عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن صفة الصلاة على الميت، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن مسائل وأحكامٍ متعلقة بالصلاة على الميت، فأقول وبالله التوفيق:
حكم الدعاء بالمغفرة للميت الصغير
إذا كان الميت صغيرًا دون سن البلوغ فإنه لا يُشرع أن يدعى له بالمغفرة؛ إذ أنه ليس عليه ذنوب لكونه مرفوعًا عنه القلم؛ لقول النبي : رُفِع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصبي حتى يبلغ [1]، لكن قال الفقهاء: يُستحب أن يجعل مكان الاستغفار قول: اللهم اجعله ذخرًا لوالديه، وفرطًا وأجرًا وشفيعًا مجابًا، اللهم ثقّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، واجعله في كفالة أبيه إبراهيم عليه السلام، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، وقهِ برحمتك عذاب الجحيم.
وقد ورد في هذا حديث المغيرة بن شعبة وفيه: أَنَّ النبي قال: والطفل يصلى عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة [2]، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والبيهقي، وقال الترمذي: “حديثٌ حسنٌ صحيح”.
كيفية الدعاء للمرأة عند الصلاة عليها
وإذا كان الميّت امرأة فيؤتى بضمير التأنيث، فيقال: اللهم اغفر لها وارحمها… إلى آخر ما ورد من الأدعية.
ولكن أورد بعض العلماء إشكالًا وهو الدعاء بقوله: وأبدلها زوجًا خيرًا من زوجها، فهذا ربما يُفهم منه الدعاء بأن يفرّق بينها وبين زوجها، وأن تبدَّل بخيرٍ منه.
والجواب عن هذا الإشكال أن نقول: إن خيرية الزوج هنا ليست خيريةً في العين، بل هي خيرية في الوصف، وهذا يتضمن أن يجمع الله تعالى بينهما في الجنة؛ لأن أهل الجنة ينزع الله ما في صدورهم من غل ويبقون على أصفى ما يكون، والتبديل كما يكون بالعين يكون بالصفة، ومنه قول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، والأرضُ هي الأرض بعينها لكنها مُدّت واختلفت في أوصافها كذا يقال في تبديل السماوات.
فإن قيل: إذا كان الميّت لم يتزوج، فكيف يقال في الدعاء: وزوجًا خيرًا من زوجه؟
والجواب: أن المراد زوجًا خيرًا من زوجه لو تزوج، والله تعالى أعلم.
حكم الدعاء بعد التكبيرة الرابعة
ومن المسائل المتعلقة بالصلاة على الميت: أنه لا بأس أن يدعو بعد التكبيرة الرابعة وقبل السلام، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة؛ لحديث ابن أبي أوفى وفيه: “أَنَّ النبي كان يقول ما شاء الله بعد التكبيرة الرابعة، ثم يسلِّم” رواه الحاكم وصححه.
ولأن المقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء، والقول بأنه يدعو بعد التكبيرة الرابعة أولى من السكوت، لأن الصلاة عبادةٌ ليس فيها سكوتٌ أبدًا إلا لسببٍ كالاستماع لقراءة الإمام ونحو ذلك، والتكبيرات أربعٌ في قول جمهور العلماء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس أن تكون التكبيرات خمسًا أو ستًا أو سبعًا.
قال ابن القيم رحمه الله: “كان يكبر أربع تكبيرات، وصح عنه أنه كبّر خمسًا، وكان الصحابة بعده يكبرون أربعًا وخمسًا وستًا، فكبر زيد بن أرقم خمسًا، وذكر أن النبي كبرها. ذكره مسلم، وكبّر علي بن أبي طالب على سهل بن حنيف ستًا، وكان يكبر على أهل بدر ستًا، وعلى غيرهم من الصحابة خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا. رواه الدارقطني، وذكر سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسًا وستًا وسبعًا..
قال ابن القيم: “وهذه آثارٌ صحيحة فلا موجب للمنع منها، والنبي لم يمنع مما زاد على الأربع، بل فعله هو وأصحابه من بعده”.
التسليم في صلاة الجنازة
ومن المسائل المتعلقة بالصلاة على الجنازة: أن التسليم فيها واحدةٌ عن يمينه فقط، وهذا هو المأثور عن الصحابة .
قال أحمد بن القاسم: قيل لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد-: أتعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه كان يسلِّم على الجنازة تسليمتين؟ قال: لا، ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه، وذكر: ابن عمر، وابن عباس، وأبا هريرة، وواثلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وزيد بن ثابت؛ رضي الله عنهم، زاد البيهقي: علي بن أبي طالب، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وأبا أمامة سهل بن حنيف؛ رضي الله عنهم، فهؤلاء عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
حكم رفع اليدين عند التكبير
ومن أحكام الصلاة على الجنازة: أنه يُستحب أن يرفع المصلي يديه في كل تكبيرة.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “أجمع أهل العلم على أن المصلي على الجنازة يرفع يديه في التكبيرة الأولى، ويُستحب أن يرفع يديه في كل تكبيرة”.
وقال الترمذي: “واختلف أهل العلم في هذا، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم أن يرفع الرجل يديه في كل تكبيرة على الجنازة، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: لا يرفع يديه إلا في أول مرة، وهو قول الثوري وأهل الكوفة”.
والأقرب والله تعالى أعلم: أنه يُشرع رفع اليدين في كل تكبيرة؛ لأن هذا قد صحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالاجتهاد.
وقد روي ذلك عن أنس والمعنى يقتضيه، فإنه إذا حرّك يديه اجتمع في الانتقال من التكبيرة قولٌ وفعل كسائر الصلوات، فإن الصلوات يكون مع القول فعلٌ إما ركوعٌ أو سجودٌ أو قيامٌ أو قعود، فكان من المناسب أن يكون مع القول فعل، ولا فعل هنا يناسب إلا رفع اليدين؛ لأن الركوع والسجود متعذران فيبقى رفع اليدين؛ وحينئذ يكون رفع اليدين في كل تكبيرة مؤيدًا بالأثر والنظر، والله تعالى أعلم.
كيفية قضاء ما فات من صلاة الجنازة
ومن فاته شيءٌ من التكبير قضاه على صفته؛ لعموم قول النبي : وما فاتكم فأتموا [3]. ولكن كيف يكون القضاء؟
الجواب: يكون على صفة ما فاته، فإذا دخل مع الإمام في التكبيرة الثالثة مثلًا، فإنه يدعو للميّت، حتى على القول بأن ما يُدركه المسبوق هو أول صلاته فينبغي في صلاة الجنازة أن يتابع الإمام فيما هو فيه؛ لأن الدعاء هو المقصود من الصلاة على الجنازة، ولو قيل لهذا الذي أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة: اقرأ الفاتحة ثم إذا كبّر الإمام للرابعة قلنا له: صلِّ على النبي ، فلربما تُرفع الجنازة ويفوته الدعاء الذي هو المقصود من الصلاة على الجنازة، ولكن إذا تابع الإمام فسيأتي بالدعاء على الميت الذي هو المقصود من الصلاة على الجنازة، وأما قراءة الفاتحة فسبق أن نقلنا عن بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن قراءتها ليست واجبة في الصلاة على الجنازة، وإنما مستحبة.
قال أبو الخطاب رحمه الله: “إن رُفعت الجنازة قبل إتمام التكبير قضاه متواليًا، وإن لم تُرفع قضاه على صفته”.
هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.