عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
تكلمنا سابقًا عن بعض أنواع الانتقال في النية، ونكملها فنقول:
من أنواع الانتقال في النية
4- الانتقال من ائتمامٍ إلى انفراد
وهذا جائزٌ إذا كان لعذرٍ؛ وصورته:
- أن يدخل المأموم مع الإمام في الصلاة، ثم يعرض لهذا المأموم عارضٌ فينفرد ويتم صلاته وحده، فلا بأس بـهذا مع العذر، ومثال العذر: تطويل الإمام تطويلًا زائدًا على السنة، فيجوز للمأموم في هذه الحال أن ينفرد، ويكمل صلاته منفردًا.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن جابر قال: “كان معاذٌ يصلي مع النبي ، ثم يأتي فيؤمَّ قومه، فصلى ليلةً مع النبي العشاء، ثم أتى قومَه فأمَّهم، فافتتح بسورة البقرة، فانصرف رجلٌ فصلى -أي: أتـمَّ صلاته وحده- فأُخبِـر عنه معاذٌ رضي الله تعالى عنه، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي فقال: يا رسول الله، إنَّا أصحاب نَوَاضِح نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله على معاذٍ، فقال: أتريد أن تكون فتَّانًا يا معاذ؟! [1]، وفي رواية البخاري: فقال : فتَّانٌ فتَّانٌ فتَّان، ثلاث مرار، يا معاذ، إذا أمَـمْتَ الناس فاقرأ بـ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، و: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، و: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] [2]؛ ووجه الدلالة من هذه القصة: أن هذا الرجل انفرد عن صلاة الجماعة، وأكمل صلاته وحده، وقد أقرَّه النبي على ذلك، فدلَّ هذا على جواز انفراد المأموم لتطويل الإمام.
- ومن الأعذار أيضًا: أن يطرأ على المأموم أثناء صلاته خلف الإمام عارضٌ صِحِّي، من ضيقٍ في التنفُّس، أو غثيان، أو غازاتٍ مزعجةٍ يشق عليه احتباسها، أو ارتفاع الضغط أو السكر عليه، أو انخفاضه، ونحو ذلك من الأعذار، فيجوز للمأموم في هذه الحال أن ينفرد عن الإمام، وأن يكمل صلاته وحده.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن أحرم -أي: دخل في الصلاة- مأمومًا، ثم نوى الانفراد لعذرٍ جاز” ثم ذكر قصة معاذٍ رضي الله عنه، التي ذكرناها قبل قليل، ثم قال: “ولـم يأمر النبي الرجل بالإعادة، قال: والأعذار التي يُخرَج لأجلها مثل هذا -يعني: تطويل الإمام- والمرض، وخشية غلبة النعاس، أو شيءٌ يُفسد صلاته، أو خوف فوات مالٍ، أو تلفِه، أو فوات رفقةٍ، ونحو ذلك”.
- ومن الأعذار أيضًا: أن تكون صلاة المأموم أقل من صلاة الإمام، مثل أن يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء، على القول بالجواز، فإنه في هذه الحال، إذا قام الإمام للركعة الرابعة؛ فإن المأموم ينفرد عنه، ويقرأ التشهد ويُسلِّم.
أما إذا كان انفراد المأموم عن الإمام لغير عذر، فهل تبطل صلاته؟
هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن كان انفراد المأموم عن الإمام لغير عذرٍ لَـم يجز في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذرٍ أشبه ما لو تركها من غير نية المفارقة، والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن صلاته تصح، كما إذا نوى المنفرد الإمامة، بل ها هنا أولى، فإن المأموم قد يصير منفردًا بغير نِيَّة، وهو المسبوق إذا سلَّم إمامه، والمنفرد لا يصير مأمومًا بغير نِيَّةٍ بحال”.
ويلاحظ من سياق كلامه أنه يـميل للقول بصحة صلاة المأموم إذا انفرد عن إمامه لغير عذر.
وبكل حالٍ: فينبغي للمأموم ألا ينفرد عن إمامه لغير عذر؛ لأنه يُعرِّض صلاته للبطلان على رأي كثيرٍ من الفقهاء، ولكن لو قلنا بصحة الصلاة في هذه الحال، فينبغي أن يُقيَّد ذلك بـما إذا أدرك الجماعة، بأن يكون قد صلى مع الإمام ركعةً فأكثر، أما إذا لَـم يكن أدرك الجماعة، فلا يحل له الانفراد؛ لأن هذا يفضي إلى ترك الجماعة بلا عذر.
استخلاف الإمام أحد المأمومين لإتـمام الصلاة
ومـما يذكره الفقهاء من المسائل عند كلامهم عن هذا الشرط: استخلاف الإمام أحد المأمومين لإتـمام الصلاة.
فنقول: إذا حصل للإمام ما يـمنعه من الاستمرار في صلاته، فله حالتان:
- الأولى: أن يكون العذر غير مُبطِلٍ للصلاة، كما لو خاف على نفسه أو أهله، أو حصره بولٌ أو غائطٌ، أو حصل له غثيان أو ضيقٌ في النفَس، ونحو ذلك، فيجوز له في هذه الحال أن يستخلف أحد المأمومين؛ ليكمل بـهم الصلاة، فإن لَـم يستخلف الإمام، قدم المأمومون رجلًا منهم ليتم بـهم الصلاة، فإن لَـم يفعلوا وصلوا وحدانًا، جاز ذلك.
- الثانية: أن يكون العذر للإمام مبطلًا لصلاته، كأن يسبقه الحدث، بأن يخرج منه بولٌ أو ريح، أو غير ذلك من الأحداث؛ ومثل ذلك: ما إذا صلى بـهم ناسيًا أنه لَـم يتوضأ، أو ناسيًا أن عليه جنابة، فتذكر أنه لَـم يتوضأ، أو أنه لَـم يغتسل، فهنا تبطل صلاة الإمام، ولكن هل تبطل صلاة المأمومين خلفه، أو أنَّـها لا تبطل في هذه الحال، وللإمام أن يستخلف أحد المأمومين ليتم بـهم الصلاة؟
هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:
- فذهب بعضهم: إلى أن صلاة المأمومين تبطل في هذه الحال، وأن عليهم أن يستأنفوها؛ لأنه قد تبيَّـن لهم بطلان صلاة إمامهم، وإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم؛ لقول النبي : «إنـما جُعِل الإمام ليؤتـمَّ به» [3]؛ وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ومذهب الحنفية.
- والقول الثاني في المسألة: أن صلاة المأمومين لا تبطل في هذه الحال، وأن الإمام يستخلف من المأمومين من يتم بـهم الصلاة، وهذا هو مذهب المالكي والشافعية.
وهذا القول هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وجمعٌ من المـحققين من أهل العلم رحمة الله تعالى على الجميع.
ويدل لهذا القول: ما جاء في “صحيح البخاري” عن أبي هريرة : أن النبي قال: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم [4].
ويدل لذلك أيضًا: ما جاء في قصة مقتل عمر بن الخطاب ، وقد ساقها البخاري في صحيحه بطولها عن عمرو بن ميمون، وجاء فيها: “أن عمر كبَّـر بـهم الصلاة، قال: فما هو إلا أن كبَّـر فسمعته يقول قتلني، أو: أكلني الكلب، حين طعنه، وتناول عمر يد عبدالرحمن بن عوف فقدمه، وصلى بـهم عبدالرحمن صلاةً خفيفة” [5].
ففي هذه القصة تكلم عمر في الصلاة، وقال: “قتلني أو أكلني الكلب” ومع ذلك قدم عبدالرحمن بن عوف وأتـمَّ بالصحابة الصلاة.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ولـم ينكر هذا منكرٌ، فكان إجماعًا”.
ثم إن الأصل صحة صلاة المأموم، ولا يـمكن إبطالها إلا بدليلٍ صحيح، فالإمام بطلت صلاته بـمقتضى الدليل، أما المأموم فقد دخل الصلاة طاعةً لله، وصلى بأمر بالله، فلا تبطل صلاته إلا بدليلٍ ظاهر، ولا دليل يدل على بطلان صلاته في هذه الحال.
وأما ما ذكره أصحاب القول الأول: من أنه إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم، فلا يُسلَّم بذلك، بل هذه مـجرَّد دعوى قد دلَّ الدليل على خلافها.
أما إذا لَـم يعلم الإمام بالحَدَث إلا بعد الفراغ من الصلاة، كأن يكون عليه جنابة مثلًا وصلى بـهم، ولـم يتذكر أن عليه جنابة إلا بعد الصلاة؛ فإنه يعيد صلاته وحده، وأما المأمومون فصلاتـهم صحيحة.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرزقنا الفقه في دينه، وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.