عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي سوف نتحدث فيها إن شاء الله تعالى عن جُمْلةٍ من الأحكام المتعلقة بالوديعة، ونبتدئ أولًا بتعريف الوديعة في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء، وبمعرفة حقيقة الوديعة شرعًا؛ فنقول:
تعريف الوديعة
إن الوديعة في اللغة: فعيلة من ودَع الشيء إذا تركه، سُمّيت بذلك؛ لأنها متروكةٌ عند المودع.
وأما حقيقتها في الشرع: فهي اسمٌ للمال المودَع عند من يحفظه بلا عِوض.
والإيداع توكيلٌ في الحفظ تبرعًا، والاستيداع توكلٌ فيه.
وبهذا التعريف يتبين لنا أن المال المودَع يُعتبر أمانة عند الشخص المودع، يحفظه لصاحبه إلى حين أن يطلبه فلا يتصرف فيه.
حقيقة الودائع المصرفية
وهذا يقودنا إلى معرفة حقيقة الودائع المصرفية في الوقت الحاضر، هل هي بمعنى الودائع في الفقه الإسلامي؟ أو أنها في حقيقة الأمر قروض؟ بمعنى أن الإنسان إذا أتى للمصرف وأودع فيه مبلغًا من المال، فهل وضْعه للمال في المصرف من قبيل الوديعة يحفظها له المصرف إلى حين طلبها، أو أنه في حقيقة الأمر إقراضٌ منه للمصرف على أن يرد عليه المصرف مثل هذا المبلغ في أيّ وقتٍ يريد؟
نقول: إن وضْع المال في المصرفِ هو قرضٌ في حقيقة الأمر، فالمصرف هو المقترض والدافع لذلك المال هو المقرِض، وإن سُمّي هذا إيداعًا، فإن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ومما يدل على أن وضع المال في المصرِف أنه قرضٌ وليس بوديعة: أن المصرف يمتلك المال من حين وضعه فيه، ويكون له حق التصرف فيه، ويلتزم بردِّ مبلغٍ مماثلٍ عند الطلب، وهذه هي حقيقة القرض؛ فإن معنى القرض شرعًا دفع مالٍ لمن ينتفع به ويرد بدله، فلو كان هذا المبلغ الذي يوضع في المصرف وديعة لما كان للمصرف حق التصرُّف فيه، بل كان الواجب عليه حفظه لصاحبه بحيث لا يستخدمه في أي غرض ويرده بعينه إلى صاحبه.
ومما يدل لهذا أيضًا: أن المصرف يلتزم بردّ مبلغٍ مماثلٍ عند الطلب، ويكون ضامنًا لذلك عند تلف المبلغ بعد وضعه فيه، سواء كان ذلك التلف بتفريطٍ أو بغير تفريط، وهذا هو مقتضى عقد القرض، ولو كان وديعة لكان أمانة عند المودَع -الذي هو المصرف- فلا يضمنه عند التلف إلا إذا كان بتعدٍ أو تفريط.
وبهذا يتبين أن الأموال التي يضعها الناس في المصارف لأجل حفظها ويسمونها ودائع أنها في حقيقة الأمر قروضٌ وليست بودائع.
حكم هدايا المصارف للمودعين فيها
وبناءً على هذا فإنه ينطبق عليها ما ينطبق على القروض من أحكام، وقد سبق أن تكلمنا عن هذه الأحكام في حلقة سابقة، وفصّلنا الحديث فيها، ومن أبرز تلك الأحكام: أنه لا يجوز للمقترض أن يُهْدي للمقرِض أية هديةٍ قبل وفاء القرض مطلقًا، ما لم تكن العادة جاريةً بينهما بالتهادي قبل القرض.
وحيث إننا قد قلنا بأن الإيداع في المصارف أنه في حقيقته قرضٌ وليس بوديعة، فإن المقرض هو المودع، والمقترض هو المصرف، وبناءً على هذا فلا يجوز للمصرف أن يُهْدِي للمودِع مطلقًا، والواقع أن بعض المصارف تهدي للمودعين فيها هدايا بأشكالٍ متنوعة، إما جهلًا بالحكم الشرعي في ذلك أو تساهلًا.
فنقول: لا يجوز للمصارف أن تُهدي تلك الهدايا مطلقًا، ولا يجوز للمودعين فيها أن يقبلوها.
نعم لو أن المودع سحب رصيده كاملًا من المصرف فأهدى له المصرف بعد السحب هدية من غير شرطٍ سابقٍ بينهما ولا عُرْف، فإن هذا يُعتبر من قبيل الإحسان في وفاء القرض، وهو جائزٌ ولا بأس به، بل مندوب إليه؛ لقول النبي لمن استسلف منه بكرًا: أعطوه سنًا خيرًا من سنه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءً.
وبهذا التقرير يتبين لنا أن العلاقة بين المصرف وبين العملاء المستفيدين من الحساب الجاري هي علاقة مقترض بمقرض، فلا يجوز للمصرف أن يعطي العميل أي زيادةٍ على ما أودعه.
حكم أخذ المصارف رسومًا على فتح الحساب
والغالب أن المصارف لا تفرض رسومًا على العملاء المستفيدين من الحساب الجاري، ولكن إذا انخفض رصيد العميل في الحساب الجاري عن مبلغٍ معيَّن، أو أراد أن يفتح حسابًا جاريًا بمبلغٍ قليل، فإن كثيرًا من المصارف تفرض عليه رسومًا، فما حكم هذه الرسوم؟
نقول: إن فرض هذه الرسوم على العميل عندما يقل رصيده، أو عندما يريد أن يفتح حسابًا بمبلغ قليل إنما هو مقابل الخدمات التي يقدمها المصرف للعميل؛ ذلك أن فتح حسابٍ للعميل أو الإبقاء على حسابه يتضمن تكاليف إدارية ورقابية ومحاسبية كثيرة كما لا يخفى، ومن المقرر عند كثيرٍ من العلماء أن ما تأخذه المصارف من عملائها مقابل خدمات فعلية حقيقة أنه لا بأس به.
وبهذا يتبين أن أخذ رسمٍ من العميل مقابل فتح حسابٍ جارٍ بمبلغ قليل، أو مقابل الإبقاء على حسابه مفتوحًا في حالة انخفاض رصيده: أن ذلك لا بأس به -والله تعالى أعلم-، خاصة أن المصرف في هذه الحال يُعتبر مقترضًا لا مقرضًا، فليس هناك مجالٌ للشبهة في اختلاط الأجر بالربا؛ لأن المحذور إنما هو في الزيادة التي يتقاضاها المقرض من المقترض.
ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الوديعة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
نلتقي بكم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.