عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الصلاة في وسائل النقل والمواصلات
حديثنا في هذه الحلقة عن الصلاة في وسائل النقل والمواصلات، وقد تكلَّم الفقهاء رحمهم الله عن هذه المسألة، وكانت وسائل النقل عند الناس إلى وقتٍ ليس بالبعيد هي الدوابُّ من الإبل والخيل والحمير، قال الله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، وقد خلق الله تعالى من وسائل النقل ما لم يعلم الناس في القرون الماضية من السيارات والطائرات والقطارات ونحوها.
وأما السُفُن فقد كانت موجودة من قديم الزمان، وقد ذكر الله تعالى أن نوحًا عليه الصلاة والسلام لما كذّبه قومه أمره تعالى بصنع الفلك التي هي السفينة؛ كما قال : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود:37].
وإذا كان فقهاؤنا قد تحدثوا عن أحكام الصلاة في وسائل النقل والمواصلات الموجودة في زمانهم، فإننا نتحدث عن أحكام الصلاة في وسائل النقل والمواصلات الموجودة في وقتنا الحاضر، وأبتدئ الحديث عن أحكام الصلاة في السيارة، فأقول وبالله التوفيق:
حكم صلاة النافلة في السيارة
والأصل في ذلك ما جاء في الصحيحين عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: “أن النبي كان يصلي على راحلته حيث توجهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة”، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري وغيره: “أن النبي كان يسبِّح على الراحلة قِبل أي وجهة توجّه ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة” [1].
وقال بعض الفقهاء: يلزمه في هذه الحال استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام إن أمكنه ذلك؛ لحديث أنس : “أن النبي كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، فكبَّر وصلى حيث كان وجهة ركابه” أخرجه أبو داود وأحمد، قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: “إسناده حسن” [2].
والأقرب في هذه المسألة والله أعلم: أنه لا يلزمه في هذه الحال استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام، وإنما يُستحب له ذلك؛ وذلك لأن الواصفين لصلاة النبي على الراحلة لم يذكروا ذلك، وحديث أنسٍ المذكور غاية ما يدل عليه استحباب استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام.
قال ابن القيم رحمه الله: “كان من هديه صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به، وكان يومئ إيماءً برأسه في ركوعه وسجوده، وسجوده أخفض من ركوعه، وروى أحمد وأبو داود عنه من حديث أنس أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الافتتاح ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به، وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قِبَل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها، كعامر بن ربيعة، وعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله ، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا، والله أعلم”.
حكم صلاة الفريضة في السيارة
وأما صلاة الفريضة فليس له أن يصليها داخل السيارة، بل لا بد من أن ينزل ويصلي على الأرض، ويدل لذلك حديث جابر رضي الله عنهما السابق: “أن النبي كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة” [3]، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله يسبِّح على الراحلة قِبَل أي وجهةٍ توجّه ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة” [4].
ويُستثنى من ذلك ما إذا هُيئ مكانٌ مناسبٌ للصلاة داخل السيارة، كما في بعض السيارات الكبيرة كبعض سيارات النقل العام مثلًا بحيث يؤدي الصلاة بجميع شروطها ومنها استقبال القبلة وبجميع أركانها، ومنها القيام والركوع والسجود فلا بأس حينئذ بصلاة الفريضة داخل السيارة، وما قيل في السيارة يقال أيضًا في القطار ونحوه.
حكم الصلاة في الطائرة
وأما الصلاة في الطائرة فما كان من النوافل فالأمر فيه واسع، ويقال فيه ما قيل في الصلاة في السيارة ونحوها، وأما صلاة الفريضة فإن أمكن أن يأتي بالصلاة بجميع شروطها وأركانها فلا بأس بأدائها في الطائرة، وإن لم يمكن لعدم وجود مكانٍ مهيأ للصلاة فيه، فإن كانت الصلاة مما يُجمع مع غيرها وكانت الطائرة ستهبط قبل خروج وقت الثانية أخّر الأولى مع الثانية ليجمعها معها جمع تأخير.
ولكن إذا كانت الصلاة مما لا تُجمع مع غيرها وهي صلاة الفجر، أو مما تُجمع مع غيرها لكنه يعلم بأن الطائرة لن تهبط في المطار إلا بعد خروج وقت الثانية، كأن تكون صلاة الظهر والعصر مثلاً، والطائرة لن تهبط إلا بعد غروب الشمس، فيلزمه في هذه الحال أن يصلي على حسب حاله، لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فإن أمكنه استقبال القبلة لزمه وإن لم يمكنه فإنه يصلي ولو إلى غير القبلة ويسقط عنه شرط استقبال القبلة في هذه الحال للعجز عنه.
وهكذا يقال في القيام والركوع والسجود، إن أمكنه أن يأتي بها لزمه ذلك وإلا صلى جالسًا يومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، والقاعدة في هذا: أن ما عجز عنه المسلم من شروط أو أركان الصلاة فإنه يسقط عنه؛ لقول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
وننبِّه أيها الإخوة إلى أن بعض المسافرين على الطائرة يتساهلون في هذه المسألة، فيؤخّرون الصلاة إلى حين هبوط الطائرة وهم يعلمون بأنها لن تهبط إلا بعد خروج وقت الصلاة؛ بحُجَّة أنهم لا يتمكنون من استقبال القبلة ومن بعض أركان الصلاة كالركوع والسجود، وهذا الفهم غير صحيح بل الواجب عليهم أن يؤدوا الصلاة في وقتها حسب استطاعتهم، فإن تعذَّر أو شق عليهم استقبال القبلة؛ سقط هذا الشرط، وإن لم يمكن الإتيان بالركوع والسجود أجزأ الإيماء بهما، ولكن لا تؤخَّر الصلاة عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها معدودٌ عند العلماء من الكبائر.
أيها الإخوة المستمعون: ومن الناس من لا يجهل هذه المسائل، ولكنه إذا كان داخل الطائرة يخجل أن يصلي في الطائرة أمام الناس، خاصة في الرحلات الدولية ومع ضيق المكان.
ونقول: ينبغي للمسلم أن يعتز بإسلامه، وأن يستحضر بأنه بصلاته يدعو إلى الله تعالى بفعله، يدعو غير المسلمين إلى التعرُّف على هذا الدين العظيم الذي دفعه؛ لأن يقوم من تلقاء نفسه، وأن يتعبَّد لخالقه بهذه الصلاة، بل ويدعو المسلمين المتساهلين بأداء الصلاة إلى الالتزام بها: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وسبحان الله! كيف لا يخجل أهل الباطل من إظهار باطلهم، وبعض أهل الحق يخجلون من إظهار الحق الذي وفّقهم الله تعالى إليه.
أسأل الله تعالى أن يعزّنا بالإسلام، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يرزقنا الفقه في الدين.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.