عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من المسائل المتعلقة بسترة المصلي وأحكام المرور بين يديه، ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن بقيتها، فنقول:
حكم منع المرور بين يدي المصلي
السنة لمن كان يصلي، وأراد أحدٌ أن يـمرَّ بين يديه: ألا يدعه يَـمر، ويدرؤه ما استطاع.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن أبي صالح السمَّان، قال: “رأيت أبا سعيدٍ الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيءٍ يستره من الناس، فأراد شابٌّ من بني أبي مُعَيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيدٍ في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغًا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيدٍ أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان بن الحكم، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيدٍ خلفه على مروان، فقال له مروان: يا أبا سعيد، ما لك ولابن أخيك، جاء يشكوك، فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيءٍ يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنـما هو شيطان [1].
وفي (صحيح مسلمٍ) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يـمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين [2].
قال النووي رحمه الله: “الأمر بدفع المارِّ بين يدي المصلي أمر ندب، وهو ندبٌ متأكد، ولا أعلم أحدًا من العلماء أوجبه”.
قال القاضي عياض: “وأجمعوا على أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح، ولا ما يؤدي إلى هلاكه، فإن دفعه بـما يجوز فهلك من ذلك، فلا قَوَدَ عليه باتفاق العلماء، قال: واتفقوا على أن هذا كله لمن لَـم يُفرِّط في صلاته، بل احتاط، وصلى إلى سترةٍ، أو في مكانٍ يأمن المرور بين يديه.
ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد: إذا صلى أحدكم إلى شيءٍ يستره، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه، فليدفع في نـحرِه، فإن أبى فليقاتله.
قال: وكذلك اتفقوا على أنه إذا مرَّ لا يرده؛ لئلا يصير مرورًا ثانيًا”.
ونقل الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله عن بعض العلماء: “أنه استنبط من قول النبي في هذا الحديث: فإنـما هو شيطان أن المراد بقوله في هذا الحديث: فإن أبى فليقاتله المدافعة اللطيفة، لا حقيقة القتال؛ لأن مقاتلة الشيطان إنـما هي بالاستعاذة، والتستُّر عنه بالتسمية ونحوها، وإنـما جاز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة؛ لكان أشدَّ على صلاته من المارِّ”.
الحكمة من دفع المار بين يدي المصلي
ولكن: ما الحكمة من الأمر بدفع المارِّ بين يدي المصلي: هل هو لخللٍ يقع في صلاة المصلي من المرور، أو هو لدفع الإثم عن المارِّ؟
قولان لأهل العلم، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو الأول، أي: أنه لخللٍ يقع في صلاة المصلي من المرور؛ لأن إقبال المصلي على صلاته أولى له من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره.
وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعودٍ قال: “إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته”.
وروى أبو نُعيم عن عمر بن الخطاب ، قال: “لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه، ما صلى إلا إلى شيءٍ يستره من الناس”.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “هذان الأثران مقتضاهما: أن الدفع لخللٍ يتعلق بصلاة المصلي، ولا يختص بالمارِّ، وهما وإن كانا موقوفين لفظًا، فحكمهما حكم الرفع؛ لأن مثلهما لا يقال بالرأي”.
حكم صلاة من مر بين يديه امرأة أو حمار أو كلب
وإذا كان المرور بين يدي المصلي ينقص من أجر صلاته، فقد دلَّت السنة على أن مرور المرأة والحمار والكلب الأسود يقطع الصلاة.
ففي (صحيح مسلمٍ) عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله : إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرَّحْل، فإن لَـم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل؛ فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود.
قال عبدالله بن الصامت: “قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟! قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله كما سألتني، فقال: الكلب الأسود شيطان [3].
وفي (صحيح مسلم) أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : يقطع الصلاة: المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرَّحْل [4].
قال ابن القيم رحمه الله: “صح عن رسول الله أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود، وثبت ذلك من رواية أبي ذرٍّ، وأبي هريرة، وابن عباسٍ، وعبدالله بن مغفَّل رضي الله تعالى عنهم، ومُعارِض هذه الأحاديث قسمان:
- صحيحٌ غير صريح.
- وصريحٌ غير صحيح.
والقول بأن هذه الثلاثة: المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة يستلزم القول بوجوب إعادة الصلاة، واستئنافها من جديد، إذا مرَّت بين يدي المصلي”.
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: “هذه الثلاثة تقطع صلاة المسلم والمسلمة إذا مرَّ أحدها بين يديه، أو بين يديها، في حدود ثلاثة أذرعٍ من قدم المصلي فأقل، إن لَـم يكن لهما سترة، وإن كان لهما سترةٌ، قطعت هذه الثلاث الصلاة إذا مرَّ أحدها بين يدي المصلي وبين السترة، ولزمته الإعادة إن كانت الصلاة فريضة.
قال: والمراد بالمرأة المرأة البالغة؛ لِمَا صح من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما من تقييد المرأة بالحائض، وهي البالغة، فدل ذلك على أن الصغيرة لا تقطع الصلاة”.
ولا يرد على ذلك ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، وذُكِر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة، فقالت عائشة رضي الله عنها: “عدلتمونا بالكلاب والحمير، والله لقد رأيت رسول الله يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلَيَّ، وإذا قام بسطتها، قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح” [5].
وهذا الحديث ليس فيه دلالةٌ على أن مرور المرأة بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة؛ لأن الأحاديث التي فيها أن المرأة تقطع الصلاة إنـما هي في المرور، وحديث عائشة رضي الله عنها هذا إنـما في الاعتراض بين يدي المصلي من غير مرور، والاعتراض لَـم يرد فيه نـهيٌ، إنـما ورد النهي عن المرور.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن أبي جُهَيم بن الحارث : أن النبي قال: لو يعلم المارُّ بين يديه المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يـمرَّ بين يديه [6] فقيَّد ذلك بالمارِّ.
قال ابن الملقِّن رحمه الله: “قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: المار، مفهومه: أن القائم والقاعد والنائم وغيره بخلافه، وإنه لا إثم عليه”.
ورأي عائشة رضي الله عنها في هذه المسألة اجتهادٌ منها، قد خالفها فيه كثيرٌ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وهل هذا الحكم يشمل المسجد الحرام، أو أنه يستثنى من هذا الحكم؟
هذا ما سنفتتح به الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى الملتقى في ذلك الحين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.