عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.
حكم اتخاذ السُّترة للمصلي
يشرع للمصلي أن يجعل له سترةً يصلي إليها، سواءً كان رجلًا أو امرأة، منفردًا أو إمامًا، وقد كان من هدي النبي أنه كان يصلي إلى سترة.
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن رسول الله كان إذا خرج يوم العيد، أمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر” [1].
وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي ذرٍّ : أن النبي قال: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرَّحْل، فإذا لَـم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود فسئل النبي : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان [2].
وفي (صحيح مسلمٍ) عن طلحة بن عُبيدالله قال: “كنا نصلي والدوَابُّ تـمرُّ بين أيدينا، فذكرنا ذلك لرسول الله ، فقال: مثل مُؤخِّرة الرَّحْل تكون بين يدي أحدكم، ثم لا يضره ما مرَّ بين يديه [3].
ومُؤخِّرة الرحل، ويقال لها: آخرة الرحل: هي العود الذي يكون في آخر الرحل، وهي تعادل نحو ثلثي ذراع، أي: في حدود ثلث متـرٍ تقريبًا.
والمراد: أن هذا هو أقل ما يكون من السترة.
آراء العلماء في حكم اتخاذ السُّترة
وقد اختلف العلماء في حكم اتخاذ السترة:
- فمنهم من رأى: أنه يجب اتخاذ السترة في الصلاة؛ للأحاديث السابقة، وما جاء في معناها.
- وأكثر العلماء على أن اتخاذ السترة في الصلاة مستحبٌّ وليس بواجب.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “أقبلت راكبًا على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله يصلي بـمنَـى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم يُنكر ذلك عليَّ أحد” [4].
والأتان: هي الأنثى من الحمار.
والشاهد هو قوله: “ورسول الله يصلي بالناس بـمِنَـى إلى غير جدار” وظاهره: أنه كان يصلي إلى غير سترة، وهذا يدل على عدم وجوب اتخاذ السترة؛ إذ لو كانت واجبةً لَمَا تركها النبي في هذا الموضع.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “قوله: إلى غير جدار، قال الشافعي، أي: إلى غير سترة، ويُؤيد ذلك رواية البزار: ليس شيء يستره. [5]، بدل قوله: إلى غير جدار”.
وقال بعض المتأخرين: “قوله: إلى غير جدار، لا ينفي غير الجدار، إلا أن إخبار ابن عباسٍ رضي الله عنهما مروره بـهم، وعدم إنكارهم لذلك، مُشعِرٌ بحدوث أمرٍ لَـم يعهدوه، فلو فُرِض هناك سترةٌ أخرى غير الجدار، لَـم يكن لهذا الإخبار فائدة؛ إذ مروره حينئذٍ لا ينكره أحدٌ أصلًا”.
الخلاصة
والحاصل: أن العلماء قد اختلفوا في حكم اتخاذ السترة، فمنهم من أوجب ذلك، ومنهم من رأى أنه مستحبٌ.
والأقرب -والله أعلم- هو القول بالاستحباب، ولكنها سنةٌ متأكدة، فينبغي للمصلي رجلًا كان أو امرأة، أن يحرص عندما يريد أن يصلي، أن يصلي إلى سترة، سواءٌ كانت صلاته فريضةً أو نافلة.
قال النووي رحمه الله: “والحكمة من السترة: كفُّ البصر عمَّا وراءه، ومنع من يجتاز بقربه.
قال: واستدل القاضي عياض رحمه الله بـهذا الحديث، يعني قوله : إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرَّحْل، فليُصلِّ ولا يبالي من مرَّ وراء ذلك استدل به على أن الخط بين يدي المصلي لا يكفي، قال: وإن كان قد جاء به حديثٌ، وأخذ به أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فهو ضعيف”.
والحديث المشار إليه: هو حديث أبي هريرة : أن رسول الله قال: إذا صلى أحدكم فليجعل تِلقاء وجهه شيئًا، فإن لَـم يجد فلينصب عصا، فإن لَـم يكن فليخط خطًّا، ثم لا يضره من مرَّ بين يديه [6]، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (بلوغ المرام): “ولـم يصب من زعم أنه مضطربٌ، بل هو حسن”.
وقد صححه الإمام أحمد، وابن المديني.
قال أبو داود: “سمعت أحمد بن حنبل يقول: الخط يكون عرضًا مثل الهلال”.
أين تكون السترة؟
يرى بعض العلماء أنه ينبغي لمن صلى إلى سترةٍ من عمودٍ أو شجرةٍ أو غيرها: أن يجعلها على حاجبه الأيـمن أو الأيسر، ولا يَصْمُد لها صمدًا.
واستدلوا لذلك: بـما أخرجه أحمد وأبو داود عن المقداد بن الأسود قال: “ما رأيتُ رسول الله يصلي إلى عودٍ ولا عمودٍ ولا شجرةٍ، إلا جعله على حاجبه الأيـمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدًا” [7]؛ ولكن هذا الحديث لا يصح عن النبي .
قال ابن القطَّان: “فيه ثلاثة مجاهيل”، وقال عبد الحق: “ليس إسناده بقوي”.
وظاهر الأدلة: أن السترة تكون بين يدي المصلي يستقبلها، والله تعالى أعلم.
مقدار المسافة بين المصلي والسترة
والسنة للمصلي أن يجعل بين موضع سجوده وبين السترة قدر مـمرِّ شَاةٍ.
قال البخاري في صحيحه: “بابٌ: قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟” ثم ساق بسنده عن سهل بن سعدٍ قال: “كان بين مُصلَّى رسول الله وبين الجدار مـمر شاة”.
وقد أخرج مسلمٌ في صحيحه هذا الحديث.
قال النووي: “المراد بالمصلى في هذا الحديث: موضع السجود”.
حكم المرور بين يدي المصلي
يحرم المرور بين يدي المصلي، ففي الصحيحين عن أبي جُهيم بن الحارث قال: قال رسول الله : لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين، خيرًا له من أن يـمرَّ بين يديه [8].
قال أبو النضر أحد رواة الحديث: “لا أدري أقال: أربعين يومًا، أو شهرًا، أو سنة”.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “قوله في هذا الحديث: ماذا عليه؟ زاد الكُشْمَيْهَني أحد رواة (صحيح البخاري): من الإثم وليست هذه الزيادة في شيءٍ من الروايات عند غيره، والحديث في (الموطأ) بدونـها”.
وقال ابن عبدالبر: “لَـم يُختَلف على مالكٍ في شيءٍ منه، وكذا رواه باقي الستة، وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونـها، ولـم أرها في شيءٍ من الروايات مطلقًا”.
وقوله في هذا الحديث: لكان أن يقف أربعين أي: أن المارَّ بين يدي المصلي، لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي؛ لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم.
وجاء في رواية البزار: كان لأن يقوم أربعين خريفًا [9]، لكن رواية الصحيحين هي بإطلاق الأربعين.
قال ابن الملقِّن رحمه الله: “وقع الإبـهام في تـمييز العدد؛ ليكون أردع عن المرور بين يدي المصلي”.
وقد وصف النبي المارَّ بين يدي المصلي بأنه شيطان.
ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري : أن النبي قال: إذا صلى أحدكم إلى شيءٍ يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليُقاتِله فإنـما هو شيطان [10].
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “قوله : فإنـما هو شيطان أي: فعله فعل الشيطان؛ لأنه أبى إلا التشويش على المصلي، وإطلاق الشيطان على المارد من الإنس سائغٌ شائعٌ، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112].
ويحتمل أن يكون المعنى: فإنـما الحامل له على ذلك الشيطان، وقد وقع في روايةٍ للإسماعيلي: فإن معه الشيطان، ونحوه لمسلمٍ من حديث ابن عمر بلفظ: فإن معه القرين” [11].
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية مسائل السترة، والمرور بين يدي المصلي، في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 494، ومسلم: 501. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 510. |
^3 | رواه مسلم: 499. |
^4 | رواه البخاري: 493، ومسلم: 504. |
^5 | رواه البزار: 4951. |
^6 | رواه أبو داود: 689، وابن ماجه: 943، وابن حبان: 2376، وأحمد: 7461. |
^7 | رواه أبو داود: 693. |
^8 | رواه البخاري: 510، ومسلم: 507. |
^9 | رواه البزار: 3782 |
^10 | رواه البخاري: 509، ومسلم: 505 |
^11 | رواه مسلم: 506. |