عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
10- الصلاة والإنسان حاقن أو حاقب
من مكروهات الصلاة: أن يصلي الإنسان حاقِنًا.
والحاقن: هو المـحتبس بوله، سواءٌ خشي فوات الجماعة أو لا.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلم) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: لا صلاة بحضرة طعامٍ، ولا وهو يدافعه الأخبثان [1]؛ ولأن ذلك يشغله عن الخشوع في الصلاة، وحضور قلبه فيها، فإن الذي يدافع البول لا يـمكن أن يحضر قلبه، وأن يخشع في صلاته؛ لأنه منشغلٌ بـمدافعة هذا الخبث.
ومثله: الحاقِبْ: وهو المـحتبس للغائط، فيكره له أن يصلي وهو حابسٌ للغائط ويدافعه.
ومثله كذلك: المـحتبس للريح، فيكره أن يصلي وهو يدافعها.
وإذا كان رجلٌ على وضوء، وهو يدافع البول، أو الغائط، أو الريح، لكن لو قضى حاجته لَـم يكن عنده ماءٌ يتوضأ به، فهل يُقَال له: اقض حاجتك، وتيمَّم للصلاة، أو يقال: صلِّ وأنت تدافع الأخبثين؟
الجواب: يقال له: اقض حاجتك وتيمَّم، ولا تصل وأنت تدافع الأخبثين؛ لأن الصلاة بالتيمم عند فقد الماء لا تكره بإجماع العلماء، والصلاة مع مدافعة الأخبثين منهيٌ عنها مكروهةٌ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء بالاحتقان، فإن هذه الصلاة بالاحتقان مكروهةٌ، منهيٌ عنها، وفي صحتها روايتان، وأما صلاته بالتيمم فلا كراهة فيها بالاتفاق”.
11- الصلاة بحضرة الطعام
ويكره أن يصلي بحضرة طعامٍ تتوق نفسه إليه؛ لِمَا جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عنهما قال: قال النبي : إذا وُضِع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه [2].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام.
ويدل لذلك أيضًا: حديث عائشة رضي الله عنها السابق: لا صلاة بحضرة طعام [3].
وفي الصحيحين عنها رضي الله عنها: أن النبي قال: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء [4].
فهذه النصوص تدل على كراهة أن يصلي الإنسان بحضرة طعام، وأنه ينبغي له أن يُقدِّم تناول الطعام على الصلاة في هذه الحال، ولكن يُشتَرط لذلك عند الفقهاء شرطان:
- الأول: أن يكون الطعام حاضرًا، فإن لَـم يحضر الطعام ولكنه جائعٌ، فليس له أن يؤخر الصلاة؛ لأننا لو قلنا بـهذا، للزم ألا يصلي الفقير في كثيرٍ من الأحيان؛ ولأن الفقير يكون في كثيرٍ من الأحيان في جوع، ونفسه تتوق إلى الطعام.
- الثاني: أن تكون نفسه تتوق إلى الطعام، فلو كان الطعام حاضرًا، لكن نفسه لَـم تتق إليه؛ لكونه شبعانًا، فإنه يقدم الصلاة على تناول الطعام.
هل تجزئ الصلاة بحضرة الطعام أو مدافعة الأخبثين؟
لكن: لو أنه صلى بحضرة طعامٍ ونفسه تتوق إليه، فهل تصح صلاته؟
نقول: نعم، صلاته تقع صحيحةً مجزئة.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته، أن صلاته تجزؤه، وكذلك إذا صلى حاقنًا، وحينئذٍ يكون المراد بالنفي في قوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة بحضرة طعامٍ، ولا وهو يدافعه الأخبثان [5]، يكون المراد بالنفي: نفي كمال”.
وإنـما ورد النهي عن أن يصلي المسلم وهو بحضرة طعامٍ، أو وهو يدافع الأخبثين لأجل تحقيق كمال الخشوع في الصلاة، وتحقيق كمال حضور القلب فيها، وما ذاك إلا لأن مقام الخشوع في الصلاة مقامٌ عظيم، بل هو روح الصلاة ولبُّها، والمقصود الأعظم منها، وصلاةٌ بلا خشوعٍ كجسدٍ بلا روح.
حكم الخشوع في الصلاة
وهذا يقودنا إلى معرفة حكم الخشوع في الصلاة، وحكم صلاة من صلى بلا خشوع: هل تقع صحيحةً مجزئة؟ وهل تبرأ بـها الذمَّة، ومن غلبت عليه الوساوس من أول الصلاة إلى آخرها: هل يؤمر بإعادتـها؟
نقول: الخشوع في الصلاة ليس بواجب، وإنـما هو مستحبٌ، فمن أتى بالصلاة بكامل شروطها وأركانـها، وواجباتـها، ولـم يقع ما يبطلها، فهي صحيحةٌ مجزئةٌ، وإن لَـم يخشع فيها.
وقد حكى النووي رحمه الله الإجماع على أن الخشوع في الصلاة ليس بواجب، ولكنه قد تُعُقِّب بأن من العلماء من قال بوجوبه، فيكون القول بعدم الوجوب هو قول أكثر العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، رحمة الله تعالى على الجميع.
فتكون الصلاة التي لَـم يخشع فيها المصلي مجزئةً ومبرئةً للذمَّة، ولكن ليس له من الأجر والثواب، إلا بـمقدار ما عقل منها، فإن عقل النصف فله نصف الأجر والثواب، وإن عقل الربع، فله ربع الأجر والثواب، وهكذا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الوسواس في الصلاة نوعان:
- أحدهما: لا يـمنع ما يُؤمر به من تدبُّر الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بـمنزلة الخواطر، فهذا لا يبطل الصلاة، ولكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل مـمَّا لَـم تسلم منه صلاته.
- والثاني: ما منع الفهم وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلًا، فهذا لا ريب أنه يـمنع الثواب”.
كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر : عن النبي قال: إن الرجل لينصرف من صلاته، ولـم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، حتى قال: إلا عشرها [6]، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه قد لا يكتب له منها إلا العُشْر.
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
ولكن: هل يبطل الصلاة، ويُوجب الإعادة؟
فيه تفصيل:
فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور، والغالب الحضور لَـم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنـما يُـجبَر بسجدتي السهو.
وأما إن غلبت الغفلة عن الحضور، فللعلماء قولان:
- أحدهما: لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحَّت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لَـم يحصل، فهو شَبيهٌ بصلاة المرائي، فإنه بالاتفاق لا يبرأ بـها في الباطن، وهذا قول أبي عبدالله بن حامد، وأبي حامد الغزالي وغيرهما.
- الثاني: تبرأ الذمَّة بـهذه الصلاة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها ولا ثواب، فهو بـمنزلة صوم الذي لَـم يدع قول الزور، والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة.
واستدلوا بـما في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: إذا أذَّن المؤذن بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراطٌ، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضِي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّبَ بالصلاة أي: أُقيمت الصلاة؛ أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، ما لَـم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين [7].
فقد أخبر النبي أن الشيطان يُذكِّره بأمورٍ حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولـم يأمره بالإعادة، ولـم يفرِّق بين القليل والكثير..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا القول أشبه وأعدل، فإن النصوص والآثار إنـما دلَّت على أن الأجر والثواب مشروطٌ بالحضور، ولا تدل على وجوب الإعادة لا باطنًا ولا ظاهرًا”.
والحاصل: أن المصلي إذا غلبت عليه الهواجيس والوساوس والأفكار، فليس له من أجر صلاته إلا بـمقدار ما عقل منها، ولكن هذه الصلاة تقع صحيحةً مبرأةً للذمة.
أيها الإخوة، هذا ما تيسَّر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.