(165) أحكام الجنائز- الصلاة على الميت

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحكام الصلاة على الميت

لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الجنائز، وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن أحكام تكفين الميت، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام الصلاة عليه.

فأقول وبالله التوفيق:

حكم الصلاة على الميت

الصلاة على الميت فرض كفايةٍ، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة:84]، أي: من المنافقين، ومفهوم الآية: مشروعية الصلاة على غير المنافقين من المسلمين.

والسنة أن تُصلَّى جماعةً؛ لمداومة النبي  على ذلك.

قال النووي رحمه الله: تجوز صلاة الجنازة فُرادَى بلا خلافٍ، والسنة: أن تُصلَّى جماعةً؛ للأحاديث المشهورة في الصحيح في ذلك مع إجماع المسلمين.

وكلما كان الجمع أكثر كان أفضل للميت، ويدل لهذا ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ما من ميتٍ تصلي عليه أمَّةٌ من المسلمين يبلغون مئةً كلهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه ^[1].

وفي “صحيح مسلمٍ” أيضًا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن رسول الله  قال: ما من رجلٍ مسلمٍ يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه ^[2]، ولهذا ينبغي لأهل الميت أن يتحروا الأماكن التي يكثر فيها الناس؛ فإن هذا من الإحسان إلى الميت.

والسنة: ألا تنقص الصفوف عن ثلاثةٍ؛ لحديث مالك بن هُبَيرة  قال: قال رسول الله : ما من مسلمٍ يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوفٍ من المسلمين إلا أوجب وفي لفظٍ: إلا غُفر له، فكان مالكٌ إذا استقل أهل الجنازة جزَّأهم ثلاثة صفوفٍ ^[3]، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديثٌ حسن.

ويدل لهذا أيضًا حديث أبي أمامة  قال: «صلى رسول الله  على جنازةٍ ومعه سبعة نفرٍ، فجعل ثلاثةً صفًّا، واثنين صفًّا، واثنين صفًّا» ^[4]، رواه الطبراني، وفي إسناده ابن لَهِيعة، لكنه يصلح شاهدًا لحديث مالكٍ السابق.

أين يقف الإمام عند الصلاة على الجنازة؟

والسنة: أن يقف الإمام عند رأس الرجل، ووسط المرأة؛ لما أخرج أبو داود والترمذي عن أنس بن مالكٍ ، أنه صلى على جنازة رجلٍ فقام عند رأسه، ثم أُتي بجنازة امرأةٍ فقام وسطها، وقال: هكذا كان رسول الله  يفعل ^[5].

وقال بعض أهل العلم: إن الأفضل أن يقوم عند صدر الرجل لا عند رأسه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

قال الموفق بن قدامة رحمه الله: القول بأنه يقف عند صدر الرجل قريبٌ من القول بأنه يقف عند رأسه؛ لقرب أحدهما من الآخر، فالواقف عند أحدهما واقفٌ عند الآخر، كذا قال رحمه الله.

والأقرب من حيث الرواية: هو أنه يقف عند رأس الرجل لا عند صدره، والله تعالى أعلم.

كيفية ترتيب الجنائز عند الصلاة عليها

وإذا اجتمعت عدة جنائز فكيف يكون ترتيبها للصلاة عليها؟

أما إذا اختلفت أجناسهم فيقدَّم الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء؛ وذلك لأنه يكون هكذا ترتيبهم في الصلاة المكتوبة، فكذا عند اجتماع الجنائز، يقف الإمام عند رأس الرجل، ووسط المرأة.

وأما إذا كانت الجنائز من جنسٍ واحدٍ؛ كأن تكون الجنائز كلها رجالًا مثلًا، فيقدَّم أفضلهم في دينه؛ لأن الأفضل يلي الإمام في الصلاة المكتوبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لِيَلِني منكم أولوا الأحلام والنُّهى ^[6]، فكذلك هنا.

فإن تساووا في الفضل فيقدَّم الأكبر فالأكبر، وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني.

فإن تساووا في السن، أو جُهِلت أحوالهم، فيقدَّم السابق منهم فالسابق، والله أعلم.

صفة صلاة الجنازة

والسنة في صلاة الجنازة أن يكبِّر أربع تكبيراتٍ، فيكبر التكبيرة الأولى، ثم يستعيذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة، ولا يُسنُّ افتتاح صلاة الجنازة بدعاء الاستفتاح.

قال أبو داود: سمعت أحمد يُسأل عن الرجل يستفتح الصلاة على الجنازة بـ”سبحانك اللهم وبحمدك…”، فقال: ما سمعت، أي: ما سمعت أن هذا قد ورد.

ولأن صلاة الجنازة يُشرع فيها التخفيف؛ فلم يُشرع افتتاحها بدعاء الاستفتاح.

وبناءً على هذا: فإنه بعدما يكبِّر يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقرأ البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم يقرأ سورة الفاتحة؛ لما جاء في “صحيح البخاري” عن طلحة بن عبدالله بن عوفٍ، قال: صليت خلف ابن عباسٍ رضي الله عنهما على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها سنةٌ ^[7]، وقد رواه ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قرأ بعد الفاتحة بسورةٍ، وقال: سنةٌ وحقٌّ ^[8]، لكن قال البيهقي: ذكر السورة في هذا الحديث غير محفوظٍ، والمحفوظ هو رواية البخاري، أنه قرأ بفاتحة الكتاب فقط.

وحكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة: قال بعض العلماء: إنها واجبةٌ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقول الشافعية، وقال آخرون: إن قراءتها في صلاة الجنازة سنةٌ.

قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخنا -يعني تقي الدين ابن تيمية رحمه الله-: لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هي سنةٌ.

ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي ؛ لقول أبي أمامة بن سهلٍ : السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبِّر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي ، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم عن يمينه ^[9] رواه النسائي.

وصفة الصلاة على النبي  كصفة الصلاة عليه في التشهد، نص عليه الإمام أحمد، وهو مذهب الشافعي؛ لأن النبي  لما سألوه كيف نصلي عليك؟ علّمهم ذلك.

وقد وردت بعدة صيغٍ ومن أشهرها: اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ ^[10].

ثم يكبر الثالثة ويدعو فيها للميت، وهذا واجبٌ؛ لأنه هو مقصود الصلاة على الميت، ويكفي للإتيان بالواجب أدنى دعاءٍ، ولكن الأفضل أن يجتهد، ويُخلِص في الدعاء للميت؛ لقول النبي : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ^[11]، رواه أبو داود بسندٍ حسنٍ.

ومما ورد في ذلك ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن عوف بن مالك  قال: صلى النبي  على جنازةٍ فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار، قال عوف بن مالكٍ: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت ^[12].

وحُفِظ من دعائه : اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده ^[13].

وحُفِظ من دعائه : اللهم إن فلان ابن فلانٍ في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر ومن عذاب النار، فأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم ^[14].

وحُفِظ من دعائه  أيضًا: اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وتعلم سرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها ^[15].

أيها الإخوة المستمعون، ومن أراد أن يحفظ هذه الأدعية فليرجع إلى كتاب “زاد المعاد في هدي خير العباد” لابن القيم، رحمه الله تعالى.

ثم بعد ذلك يُكبِّر ويسلم، يكبر الرابعة ويسلم عن يمينه تسليمةً واحدةً.

أيها الإخوة المستمعون، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الصلاة على الميت في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.