عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة المستمعون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن جملةٍ من المسائل المتعلقة بأحكام الاستنجاء والاستجمار، ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن بقية أحكام وآداب قضاء الحاجة، فنقول:
دعاء دخول الخلاء والخروج منه
يستحب عند دخول الخلاء قول: “بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث”، ويدل لذلك حديث علي بن أبي طالبٍ أن النبي قال: سَتْرُ ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدُهم الخلاء أن يقول: بسم الله، أخرجه الترمذي وابن ماجه[1]، وقال الترمذي: “إسناده ليس بالقوي”، ولكن للحديث طرقٌ وشواهدُ متعددةٌ يرتقي بها إلى درجة الحَسَن أو الصحيح.
وفي “الصحيحين” عن أنسٍ قال: كان النبي إذا دخل الخلاء قال: اللهُم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث[2].
وقوله في هذا الحديث: “إذا دخل الخلاء” أي: إذا أراد دخول الخلاء، كما نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله تعالى وغيره، فهو كقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[النحل: 98]. أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله.
وقوله: “الخُبُث والخبائث”. بضم الباء، قال الخطَّابي: “إنه لا يجوز غيره”[3].
وقال النووي: “قد صرَّح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة، أي الخُبْث، منهم أبو عبيد[4]، إلا أن ترك التخفيف أولى؛ لئلا يتشبه بالمصدر”[5].
ومعنى “الخُبُث” بضم الباء: ذُكْرانُ الشياطين، و “الخبائث” إناثُهم، والمعنى -على رواية التسكين- “الخُبْث” أي: الشر، و “الخَبائث”: النفوس الشريرة.
وفائدة هذا الذكر:
أما البسملة: فهي سَتْرُ ما بين الجن وعورات بني آدم، كما صح ذلك عن رسول الله ؛ وذلك أن أماكن الخلاء هي مأوًى للشياطين، وتتكشف فيها عورات بني آدم، فمن رحمة الله تعالى بهم، أن جعل التسمية سترًا بين الجن وعوراتهم.
وأما فائدة الاستعاذة: فهي الالتجاء إلى الله تعالى من الشياطين، ومن النفوس الشريرة؛ لأن الخلاء هو مأوى الشياطين.
وجاء في رواية ابن ماجه من حديث أبي أمامة أن النبي قال: لا يَعجزنَّ أحدكم إذا دخل مِرفَقه أن يقول: اللهم إنّي أعوذُ بك من الرِّجْسِ النَّجِس، الخبيثِ الـمُخبِث، الشيطان الرجيم[6].
ولكن هذا الحديث ضعيفٌ، قد أخرجه ابن ماجه من طريق عبيدالله بن زَحْرٍ الضَّمري، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبي أمامة به، قال ابن حبان: “إذا اجتمع في إسنادِ خبرٍ عبيدالله بن زَحْرٍ، وعلي بن يزيد، والقاسم؛ فذاك مما عملته أيديهم” [7].
وبهذا؛ يكون الذكر الثابت عند دخول الخلاء هو أن يقول: “بسم الله، اللهُم إني أعوذ بك من الخُبُث الخبائث”. من غير زيادة: “من الرجس النجس الشيطان الرجيم”؛ لعدم ثبوت هذه الزيادة.
وأما عند الخروج من الخلاء: فيستحب أن يقال: “غفرانَك”؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي إذا خرج من الخلاء قال: غفرانَك. أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقيُ وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ [8].
وأما ما أخرجه ابن ماجه عن أنسٍ قال: كان النبي إذا خرج من الخلاء يقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني[9]. فهو ضعيفٌ من جهة السند؛ ففي سنده إسماعيل بن مسلمٍ المكي، وهو ضعيف الحديث، ولذا قال الدارقطني: “هو حديثٌ غير محفوظٍ”.
وبهذا؛ يكون الذكر الثابت المحفوظُ عند الخروج من الخلاء، هو أن يقول: غفرانَك. من غير أن يزيد عليه: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني؛ لكونه غير ثابتٍ.
ومعنى غفرانك أي: أسألك غفرانك، وهو مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديره: أسألك.
الحكمة من سؤال المغفرة بعد الخروج من الخلاء
والحكمة من سؤال المغفرة بعد الخروج من الخلاء، هي: أن الإنسان لما تَخفَّف من أذية الجسم تَذَكَّر أذية الإثم فدعا الله تعالى أن يخفف عنه أذية الإثم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “في هذا من السر، والله أعلم: أن النَّجْوَ -أي: الأذى من البول والغائط- يُثقِل البدن ويُؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتُؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضرّان بالبدن والقلب، فحَمِد الله تعالى عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه وخِفَّة البدن وراحته، وسأل أن يُخَلِّصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه ويخففه”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى[10].
كيفية دخول الخلاء
ويستحب عند دخول الخلاء: تقديم رجله اليسرى عند الدخول، وتقديم رجله اليمنى عند الخروج.
وقد استحب بعض الفقهاء: أن يمسح الرجل ذَكَره بيده اليُسرى إذا فرغ من بوله، من أصلِ ذَكَره إلى رأسه، وأن ينتُره، وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا، وقال: “سَلْتُ البول بدعةٌ؛ لم يَشرع ذلك رسول الله ، والحديث المروي في ذلك ضعيفٌ لا أصل له”.
قال: “والبول يخرج بطبعه، وإذا فَرَغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل كالضَّرع إن تركته قرّ، وإن حلبته درّ، وكلما فتح الإنسان ذكره فقد يخرج منه، ولو تركه لم يخرج منه، وقد يخيَّل إليه أنه خرج منه وهو وسواسٌ”.
قال: “والاستجمار بالحجر كافٍ لا يحتاج إلى غسل الذكر بالماء، ويستحب لمن استنجى أن ينضح على فرْجه ماءً، فإذا أحس برطوبته قال هذا من ذلك الماء.
وأما من به سلسُ البول، وهو أن يجري بغير اختياره لا ينقطع، هذا يتخذ حِفَاظًا يمنعه، فإن كان البول ينقطعُ مقدار ما يتطهر ويصلي، وإلا صلى وإن جرى البول كالمستحاضة، ويتوضأ لكل صلاةٍ”. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى[11].
حكم البول قائمًا
ومن آداب قضاء الحاجة: أن يبول قاعدًا.
وأما البول قائمًا فقد اختلف العلماء في حكمه؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “كان أكثرَ ما يبولُ وهو قاعدٌ، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: “من حدَّثكم أنه كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبولُ إلا قاعدًا”.
قلت: وهذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد [12]، بسندٍ صحيحٍ.
قال رحمه الله تعالى: “وقد روى مسلمٌ في “صحيحه” من حديث حذيفة أن النبي بالَ قائمًا”.
قلت: وهو في “صحيح البخاري” كذلك، فيكون هذا الحديثُ في “الصحيحين” [13].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “فقيل: هذا بيانٌ للجواز، وقيل: إنما فعله من وجعٍ كان بمَأبِضَيه، والـمَأبِضان: تثنية مَأبِضٍ، وهي باطن الركبة، وقيل: فعله استشفاءً، قال الشافعي رحمه الله تعالى: والعرب تستشفي من وجع الصلبِ بالبول قائمًا.
والصحيح: أنه إنما فعل ذلك تنزُّهًا وبُعدًا من إصابة البول؛ فإنه إنما فعل هذا لمَّا أتى سُباطةَ قومٍ -وهي مُلْقَى الكُناسة، وتسمى المزبلة- وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعدًا لارتد عليه بوله، وهو استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط، فلم يكن بدٌ من بوله قائمًا”. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى [14].
والحاصل أيها الإخوة: أنه ينبغي لمن أراد أن يبول: أن يبول قاعدًا؛ فإن احتاج لأن يبول وهو قائمٌ جاز ذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن يأمن من تلويث النجاسة.
والشرط الثاني: أن يأمن من انكشاف عورته.
هديه عند قضاء الحاجة
ونختم هذه الحلقة بذكر بعض ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى لهديه عند قضاء الحاجة.
قال: “كان يستنجي بالماء تارةً، ويستجمر بالأحجار تارةً، ويجمع بينهما تارةً، وكان إذا ذهب في سفره للحاجة انطلق حتى يتوارى عن أصحابه، وكان إذا أراد أن يبول في عَزازٍ من الأرض -وهو الموضع الصُّلب- أخذ عودًا من الأرض فنكتَ به حتى يُثَرَّى ثم يبول، وكان يرتاد لبوله الموضع الدَّمِث، وهو: اللَّين الرَّخو من الأرض” [15].
أيها الإخوة المستمعون: هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم في الحلقة القادمة على خيرٍ إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | الترمذي: 606، وابن ماجه: 297. |
---|---|
^2 | البخاري: 142، ومسلم: 375. |
^3 | ينظر معالم السنن: 1/ 10، 11. |
^4 | أي: القاسم بن سلام، وينظر غريب الحديث له: 2/ 192. |
^5 | شرح النووي على مسلم: 4/ 71. |
^6 | ابن ماجه: 299. |
^7 | المجروحين (2/ 62، 63. |
^8 | أبو داود: 30، والترمذي: 7، والحاكم: 562، والبيهقي: 466، وأحمد: 25220، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. |
^9 | ابن ماجه: 301. |
^10 | إغاثة اللهفان: 1/ 58. |
^11 | مجموع الفتاوى (21/ 106-107. |
^12 | الترمذي: 12، والنسائي: 29، وابن ماجه: 307، وأحمد: 25045، وقال الترمذي: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح. |
^13 | البخاري: 224، ومسلم: 273/ 73 |
^14 | زاد المعاد: 1/ 164، 165. |
^15 | زاد المعاد: 1/ 164. |