عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام التيمم، ونقول:
صفة التراب الذي يُتيمم به
اشترط بعض الفقهاء: أن يكون التيمم بترابٍ له غبار، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية.
وقال بعضهم: يجوز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من ترابٍ، وسَبِخةٍ، ورملٍ، وغيره، وهو مذهب الحنفية والمالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.
قال ابن القيم: “كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابًا كانت أو سبخةً أو رملًا، وصح عنه أنه قال: أيُّـما رجلٌ من أمتي أدركته الصلاة، فعنده مسجده وعنده طهوره [1]، وهذا نصٌ صريحٌ في أن من أدركته الصلاة في الرمل، فالرمل له طهور؛ ولـمَّا سافر وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القِلَّة، ولـم يُرْوَ عنه أنه حمل معه ترابًا، ولا أمر به، ولا فعله أحدٌ من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبَّر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل”.
صفة التيمم
وصفة التيمم: أن يضرب التراب بيديه، مُفرَّجَتي الأصابع، ضربةً واحدة، ثم يـمسح وجهه بباطن أصابعه، ويـمسح كفَّيه براحتيه.
ويدل لهذا: حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، وفيه: أن النبي قال له: إنـما كان يكفيك أن تصنع هكذا وضرب النبي بكفَّيه الأرض، ثم مسح بـهما وجهه وكفَّيه [2].
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن ضرب الأرض عند التيمم إنـما يكون مرةً واحدة، فبعض العامة يضرب الأرض عدة مرات، وكأنه يرى أن التيمم لا يجزئ عن الماء إلا بـهذه الطريقة، وهذا خطأ مخالف للسنة، فإن التيمم عبادة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يُزاد عما جاءت به السنة.
نعم، قال بعض الفقهاء: إنّ التيمم ضربتان: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين، ولكنه قولٌ مرجوح؛ لأن الحديث الذي اعتمدوا عليه في تقرير هذا الحكم حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح عن رسول الله ، وهو حديث ابن عمر: التيمم ضربتان: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين [3]، أخرجه الحاكم والبيهقي، وهو حديثٌ ضعيف.
حكم نفخ المتيمم يديه بعد ضربهما الأرض
ولا بأس أن ينفخ المتيمم كفَّيه بعد ضربـهما الأرض، وقبل مسح الوجه والكفَّين.
ويدل لذلك: ما جاء في “صحيح البخاري” عن عمار بن ياسر : أن النبي قال: إنـما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي بكفَّيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفَّيه [4].
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “استدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب؛ ولهذا جاء في روايةٍ عند البخاري: “ثـم أدناهما من فيه” [5]، وهي كنايةٌ عن النفخ، وفيها إشارة إلى أنه كان نفخًا خفيفًا”.
وهل هذا النفخ الذي حصل من النبي وقع موقع التشريع، أو أنه فعله لشيءٍ علق بيده؟
يحتمل الوجهين؛ ولهذا بوَّب البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: “بابٌ: المتيمم هل ينفخ فيهما؟”.
قال الحافظ ابن حجر: “إنـما ترجم البخاري بلفظ الاستفهام؛ ليُنبِّه على أن فيه احتمالًا؛ لأن النفخ يحتمل أن يكون لشيءٍ عَلِق بيده، خشي أن يصيب وجهه الكريم، أو عَلِق بيده من التراب شيءٌ له كثرة، فأراد تخفيفه؛ لئلا يبقى له أثرٌ في وجهه، ويحتمل أن يكون لبيان التشريع”.
وعلى جميع الاحتمالات: يدل هذا على أنه لا بأس أن ينفخ المتيمم كفَّيه، بعد ضربـهما الأرض، والله تعالى أعلم.
هل التيمم يرفع الحدث؟
وقد اختلف الفقهاء في التيمم: هل هو رافعٌ للحدث، أو أنه مُبِيحٌ لِمَا تجب له الطهارة؟
قولان مشهوران:
ويترتب على هذا الخلاف أننا إذا قلنا: إنه مبيحٌ وليس برافعٍ للحدث، فإذا نوى التيمم عن عبادةٍ، لَـم يستبح به ما فوقها، فإذا تيمم لنافلةٍ لَـم يصل به فريضة؛ لأن الفريضة أعلى، وإذا تيمم لمس المصحف، لَـم يصل به نافلة.
أما إذا قلنا: إنه رافعٌ للحدث، فإنه إذا تيمم لنافلةٍ، جاز أن يصلي به فريضة، وإذا تيمم لمس المصحف جاز أن يصلي به ما شاء من فرائض ونوافل.
ويترتب على هذا الخلاف أيضًا: أنه على القول بأن التيمم مُبِيحٌ، إذا خرج الوقت بطل التيمم؛ لأن المبيح يُقتصَر فيه على قدر الضرورة، فإذا تيمم للمغرب مثلًا ولـم يحدث حتى دخل وقت العشاء، فعليه أن يعيد التيمم.
وعلى القول بأنه رافعٌ، لا يجب عليه إعادة التيمم، ولا يبطل بخروج الوقت، بل هو كالوضوء بالماء تـمامًا.
والقول الصحيح الذي عليه المـحققون من أهل العلم: أن التيمم رافعٌ للحدث، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “إن الله تعالى شرع التيمم عند عدم الماء، أو تعذُّر استعماله، وجعله قائمًا مقام الماء عند عدمه، وهذا يقتضي أن حكمه حكم الماء في كل أحواله، فعلى هذا: القول الصحيح: لا يشترط له دخول الوقت، ولا يبطل بدخوله ولا بخروجه، بل إذا تيمم الإنسان لَـم يزل على طهارة، حتى يُوجد منه شيءٌ من نواقض الطهارة، وعلى هذا: إذا تيمم للنفل استباح به الفرض وما دونه.
ومـما يؤيد هذا القول: أن النصوص لـمَّا رخَّصت في التيمم لَـم تشترط شيئًا من هذه الأمور، بل أطلقت حكمه، فدل ذلك على أن حكمه حكم الماء في كل شيءٍ من دون استثناء، وهذا أيضًا جارٍ على القاعدة المشهورة: إن البدل له حكم المبدل”.
وهذه القاعدة التي أشار إليها الشيخ: أن البدل له حكم المبدل، تنطبق على هذه المسألة، ولكن إذا وجد المبدل وهو الماء، بطلت طهارة التيمم، وعليه أن يغتسل إذا كان التيمم عن غسلٍ، وأن يتوضأ إذا كان التيمم عن وضوء، ويدل لذلك قول النبي : الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لَـم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليُمِسَّه بَشَرَته، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد بسندٍ صحيحٍ [6].
وبناءً على ذلك: إذا كان الإنسان جُنُبًا، ثم تيمم عن هذه الجنابة، وصلى بذلك، فإنه إذا تيسر له الماء، كأن وصل إلى بلد الإقامة مثلًا، وتيسر له الاغتسال بالماء، فإنه يجب عليه أن يغتسل بالماء؛ وذلك لأن التيمم وإن كان يقوم مقام الماء، إلا أن طهارة التيمم طهارةٌ مؤقتة بعدم وجود الماء، فإذا وجد الماء بطلت هذه الطهارة، وعليه أن يغتسل بـهذا الماء، وأن يتوضأ إذا كان حدثه أصغر؛ لعموم هذا الحديث: إذا وجد الماء فليُمِسَّه بَشَرَته [7].
أيها الإخوة، نستكمل بقية أحكام التيمم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية