الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(63) شروط صحة الصلاة- اجتناب النجاسات
|categories

(63) شروط صحة الصلاة- اجتناب النجاسات

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

لا يزال الحديث موصولًا عن شروط صحة الصلاة: وحديثنا هنا عن شرط: اجتناب النجاسات.

وجوب اجتناب المصلي للنجاسات

فيجب على المصلي اجتناب النجاسة في بدنه وثوبه والبقعة التي يصلي عليها.

والتساهل في أمر النجاسات من أسباب عذاب القبر، ففي الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “مرَّ النبي بقبرين، فقال: إنـهما ليُعذَّبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يـمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، قالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يُخفَّف عنهما ما لَـم ييبسا [1].

وفي حديث أبي هريرة : أن النبي قال: أكثر عذاب القبر من البول [2]، أخرجه ابن ماجه، وأحمد، والحاكم بسندٍ صحيح.

ولكن مع قولنا بوجوب اجتناب النجاسات، والتحرُّز منها، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في ذلك مبالغةً تؤدي إلى الوسواس، فإن من الناس من هو مبتلىً بالوساوس بشأن طهارة ثوبه أو بدنه، أو البقعة التي يصلي عليها.

والنجاسة إنـما يثبت حكمها مع العلم بـها، أما مع الجهل بـها فلا يثبت حكمها، وتصح الصلاة إذا كان على لباسه نجاسةٌ، أو على بدنه، ولـم يعلم بـها إلا بعد الصلاة.

ولهذا قال العلماء: إن النجاسة لا يستحب البحث عمَّا لَـم يظهر منها، بل الأصل في الأشياء الطهارة، فإذا أتيت مكانًا من منزلٍ أو غيره، فتصلي فيه مستصحبًا الأصل وهو الطهارة، ولا يُشرَع لك أن تسأل: هل هذا المكان طاهرٌ أم به نجاسة؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يستحب البحث عما لَـم يظهر من النجاسة، ولا الاحتراز عمَّا ليس عليه دليلٌ ظاهر لاحتمال وجوده، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب : أنه مرَّ هو وصاحبٌ له بـمكانٍ فسقط على صاحبه ماءٌ من مِيزاب، فنادى صاحبه: يا صاحب الميزاب، أماؤك طاهرٌ أم نجس؟ فقال له عمر: “يا صاحب الميزابَ لا تخبره”؛ فإن هذا ليس عليه، فنهى عمر عن إخباره؛ لأنه تكلَّف من السؤال ما لَـم يُؤمر به، وهذا قد ينبني على أصلٍ: وهو أن النجاسة إنـما يثبت حكمها مع العلم، فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسةٌ لَـم يعلم بـها إلا بعد الصلاة، لَـم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وقول أحمد في أقوى الروايتين.

وسواءٌ كان علمها ثم نسيها، أو جهلها ابتداءً، لِمَا ورد من أن النبي صلى وفي نعليه أذىً، ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لـمَّا أخبره جبريل أن بـهما أذى، ومضى في صلاته ولـم يستأنفها، مع كون ذلك الأذى كان موجودًا من أول الصلاة” [3]، وهذا الحديث الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، أخرجه أبو داود، وأحمد، الدارمي، وابن خزيـمة، وابن حبان، والحاكم، وقال الحافظ ابن حجر: “اختلف في وصله وإرساله”، ورجح أبو حاتم في (العلل) الموصول.

وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أولئك الذين يأتون بسجَّادةٍ ونحوها، ويفرشونـها على فرش المسجد، قال رحمه الله: “أما الغُلَاة من الموسوسين فإنـهم لا يصلون على الأرض، ولا على ما يُفرش للعامَّة، وإنـما يفترش أحدهم السجَّادة على مُصلَّيات المسلمين من الحُصُر والبُسُط، ونحو ذلك مـمَّا يُفرش في المساجد، ويعللون هذا: بأن هذه الحُصُر يطؤها عامَّة الناس؛ ولعل أحدهم يكون قد رأى أو سمع، أنه في بعض الأوقات بال صبـيٌ أو غيره على بعض حُصُر المسجد، وهذا الأمر لَـم يفعله أحدٌ من السلف، ولـم ينقل عن النبي  ما يكون شبهةً لهم، فضلًا عن أن يكون دليلًا.

وقد كانت الكلاب تُقبِل وتدبر في مسجد رسول الله ، ولـم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان، بل كانوا يصلون في مسجده على الأرض، لا يتخذ أحدهم سجادة يختص بالصلاة عليها”.

حكم حمل المصلي للنجاسة

ومن المسائل المرتبطة بـهذا الشرط: أن من حمل نجاسةً لا يُعفَى عنها، ولو بقارورةٍ؛ لَـم تصح صلاته.

وهذا الذي ذكره فقهاؤنا رحمهم الله ينطبق على من حمل شيئًا من البول أو البراز في عيِّنَةٍ ونحوها لقصد التحليل، فلا تصح الصلاة مع حمل تلك العيِّنَة.

ويجوز حمل الصبي في الصلاة، ولا يُقال: إن بطنه مـملوءٌ من النجاسات؛ لأن هذه النجاسة التي في بطن الصبي في معدنـها، ولا حكم لها، ولا تنجس إلا بالانفصال، فهي كالنجاسة التي في جوف المصلي.

وقد جاء في الصحيحين عن أبي قتادة  : “أن رسول الله كان يصلي وهو حاملٌ أُمامة بنت زينب بنت رسول الله ، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها” [4]، وفي رواية أبي داود: “أن ذلك كان في صلاة الظهر أو العصر” [5].

قال النووي رحمه الله: “وبعضهم يقول: إنّ هذا كان لضرورة، وليس في هذا الحديث ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفوٌ عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولةٌ على الطهارة حتى تتبيَّن النجاسة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلَّت أو تفرَّقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك، وإنـما فعل النبي  ذلك؛ لبيان الجواز”.

حكم صلاة من افترش شيئًا طاهرًا على أرض نجسة

ومن المسائل المتعلقة بـهذا الشرط: أن من افترش على أرضٍ نجسة شيئًا طاهرًا، كسجادةٍ أو بساطٍ ونحو ذلك؛ صحَّت صلاته؛ لأن الطهارة إنـما تُشتَرط في بدن المصلي، وفي ثوبه، وفي موضع صلاته، وقد وُجِد ذلك كله.

وقال بعض الفقهاء: إن الصلاة في هذه الحال تصح مع الكراهة؛ لاعتماده على ما لا تصح الصلاة عليه، والصحيح أنَّـها لا تكره؛ لأنه صلى على شيءٍ طاهرٍ يحول بينه وبين النجاسة.

حكم الصلاة على أسطح البيَّارَات ونحوها

وعلى ذلك تُـخرَّج مسألة: الصلاة على أسطح البيَّارَات ونحوها في بعض المساجد، وبخاصة بعض الجوامع يوم الجمعة، تضيق بالمصلين، فيصلي بعض الناس في المساحات القريبة من الجامع، وقد يكون بعض تلك المساحات أسطح بيَّارات، فنقول: إن صلاة هؤلاء صحيحة، ما دام أنه لا يوجد أي أثرٍ للنجاسة على السطح؛ لأن الطهارة إنـما تشترط في بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته، وقد وُجِد ذلك كله، فصحَّت الصلاة.

ومثل ذلك أيضًا: المصليات التي تُوجد في أدوارٍ عُلوية، وتحتها مباشرةً دورات مياه، كأن يصلي أحدٌ في الدور الثاني مثلًا، وتحته مباشرةً دورة مياه، فصلاته صحيحة من غير كراهة.

وقد ورد استفتاءٌ للجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، عن هذه المسألة، فكان الجواب:

“يجوز أن يُصلَّى على سطح دورة المياه، ولا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لأن السطح لا يتبع الأصل في مثل هذا”.

وهذا هو الصحيح من قولي العلماء في هذه المسألة، كما صرَّح بذلك أبو محمد ابن قدامة رحمه الله.

الصلاة على سجادة اتصل بطرفها نجاسة

ومن المسائل المتعلقة بـهذا الشرط: أن النجاسة إذا كانت بطرف مُصلًّى متَّصلٍ به؛ صحت الصلاة.

كما لو كان رجلٌ يصلي على سجادة، وطرفها نجس، وهذا الطرف متصلٌ بالذي يُصلَّى عليه، لكن المصلي لا يُباشر النجاسة ولا يُلاقيها، فصلاته صحيحة.

أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 218، ومسلم: 292.
^2 رواه ابن ماجه: 348، وأحمد: 8331، والحاكم في المستدرك: 653.
^3 رواه أبو داود: 650، وأحمد: 11877، وابن حبان: 2185، والحاكم في المستدرك: 486، وابن خزيمة: 1017، والدارمي: 1418.
^4 رواه البخاري: 516، ومسلم: 543.
^5 رواه أبو داود: 920.