الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
تحدثت معكم في حلقات سابقة من هذا البرنامج عن أحكام ومسائل الطهارة والصلاة، وأنتقل بكم بعد ذلك للحديث عن مسائل وأحكام الزكاة، وأبتدئ بتعريف الزكاة.
تعريف الزكاة
فالزكاة لغة: النماء والزيادة، يقال: زكى الزرع إذا نمى وزاد، وتُطلق على التطهير والصلاح، ومنه قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].
ومعناها شرعًا: التعبُّد لله تعالى بإخراج جزءٍ واجب شرعًا في مالٍ معيّنٍ لجهة مخصوصة.
متى فرضت الزكاة؟
قد اختلف العلماء في وقت فرضية الزكاة، فقال بعضهم: إنها فُرضت في مكة قبل الهجرة، وقال آخرون: إنها فُرضت في المدينة بعد الهجرة، والأظهر والله تعالى أعلم أن أصل فرضها كان في مكة، ولكن تفاصيل أحكامها من تقدير أنصبائها وتقدير الأموال الزكوية وتبيان أهلها فهذا في المدينة؛ وذلك لأنه قد وردت آياتٌ مكّية فيها الأمر بالزكاة في قول الله : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4].
ولكن الأحاديث الواردة في بيان أنصباء الزكاة وتفاصيل أحكامها إنما كانت في المدينة بعد الهجرة، فقد كان المسلم في مكة قبل الهجرة مأمورًا بإخراج أيِّ شيءٍ تطيب به نفسه من غير تحديدٍ بمقدارٍ معيَّن، ثم بعد الهجرة جاءت الأحاديث بتحديد المخرج والأنصباء وتفاصيل الأحكام.
وقد رجّح هذا القول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، قال رحمه الله: “قد كان يجب إخراج شيءٍ في الأصل في مكة، ثم في السنة الثانية من الهجرة فُصِّل بيانه وبُيِّن مقدار المخرج وكمّيته”.
ولعل الحكمة من فرضية الزكاة على هذا النحو هو تهيئة النفوس وإعدادها لتقبُّل هذا الأمر، حيث إن الإنسان يُخرج من ماله الذي يحبه حبًّا جمًّا، فلما تهيأت النفوس بقبول ما يُفرض عليها فرضه الله تعالى مبيَّنًا مفصلًا في المدينة.
وفرض الزكاة على هذا النحو يدل على عظمة هذه الشريعة التي راعت أحوال النفوس في التدرُّج بالإلزام بالتكاليف الشرعية لقومٍ لم يألفوها من قبل، وكما أن هذا في الزكاة فهو كذلك في الصيام، فكان في ابتداء فرضيته كان الإنسان مخيّرًا بين الصيام والإطعام، ثم نُسخ ذلك بإيجاب الصيام عينًا، وكما في تحريم الخمر حيث لم يأت تحريم الخمر دفعة واحدة، وإنما أتى بالتدرُّج ولا غرو في ذلك، فهذه الشريعة من لدن حكيم خبير هو الخالق للبشر، وهو العليم بأحوال النفوس، وهو بكل شيءٍ عليم.
حكم الزكاة
والزكاة ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضة من فرائض الدين، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وبعد الصلاة، وقد أجمع المسلمون على ذلك في جميع الأعصار والأمصار، واتفق الصحابة على قتال مانع الزكاة، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: “لما توفي رسول الله وكان أبو بكرٍ وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق” [1].
قال النووي رحمه الله: “والصحابة اختلفوا أولًا في قتال مانعي الزكاة، ورأى أبو بكر قتالهم واستدل عليهم، فلما ظهرت لهم الدلائل وافقوه فصار قتالهم مجمعًا عليه”.
وقال بعض العلماء المعاصرين: “الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر هي أول دولة في تاريخ البشرية تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة في المجتمع”.
حكم تارك الزكاة
من ترك الزكاة جاحدًا لوجوبها فهو كافرٌ كفرًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام بإجماع العلماء.
ولكن من تركها بخلًا أو تهاونًا وكسلًا فهل يكفر؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، والقول الراجح -والله تعالى أعلم- أنه لا يكفر؛ لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار فأُحمي عليها في نار جهنم فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار [2].
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله عليه الصلاة والسلام: ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار يدل على عدم كفر مانع الزكاة بخلًا أو تهاونًا؛ لأنه لو كان كافرًا لم يكن له سبيلٌ إلى الجنة، ولكن حتى مع القول بعدم كفره فإن الوعيد الوارد في هذا الحديث وفي غيره من النصوص في حق مانع الزكاة شديد، يقول الله : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34-35].
وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ما من صاحب مالٍ لا يؤدي زكاته إلا تحوَّل يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفرّ منه، ويقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل [3].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من أتاه الله مالًا فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول: أنا مالُك! أنا كنزك! ثم تلا رسول الله قول الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]” [4].
هذا بعض ما ورد في شأن مانعي الزكاة في الآخرة.
ما يلحق مانعي الزكاة من العقوبة
وقد يلحق مانع الزكاة بعض أنواع العقوبة في الدنيا قبل الآخرة من ضياع المال أو بعضه، أو سرقته أو حتى نزع البركة منه.
وإن العاقل ليعجب من تشبّث بعض الناس بالمال وتعلّقهم به تعلّقًا يؤدي إلى منعهم إخراج الزكاة منه، فتجد الواحد منهم في الدنيا إنما هو في الحقيقة بمثابة الحارس لهذا المال، يحرسه حراسة قويّة محكمة طيلة حياته، يحرسه للورثة من بعده فينتقل هذا المال الذي تعب هذا الإنسان وكدّ في جمعه وتحصيله، ينتقل بمجرد وفاته غنيمة باردة للورثة من بعده، وربما أن هؤلاء الورثة لا يحمدون ومورّثهم على ذلك؛ لهم غنمها، وعليه غُرمها، هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فيتحول هذا المال إلى شجاعٍ أقرع له زبيبتان يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفرّ منه، وهذا الشجاع الأقرع يلحقه وهو يقول: أنا مالُك .. أنا كنزك.. أنا مالُك! .. أنا كنزك الذي كنت تبخل به! حتى إذا تعب وملّ من كثرة الملاحقة أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل.
فقولوا لي بالله تعالى: ماذا استفاد هذا الإنسان من هذا المال؟! الواقع أنه لم يستفد منه شيئًا، بل عاد هذا المال وبالًا عليه في الدنيا والآخرة، وهذا كله بسبب النظرة غير الصحيحة للمال ومخالفة أمر الله تعالى بإخراج الحق الذي فرضه في هذا المال وهو الزكاة.
وماذا لو أن هذا الإنسان نظر لهذا المال النظرة الصحيحة فأخرج حق الله منه وأكل وأنفق وتصدّق، وأكرم منه الضيف ووصل رحمه؛ فإن هذا المال سيكون بركة عليه في الدنيا والآخرة، والموفَّق من وفّقه الله تعالى.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.