عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
تكلمنا في الحلقة السابقة عن بعض صور إزالة النجاسة، وحديثنا في هذه الحلقة عما تزول به النجاسة:
الأصل في تطهير النجاسات
وقد اتفق العلماء على أن الأصل في تطهير النجاسات هو الماء، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، فالماء هو الأصل الذي تُزَال به النجاسة، ولكن هل يـمكن أن تزول النجاسة بغير الماء، كالشمس والريح، وما وُجِد في الوقت الحاضر من وسائل الترشيح، والطرق الفنية المتقدمة؟
اختلف الفقهاء في ذلك:
- فذهب بعض الفقهاء إلى تعيُّن الماء لإزالة النجاسة، وأنـها لا تزول بغيره من الشمس والريح وغيرهما، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
- والقول الثاني في المسألة: أن النجاسة تزول بأي مزيلٍ من الشمس أو الريح أو غيرهما، وهذا هو مذهب الحنفية، وروايةٌ عن أحمد، واختارها شيخ ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.
وذلك لأن النجاسة عينٌ خبيثة، نجاستها بذاتها، فإذا زالت بأي سببٍ كان؛ عاد الشيء إلى طهارته؛ ولأن النجاسة من باب التروك، واجتناب المـحظور، الذي إذا حصل بأي سببٍ كان ثبت به الحكم؛ ولهذا لا يُشترط لإزالة النجاسة نِيَّة، وهي تدور مع الخبث وجودًا وعدمًا، فمتى زال الخبث بأي سببٍ كان زالت النجاسة، وهذا القول الأخير هو القول الراجح في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-.
حكم مياه المـجاري المتنجِّسة إذا عُولجت بوسائل التنقية الحديثة
وقد أخذ بـهذا القول السابق مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، في قراره الصادر بشأن حكم مياه المـجاري المتنجِّسة، إذا عُولجت بوسائل التنقية الحديثة، فهل تصبح طاهرةً؟ وقد قرر المـجلس أنـها تصبح طاهرة.
وجاء في القرار: “بناءً على ما ذكره أهل العلم، من أنّ الماء الكثير المتغيِّر بنجاسةٍ، يطهر إذا زال تغيُّره بنفسه، أو بإضافة ماءٍ طهورٍ إليه، أو زال تغيُّره بطول مكثٍ، أو تأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك؛ لزوال الحكم بزوال علته.
وحيث إن المياه المتنجِّسة يـمكن التخلُّص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مـمَّا طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يُعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يُبذل كثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقِّرره الخبراء المختصون بذلك، مـمن لا يتطرَّق الشك إليهم في عملهم وخبرتـهم وتجاربـهم.
لذلك: فإن المـجلس يرى طهارتـها بعد تنقيتها التنقية الكاملة، بحيث تعود إلى خلقتها الأولى، ولا يُرى فيها تغيُّر بنجاسةٍ من طعمٍ، ولا لونٍ، ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بـها منها، كما يجوز شربـها إلا إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع ذلك محافظةً على النفس وتفاديًا للضرر، لا لنجاستـها.
والمـجلس إذا يقرِّر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب، متى وجد إلى ذلك سبيل؛ احتياطًا للصحة، واتقاءً للضرر، وتنزُّهًا عما تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع”.
ما اختُلف في كونه نجسًا أو طاهرًا
أيها الإخوة: بعد ذلك ننتقل للكلام عن بعض ما اختلف في كونه نجسًا أو طاهرًا.
هل الخمر نجسة؟
نبدأ بالخمر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث في حلقاتٍ قادمةٍ عن بعض المسائل التي اختلف فيها من حيث النجاسة أو الطهارة، فنقول:
قد اختلف العلماء في نجاسة الخمر، وعلى ذلك يجري الخلاف في نجاسة الأطياب المشتملة على الكحول، وإذا استعمل الإنسان هذه الأطياب في لباسه، فهل ينجس ذلك اللباس بـهذا الاستعمال؟ وهل يجوز أن يصلي فيه أما لا؟
جمهور الفقهاء يرون أن الخمر نجسة، واستدلوا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، قالوا: والرجس: النجس.
وذهب بعض العلماء إلى أن الخمر طاهرةٌ وليست بنجسة، وهذا مرويٌ عن الليث وربيعة والمزني، واستدلوا لذلك بحديث أنس : “أن الخمر لـمَّا حرِّمت خرج الناس وأراقوها في الأسواق”، أخرجه البخاري في صحيحه [1].
قالوا: وأسواق المسلمين لا يجوز أن تكون مكانًا للنجاسة، فلو كانت الخمر نجسةً لَمَا جاز إراقتها في الأسواق.
وقالوا: إن النبي لـمَّا حرِّمت الخمر لـم يأمر بغسل الأواني منها، ولو كانت نجسةً لأمر بغسل الأواني منها، كما أمر بغسلها من لحوم الحمر الأهلية حين حُرِّمت.
وأيضًا: قد جاء في (صحيح مسلم): أن رجلًا أتى براويةٍ من خمرٍ، فأهداها للنبي ، فقال النبي : هل علمت أن الله قد حرّمها؟ فسارَّه رجلٌ: أن بعها، فقال النبي : بم سررته؟ قال: أمرته ببيعها، فقال النبي : إن الذي حرَّم شربها، حرَّم بيعها [2]، فأخذ هذا الرجل بفم الراوية، فأراق الخمر بحضرة النبي ، ولـم يأمره النبي بغسلها منه، ولا منعه من إراقتها هناك، فلو كانت الخمر نجسةً؛ لأمره النبي بغسل الراوية، ولنهاه عن إراقتها هناك.
قالوا: والأصل في الأشياء الطهارة، حتى يوجد دليلٌ يدل على النجاسة، ولا يوجد دليلٌ بيِّـنٌ واضحٌ يدل على نجاسة الخمر.
وأما الآية الكريـمة، فالمراد بالرجس في الآية: النجس نجاسةً معنويةً، وليس المراد به النجاسة الحسية، والدليل على ذلك: أن الرجس في الآية قُيِّد بقوله: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، فهو رجسٌ عملي، وليس رجسًا عينيًا ذاتيًا؛ بدليل أن الخمر قُرنت بالأنصاب والأزلام والميسر، ومعلومٌ أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسةً نجاسةً حسية، فقرن هذه الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في وصفٍ واحد، الأصل أن تتفق فيه، فإذا كانت الثلاثة الميسر والأنصاب والأزلام نجاستها نجاسةٌ معنويةٌ باتفاق العلماء، فكذلك الخمر نجاستها نجاسةً معنوية؛ لأن ذلك كله من عمل الشيطان.
وهذا القول الأخير، وهو: أن الخمر ليست بنجسةٍ نجاسةً حسيةً، هو الأظهر في هذه المسألة، والله أعلم.
حكم التطيب بالعطور التي فيها كحول
وبناءً على هذا: تكون الأطياب المشتملة على الكحول ليست بنجسة على القول الراجح، فلا يلزم تطهير الثياب منها.
ولكن على القول بعدم نجاسة الخمر، هل يجوز التطيب بـهذه الأطياب؟
نقول: إن الله تعالى أمر باجتناب الخمر في الآية الكريـمة، والاجتناب المأمور به هو ما عُلِّل الحكم به، وهو اجتناب شربه؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، فهذه العلة المذكورة في الآية لا تثبت فيما إذا استعمله الإنسان في غير الشرب.
وبناءً على ذلك نقول: لا بأس باستعمال تلك الأطياب.
وبعض أهل العلم يقول: الأحوط اجتناب التطيُّب بـها على سبيل التورُّع. والله تعالى أعلم.
ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.