الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عما اختلف في نجاسته:
مما اختلف في نجاسته
المني
نبدأ بالحديث عن منِـيِّ الإنسان: وقد اختلف الفقهاء فيه: هل هو طاهرٌ أم نجس؟ على قولين مشهورين:
- القول الأول: أنه نجسٌ، وإليه ذهب الحنفية والمالكية.
- القول الثاني: أنه طاهر، وإليه ذهب الشافعية والحنابلة.
وسبب الخلاف في هذه المسألة: هو خلاف العلماء في تفسير ما ثبت عن رسول الله ، من غسل المنـي رطبًا، وفركِه يابسًا، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وقد سُئلت عن المنـي يصيب الثوب؟ قالت: “كنت أغسله من ثوب رسول الله ، فيخرج إلى الصلاة، وأثر الغسل في ثوبه بقع ماء” [1].
وفي روايةٍ لمسلم: “كنتُ أفرك المنـي من ثوب رسول الله ، ثم يذهب فيصلي به” [2].
وفي رواية أحمد وابن خزيـمة: “كان رسول الله يسلت المنـي من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويَـحتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه” [3].
فأخذ القائلون بنجاسته من فركه يابسًا، وغسله رطبًا: دليلًا على نجاسته، قالوا: لأن النجاسة قد تزول بالفرك.
وأخذ القائلون بطهارته من الاكتفاء بفركه يابسًا دليلًا على طهارته؛ إذ لو كان نجسًا لوجب غسله.
والقول الصحيح في هذه المسألة: هو أنّ المنـي طاهر، وليس بنجس، وهو الذي عليه عامة المـحققين من أهل العلم؛ إذ أن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ظاهر الدلالة في عدم نجاسته؛ إذ أنَّـها كانت تفركه إذا كان يابسًا، ولو كان نجسًا لَمَا اكتفي فيه بالفرك، خاصةً وأن المنـي سائلٌ ثخينٌ، ويتشرب الثوب جزءً منه.
ومـما يدل لذلك: رواية أحمد وابن خزيـمة: “كان يسلت المنـي من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويـحتُّه من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه” [4].
ومعلومٌ أن سلت المنـي الرطب، وفرك اليابس، لا يزيل لون المنـي ورائحته، فدل ذلك على أنه طاهرٌ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الصواب أن المنـي طاهر، فإنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي ، وأن المنـي يصيب بدن أحدهم وثيابه، وهذا مـمَّا تعم به البلوى، فلو كان نجسًا لكان يجب على النبي أمرهم بإزالة ذلك من أبدانـهم وثيابـهم، كما أمرهم بالاستنجاء، وكما أمر الحائض بأن تغسل دم الحيض من ثوبـها، بل إصابة الناس المنـي أعظم بكثيرٍ من إصابة دم الحيض لثوب الحائض، ومن المعلوم أنه لَـم ينقل أحدٌ أن النبي أمر أحدًا من الصحابة بغسل المنـي من بدنه ولا ثوبه، فعلم يقينًا أن هذا لَـم يكن واجبًا عليهم، وهذا قاطعٌ لمن تدبَّره.
وأما كون عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تغسله تارةً من ثوب النبي ، وتفركه تارة، فهذا لا يقتضي تنجيسه، فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ، وهكذا، وقد قال غير واحدٍ من الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباسٍ وغيرهما: إنـما هو بـمنزلة المخاط والبصاق، أمطه عنك ولو بإذخرة، وسواءٌ كان الرجل مستنجيًا أو مستجمرًا، فإن منِيَّه طاهر.
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن منـيِّ المستجمِرِ نجسٌ لملاقاته رأس الذكر، فقوله ضعيف، فإن الصحابة كان عامتهم يستجمرون، ولـم يكن يستنجي بالماء منهم إلا قليلٌ جدًا، بل كان كثيرٌ منهم لا يعرفون الاستنجاء بل أنكروه، ومع هذا فلم يأمر النبي ، أحدًا منهم بغسل منيِّه، بل ولا بفركه”.
وقال في موضعٍ آخر: “ثم إن المنـي قد جعله الله تعالى أصلًا لجميع أنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين، والإنسان قد كرَّمه الله ، فكيف يكون أصله نجسًا؟! ولهذا قال ابن عقيل: وقد تناظر رجلان في طهارة ونجاسة المنـي، أحدهما يقول بطهارته، والآخر يقول بنجاسته، فقال لأحدهما: ما بالك وبال هذا؟! قال: أريد أن أجعل أصله طاهرًا، وهو يأبى إلا أن يكون نجسًا!”.
والحاصل: أن القول الأظهر في هذه المسألة، والذي تدل له النصوص والأصول والقواعد الشرعية: هو أن المنـي طاهر، وليس بنجس، والله تعالى أعلم.
ما يخرج من النساء من إفرازات
وأما ما يخرج من بعض النساء من إفرازات، وهو ما يسميه بعض الفقهاء: برطوبة فرج المرأة، فهو ناقضٌ للوضوء، وقد اختلف الفقهاء في كونه طاهرًا أو نجسًا، على قولين مشهورين:
- الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة على أنه طاهر.
- وذهب المالكية إلى أنه نجس.
وفصَّل بعض الفقهاء فقال: إن ما يخرج من إفرازاتٍ من الرحم عن طريق مسلك الذكر يكون طاهرًا، وما يخرج من المثانة عن طريق مخرج البول يكون نجسًا.
وهذا القول قولٌ وسطٌ بين القولين، وهو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
فإن ما يخرج من مخرج البول يكون ناتجًا عن استرخاء المثانة، فحكمه حكم البول، أشبه ما يخرج من ذكر الرجل من غير المنـي.
وأما ما يخرج من مسلك الذكر، فهو ليس من فضلات الطعام والشراب، فليس بولًا، والأصل عدم النجاسة حتى يقوم الدليل على ذلك، خاصةً وأن القول بالنجاسة في هذه الحال يترتب عليه حرجٌ كبير لدى من ابتلي بذلك من النساء.
والحاصل: أن من ابتليت برطوبة الفرج من النساء، فعليها أن تتحقق من مصدرها، فإن كانت من الرحم فهي طاهرة، على القول الراجح، وإن كانت من مسلك البول فهي نجسة، وعليها أن تتحفَّظ منها.
وسبق القول: بأن هذه الرطوبة تنقض الوضوء مطلقًا، سواء كان خروجها من مخرج البول، أو من مخرج الولد، ولكن إذا استمر مع المرأة، فحكمه حكم السلس، وحكم الاستحاضة، وتتوضأ لكل صلاة، والله تعالى أعلم.
المذي
وأما المذِيْ -بالذال-: وهو سائلٌ لزجٌ يخرج من الذكر عند الشهوة بلا دفق، وربـما لا يحس بخروجه، فهو نجسٌ في قول عامة الفقهاء، وقد حكى الحافظ ابن عبد البر والنووي رحمهما الله تعالى الإجماع على نجاسته.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن علي رضي الله تعالى عنه قال: “كنتُ رجلًا مذَّاءً، وكنتُ أستحي أن أسأل رسول الله ، لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ” [5]؛ فبيَّـن النبي في هذا الحديث حكم المذي، وأنه موجبٌ لغسل الذكر والوضوء.
وأوجب بعض الفقهاء غسل الأنثيين -أي: الخصيتين- بخروجه؛ لِمَا جاء في بعض روايات حديث علي: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ [6] وقد أخرج هذه الرواية أبو داود والنسائي وأحمد، ولكنها ضعيفةٌ من جهة السند، لا تثبت، والمـحفوظ من الحديث هو رواية الصحيحين: يغسل ذكره ويتوضأ.
وبناءً على ذلك نقول: الواجب بخروج المذي غسل الذكر والوضوء، وإنْ غَسَلَ الأنثيين مع الذكر خروجًا من الخلاف، كان ذلك حسنًا.
وإذا أصاب المذي اللباس فيكفي فيه النضح، ولا يلزم غسله؛ إذ أن نجاسته نجاسة مخفَّفة.
ويدل لذلك: ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد بسندٍ حسن، عن سهل بن حُنَيف رضي الله تعالى عنه، قال: “كنتُ ألقى من المذي شدَّةً، فسألت رسول الله ، فقال: إنـما يجزيك من ذلك الوضوء، قلت: يا رسول الله، فكيف بـما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء، تنضح به من ثوبك، حيث ترى أنه أصاب [7].
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 230، ومسلم: 289. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 289، وهذا لفظ أبي داود: 372. |
^3 | رواه ابن خزيمة: 294، وأحمد: 26059. |
^4 | سبق تخريجه. |
^5 | رواه البخاري: 269، ومسلم: 303. |
^6 | رواه أبو داود: 208، وأحمد: 1009. |
^7 | رواه أبو داود: 210، والترمذي: 115، وابن ماجه: 506، وأحمد: 15973، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. |