الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(4) البيوع المنهي عنها- بيع المسلم على بيع أخيه وبيع العينة وحكم التورُّق
|categories

(4) البيوع المنهي عنها- بيع المسلم على بيع أخيه وبيع العينة وحكم التورُّق

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

وبعد:

قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُمْلةٍ من البيوع المنهي عنها، ونستكمل الحديث في هذه الحلقة بذكر جملة أخرى من البيوع المنهي عنها، فنقول:

من البيوع المنهي عنها

بيع المسلم على بيع أخيه

كأن يقول لمن اشترى سلعة بمائة ريال مثلًا: أنا أبيعك مثلها بتسعين، أو يقول: أنا أبيعك بثمنها خيرًا منها.

ويحرم كذلك شراء المسلم على شراء أخيه، كأن يقول لمن باع سلعة بتسعين ريالًا مثلًا: أنا أشتريها منك بمائة ريال.

ويدل على تحريم ذلك قول النبي : لا يبع بعضكم على بيع بعض [1]، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ولما في البيع على بيع أخيه أو الشراء على شرائه من الإضرار بأخيه المسلم والعدوان عليه.

وفي معنى البيع على بيع أخيه والشراء على شرائه، الإجارة على إجارة أخيه، والاستئجار على استئجاره؛ فإن الإجارة بيع منافع فتأخذ حكم البيع.

وأما السوم على سوم أخيه، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن رسول الله  قال: لا يسم المسلم على سوم أخيه [2].

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني: “لا يخلو -أيْ السوم- من أربعة أقسام:

  • أحدها: أن يوجد من البائع تصريحٌ بالرضا بالبيع، فهذا يحرّم السوم على غير ذلك المشتري؛ وهو الذي تناوله النهي.
  • الثاني: أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا، فلا يحرم السوم.
    واستدل الموفق رحمه الله لهذا القسم بما أخرج الترمذي وغيره عن أنس : “أن رجلًا من الأنصار شكى إلى النبي  الشدة والجهد، فقال: أما بقي لك شيء؟ قال: بلى، قدحٌ وحلس، قال: فائتني بهما، فأتاه بهما فقال: من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي : من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجلٌ درهمين، فباعهما منه” [3]، ولكن إسناد هذا الحديث ضعيف لجهالة أحد رواته.
    ولكن قال الموفق رحمه الله: هذا -أيْ القول بجواز السوم في هذه الصورة- إجماع المسلمين؛ فإن المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة”.
  • الثالث: ألا يوجد منه -أيْ من البائع- ما يدل على الرضا ولا على عدمه، فلا يحرم السوم أيضاً ولا الزيادة؛ استدلالًا بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت للنبي أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة، وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه، كما نهى عن السوم على سوم أخيه، فما أُبيح في أحدهما أُبيح في الآخر.
  • الرابع: أن يظهر منه -أيْ من البائع- ما يدل على الرضا من غير تصريح، فقال القاضي: “لا تحرم المساومة”.
    قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ولو قيل بالتحريم هاهنا لكان وجهًا حسنًا؛ فإن النهي عامٌ خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم، ولأنه وجِد منه الرضا، أشبه ما لو صرّح به، ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة”.

بيع العينة

ومن البيوع المحرّمة: بيع العينة؛ والعينة مشتقةٌ من “العين” وهو النقد الحاضر، كما قال الأزهري وغيره، وسُمّيت بذلك لأن أحد المتبايعين يقصد بالبيع العين، أي النقد لا السلعة.

وصورتها: أن يبيع سلعة على شخص بثمنٍ مؤجَّل، ثم يشتريها منه بثمنٍ حالٍّ أقل من المؤجَّل، كأن يبيعه سيارة بخمسين ألف ريال مثلًا إلى أجل، ثم يشتريها منه بأربعين ألف ريال حالّة يسلمها له، وتبقى عشرة آلاف ريال في ذمته إلى حلول الأجل.

فيحرم ذلك لأنه حيلة يتوصل بها إلى الربا، فكأنه باع خمسين ألف ريال مؤجَّلة بأربعين ألف ريال حالّة، وجعل السيارة بينهما حيلة فقط.

ويدل على تحريم مسألة العينة قول النبي : إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذُلّاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم [4]، أخرجه أبو داود وغيره بإسناد جيد.

ولقول عائشة رضي الله عنها لما قالت أم ولد زيد بن أرقم: “يا أم المؤمنين! إنّي بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم -أي نقدًا-، فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريتِ وبئس ما اشتريتِ، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب” [5]، رواه أحمد.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “الظاهر أن عائشة رضي الله عنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف من النبي ، فجرى ذلك مجرى روايتها عنه”.

ولأن ذلك ذريعةٌ إلى الربا؛ فإنه يُدخِلُ السلعة ليستبيح بيع ألفٍ بخمسمائة إلى أجل، وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذه المسألة: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة -يعني خرقة حرير- جعلاها في بيعهما.

وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن نهي النبي عن بيعتين في بيعة، وعن صفقتين في صفقة، وعن شرطين في بيع، أن المقصود بذلك كله هو مسألة العينة.

ومما سبق تبيّن أن مسألة العينة هي أن يبيع السلعة بثمنٍ مؤجَّل ثم يشتريها بثمن حالٍّ أقل من المؤجَّل.

أما إن باع السلعة بثمنٍ مؤجَّل ثم اشتراها بأكثر من ثمنها أو بمثله، فلا بأس بذلك؛ لأنه لا يكون ذلك حينئذ ذريعة إلى الربا.

مثال ذلك: رجلٌ باع سيارة على آخر بخمسين ألف ريال إلى أجل، ثم إن البائع ندم على ذلك البيع وأراد أن يشتريها ممن باعها عليه باثنين وخمسين ألفًا، أو بخمسين ألف ريال نقدًا -مثلاً-، فلا بأس بذلك، وإنما الممنوع أن يشتريها نقدًا بأقل مما باعها به.

وأما إن اشتراها بعرَضٍ من العروض، أو كان بيعها الأول بعرَض، فاشتراها بنقد فلا بأس بذلك.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا؛ لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض”.

حكم التورُّق

وأما مسألة التورُّق: وهي أن يشتري سلعة بثمنٍ مؤجَّل، ثم يبيعها نقدًا على شخصٍ آخر غير البائع الأول، فقد اختلف العلماء في حكمها.

فمنهم من منع ذلك، ومنهم من أجازها، والأقرب والله أعلم هو القول بالجواز؛ لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، إلا ما ورد الدليل بمنعه، وليس هناك دليلٌ ظاهر يمنع من هذه المعاملة.

ثم إن الحاجة داعيةٌ إليها، فليس كل من احتاج إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ففي هذه المعاملة توسيعٌ عليه، ولكن ينبغي ألا يلجأ إلى هذه المعاملة إلا من احتاج إليها.

مثال ذلك: رجلٌ احتاج إلى نقدٍ لزواج أو لغير ذلك من الأغراض، فذهب إلى شركة تبيع بالتقسيط واشترى منهم سيارة إلى أجل، وبعد أن قبض السيارة باعها على شخصٍ آخر بنقد؛ فهذه هي مسألة التورُّق، والراجح فيها الجواز. والله أعلم.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.

نستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2165، ومسلم: 1412.
^2 رواه مسلم: 1413.
^3 رواه الترمذي: 1218.
^4 رواه أبو داود: 3462.
^5 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10800.
مواد ذات صلة