عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
مسائل من صيام التطوع
حكم صيام يومي السبت والأحد
أما يوم السبت: فقد روي فيه حديث الصمَّاء بنت بُسْر: أن النبي قال: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لَـم يجد أحدكم إلا لحاء عنبٍ، أو عود شجرةٍ، فليمضغه [1] وهذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وقال الإمام مالكٌ بن أنس: “هو كذبٌ”، وقال أبو داود: “هو منسوخٌ”، وقال النسائي: “هو حديثٌ مضطرب”، وكذا قال الحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى جميعًا.
فيكون هذا الحديث غير محفوظ، ثم هو مُعارضٌ بـما هو أصح منه، وهو: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: لا تصوموا يوم الجمعة، إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده [2]، واليوم الذي بعد الجمعة هو يوم السبت.
وكذا قول النبي لأم المؤمنين جورية بنت الحارث رضي الله عنها لـمَّا رآها صائمًة يوم الجمعة: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري [3]، أخرجه البخاري في صحيحه، وقوله: أتصومين غدًا؟ أي: السبت، فدل ذلك على أن صيام السبت لا بأس به.
بل قد أخرج النسائي وابن خزيـمة عن أم سلمة رضي الله عنها: “أن رسول الله كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، ويقول: إنـهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم [4].
وحمل بعض الفقهاء النهي في هذا الحديث على إفراد يوم السبت بالصوم، ولكن هذا محل نظر؛ إذ أن الحديث ليس فيه النهي عن إفراده، فلفظ الحديث: لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: “ولا ريب أن الحديث لَـم يجئ بإفراده، ولكن ما دام أن هذا الحديث غير محفوظ، فلا حاجة إلى التكلُّف في الجواب عنه”.
وبـهذا يُعلم: أنه لَـم يثبت في النهي عن صيام يوم السبت، ولا عن إفراده حديث، فيبقى يوم السبت كغيره من أيام الأسبوع التي لَـم يرد فيها شيء، يبقى كيوم الثلاثاء والأربعاء، والله تعالى أعلم.
وبقي من أيام الأسبوع: يوم الأحد.
وهو كيوم السبت لَـم يرد فيه شيء، فيكون حكم صومه كحكم صوم أيام الثلاثاء والأربعاء والسبت، وقد جاء في حديث أم سلمة السابق: “أن النبي ، كان أكثر ما يصوم من الأيام يومي السبت والأحد، ويقول: إنـهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم.
والحاصل مـمَّا قلناه سابقًا وهنا بالنسبة لصيام أيام الأسبوع: أن صيام يومي الاثنين والخميس سنةٌ على التعيين، وأنه يحرم إفراد يوم الجمعة بالصيام بقصد تعظيمها، ويزول التحريم بصيام يومٍ قبله أو يومٍ بعده، وأما بقية أيام الأسبوع الثلاثاء والأربعاء والسبت والأحد، فلم يثبت فيها شيء، فيبقى صيامها سنةً مطلقة، باعتبار أن المسلم يستحب له الإكثار من صيام التطوُّع، وليس سنةً على التعيين في أي يومٍ منها، والله تعالى أعلم.
صيام يوم عرفة
ومن أنواع صيام التطوُّع: صيام يوم عرفة لغير الحاج؛ لِمَا جاء في (صحيح مسلمٍ) عن أبي قتادة : أن رسول الله سئل عن صيام يوم عرفة، فقال: أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة الماضية والباقية [5].
وعلى هذا: فصيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء؛ لأن صيام عاشوراء، قال فيه عليه الصلاة والسلام: أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله [6]، وأما صيام يوم عرفة فقال: يُكفِّر السنة الماضية والباقية.
وأما بالنسبة للحاج، فقد نـهى النبي عن صوم يوم عرفة بعرفة.
والحكمة من ذلك -والله أعلم-: حتى يتقوى الحاج بفطره على الدعاء في صعيد عرفة؛ ولأن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم، فكيف بنفله؟
قال ابن القيم رحمه الله: “وكان شيخنا -يعني: أبا العباس ابن تيمية- يسلك مسلكًا آخر: وهو أن يوم عرفة يوم عيدٍ لأهل عرفة، لاجتماعهم فيه، كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الاجتماع يختصُّ بـمن بعرفة دون أهل الآفاق، قال: وقد أشار النبي إلى هذا في الحديث الذي رواه أهل السنن: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام مِنَـى عيدنا أهل الإسلام [7]، ومعلومٌ أن كونه عيدًا لأهل ذلك الجمع؛ لاجتماعهم فيه، والله أعلم”.
صيام التسعة الأيام الأولى من ذي الحجة
ويستحب صيام التسعة الأيام الأولى من ذي الحجة؛ لأن الصوم من أفضل الأعمال الصالحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما من أيامٍ العمل الصالح فيهنَّ أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر [8]، أخرجه البخاري في صحيحه.
صيام عاشوراء
ومن أنواع صيام التطوُّع: صيام عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرم، وقد أمر النبي بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان، فكان صومه واجبًا، فلـمَّا فرض صيام شهر رمضان، قال النبي : من شاء صامَه، ومن شاء تركه [9]، فنُسخ وجوب صومه، وبقي الحكم على الاستحباب.
وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان يوم عاشوراء تصوم قريشٌ في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية، فلـمَّا قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلـمَّا فُرِض رمضان؛ ترك يوم عاشوراء -أي: وجوب صومه- فمن شاء صامه ومن شاء تركه” [10].
وكان يحرص على صيام عاشوراء أكثر من غيره من أنواع صيام التطوُّع.
ففي (صحيح البخاري) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “ما رأيت النبي يتحرَّى صيام يومٍ فَضَّلَه على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء [11].
وكان عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب فيما لَـم يؤمر فيه بشيءٍ، فوجد اليهود تصوم هذا اليوم، وتقول: هذا يومٌ نَـجَّى الله تعالى فيه موسى وقومه، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بـموسى منكم فصامه وأمر بصيامه [12].
ثم في آخر حياته عليه الصلاة والسلام كان يحب مخالفة أهل الكتاب، فأمر بأن يُصام يومٌ قبله أو يومٌ بعده؛ تحقيقًا لمخالفة اليهود، وقال عليه الصلاة والسلام: لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع [13]، وتوفي عليه الصلاة والسلام ولـم يبق إلى قابل”.
مراتب صيام عاشوراء
مراتب صيام عاشوراء أربع مراتب:
- المرتبة الأولى: أن يُصام عاشوراء مع يومٍ قبله ويومٍ بعده؛ قال ابن القيم: “وهذه أكمل المراتب”.
- المرتبة الثانية: أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.
- المرتبة الثالثة: أن يُصام العاشر والحادي عشر.
- المرتبة الرابعة: أن يُصام عاشوراء وحده، وهذه أدنى المراتب.
ويستحب الإكثار من صيام التطوُّع في شهر محرم؛ لِمَا جاء في (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة : أن النبي قال: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المـحرم [14].
أسأل الله تعالى أن يفقِّهنا في دينه، وأن يرزقنا العلم النافع، وأن يوفقنا لِمَا يحب ويرضى من الأعمال والأقوال، إنه سميعٌ مجيب، وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 2421، والترمذي: 744، وابن ماجه: 1726، والنسائي: 2776، وأحمد: 27075. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1985، ومسلم: 1144. |
^3 | رواه البخاري: 1986. |
^4 | رواه النسائي: 2789، وابن حبان: 3616، وابن خزيمة: 2167، والحاكم 1593. |
^5, ^6 | رواه مسلم: 1162. |
^7 | رواه أبو داود: 2419، والترمذي: 773، وأحمد: 17379، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. |
^8 | رواه البخاري: 969. |
^9 | رواه البخاري: 2002، ومسلم: 1125. |
^10 | رواه البخاري: 2002. |
^11 | رواه البخاري: 2006، ومسلم: 1132. |
^12 | رواه البخاري: 2004، ومسلم: 1130. |
^13 | رواه مسلم: 1134. |
^14 | رواه مسلم: 1163. |