عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتّبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة والتي قبلها عن أحكام المسابقات التجارية، وذكرنا الضابط فيما يجوز وفيما لا يجوز منها.
وذكرنا في آخر الحلقة السابقة أن ما لا يجوز منها يدخل تحت الميسر المحرّم شرعًا، ووعدنا بأن نتحدث في هذه الحلقة عن الميسر من جهة معناه ومن جهة العلّة التي لأجلها حُرِّم.
تعريف الميسر
فنقول: الميسر في لغة العرب: هو اللعب بالقداح، قال الجوهري: “الميسر قمار العرب بالأزلام”.
وعُرِّف الميسر اصطلاحًا: بأنه جميع المغالبات التي فيها عوضٌ من الجانبين كالمراهنة ونحوها، وأما القمار فهو التردد بين الغرم والغنم.
وكثيرٌ من العلماء لا يفرّق بين الميسر والقمار، وروي عن الإمام مالك أنه قال: “الميسر ميسران: ميسر لهوٍ وميسر قمار”.
فقد جعل رحمه الله الميسر أعمّ من القمار، فيكون بناءً على هذا التفريق: كل قمارٍ ميسر، وليس كل ميسر قمارًا.
وهذا يقودنا إلى معرفة علّة تحريم الميسر، وبمعرفتها يتّضح لنا دخول كثيرٍ من أنواع المسابقات والمغالبات في الميسر أو عدم دخولها فيه.
العلة في تحريم الميسر
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “تحريم الميسر، هل هو لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمنة لأكل المال بالباطل، فعلى هذا إذا خلا عن العوض لم يكن حرامًا؟ أو أنه حُرِّم لما يشتمل عليه من المفسدة وإن خلا عن العوض..
ثم قال: هذا المأخذ الأخير أصح نصًا وقياسًا، وأصول الشريعة تشهد له بالاعتبار، قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:90-92]، فقرن الميسر بالأنصاب والأزلام والخمر، وأخبر بأن الأربعة رجس، وأنها من عمل الشيطان، ثم أمر باجتنابها، وعلّق الفلاح باجتنابها، ثم نبه على وجوه المفسدة المقتضية للتحريم في الخمر والميسر، وهي ما يوقعه الشيطان بين أهلها من العداوة والبغضاء، ومن الصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وهذه المفاسد ناشئةٌ من نفس العمل لا من مجرد أكل المال به، فتعليل التحريم بأنه متضمن لأكل المال بالباطل تعليلٌ بغير الوصف المذكور في النص، وإلغاءٌ للوصف الذي نبّه النص عليه؛ فتحريم الميسر من جنس تحريم الخمر؛ فإنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، ويصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة؛ وأكل المال فيه عونٌ وذريعةٌ إلى الإقبال عليه وعلى اشتغال النفوس به، فيقوى الداعي حينئذ من وجهين: من جهة المغالبة، ومن جهة أكل المال، فيكون حرامًا من الوجهين..
قال رحمه الله: فهذا من حكمة الشريعة ونظرها في المصالح والمفاسد ومقاديرها، يوضح هذا أن الله سبحانه حرّم الخمر قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر؛ لأن قليلها يدعو إلى كثيرها الذي يغيّر العقل ويوقع في المفاسد، التي يريد الشيطان أن يوقع العباد فيها ويمنع عن الإصلاح الذي يحبه الله ورسوله، فتحريم كثيرها من باب تحريم الأسباب الموقعة في الفساد، وتحريم قليلها من باب سد الذرائع، وإذا تأملت أحوال هذه المغالبات رأيتها في ذلك كالخمر قليلها يدعو إلى كثيرها وكثيرها يصد عن ما يحبه الله ورسوله ويوقع فيما يبغضه الله ورسوله”.
فتبين بهذا أن العلة في تحريم الميسر ليست هي فقط المخاطرة المتضمنة لأكل المال بالباطل، وإنما تشتمل كذلك على المفسدة المذكورة في الآية وهي:
- إيقاع العداوة والبغضاء.
- والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة.
وعلى هذا فإن الميسر يشمل المغالبات والمسابقات المترددة بين الغُنْم والغُرْم، إلا فيما استثناه الشارع كما سبق الكلام عن ذلك بالتفصيل في حلقة سابقة.
ويشمل ذلك المغالبات والألعاب التي توقع العداوة والبغضاء بين المتلاعبين، وتصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك كاللعب بالنرد والشطرنج ونحو ذلك، وإن خلا عن العوض في قول جمهور الفقهاء، قد جاء في صحيح مسلم أن النبي قال: من لعب بالنردشير فهو كمن غمس يده في لحم خنزيرٍ ودمه [1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “الميسر مشتملٌ على مفسدتين: مفسدةٌ في المال وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل، وهي ما فيه من مفسدة المال، وفساد القلب والعقل، وفساد ذات البين؛ وكلٌ من المفسدتين مستقلةٌ بالنهي، فيُنهى عن أكل المال بالباطل مطلقًا ولو كان بغير ميسر كالربا، ويُنهى عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير مال، فإذا اجتمعا عظم التحريم، فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا، ولهذا حرِّم ذلك قبل تحريم الربا..
قال رحمه الله: والقول بأن الميسر إنما حُرِّم لمجرد المقامرة دعوى مجردة، وظاهر القرآن والسنة والاعتبار يدل على فسادها؛ وذلك أن الله تعالى قال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91]، فنبه على علّة التحريم وهي ما في ذلك من حصول المفسدة، وزوال المصلحة الواجبة أو المستحبة؛ فإن وقوع العداوة والبغضاء من أعظم الفساد، وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كلٌ منهما إما واجب أو مستحب من أعظم الفساد”.
فتبين بهذا أيها الإخوة أن علّة تحريم الميسر هي مفسدة إيقاع العداوة والبغضاء بين المتلاعبين، والصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، حتى ولو لم تكن اللعبة مشتملةٍ على مالٍ يبذل، فإن تضمّنت بذل مالٍ كان ذلك أعظم في الإثم، وقد نقلنا قبل قليل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال إن الميسر في هذه الحال يكون أعظم من الربا.
وبهذا نكون قد تكلمنا عن أحكام السبق، وننتقل في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى للحديث عن بابٍ جديدٍ من أبواب فقه المعاملات.
فإلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2260. |
---|