|categories

(59) أحكام العارية

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي نتحدث فيها معكم عن أحكام العارية، نتناول جملة من المسائل المتعلقة بهذا الباب، ونبدأ أولًا بالكلام عن معنى العارية في اللغة وفي الاصطلاح؛ فنقول:

تعريف العارية

العاريّة في اللغة: بتشديد الياء، وقد تخفف فيقال: “العارية”، ولكن التشديد أي “العاريّة” أشهر وأفصح.

وهي مأخوذةٌ من عار الشيء إذا ذهب وجاء، وسُمّيت العارية بذلك لأنها تذهب للمستعير ثم ترجع للمُعير، ومنه قيل للبطال “عيّار”؛ لتردده في بطالته.

وقيل: مأخوذةٌ من العُري وهو التجرُّد، وسُمّيت العاريّة بذلك لتجردها عن العوض.

وقال الجوهري: إنها مشتقةٌ من العار؛ لأن طلبها عارٌ وعيب.

ولكن هذا القول محل نظر؛ إذ أن النبي فعلَها، ولو كان طلب العاريّة عارًا وعيبًا ما فعلها، ولكان أبعد الناس عنه.

وأما معناها في الاصطلاح: فهي إباحة نفع عينٍ يحل الانتفاع بها مع بقاء عينها.

حكمها

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “أجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها”.

فالعارية إذًا بالنسبة للمستعير مباحة، ويدل لذلك أن النبي  قد استعار من غيره بعض ما يحتاج إليه، فقد جاء في الصحيحين عن أنس  قال: “كان فزعٌ بالمدينة فاستعار النبي فرسًا لأبي طلحة يقال له: المندوب، فركبه، فلما رجع قال عليه الصلاة والسلام: ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا[1]، أيْ: وإنّ الفرس المذكور لبحر، شبّهه عليه الصلاة والسلام بالبحر في سرعة الجري.

وجاء في رواية عند البخاري عن أنس : أن فرس أبي طلحة الذي استعاره النبي كان بطيئًا، فلما قال النبي : وإن وجدناه لبحرًا [2]، ما سُبِق بعد ذلك اليوم [3].

واستعار النبي يوم حنين “استعار من صفوان بن أمية أدرعًا، فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟! قال: لا، بل عاريّة مضمونة[4]، أخرجه أبو داود وغيره.

وأما بالنسبة للمعير فإن العارية مستحبة في قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنها من الإحسان، وقد قال الله ​​​​​​​: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].

وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب العارية مع غناء المالك، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

واستدل أصحاب هذا القول -على وجوب العارية مع غناء المالك- بقول الله ​​​​​​​: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7].

ووجه الدلالة: أن الله سبحانه توعّد الذين يمنعون الماعون، ومنع الماعون قد فُسِّر بمنع الزكاة، وفُسِّر بمنع العاريّة، وقيل: إنه يشمل ذلك كله، وقد استحسن هذا القول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره حيث قال: “قال عكرمة: رأس الماعون زكاة المال، وأدناه المنخل والدلو والإبرة. رواه ابن أبي حاتم، وهذا الذي ذكره عكرمة حسنٌ؛ فإنه يشمل الأقوال كلها، ويرجع كلها إلى شيءٍ واحد وهو ترك المعاونة بمالٍ أو منفعة”.

واستدل أصحاب هذا القول كذلك -على وجوب العارية في حالة غناء المالك- بما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي  أنه قال: ما من صاحب إبلٍ ولا بقر ولا غنمٍ لا يؤدي حقها إلا أُقعِد لها يوم القيامة بقاعٍ قرقر -أيْ مكانٍ مستوٍ واسع-، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جمّاء ولا مكسورة القرن، قلنا: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحملٌ عليها في سبيل الله [5].

وهذا الحديث ظاهرٌ في إثبات الوعيد في حق من منع العاريّة، بهذا يظهر أن الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول بوجوب العارية مع غناء المالك وحاجة المستعير.

حكم العارية إذا تلفت

والعارية أمانةٌ في يد صاحبها، فيجب عليه المحافظة عليها ليردها سليمة إلى صاحبها، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] فدلّت الآية على وجوب رد الأمانات ومنها العاريّة.

وبناءً على ذلك إذا تلفت العاريّة بتعدٍ أو بتفريطٍ من المستعير فإنه يضمنها باتفاق أهل العلم، وكذا لو شرط المعير على المستعير الضمان فإنه يضمنها بكل حال.

وأما إذا تلفت العاريّة بدون تعدٍ ولا تفريط من المستعير، فهل يضمنها؟ كما لو استعار شخصٌ من آخر كتابًا أو متاعًا أو غير ذلك، فتلف ذلك الشيء المستعار من غير تعدٍ من المستعير ومن غير تفريطٍ منه، فهل يضمن المستعير ذلك الشيء المعار؟

اختلف الفقهاء في ذلك:

  • فمنهم من ذهب إلى الضمان في هذه الحال، وهو مرويٌ عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة ، وهو المشهور من مذهب الشافعية، وهو المشهور كذلك من مذهب الحنابلة إلا في مسائل معدودة عندهم.

واستدل أصحاب هذا القول بحديث صفوان بن أمية لما استعار منه النبي أدرعًا يوم حنين، فقال: “أغصبًا يا محمد؟! قال: لا، بل عاريّة مضمونة [6]، قالوا: فقول النبي : بل عاريّة مضمونة دليلٌ على ضمان العاريّة بكل حال.

فجعلوا كلمة “مضمونة” جعلوها صفةً كاشفة لحقيقة العاريّة، فكأنه  قال: بل عاريّة، ومن شأن العاريّة الضمان.

ولاحظ أخي المستمع أن هذا الحديث سوف يستدل به أصحاب القول الثاني، وهم القائلون بعدم الضمان، وأن الخلاف وقع في فهم هذا الحديث، وهذا هو أحد أسباب اختلاف العلماء وهو الاختلاف في فهم مراد النبي  من كلامه.

ونعود كذلك لذكر أدلة من قال بالضمان، فاستدلوا كذلك بحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه [7]، رواه الخمسة؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، ولكنه من رواية الحسن عن سمرة، وقد ضعّفها كثير من أهل العلم.

  • والقول الثاني في المسألة: أن العاريّة أمانةٌ في يد المستعير، لا يضمنها إلا إذا تعدى أو فرّط.

وهذا القول قال به: الحسن، والنخعي، والشعبي، والثوري، وهو مذهب الحنفية، وقولٌ عند المالكية، وقد اختار هذا القول الإمام ابن القيم رحمه الله.

واستدل أصحاب هذا القول بحديث صفوان نفسه الذي استدل به أصحاب القول الأول، وجعلوا كلمة “مضمونة” في الحديث في قول النبي : بل عاريّة مضمونة جعلوها صفةً مخصصة، أيْ أستعير منك عاري متصفة بأنها مضمونة، لا عارية مطلقة عن الضمان.

قالوا: ومما يدل لذلك أنه جاء في رواية عند أبي داود بسند صحيح بل عاريّةٌ مؤداة [8]، وهذا يدل على أنها أمانة تؤدى كما قال الله ​​​​​​​: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وإذا كانت أمانة لم تضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

ومما يؤيد ذلك أن صفوان بن أمية لم يسأل النبي  عن تلفها، وإنما سأله: هل تأخذها مني أخذ غصبٍ أو أخذ ردٍ؟ فقال: بل عاريّةٌ مضمونة أيْ: أؤديها إليك وأردها لك.

وهذا القول الأخير وهو أن العاريّة لا تُضْمن إلا إذا تلفت بالتعدي أو بالتفريط، هذا هو الأظهر والأقرب، والله أعلم، في هذه المسألة؛ وذلك لقوّة أدلته.

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: “الصواب أن العاريّة لا تضمن إلا بالشرط؛ لدخولها في جملة الأمانات؛ ولأن أسباب الضمان إما تعدٍ وإما تقصيرٌ عن الواجب، وإما تصرّفٌ لم يؤذن له فيه، وهذا مفقودٌ في العاريّة؛ ولأن القاعدة: أن ما ترتب على المأذون فإنه غير مضمون، وأما حديث صفوان فليس معناه أنها تُضمن إذا أُتلفت، وإنما المعنى: أن على المستعير أداءها كقوله عليه الصلاة والسلام: على اليد ما أخذت حتى تؤديه [9]”.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2857، ومسلم: 2307.
^2 رواه مسلم: 2307.
^3 رواه ابن ماجه: 2772.
^4 رواه أبو داود: 3562، والحاكم في المستدرك: 2300.
^5 رواه مسلم: 988.
^6, ^9 سبق تخريجه.
^7 رواه أبو داود: 3561، والترمذي: 1266، والنسائي في الكبرى: 5751، وابن ماجه: 2400، وأحمد: 20086.
^8 رواه أبو داود: 3566.