عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتى بهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن صلاة أهل الأعذار، وقد سبق الحديث في الحلقات السابقة عن أحكام صلاة المريض، وننتقل بعد ذلك للحديث عن أحكام صلاة المسافر.
تعريف السفر
والسفر في اللغة: مفارقة محل الإقامة، وسُمّي بذلك؛ لأن الإنسان يسفر بذلك عن نفسه، فبدلًا من أن يكون مكنونًا في بيته أصبح بارزًا، ومنه قول الله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [المدثر:34]، أيْ: تبيّن وظهر.
وقيل: إنما سُمّي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي يوضحها ويبيّنها؛ فإن كثيرًا من الناس لا تُعرف أخلاقه ولا سيرته إلا بالسفر معه، وقد كان بعض القضاة من السلف إذا شهد شخصٌ لآخر بتزكية سأله سؤالين: الأول: هل سافرت معه؟ ,الثاني: هل تعاملت معه بالدرهم والدينار؟؛ فإن قال: لا، قال: فأنت إذن لا تعرفه.
فالسفر يبيّن أخلاق الرجال، فكم من إنسان تراه وتشاهده كل يوم ولا تعرف عن أخلاقه ومعاملاته حتى تسافر معه، فإذا سافرت معه تبيّن لك أخلاقه على حقيقتها، لا سيما في الزمن الماضي حيث كانت الأسفار تستمر أيامًا كثيرة.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى نهمته فليعجِّل إلى أهله [1]، فالسفر مظنّة للمشقة، ولهذا وصفه النبي بأنه قطعة من العذاب؛ فإن الإنسان في سفره يعرض له عوارض كثيرة حتى في وقتنا الحاضر مع توفّر وسائل المواصلات المريحة إلا أنه يبقى قطعة من العذاب.
مشروعية قصر الصلاة في السفر
وكثيرًا ما يعتري المسافر عوارض وألوانٌ من المشقة حتى في وقتنا الحاضر، ولهذا فقد راعى الشارع هذه المعاني ورخّص للمسافر في قصر الصلاة الرباعية، وفي الجمع وفي الفطر في نهار رمضان وفي جعل مدة المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن.
والأصل في ذلك قول الله : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وقد جاء في صحيح مسلم عن يعلى بن أمية الضمري قال: “قلت لعمر بن الخطاب: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُو، وقد أمِنَ الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله فقال: صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته” [2].
وقد تواترت الأخبار أَنَّ النَّبِيَّ كان يقصر في أسفاره، ولهذا قال العلماء: إن القصر في السفر أفضل من الإتمام؛ لأن ذلك هو هدي النبي ، فلم يُحفظ عنه أنه أتم صلاة رباعية في سفرٍ قط، ولا أكمل من هدي النبي .
قال ابن عمر رضي الله عنهما: “صحبت رسول الله في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله” [3]، متفقٌ عليه.
حكم إتمام الصلاة في السفر
ولكن الإتمام في السفر جائزٌ في قول كثير من العلماء، وقال بعضهم: إنه مكروه لكونه خلاف هدي النبي ، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثم إنه يُشرع الترخُّص برخص السفر من القصر والجمع والفطر في نهار رمضان، ولو لم يجد المسافر مشقّة بإجماع العلماء، فالعِلَّة في الترخُّص برخص السفر هي السفر نفسه، وليست الْعِلَّة هي المشقة.
ما السفر الذي يشرع فيه قصر الصلاة؟
والقصر يُشرع في كل سفر سواء كان سفر طاعة أم سفرًا مباحًا، كالسفر للتجارة أو للنزهة ونحو ذلك.
وأما سفر المعصية فقد اختلف العلماء في حكم الترخُّص فيه برخص السفر من القصر وغيره، فذهب جمهور العلماء إلى أن المسافر سفر معصية ليس له الترخُّص برخص السفر، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن الترخُّص إنما شُرِع للإعانة على المقصود المباح، ولو رُخِّص للمسافر سفر معصية في القصر وفي الترخُّص بسائر رُخص السفر؛ لكان في ذلك إعانةٌ له على المعصية.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يُشرع الترخُّص برخص السفر في كل سفر، سواء كان سفر طاعة أم سفرًا مباحًا أم سفر معصية، وإليه ذهب الحنفية؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على مشروعية الترخُّص بالقصر وغيره في السفر من غير تفريق بين سفر وسفر، ولأن صلاة الركعتين في السفر هي الأصل في فرضية الصلاة، ثم زيد في صلاة الحضر وأُقِرّت صلاة السفر ركعتين؛ كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها.
وهذا القول الأخير وهو أنه يُشرع الترخُّص برخص السفر في كل سفر، سواء كان سفر طاعة أم سفرًا مباحًا أم سفر معصية، أقول هذا القول لعله الأقرب في هذه المسألة والله أعلم، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم رحمة الله تعالى على الجميع.
مسافة القصر في السفر
وأما أقل مسافة للسفر وهي المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر والترخُّص برُخَص السفر ولا يسوغ له في أقل منها فقد اختلف العلماء فيه اختلافًا كثيرًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “هذه المسألة من المواضع التي انتشر الخلاف فيها جدًا، وقد حكى ابن المنذر وغيره فيها نحوًا من عشرين قولًا.
وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى قولين:
- القول الأول: عدم تحديد السفر بمسافة معينة، بل المرجع في ذلك للعرف، فما عدّه الناس في عرفهم سفرًا فهو سفر، وما لم يعدّوه سفرًا فليس بسفر.
قالوا: لأنه لم يرد في النصوص ما يدل على تحديد مسافة السفر بحدٍّ معيَّن والتحديد بابه التوقيف. - القول الثاني في المسألة: التحديد بمسافة معيّنة، ثم اختلف أصحاب هذا القول على أقوالٍ كثيرة”.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “أقلّ ما قيل في ذلك يومٌ وليلة، وأكثره ما دام غائبًا عن بلده”.
- وقد ذهب إلى تحديد السفر بمسافة معيّنة جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، إلا أن الحنفية يرون أن مسافة السفر مسيرة ثلاثة أيامٍ بلياليهن.
- والجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنها مسيرة يوم وليلة، وبعضهم يعبّر بمسيرة يومين قاصدَين.
وقولهم: “قاصدَين” أيْ معتدلَين؛ فلا يسير فيهما الإنسان ليلًا ونهارًا سيرًا بحتًا، ولا يكون كثير النزول والإقامة، وهذا القول الأخير وهو تحديد أقلِّ مسافة للسفر بمسيرة يوم وليلة أو يومين قاصدَين أقول لعل هذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.
وقد اختاره البخاري في صحيحه فقال: بابٌ في كم يقصر الصلاة، وسمى النبي يومًا وليلة سفرًا، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما يقصران ويفطران في أربعة بُرُد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة قال: قال النبي : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرمة [4]، أيْ محرم.
قالوا: وهذا أقل ما يسمى سفرًا، ولو كان هناك أقل منه لذكره النبي ؛ لأن السياق يقتضي ذلك فكأنه قال: لا يحل لامرأة أن تسافر أدنى ما يسمى سفرًا، لكنه عدل عن ذلك إلى التحديد بأقل ما يسمى سفرًا وهو مسيرة يوم وليلة.
وهذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، وهو المأثور عن بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، وهم من أعلم الناس بمدلول السفر في الشرع وفي اللغة.
وهذا القول هو اختيار سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
كم تعدل مسافة القصر بالمقاييس المعاصرة؟
بقي أن يقال: كم تعادل مسافة يوم وليلة أو يومين قاصدَين بالمقاييس المعاصرة؟
قدّر جمهور الفقهاء مسيرة يوم وليلة بأربعة بُرُد، والبريد أربعة فراسخ فتكون المسافة ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال؛ فتكون المسافة ثمانية وأربعين ميلًا، والميل يعادل ألفًا وستمائة وثمانين مترًا، فتكون مسافة القصر بالكيلو مترات ثمانين كيلو مترًا وستمائة وأربعين مترًا، وتُحسب هذه المسافة من مفارقة عمران البلد الذي يقيم فيه.
والحاصل أيها الإخوة المستمعون: أن من سافر مسافة في حدود ثمانين كيلو مترًا فأكثر؛ فله الترخُّص برخص السفر، وإن كانت المسافة دون ذلك فليس له الترخُّص.
أيها الإخوة المستمعون: هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، وللحديث صلة نستكمله في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.