عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
تحدثنا سابقًا عن المسائل المتعلقة برؤية الهلال، ونستكمل الحديث هنا عن هذه المسائل، ثم ننتقل بعد ذلك للحديث عن حكم صيام يوم الشك.
من المسائل المتعلقة برؤية الهلال
هل يلزم الأمة الصيام أو الفطر برؤيةٍ واحدة؟
إذا رؤي الهلال في بلدٍ فهل يلزم الناس في سائر الأقطار حكم تلك الرؤية من الصيام أو الفطر؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
- فذهب بعضهم إلى أن الهلال إذا رؤي في بلدٍ لزم الناس كلهم الصيام أو الفطر، وهذا هو المذهب عند الحنفية والحنابلة.
واستدلوا بعموم قول النبي : صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته [1]، قالوا: وهذا خطابٌ للأمة كافَّة.
- وذهب بعض العلماء إلى أن لكل أهل بلدٍ رؤيتهم، فيلزم الصوم أهل ذلك البلد، ومن يوافق بلد الرؤية في مطلع الهلال، دون من يخالفه، وهذا هو المذهب عند الشافعية.
قالوا: لأن مطالع الهلال مُـختلفةٌ في الواقع، وإذا كانت مطالع الهلال مختلفةً، فإن لكل أهل بلدٍ رؤيتهم، ولا يلزم الأمة الصيام أو الفطر برؤيةٍ واحدة.
قالوا: وهذا هو الذي عليه العمل في عهد الصحابة ، فقد جاء في صحيح مسلم عن كريبٍ: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام وقضيت حاجتها، واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلتُ: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله ” [2]، قالوا: فدل هذا على أن الشهر لا يثبت دخوله في البلد المخالف لبلد الرؤية في مطلع الهلال؛ لأن ابن عباسٍ رضي الله عنهما لَـم يعتدَّ برؤية معاوية ، ورفع ذلك إلى النبي ، وقال: “هكذا أمرنا رسول الله “. - وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا رؤي الهلال في بلدٍ، لزم الناس الصيام في ذلك البلد، ومن كان غربه، ولا يلزم الناس الصيام أو الفطر، لمن كان يقع شرق ذلك البلد، وذلك أن الهلال إذا رؤي في بلدٍ، فلا بد أن يرى في غرب ذلك البلد، لأن نور الهلال يقوى مع مرور الوقت، فهو إذا رؤي في هذا البلد، فرؤيته في البلاد الواقعة غربه من باب أولى.
وبكل حالٍ: فهذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم، ولـم يحصل أن اتفق المسلمون جميعًا على مدار أربعة عشر قرنًا، على إثبات دخول الشهر أو خروجه، وإنـما لكل أهل بلدٍ، ولكل أهل قُطْرٍ من أقطار المسلمين رؤيتهم الخاصة، ولكن المطلوب هو أن يجتمع أهل كل بلد على رأيٍ واحدٍ في إثبات دخول الشهر أو في خروجه، وألا يختلفوا، وذلك لأن اجتماع أهل البلد في الصيام أو في الفطر أمرٌ مقصودٌ شرعًا؛ كما يدل لذلك قول النبي : الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس [3].
حكم صيام يوم الشك
يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان.
ولكن اختلف العلماء: هل هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كانت السماء ليلة الثلاثين من شعبان صحوًا، أو أنه يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين غيمٌ أو قترٌ ونحوه؟
- فمن أهل العلم من قال بالأول، كما هو المذهب عند الحنابلة.
- ومنهم من قال بالثاني، وهذا هو الأقرب، والله أعلم: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين غيمٌ أو قترٌ ونحو ذلك.
وقد اختلف العلماء في حكم صيام يوم الشك على أقوال متعددة:
ويحكي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خلاف العلماء في هذه المسألة، فيقول: “أما صوم يوم الغيم، إذا حال دون رؤية الهلال غيمٌ أو قترٌ، فللعلماء فيه عدة أقوال، وهي في مذهب أحمد وغيره:
- أحدها: أن صومه منهيٌ عنه، ثم هل هو نـهي تحريمٍ أو تنزيه؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، واختار ذلك طائفةٌ من أصحابه كأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم.
- والقول الثاني: أن صيامه واجب، كاختيار القاضي والخِرَقي، وغيرهما من أصحاب أحمد رحمه الله، وهذا يقال: إنه أشهر الروايات عن أحمد، ولكن الثابت عن أحمد رحمه الله لمن عرف نصوصه وألفاظه أنه كان يستحب صيام يوم الغيم اتباعًا لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.
ولَـم يكن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطًا، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطًا، ونقل ذلك عن عمر وعلي ومعاوية وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وأسماء وغيرهم رضي الله عنهم، ومنهم من كان لا يصومه مثل كثيرٍ من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه كعمار بن ياسر وغيره، فأحمد كان يصومه احتياطًا.
وأما إيجاب صومه فلا أصل له في كلام أحمد رحمه الله، ولا كلام أحدٍ من أصحابه رضي الله عنهم، لكن كثيرًا من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه ونصروا ذلك القول.
- والقول الثالث في المسألة: أنه يجوز صوم يوم الشك ويجوز فطره، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، وهو مذهب كثيرٍ من الصحابة والتابعين أو أكثرهم.
وهذا؛ كما أن الإمساك عند الحائل عن رؤية الفجر جائزٌ، فإن شاء أمسك وإن شاء أكل، حتى يتيقَّن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك: هل أحدث أم لا؟ إن شاء توضأ وإن شاء لَـم يتوضأ، وكذلك إذا شكَّ: هل حال حول الزكاة أو لَـم يحل؟ وإذا شكَّ: هل الزكاة الواجبة عليه مائةٌ، أو مائة وعشرون؟ فأدى الزيادة.
قال: وأصول الشريعة كلها مستقرةٌ على أن الاحتياط ليس بواجبٍ ولا محرم”.
هذه هي آراء العلماء في هذه المسألة، وقد قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]، فإذا ردننا هذه المسألة إلى سنة النبي نجد أن النبي يقول: لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومًا فليصمه [4]، متفقٌ على صحته.
ويقول عليه الصلاة والسلام: الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه [5].
ويقول عمار بن ياسر : “من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصا أبا القاسم “.
وهذه النصوص ظاهرها تحريم صيام يوم الشك، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين [6]، هذا نـهيٌ من النبي عن تَقدُّم صيام رمضان بيومٍ أو يومين على سبيل الاحتياط، ويدخل في ذلك صيام يوم الشك، وكذا قوله: فلا تصوموا حتى تروا الهلال [7]، وكذا في الحديث الآخر عند أبي داود وغيره: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا [8]، وقد جوَّد بعض العلماء إسناده.
وهذا كله يدل على تحريم صيام يوم الشك، وقد فهم هذا عمار بن ياسر ، فقال: “من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصا أبا القاسم “.
ولهذا؛ فالأقرب -والله أعلم- هو تحريم صيام يوم الشك.
أيها الإخوة: نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الصيام في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.