الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(9) آداب قضاء الحاجة- حكم استقبال القبلة واستدبارها
|categories

(9) آداب قضاء الحاجة- حكم استقبال القبلة واستدبارها

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة

لا يزال الحديث موصولًا عن آداب قضاء الحاجة، فنقول:

عدم استقبال القبلة واستدبارها، فقد صح عن رسول الله النهي عن استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة، ففي “الصحيحين” عن أبي أيوبَ الأنصاري  أن رسول الله قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلةَ ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا[1].

وفي “الصحيحين” أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله يقضي حاجته مستدبر القبلة، مستقبلَ الشام”[2].

فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: يحرم استقبال القبلة واستدبارها مطلقًا، في الفضاء وفي البنيان، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، وقد استدلوا بظاهر حديث أبي أيوب : إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شَرِّقوا أو غربوا[3].

القول الثاني: يكره استقبال القبلة واستدبارُها أثناء قضاء الحاجة، وهذا هو مذهب الحنفية، وقد استدلوا لهذا القولِ بحديث أبي أيوب السابق، ولكنهم حملوا النهي فيه على الكراهة، قالوا: والصارف للنهي من التحريم إلى الكراهة: هو حديث ابنِ عمر .

القول الثالث: أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في غير البنيان، وأما البنيان فيجوز ذلك، وإليه ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا لتحريم استقبال القبلة واستدبارها في غير البنيان، بحديث أبي أيوب ، واستدلوا لجوازه في البنيان بحديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وأرجح هذه الأقوال -والله تعالى أعلم- هو القول الأول، وهو أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة مطلقًا، سواءٌ كان ذلك في الفضاء أو في البنيان، وهذا هو القول الذي رجحه أكثر المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، وذلك؛ لأن الأحاديث الواردة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة مطلقًا، أصحُّ وأصرح.

قال ابن القيم رحمه الله: “نهى النبي عن استقبال القبلة ببولٍ أو غائطٍ في حديث أبي أيوب وسلمان الفارسي وأبي هريرة ومَعقِل بن أبي معقل، وعبدالله بن حارثٍ، وجابر بن عبدالله، وعبدالله بن عمر ، وعامة هذه الأحاديث صحيحةٌ، والمعارض لها إما معلول السند، وإما ضعيف الدلالة، فلا يرُدُّ صريحَ نهيه  المستفيض عنه بذلك”.

ثم أجاب عن الاستدلال بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: “أما حديث ابن عمر لمَّا رأى رسول الله يقضي حاجته مستدبر الكعبة، فهذا يحتمل وجوهًا ستةً؛ نسخ النهي به، وعكسه، وتخصيصه به ، وتخصيصه بالبنيان، وأن يكون لعذرٍ اقتضاه بمكانٍ أو غيره، وأن يكون بيانًا؛ لأن النهي ليس على التحريم، ولا سبيل إلى الجزم بواحدٍ من هذه الوجوه على التعيين”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

ثم بيَّن أن القول بجواز ذلك في البنيان دون غيره لا ينضبط؛ لأنه يوجد في الفضاء والصحاري من الجبال والأودية والتلال والأشجار ما هو أعظم من جدران البنيان.

قال رحمه الله تعالى: “ويقال لهم: ما حد الحاجز الذي يجوز ذلك معه في البنيان؟ ولا سبيل إلى ذكر حدٍّ فاصلٍ، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوِّزًا لذلك لزمهم جوازه في الفضاء الذي يحول بين البائل وبينه جبلٌ قريبٌ أو بعيدٌ، كنظيره في البنيان، وأيضًا فإن النهي تكريم لجهة القبلة؛ وذلك لا يختلف بفضاءٍ ولا بنيانٍ، وليس مختصًّا بنفس البيت، فكم من جبلٍ وأكمةٍ حائلٌ بين البائل وبين البيت بمثل ما تَحُول جدران البنيان وأعظم، وأما جهة القبلة، فلا حائل بين البائل وبينها، وعلى الجهة وقع النهي، لا على البيت نفسه، فتأمله”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى[4].

وكلام ابن القيم في هذا فقهٌ دقيقٌ منه رحمه الله تعالى؛ فإن النهي الوارد في الحديث هو عن استقبال القبلة وعن استدبارها، وليس عن استقبال البيت واستدباره، وإذا كان النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، فذلك لا يختلف بين أن يكون ذلك في بنيانٍ أو في غير بنيانٍ، وبهذا؛ يتبين أن القول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة مطلقًا، سواءٌ كان في بنيانٍ أو في غير بنيانٍ.

ولهذا؛ فننبه الإخوة على أن من أراد أن يبني بيتًا ينبغي له أن يحرص على ألا تكون دورات المياه مستقبلةً أو مستدبرةً القبلة.

الحكم فيمن وجد المرحاض تجاه القبلة

ولكن ما الحكم فيمن وجد المرحاض مبنيًّا تجاه القبلة؟

نقول: يفعل كما فعل الصحابة  قال أبو أيوب الأنصاري ، لمَّا روى قول النبي : إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا. قال أبو أيوب : “فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قِبَل القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى”[5].

وقول أبي أيوب : “ننحرف عنها ونستغفر الله”. كأنه رأَى أن هذا الانحراف غير كافٍ؛ ولهذا قال: “ونستغفر الله”.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يكفي الانحراف اليسيرُ عن جهة القبلة أو لا يكفي؟

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، أنه لا يكفي؛ وذلك لأن الانحراف اليسير في استقبال القبلة في الصلاة لا يضر، فلو انحرف عن جهة القبلة يسيرًا فصلاته صحيحة، ولا يُؤثر ذلك الانحراف، فكذلك أيضًا هنا لا يؤثر الانحراف اليسير عن جهة القبلة حال قضاء الحاجة في الخروج من النهي، والله تعالى أعلم.

عدم دخول الخلاء بشيءٍ فيه ذكر الله

ومما يذكره الفقهاء في هذا الباب: أنه يُكره دخول الخلاء بشيءٍ فيه ذكر الله تعالى؛ تعظيمًا لله تعالى عن موضع القاذورات.

وقد أخرج أبو داود في “سننه” عن أنسٍ  قال: “كان النبي إذا دخل الخلاء وضع خاتمه”[6]. قال أبو داود: “هذا حديثٌ منكرٌ”، وقال النسائي: “غير محفوظٍ”[7]، وقال ابن القيم في “تهذيب السنن”: “الحديث شاذٌّ أو منكرٌ، كما قال أبو داود، وغريبٌ كما قال الترمذي[8][9].

وبهذا يكون هذا الحديث غير ثابتٍ، ولكن العلماء كرهوا دخول الخلاء بشيءٍ فيه ذكر الله تعالى؛ تعظيمًا لله ​​​​​​​، وقالوا: يجوز ذلك لحاجةٍ، كما لو خشي عليه من السرقة أو الضياع، ونحو ذلك.

قال الإمام أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم فيها ذكر الله قال: “أرجو ألا يكون به بأسٌ”.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “الدراهم إذا كتب عليها “لا إله إلا الله”، وكانت في منديلٍ أو خريطةٍ، يجوز أن يدخل بها بيت الخلاء”.

وأما المصحف، فقال المرداوي رحمه الله تعالى، في “الإنصاف”: “دخول الخلاء بمصحفٍ من غير حاجة لا شك في تحريمه قطعًا، ولا يتوقف في هذا عاقل”[10].

والحاصل: أنه يكره دخول الخلاء بشيءٍ فيه ذكر الله تعالى، فيحرم دخول الخلاء بالمصحف، وتزول الكراهة والتحريم عند وجود الحاجة.

التسمية داخل دورة المياه

بقي أن يقال أيها الإخوة: إنَّ من الناس من يتوضأ داخل دورة المياه فكيف يسمي في أول الوضوء؟

نقول: يسمي قبل دخوله دورة المياه، وأما إذا نسي ودخل دورة المياه، فمن العلماء من قال: يسمي بقلبه، ومنهم من قال: يسمي ولو كان داخل دورة المياه.

قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: “لا بأس أن يتوضأ داخل الحمام، ويُسمي عند أول الوضوء؛ لأن التسمية واجبةٌ عند بعض أهل العلم، ومتأكدةٌ عند الأكثر، فيأتي بها وتزول الكراهة؛ لأن الكراهة تزول عند وجود الحاجة إلى التسمية”[11].

أيها الإخوة المستمعون: نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 البخاري: 394، ومسلم: 264.
^2 البخاري: 148، ومسلم: 266.
^3 سبق تخريجه.
^4 زاد المعاد: 2/ 352.
^5 رواه البخاري: 394.
^6 أبو داود: 19.
^7 السنن الكبرى: 9470.
^8 الترمذي: 1746.
^9 تهذيب السنن: 1/ 16.
^10 الإنصاف: 1/ 190.
^11 مجموع فتاوى ابن باز رحمه الله تعالى: 10/ 28.
مواد ذات صلة