ الوديعة، فقال المودَع: رددتها عليك، وقال المودِع: بل لم تردها عليَّ، فالقول قول المودَع لأنه أمين فيُقبل قوله في الردِّ من غير بيّنة.

حكم الوديعة إذا جُهِل صاحبها

ومن أحكام الوديعة: أن الوديعة إذا جُهِل صاحبها فلم يمكن الاهتداء إليه؛ فإن للمودَع أن يصرفها في وجوه البر بنية الصدقة عن صاحبها، فإن جاء صاحبها أو وارثه يومًا من الدهر أخبره بالواقع، فإن رضي بالصدقة بها عنه وإلا فإن على المودَع أن يضمن له قيمة الوديعة، ويكون للمودَع ثواب الصدقة بتلك الوديعة. والله تعالى أعلم.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2699.
^2 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 12697.
^3 رواه الدارقطني: 2961، بلفظ: “لا ‌ضمان على مؤتمن”.
^4 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 12702.
zh