إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
لا يزال الكلام موصولًا عن أحكام الإتلافات، ونتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام إتلافات البهائم، ما الذي يُضمن منها وما الذي لا يُضمن؟
وماذا عن حوادث الطرق التي تقع بسبب اعتراض البهائم السائبة؟ فنقول:
حكم جناية البهائم
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: العجماء جرحها جبار [1]، وفي رواية عند البخاري: العجماء عقلها جبار [2].
والعجماء هي: البهيمة، وقوله: عقلها أيْ: ديتها، وقوله: جبار أيْ: هدرٌ لا شيء فيه.
قال الترمذي: “فسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: العجماء: الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت من انفلاتها فلا غُرْم على صاحبها”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كل بهيمة عجماء كالبقر والشاة وغيرها، فجناية البهائم غير مضمونة إذا فعلت بنفسها، كما لو انفلتت ممن هي بيده وأفسدت فلا ضمان على أحد، ما لم تكن عقورًا، ولا فرّط صاحبها في حفظها في الليل أو في أسواق المسلمين ومجامعهم، وكذا قال غير واحد: إنه إنما يكون جبارًا إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائدٌ ولا سائقٌ إلا الضارية”.
ما يُضمن من جناية البهيمة؟
فتبين بهذا أن الأصل في جناية البهيمة أنه هدر، وقد استثنى جمهور الفقهاء من ذلك ما إذا كانت البهيمة في يد إنسانٍ كالراكب والسائق ونحو ذلك؛ فإنه يضمن ما أتلفته البهيمة في الجُمْلة؛ لأنه يمكن حفظها من الجناية، وحديث: العجماء جرحها جبارٌ محمولٌ على من لا يد له عليها.
وقد دلّت السنة على أن ما أفسدته المواشي بالنهار فإنه غير مضمون، وما أفسدته بالليل فإنه مضمونٌ على أهل تلك المواشي، ففي حديث حرام بن سعد بن محيّصة: “أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط قومٍ -أيْ بستانًا- فأفسدت فيه، فقضى النبي أن على أهل الحوائط -أيْ أهل البساتين- حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنٌ على أهلها” [3]، وهذا الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وكذا أخرجه أبو داود وأحمد.
وقال الحافظ ابن عبدالبر: “هذا الحديث وإن كان مرسلًا فهو مشهور، وحدّث به الأئمة الثقات”. انتهى كلامه رحمه الله، على أن هذا الحديث قد أخرجه أبو داود وغيره من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيّصة عن البراء بن عازبٍ به.
قال الإمام البغوي رحمه الله: “ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها، وما أفسدته بالليل ضمنه مالكها؛ لأن في العُرْف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي يحفظونها بالليل، فمن خالف هذه العادة كان خارجًا عن العُرْف، هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها، فإن كان معها فعليه ضمان ما أفسدته”.
وقد ذكر الله تعالى قصة داود وسليمان عليهما السلام، وحكمهما في ذلك، قال جل وعلا: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78-79] والنفْش معناه: الرعي ليلًا.
قال ابن مسعود : “هو كرْمٌ -أيْ عنب- قد أنبت عناقيده فأفسدته، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله!! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها. فذلك قول الله : فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “صحّ بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل؛ فإن النفش: رعْي الغنم ليلًا، وكان ببستان عنبٍ فحكم داود بقيمة المتلَف، فاعتبر الغنم، فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، وقضى سليمان بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان، ولم يضيّع عليهم مغلّه من حين الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم، واعتبر الضمانين فوجدهما سواء، وهذا هو العلم الذي خصّه الله تعالى به وأثنى عليه بإدراكه”.
حكم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة
وماذا عن المواشي السائبة التي تعترض الطرق العامة، وربما تتسبب في حوادث للمارّين بالسيارات، خاصة الجمال السائبة؟
أقول: قد درس مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذا الموضوع في دورته الثانية والعشرين، وأصدر فيها قرارًا بعدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق المعبّدة بالأسفلت إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطرق المذكورة، وهي هدْرٌ وصاحبها آثمٌ بتركها وإهمالها؛ لما يترتب على ذلك من أخطارٍ جسيمة تتمثّل في إتلاف الأنفس والأموال، وفي تكرار الحوادث المفجعة، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق والأخذ بالحيطة في حفظ الأموال والأنفس تحقيقًا للمقتضى الشرعي، وتحرّيًا للمصالح العامة، وامتثالًا لأمر ولي الأمر في ذلك.
فإذًا قرار الهيئة في هذا هو أن تلك البهائم التي تعترض هذه الطرق المعبّدة أنها هدَرٌ على صاحبها، وأنها غير مضمونة بحال، سواء كان اعتراضها بالليل أو بالنهار.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.