عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
نستكمل بقية المسائل المتعلقة بشرط النية في الصلاة.
وحديثنا هنا عن نية الإمامة والائتمام، وعن أحكام الانتقال في النية.
ما تختص به صلاة الجماعة عن صلاة المنفرد
فنقول: إن الإمامة والائتمام إنـما تكون في صلاة الجماعة، والجماعة وصفٌ زائدٌ على أصل الصلاة؛ لأنـها اجتماعٌ زائدٌ على هذه الصلاة، وصلاة الجماعة لا بد فيها من إمامٍ ينوي الإمامة، ومن مأمومٍ ينوي الائتمام، فإن صلاة الجماعة تختص عن صلاة المنفرد بأحكامٍ:
- وجوب اتباع المأموم للإمام.
- سقوط السهو عن المأموم في مواضع لا يسقط فيها لو كان يصلي منفردًا.
- فساد صلاة المأموم بفساد صلاة إمامه في الجملة.
هل تشترط نية الإمامة والائتمام؟
وإنـما يتميَّز الإمام عن المأموم في الأصل بالنية، فكان لا بد أن ينوي الإمام الإمامة، ولا بد أن ينوي المأموم الائتمام، ولكن ماذا لو أن أحدهما لـم ينوِ هذه النيَّة، فلم ينوِ الإمام أنه إمامٌ، وائتمَّ به شخصٌ أو أشخاص، أو أن الإمام نوى الإمامة، بينما المأموم لـم ينوِ الائتمام، فهل تصح الصلاة في هذه الحال؟ وهل تحصل لهما فضيلة الجماعة؟
المسألة الأولى: لم ينو الإمامة ثم اقتدى به شخص على أنه إمامه
أما المسألة الأولى فصورتها: أن يأتي شخصٌ إلى إنسانٍ يصلي، فيقتدي به على أنه إمامه، والأول لـم ينوِ أنه إمامٌ، فما الحكم في هذه الحال؟
أما الأول الذي كان يصلي منفردًا فصلاته صحيحة، وأما الثاني الذي ائتمَّ برجلٍ لـم ينوِ إمامته، فقد اختلف الفقهاء في صحة صلاته:
- المشهور من مذهب الحنابلة أنه لا تصح صلاته؛ لأنه ائتمَّ بـمن ليس بإمام، وقد ذكر المرداوي رحمه الله في (الإنصاف): أنّ هذا القول من المفردات عند الحنابلة.
- وذهب كثيرٌ من الفقهاء: إلى أنه تصح صلاته في هذه الحال، واستدلوا بأن النبي قام يصلي في رمضان ذات ليلة، فاجتمع إليه ناسٌ ليصلوا معه، ولـم يكن قد علم بـهم، ثم صلى بـهم ليلةً ثانيةً وثالثة، وقد علم بـهم، وترك الصلاة بـهم في الرابعة؛ خوفًا من أن تفرض صلاة التراويح على أمته؛ قالوا: ففي هذه القصة ائتمَّ ناسٌ بالنبي في الليلة الأولى، مع أنه عليه الصلاة والسلام لـم ينوِ بـهم الإمامة، وأقرَّهم عليه الصلاة والسلام على ذلك، فدل هذا على أنه لا يُشترط لصحة صلاة المأموم أن ينوي الإمام إمامته.
وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول؛ ولأن المقصود هو المتابعة وقد حصلت، وفي هذه الحال يكون للمأموم ثواب صلاة الجماعة، وأما الإمام فإن كان المقتدي به واحدًا، وهو لـم ينو إمامته، فلا يكون له ثواب فضل الجماعة؛ لكونه لـم ينو الإمامة، بل نيته أن يصلي منفردًا، فلا يكون له إلا أجر ما نوى.
المسألة الثانية: أن ينوي الإمام الإمامة دون المأموم
وأما المسألة الثانية: وهي أن ينوي الإمام الإمامة دون المأموم، فصورتـها: رجلٌ يصلي وحده، ثم أتى بجانبه رجلٌ آخر وكبَّـر معه، فظن الأول أن هذا الذي كبَّـر بجانبه يريد أن يأتـمَّ به فنوى الإمامة، بينما هذا الرجل الذي كبَّـر بجانبه لـم ينوِ الائتمام، فتصح صلاة كل واحدٍ منهما منفردًا، ولا يحصل لهما ثواب الجماعة، أما المأموم فلكونه لـم ينوِ الائتمام، وإنـما نوى أن يصلي وحده، وأما الإمام فلكونه نوى الإمامة بغير أحد.
وبعد أن تحدثنا عن نية الإمامة والائتمام، ننتقل بعد ذلك للحديث عن: بعض أحكام الانتقال في النية
من أنواع الانتقال في النية
1- الانتقال من انفرادٍ إلى إمامة
من أنواع الانتقال في النية: الانتقال من انفرادٍ إلى إمامة؛ مثال ذلك: رجلٌ دخل المسجد وقد فاتته صلاة الجماعة، فكبَّـر يصلي وحده، وبعدما صلى ركعةً دخل المسجد رجلٌ آخر فائتـمَّ به، فهنا انتقل الرجل الأول الذي أصبح إمامًا في هذا المثال، انتقل من نية الانفراد إلى نية الإمامة، فهل يصح ذلك؟
هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:
- فمنهم من منع ذلك مطلقًا.
- ومنهم من قال يصح في النفل دون الفرض.
- ومنهم من قال: يصح في الفرض والنفل مطلقًا.
وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
ويدل لهذا القول: ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “عندما بات عند النبي ذات ليلة، فقام النبي يصلي من الليل، فقام ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن يساره، فأخذ النبي برأسه وجعله عن يـمينه” [1]، فقد انتقل النبي من انفرادٍ إلى إمامة، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي وحده، فلـمَّا ائتمَّ به ابن عباس؛ انتقل إلى كونه إمامًا، والأصل أن ما ثبت في النفل، ثبت في الفرض إلا بدليل.
من تأخر عن الجماعة فلحق بشخص أدرك الجماعة في بعض صلاته
من فروع هذه المسألة: أن من دخل المسجد وقد فاتته الجماعة، ووجد بعض المأمومين يقضون ما فاتـهم من الصلاة، فله أن يدخل مع أحدهم؛ لأجل تحصيل ثواب الجماعة، على الصحيح من أقوال الفقهاء.
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: “يجوز للشخص الذي جاء متأخِّرًا أن يقتدي بالشخص الذي لحق الجماعة في بعض الصلاة، ثم قام ليتمَّ ما بقي من صلاته بعد سلام الإمام، والأصل في ذلك: ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسَّنه ابن خزيـمة، وصححه ابن حبان والحاكم: أن النبي رأى رجلًا يصلي وحده، فقال: ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه؟! [2].
وما رواه الجماعة عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “بِتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عن يـمينه” [3].
وما رواه أحمد ومسلمٌ عن أنسٍ قال: “كان رسول الله يصلي في رمضان، فجئت فقمت خلفه، وقام رجلٌ إلى جنبي، ثم جاء آخر، حتى كنا رهطًا، فلـمَّا أحس رسول الله أنَّا خلفه؛ تـجوَّز في صلاته، ثم قام فدخل منزله، فصلى صلاةً لَـم يصلها عندنا، لـمَّا أصبحنا قلنا: يا رسول الله، أفطنت بنا الليلة؟ قال: نعم، فذلك الذي حملني على ما صنعت [4].
فهذه الأدلة وردت في جواز انتقال المنفرد إلى الإمامة في أثناء الصلاة النفل، والأصل عدم الفرق بين الفرض والنفل إلا بدليلٍ يقتضي التخصيص، وكونه مسبوقًا؛ لا يـمنع اقتداء غيره به فيما بقي عليه؛ ليحصل على فضل الجماعة في أصح قولي العلماء.
2- الانتقال من إمامةٍ إلى ائتمام
ومن أنواع الانتقال في النية: الانتقال من إمامةٍ إلى ائتمام؛ وصورة ذلك: صلى رجلٌ بالناس نائبًا عن إمام المسجد الذي تَـخلَّف، ثم إن إمام المسجد حضر، فتقدم ليكمل بالناس صلاة الجماعة، وتأخَّر نائبه إن وجد مكانًا في الصف، وإلا فعن يـمين الإمام، ففي هذه الحال انتقل الإمام النائب من إمامةٍ إلى ائتمام، وهذا جائزٌ، ولا بأس به في أرجح أقوال الفقهاء.
ودليله: أن النبي في مرض موته أمر أبا بكرٍ أن يصلي بالناس، ثم إن النبي وجد خِفَّةً، فخرج إلى الناس فصلى بـهم، فجلس عن يسار أبي بكرٍ الصديق، وأبو بكرٍ عن يـمنيه [5].
فهنا انتقل أبو بكرٍ من إمامةٍ إلى ائتمام، والمأمومون انتقلوا من إمامٍ إلى إمامٍ آخر.
ولكن مع قولنا بالجواز في هذه الصورة، إلا أنه ينبغي لإمام المسجد إذا حضر متأخِّرًا ألا يفعل ذلك، خروجًا من الخلاف؛ ولأنه قد يكون في هذا إرباكًا للمصلين.
3- الانتقال من ائتمامٍ إلى إمامة
ومن أنواع الانتقال في النية: الانتقال من ائتمامٍ إلى إمامة؛ وهذا النوع عكس النوع السابق، وصورته: أن يعرض للإمام عارضٌ في الصلاة، فيُنِيب أحد المأمومين؛ ليكمل بـهم ما تبقى من الصلاة، فقد انتقل هذا المأموم من كونه مأمومًا إلى كونه إمامًا، وهذا جائزٌ، ولا بأس به.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية المسائل المتعلقة بـهذا الشرط في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.