عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أصناف أهل الزكاة، وفي هذه الحلقة نستكمل الحديث عن بقية مصارف أهل الزكاة، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن مصرف في سبيل الله، وابن السبيل.
أهل الزكاة
الصنف السابع: في سبيل الله
والمراد بمصرف في سبيل الله عند جمهور العلماء: الغزاة في سبيل الله الذين لا ديوان لهم، أيْ ليس لهم رواتب مستمرة؛ وإنما هم متطوّعون في جيش المسلمين، وفي الوقت الحاضر أصبحت الدول الإسلامية تُعطي أفراد جنود جيوشها مرتبات مستمرة، وعلى هذا فهؤلاء الجنود لا يدخلون في مصرف في سبيل الله، ولا تحل لهم الزكاة لأجل ذلك.
ومن أهل العلم من وسّع مفهوم في سبيل الله، ورأى أنه يشمل جميع وجوه البر، فكل أعمال البر تدخل في هذا المصرف، فيشمل هذا المصرف عندهم بناء المساجد، وإصلاح الطرق، وبناء المدارس، وطباعة الكتب، ونحو ذلك مما يقرِّب إلى الله .
ولكن هذا القول قولٌ ضعيف فيما يظهر والله تعالى أعلم؛ لأننا لو فسّرنا الآية بهذا المعنى لم يكن للحصر المذكور في قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ… [التوبة:60] إلى آخر الآية لم يكن له فائدة.
ثم لو كان المقصود بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ جميع وجوه البر لشمل ذلك الأصناف السبعة المتبقية، ولقال: إنما الصدقات في سبيل الله، وشمل ذلك الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وبقية الأصناف، ولهذا قال المباركفوري رحمه الله عن هذا القول -أعني القول بأن مصرف في سبيل الله يشمل جميع وجوه البر-، قال: “هذا القول هو أبعد الأقوال؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة، ولا من إجماع، ولا من رأي صحابي، ولا من قياسٍ صحيح أو فاسدٍ، بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد رضي الله عنه: لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل، أو رجلٌ له جارٌ مسكينٌ تصدَّق عليه فأهدى له [1].
قال رحمه الله: ولم يذهب إلى هذا التعميم أحدٌ من السلف، إلا ما حكى القفّال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين”.
وقد بُحثت هذه المسألة -أعني المراد بمصرف في سبيل الله- في مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وأصدر المجلس فيه قرارًا: بأن المقصود بمصرف في سبيل الله الجهاد في سبيل الله تعالى فقط، وأنه لا يشمل كل عمل برٍّ وخير.
هل الجهاد بالكلمة يدخل في مصرف في سبيل الله؟
ولكن هل ينحصر مفهوم الجهاد في سبيل الله على الجهاد بالسلاح فقط، أو أنه يشمل الجهاد بالكلمة كذلك؟
لو تأمّلنا بعض الآيات القرآنية المكيّة نجد أن الله تعالى ذكر فيها الجهاد؛ كما في قول الله سبحانه في سورة الفرقان: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، وهذه الآية في سورة الفرقان وهي مكية، ومعلومٌ أَنَّ النَّبِيَّ في مكة كان ممنوعًا من الجهاد بالسيف، وإنما كان مأمورًا بالجهاد بالكلمة فقط.. بالجهاد بالقرآن والحُجّة والبيان، كان عليه الصلاة والسلام يرى الأصنام تعلَّق على الكعبة، ويمنع أصحابه، وينهاهم عن أن يكسّروها، أو أن يقابلوا المشركين بالسلاح، فكان الجهاد بالسلاح ممنوعًا على المسلمين في ذلك الوقت؛ لأن المسلمين كانوا في حالة ضعف، فليس من الحكمة أن يبدؤوا بالجهاد بالسيف.
ولكن لما هاجر النبي إلى المدينة، وتكوّنت الدولة الإسلامية، وأصبح للمسلمين قوة ومَنَعَة أُمِر بالجهاد بالسيف؛ كما في قول الله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].
إذن، فالنبي في الفترة المكية لما كان في حالة الضعف كان ممنوعًا من الجهاد بالسيف، لكنه كان مأمورًا بالجهاد بالكلمة والحُجّة والبيان، وتبليغ القرآن: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، وَقَوْلُهُ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ أيْ جاهدهم بالقرآن، فانظر كيف أن الله تعالى وصفه بالجهاد بقوله: جِهَادًا، ثم وصف الجهاد بالكبير: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا، وأحيانًا يكون الجهاد بالحُجَّة والبيان يكون أقوى في الأثر من الجهاد بالسلاح.
ثم إن الله لما أمر بجهاد المنافقين، قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، ومعلومٌ أن المنافقين تحت قهر أهل الإسلام فلا يجاهدون بالسلاح، وإنما جهادهم يكون بالحُجَّة والبيان.
ومما سبق أيها الإخوة يتبيَّن أن الله تعالى جعل الجهاد بالحُجَّة والبيان، وتبليغ القرآن؛ جعله جهادًا، وسماه جهادًا، بل جهادًا كبيرًا، وعلى هذا فإنه يدخل في مسمى الجهاد في سبيل الله، ويدخل ذلك في مصرف في سبيل الله تعالى.
ثم إن الجهاد بالسيف هو في الحقيقة إنما شُرِع من أجل نشر دعوة الإسلام، ولهذا فإن الكفار إذا أسلموا أو أنهم كانوا مسالمين ولم يقفوا في سبيل نشر دعوة الإسلام فلا حاجة لقتالهم بالسيف.
وعلى هذا نقول: إن الجهاد بالكلمة يدخل في مسمى الجهاد في سبيل الله، ويدخل ذلك في مصرف في سبيل الله، فيجوز أن تُبذل الأموال في كل ما تمحَّض في أمور الدعوة إلى الله ، فيدخل في هذا القسم مراكز الدعوة إلى الله تعالى التي مهمتها الدعوة إلى الله ، فيجوز أن تُدفع الزكاة إليهم؛ لأنهم في الحقيقة يقومون بنوعٍ من الجهاد في سبيل الله .
والجهاد كما ذكرنا لا ينحصر في الجهاد بالسلاح، وإنما يشمل الجهاد بالكلمة، وهذه المراكز هي في الحقيقة تقوم بالجهاد بالكلمة والبيان، وتبليغ رسالة الإسلام، وتبليغ القرآن، ولا شك أن هذا من أعظم أنواع الجهاد، وهو الجهاد الذي قام به النبي في الفترة المكية، فإنه قام بهذا النوع من الجهاد الذي أمره الله تعالى به، ووصفه بأنه جهادٌ كبير: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52] أيْ جاهدهم بتبليغ هذا القرآن جهادًا كبيرًا.
حكم دفع الزكاة إلى مراكز الدعوة
يجوز دفع الزكاة إلى مراكز الدعوة إلى الله ليس لأن مصرف في سبيل الله يشمل كل خيرٍ وكل برٍّ، قلنا إن هذا القول قولٌ ضعيف، ولكن من باب أنهم يقومون بنوع من الجهاد في سبيل الله ، وأن مصرف في سبيل الله القول الصحيح فيه أن المقصود به الجهاد في سبيل الله، وأن الجهاد في سبيل الله لا ينحصر في الجهاد بالسلاح، وإنما يشمل الجهاد بالكلمة، والجهاد بالحُجَّة والبيان، والجهاد بتبليغ رسالة الإسلام، والجهاد بتبليغ القرآن، فيشمل المراكز والمكاتب التي أُنشئت لتبليغ الإسلام، والدعوة إلى الله ، فيجوز أن تُدفع الزكاة إليهم، والله تعالى أعلم.
المصرف الثامن: ابن السبيل
والسبيل هو الطريق، وابن السبيل أي المسافر الذي قد انقطع به السفر؛ وذلك لنفاد نفقته، فليس معه ما يوصله إلى بلده، ولا يُشترط ألا يكون عنده مال، فقد يكون عنده مالٌ في بلده، وقد يكون من أغنى الناس في بلده، لكنه قد انقطع به السفر؛ فهو في هذه الحال محتاجٌ فيجوز دفع الزكاة إليه، بأن يُدفع له من الزكاة ما يوصله إلى بلده.
وعلى هذا فلو أن رجلًا أتى مثلًا للحج أو للعمرة، ثم إنه ضاعت نفقته أو سُرِقت نفقته فيجوز أن يُعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة؛ ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أحمد: 11538، وابن خزيمة: 2374، والدارقطني: 1997. |
---|