عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
لا يزال الجديث موصولًا عن شرط النية في الصلاة، وقد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من المسائل المتعلقة بهذا الشرط، وحديثنا في هذه الحلقة عن حالات الانتقال من نيةٍ إلى نيةٍ في الصلاة.
إنّ الانتقال من نيةٍ إلى نيةٍ في الصلاة له عدة صور، أبرزها:
الصورة الأولى: الانتقال من فرضٍ إلى فرض
وتبطل بسبب هذا الانتقال الصلاتان جميعًا، أما الأولى فلأنه قد قطع نيَّتَها، وأما الثانية فلأنه لَـم ينوها من أولها.
مثال ذلك: كبَّـر رجلٌ لصلاة العصر، ثم ذكر أنه لَـم يصل صلاة الظهر، أو أن صلاة الظهر كانت على غير وضوء، فنوى قلب الصلاة من العصر إلى الظهر، فهذا القلب للنية قد تسبب في إبطال الصلاتين جميعًا، فلا تصح صلاة العصر منه؛ لأنه قد قطع نِيَّتها، ولا تصح صلاة الظهر لكونه لَـم ينوها من أولها.
ولكن لو أنه لـمَّا تذكر أنه لَـم يصل صلاة الظهر، قطع صلاة العصر، ثم كبَّـر لصلاة الظهر، وأتى بـها من أولها، فإنه تصح صلاة الظهر في هذه الحال؛ لكونه قد أتى بالنية من أول الصلاة.
الصورة الثانية: الانتقال من فرضٍ إلى نفل
فيصح ذلك إذا كان في وقته المتسع، لكن يكره إذا كان لغير غرضٍ صحيح.
مثال ذلك: دخل رجلٌ في صلاة الظهر، وفي أثناء الصلاة قلب تلك الصلاة إلى نافلة، فيجوز ذلك إذا كان الوقت متسعًا للصلاة، أما إذا كان الوقت ضيقًا، بحيث لَـم يبق منه إلا بـمقدار أداء الفريضة، فإن هذا الانتقال لا يصح؛ لأن الوقت الباقي قد تعيَّـن للفريضة، فلم يصح أن يشغله بغيرها.
وقولنا: يكره ذلك إذا كان لغير غرضٍ صحيح؛ لكونه قد قلب الفريضة من غير سببٍ ولا فائدة، أما إذا كان قلب النية من فرضٍ إلى نفلٍ لغرضٍ صحيح، فإن هذا لا بأس به، بل قد يكون مستحبًا، كما لو شرع في صلاة فريضة منفردًا، ثم حضرت جماعة، فيستحب له في هذه الحال أن يقلب الفريضة إلى نافلة، ثم يصلي مع الجماعة لتحصيل فضل الجماعة؛ لأن هذا الرجل الذي قد شرع في الفريضة منفردًا، ثم حضرت الجماعة، هو بين أمورٍ ثلاثة:
- إما أن يستمر في صلاته منفردًا، فيفوته بذلك فضل الجماعة.
- وإما أن يقطع صلاته، ويدخل مع الجماعة، فيفوته أجر صلاته التي قد قطعها، وإن كان يحوز على فضل أجر الجماعة.
- وإما أن يقلب صلاته نفلًا، ثم يدخل مع الجماعة، فيحوز الأجرين: يحوز أجر الصلاة الأولى النافلة، ويحوز فضل صلاة الجماعة، ولا شك أن هذه الحال أفضل الأحوال: وهي أن يقلب الفريضة إلى نافلة، ثم يدخل مع الجماعة؛ ولكن لو خشي أن تفوته الجماعة؛ لكونه في أول الصلاة، ويخشى أنه إن أتـمَّها نافلةً؛ فاتته الجماعة، فالأفضل له في هذه الحال أن يقطع صلاته، ولا يكملها نافلةً لأجل تحصيل الجماعة.
فإن قال قائل: إنه قد دخل في فريضة، فكيف يقطعها؟ والأصل في قطع الفريضة المنع؟
فنقول: إنَّ قطع الفريضة إنـما يكون مـمنوعًا؛ إذا كان يقطع الفريضة ليتركها، أما إذا قطعها لينتقل إلى ما هو أفضل، فليس ذلك بـممنوع، وقد أمر النبي أصحابه الذين لَـم يسوقوا الهدي، أن يجعلوا حجَّهم عمرةً، من أجل أن يكونوا متمتعين؛ لأن التمتع أفضل من الإفراد؛ ولهذا لو نوى التحلل بالعمرة؛ ليتخلص من الحج لَـم يكن له ذلك، أما إذا انتقل للعمرة لأجل أن يكون متمتعًا، فهذا لا بأس به، بل هو مستحب، وهكذا نقول في الصلاة.
الصورة الثالثة: الانتقال من نَفْلٍ مـعيَّن إلى نفلٍ معيَّن
والحكم في هذه الصورة كالحكم في الصورة الأولى، وهي: الانتقال من فرضٍ إلى فرض، وسبق أن قلنا: إن الانتقال بالنية من فرضٍ إلى فرض لا يصح، وتبطل معه الصلاتان: الفريضة الأولى والثانية، وهكذا نقول في الانتقال من نفلٍ معيَّن إلى نفلٍ معيَّن: لا تصح معه الصلاتان، لا تصح معه النافلة الأولى؛ لأنه قد قطعها، ولا تصح معه النافلة الثانية؛ لكونه لَـم ينوها من أولها.
مثال ذلك: رجلٌ يصلي السنة الراتبة بعد صلاة العشاء، ثم إنه في أثناء الصلاة قلب نيَّته من راتبة العشاء إلى الوتر، فهنا انتقل من نفلٍ معيَّن إلى نفلٍ معيَّن، فراتبة العشاء معينة، وصلاة الوتر معينة، فتبطل في هذه الحال راتبة العشاء؛ لقطعه إياها، ولا تنعقد صلاة الوتر؛ لكونه لَـم ينوها من أولها.
الصورة الرابعة: الانتقال بالنية إلى نفلٍ مطلق
سواءٌ كان الانتقال من فريضة أو من نافلةٍ معينة، فلا بأس بذلك، وتصح الصلاة في هذه الحال، ولكن اشترط الفقهاء في الانتقال من الفريضة: أن يكون الوقت متسعًا، كما سبق بيان ذلك.
ووجه صحة الصلاة في هذه الحال: أن المعيَّـن من فريضةٍ أو نافلة، قد اشتمل على نيَّتين: نيَّةٍ مطلقة، ونيَّةٍ معينة، فإذا بطلت النية المعينة، بقيت النية المطلقة.
مثال ذلك بالنسبة للفريضة: دخل رجلٌ المسجد وقد فاتته صلاة الجماعة، فكبَّـر يصلي وحده صلاة الفريضة، ثم إنه سمع بعد ذلك بجماعةٍ تصلي حولها، فقلب نيَّته من فريضةٍ إلى نفلٍ مطلقٍ؛ لأجل أن يصلي مع الجماعة، فيحوز على فضل الجماعة، فلا بأس بذلك، ويصح قلب النية في هذه الحال.
ومثال ذلك بالنسبة للنافلة: شرع رجلٌ في صلاة الضحى، ثم بدا له في أثناء الصلاة أن يؤخر صلاة الضحى إلى آخر وقتها، حين ترمض الفصال؛ لكونه أفضل، فنوى قلب هذه الصلاة إلى نفلٍ مطلق، فلا بأس بـهذا، وتصح الصلاة في هذه الحال.
الخلاصة في تغيير النية
الحاصل في هذه المسألة: أن الصور أربعٌ:
- الصورة الأولى: انتقالٌ بالنية من فرضٍ إلى فرضٍ فلا يصح، ولا تصح معه الصلاتان: الصلاة المنتَقَل منها، والصلاة المنتَقَل إليها.
- الصورة الثانية: انتقالٌ بالنية من فرضٍ إلى نفلٍ مطلق، فيصح ذلك إذا كان الوقت متسعًا، لكن يكره إذا كان لغير غرضٍ صحيح.
- الصورة الثالثة: انتقالٌ بالنية من نفلٍ معيَّن إلى نفلٍ معيَّن، فلا يصح ذلك، ولا تصح معه الصلاتان: الصلاة المنتَقَل منها، والصلاة المنتَقَل إليها.
- الصورة الرابعة: انتقالٌ من فرضٍ أو نفلٍ معين إلى نفلٍ مطلق، فيصح ذلك.
ومن فروع هذه المسألة الأخيرة: أن من دخل في صلاة فريضةٍ، ثم تبيَّـن له أنه قد صلى قبل دخول الوقت، فإنـها تنقلب نفلًا.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن أحرم بفرضٍ فبان قبل وقته انقلب نفلًا؛ لأن نية الفرض تشتمل على نية النفل، فإذا بطلت نية الفرضية، بقية نية مطلق الصلاة”.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه المسائل، ونستكمل الحديث عن بقية المسائل المتعلقة بـهذا الشرط، في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.