عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة من هذا البرنامج، والذي وصلنا فيه عند بحثنا لمسائل فقه المعاملات، إلى باب الغصب، فنتحدث في هذه الحلقة عن جُملة من المسائل التي تُذكر في هذا الباب؛ فنقول:
تعريف الغصب وحكمه
- الغصب، معناه في اللغة: أخذ الشيء ظلمًا.
- وأما معناه في اصطلاح الفقهاء: فهو الاستيلاء على حق غيره قهرًا بغير حق.
وهو محرّمٌ بإجماع المسلمين، قال الله : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ولا شك أن الغصب من أعظم ما يكون به أكل المال بالباطل.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة أنّ النبي قال: إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام [1]، وفي صحيح مسلم عن أبي أُمامة أنّ رسول الله قال: من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرّم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك [2].
ويقول النبي : لا يحل مال امرئٍ إلا بطيب نفس منه [3]، وليس اغتصاب الأموال مقصورًا على الاستيلاء عليها بالقوّة فحسب، بل يشمل كذلك الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة، والأيمان الفاجرة، وحكم القاضي لا يبيح للإنسان أن يأخذ ما ليس له؛ لأن القاضي بشر ويحكم بالبينات، وبما يظهر له، كما قال النبي : إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نارٍ يأتي بها في عنقه يوم القيامة [4].
ما الذي يلزم الغاصب؟
يلزم الغاصب أن يرد المغصوب إلى صاحبه؛ إذ لا تصح توبته إلا بذلك، وينبغي له حينئذٍ أن يطلب منه العفو، وأن يتحلل منه، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم، إن كان له عملٌ صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه [5].
وعند رد الغاصب للمغصوب، فيلزمه أن يرده بزيادته، سواء كانت متصلة أو منفصلة؛ لأنها نماء المغصوب فهي لمالكه، كالأصل، بل يلزمه دفع أجرة مثلها؛ لأنه منع صاحبها من الانتفاع بها في هذه المدة بغير حق.
هل يجوز قتل المعتدي دفاعًا عن المال أو النفس؟
ومن اعتُدي عليه لأخذ ماله، فيجوز له الدفاع عن ماله، ولو بقتل المعتدي، ولكن يدفعه أولًا بأسهل ما يمكنه دفعه به، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله، ودم هذا المعتدي هدرٌ؛ لأنه لا ضمان على القاتل في هذه الحال، ولكن لا بد من إقامة البيّنة على أن هذا المقتول قد اعتُدي عليه لأخذ ماله، وأنه لم يندفع إلا بالقتل.
فإن عجز عن إقامة البيّنة فالأصل أنه يُقتص به منه إذا توفّرت شروط القصاص؛ لأنه لو قُبِل قوله بدون بيّنة لادعى كل قاتل بأن المقتول أراد التعدي عليه، أو التعدي على ماله، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: “جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ فقال النبي : فلا تعطه مالك قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار” [6].
وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: من قُتِل دون ماله فهو شهيد [7].
وما قلناه في الاعتداء لأخذ المال يقال أيضًا في الاعتداء على النفس وعلى العرض، فيدافع الإنسان عن نفسه، وعن عرضه، يدافع بأسهل ما يمكن دفع المعتدي به، فإن لم يندفع إلا بالقتل جاز له قتله، ولكن لا بد من إقامة البيّنة على ذلك، وإلا فإنه يقاد منه به إذا توفرت شروط القصاص.
هل يلزم الإنسان الدفاع عن نفسه وماله وعرضه؟
ولكن هل يلزم الإنسان الدفاع عن نفسه وماله وعرضه؟
نقول: أما ماله فلا يلزمه الدفاع عنه؛ لأنه يجوز له بذله لغيره، وهبته له، فلم يجب عليه الدفاع عنه.
وأما الدفاع عن نفسه وعن عرضه، وعن عرض محارمه، فيلزمه ذلك، ولكن يدفع المعتدي بأسهل ما يكون، فإن لم يندفع إلا بالقتل، فينبغي له أن يحرص على إقامة البيّنة على ذلك حتى لا يقاد به.
واستثنى بعض الفقهاء من ذلك حال الفتنة، فقالوا: إنّ الدفاع عن النفس حال الفتنة جائزٌ لا واجب؛ لحديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : إنّ بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، فإن أدركتك فكن عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل وفي رواية: فكن كخير ابني آدم [8]، أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “هذا الذي تسميه الفقهاء (الصائل) وهو الظالم بلا تأويلٍ ولا ولاية، فإن كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإن لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز.
وأما إذا كان مطلوبه -أي الصائل- الحرمة، مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان، أو يطلب من المرأة، أو من الصبي الفجور به؛ فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال، بخلاف المال، فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائزٌ، وبذل الفجور بالنفس أو الحرمة غير جائز”.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية