عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج.
أيها الإخوة:
تحدثنا في الحلقة السابقة عن جملةٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بالطهارة، ونتحدث معكم في هذه الحلقة عن ثلاث مسائل في هذا الباب:
فنتحدث أولًا: عن حكم طهارة الرجل بفضل طهورٍ المرأة.
ثم نتحدث ثانيًا: عن ماء زمزم، وهل يجوز التوضؤ والاغتسال به أم لا؟ ثم نتحدث عن حكم الماء الذي غمست فيه اليد بعد الاستيقاظ من النوم.
حكم طهارة الرجل بفضل طهور المرأة
ونبدأ أولًا بالمسألة الأولى، وهي: حكم طهارة الرجل بفضل طهور المرأة، فنقول:
قد أخرج أبو داود والنسائي عن رجلٍ صحب النبي قال: “نهى رسول الله : أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعًا”[1]. قال الحافظ ابن حجرٍ في “بلوغ المرام”: “إسناده صحيح”[2].
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
فمنهم من أخذ بظاهر هذا الحديث، فقالوا: ليس للرجل الطهارة بفضل طهور المرأة إذا خَلَت به، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: “جماعةٌ -أي من أصجاب رسول الله – كرهوه؛ منهم: عبدالله بن عمرٍو، وعبدالله بن سَرْجِسَ”. قال: “وخصصناه بالخلوة؛ لقول عبدالله بن سَرْجِسَ رضي الله عنه: “توضأ أنت هاهنا، وهي هاهنا، فأما إذا خَلَت به فلا تقربنه”.
ولكن ما المراد بخلوة المرأة في هذه المسألة؟
قال المرداوي رحمه الله تعالى في “الإنصاف”: “في معنى الخلوة روايتان:
إحداهما: المذهب عند الحنابلة أنه: عدم المشاهدة عند استعمالها من حيث الجملة.
والرواية الثانية: أن معنى الخلوة: انفرادها بالاستعمال، سواءٌ شوهدت أو لا” [3].
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل طهور المرأة، حتى وإن خلت به، وهذا هو قول أكثر أهل العلم، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.
واستدلوا بما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها[4].
وفي روايةٍ لأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة فجاء يغتسل منها، فقالت: إني كنت جنبًا، فقال: إن الماء لا يجنب [5].
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: “والظاهر: خلوها به؛ لأن العادة أن الإنسان يفضل الخلوة في غسل الجنابة”[6].
والقول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو ما ذهب إليه الجمهور؛ من أنه يجوز للرجل أن يتطهر بفضل طهور المرأة، وأن حدثه يرتفع بذلك؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، فإن حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما في اغتسال النبي بفضل طهور إحدى زوجاته صحيح في هذه المسألة، وهو في صحيح مسلم؛ ولهذا قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: “وهذا القول أقيس إن شاء الله تعالى” [7].
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.
بقي أن يقال -على ترجيح هذا القول، وهو أن للرجل التطهرَ بفضل طهور المرأة- ما الجواب عن الاستدلال بنهي النبي أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، والرجل بفضل المرأة؟
وسبق أن قلنا: إنه حديثٌ صحيحٌ من جهة الإسناد، نقول: إن النهي في هذا الحديث ليس على سبيل التحريم، وإنما يُحمل على سبيل الأولوية وكراهة التنزيه؛ جمعًا بين النصوص الواردة في هذه المسألة.
ويجوز للرجل وزوجته أن يغتسلًا جميعًا من إناءٍ واحدٍ من غير كراهةٍ، وقد أخرج البخاري ومسلم في “صحيحيهما” عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناءٍ واحدٍ، تختلف أيدينا فيه من الجنابة” [8].
حكم الوضوء والاغتسال بماء زمزم
وأما المسألة الثانية: وهي ماء زمزم هل يجوز التوضؤ والاغتسال به؟
نقول: أما التوضؤ بماء زمزم فلا يكره؛ لما جاء في حديث عليٍّ أن النبي وقف بعرفة وهو مردفٌ أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، وفيه: “ثم أفاض رسول الله فدعا بسَجْلٍ من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ”، وهذا الحديث رواه عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد المسند بسند حسن [9].
وأما استخدام ماء زمزم في إزالة الخبث فقد نص كثيرٌ من الفقهاء على كراهته.
وأما الاغتسال بماء زمزم:
فمنهم من قال: يكره الاغتسال به؛ لقول العباس رضي الله عنه: “لا أحلها للمغتسل”.
ومنهم من قال: “لا يكره؛ لأنه إذا جاز التوضؤ به فالاغتسال كذلك.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الكراهة إنما تختص بغسل الجنابة، وهذا القول الأخير هو قولٌ وسطٌ بين القولين.
والحاصل: أن ماء زمزم يجوز التوضؤ به من غير كراهةٍ، ويكره استخدامه في إزالة النجاسة، وأما الاغتسال به فالقول الأظهر في هذه المسألة، هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو: أن الكراهة إنما تختص بغسل الجنابة دون غيره.
حكم الماء الذي غمست فيه اليد بعد الاستيقاظ من نوم الليل
وننتقل للحديث عن المسألة الثالثة، وهي: حكم الماء الذي غمست فيه اليد بعد الاستيقاظ من نوم الليل.
نقول: اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فمنهم من قال: إن هذا الغمس يسلب الماء طهوريته، فيصبح طاهرًا غير مطهرٍ، فلا يجوز استعماله في الطهارة، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
والقول الثاني: أن هذا الغمس لا يسلب الماء طهوريته، وإليه ذهب جمهور الفقهاء، وهو روايةٌ عند الحنابلة.
والأصل في هذه المسألةِ: هو حديث أبي هريرة أن النبي قال: إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده [10]، متفقٌ عليه.
وقد استدل أصحاب القول الأول بهذا الحديث على أن غمس اليد في الإناء من قائمٍ من النوم يسلب هذا الماء طهوريته.
وأما أصحاب القول الثاني، وهم الجمهور، قالوا: إن هذا الحديث لا يدل على أن القائم من النوم إذا غمس يده في الإناء سلب طهوريته.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: “وهذا القول -يعني قول الجمهور- هو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن الماء قبل الغمس كان طهورًا، فيبقى على الأصل”. قال: “ونهي النبي عن غمس اليد، إن كان لوهم النجاسة، فالوهم لا يزيل الطهورية كما لم يُزل الطهارة، وإن كان تعبدًا اقتصر على مورد النص، وهو: مشروعية الغسل”، انتهى كلامه رحمه الله [11].
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى: “الصحيح: أن ما غمست فيه اليد بعد الاستيقاظ من نوم الليل، أنه طهور؛ لأنه لم يتغير بشيءٍ نجسٍ، ولا قال الشارع: إنه طاهرٌ غير مطهرٍ، وإنما نهى النبي المستيقظ عن غمسها قبل غسلها، وهذا من الآداب الشرعية، فالنهي مسلَّمٌ، وأما كونه يدل على نجاسة الماء، أو على أنه طاهرٌ غير مطهرٍ، فليس فيه ما يدل على ذلك”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
حكمة النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها
وأما الحكمة من النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، فهي منصوصٌ عليها في الحديث، وهي: قوله : فإنه لا يدري أين باتت يده، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار؛ وذلك أن قوله : فإنه لا يدري أين باتت يده: إشارة إلى أن الباعث على الأمر بذلك الغسل هو: احتمال النجاسة؛ لأن الشارع إذا ذكر حكمًا وعقَّبه بعلةٍ، دل على أن ثبوت الحكم إنما كان لأجلها.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: “كان أهل الحجاز يستجمرون بالأحجار، وبلادهم حارةٌ، فإذا نام أحدهم لا يأمن النائم من أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على قذرٍ، ونحو ذلك”.
أيها الإخوة المستمعون:
هذا أدب من الآداب التي أرشد إليها المصطفى لمن قام من النوم، وهو: أن يغسل يدَه قبل أن يغمسها في الإناء ثلاث مراتٍ، ونظير هذا ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة أن النبي قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثًا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه [12].
أيها الإخوة المستمعون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | أبو داود: 81، والنسائي: 238. |
---|---|
^2 | بلوغ المرام: 7. |
^3 | الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: 1/ 87. |
^4 | مسلم: 323 |
^5 | رواه أبود داود: 68، والترمذي: 65، والنسائي: 324، وابن ماجه: 370، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. |
^6 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 22 |
^7 | الشرح الكبير على المقنع: 1/ 22. |
^8 | البخاري: 273، ومسلم: 321. |
^9 | رواه أحمد: 564. |
^10 | رواه البخاري: 162، ومسلم: 278. |
^11 | الشرح الكبير على المقنع: 1/ 67. |
^12 | رواه البخاري: 3295، ومسلم: 23. |