الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(188) أحكام الزكاة- زكاة الحبوب والثمار والركاز
|categories

(188) أحكام الزكاة- زكاة الحبوب والثمار والركاز

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، وكنت قد تحدثت في الحلقتين السابقتين عن جملة من أحكام زكاة الحبوب والثمار، وأختم الحديث عن هذا الموضوع بعرض جملة من الأحكام المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار، فأقول وبالله التوفيق:

زكاة الحبوب والثمار

مقدار الزكاة في الحبوب والثمار

قد دلّت السنة على أن الواجب في زكاة الحبوب والثمار العُشْر فيما يُسقى بلا مؤونة، ونصف العُشْر فيما يُسقى بمؤونة، ومما ورد في هذا ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي قال: فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر [1].

قال الخطابي رحمه الله: “العثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي”.

وقوله: وما سُقي بالنضح قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “النَضْح: بفتح النون، أو السانية، والمراد بها الإبل التي يُستقى عليها، وذِكْر الإبل كالمثال، وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم”.

وقد دل هذا الحديث على أن ما سُقي بلا مؤونة ففيه العشر؛ فإن قوله: فيما سقت السماء أيْ ما سقي بمياه الأمطار والسيول، والعيون أي ما سُقي بمياه العيون والأنهار ونحوها، أو كان عثريًّا قد سبق القول بأن العثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي.. وهذه كلها يجمعها بأنها تُسقى بغير مؤونة ففيها العشر، أي عشرة في المائة.

وأما ما يُسقى بمؤونة وكلْفة كالذي يُسقى بالنواضح، وقد سبقت الإشارة بأنها الحيوانات التي يُستخرج بها الماء من الآبار ونحوها، وقد كان هذا قديمًا، وفي وقتنا الحاضر يأخذ حكمها ما يُسقى بالمكائن الرافعة للماء وغيرها من الآلات الحديثة، فإن هذا داخلٌ فيما يُسقى بمؤونة، والواجب فيه نصف العشر، أي خمسة في المائة.

الحكمة من التفريق بينما يسقى بمؤونة وبغير مؤونة

وفي تفريق الشارع في مقدار الزكاة بين ما يُسقى بمؤونة وبين ما يُسقى بغير مؤونة حكمةٌ ظاهرةٌ؛ فإن ما يُسقى بمؤونة فيه كلفة على الإنسان، فراعى الشارع التخفيف عليه فأوجب نصف العشر فقط، بينما ما يُسقى بغير مؤونة هو أقل كلفة فكان الواجب فيه العشر، ونظير ذلك في زكاة بهيمة الأنعام فتجب الزكاة في السائمة من بهيمة الأنعام وهي التي ترعى العُشب والكلأ أكثر السنة، ولا تجب الزكاة في غير السائمة وهي المعلوفة أكثر السنة.

مقدار زكاة ما يسقى بمؤونة وبغير مؤونة

وأما ما يُسقى بمؤونة وبغير مؤونة ففيه ثلاثة أرباع العشر، فإذا كان يُسقى نصف العام بمؤونة ونصف العام المتبقي بغير مؤونة ففيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأن الواجب في النصف الأول نصف نصف العشر، أيْ ربع العشر، وفي النصف الثاني نصف العشر، فيكون المجموع ثلاثة أرباع العشر.

فإن تفاوتا ولم يمكن ضبط المدة فيما يُسقى بمؤونة وفيما يُسقى بغير مؤونة، فالعبرة بأكثرها نفعًا للزرع أو الشجر، فإن كان نموُّه بمؤونة أكثر منه فيما إذا سُقي بغير مؤونة فالواجب نصف العشر، وإن كان العكس أيْ أن نموَّه فيما إذا سُقي بغير مؤونة أكثر منه فيما إذا سُقي بمؤونة فالواجب العشر.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وإن جُهِل المقدار وجب العشر احتياطًا؛ نص عليه أحمد في رواية عبدالله؛ لأن الأصل وجوب العشر، وإنما يسقط بوجود الكُلْفة فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل..

قال الموفق ابن قدامة: ولأن الأصل عدم الكُلْفة في الأكثر فلا يثبت وجودها مع الشك فيه”.

قلت: ما ذكره الموفق رحمه الله من أن الأصل عدم الكُلْفة في الأكثر، إنما ينطبق على زمن الموفق وفي بلاد الشام، ويبدو أن مياه السيول والأمطار والعيون والأنهار كانت في ذلك الزمن كثيرة، خاصة في بلاد الشام، وقد توفي الموفق رحمه الله سنة 620هـ، وأما في وقتنا الحاضر وفي بلادنا فإن الأصل هو الكُلْفة وأن الزروع والثمار تُسقى بمؤونة وكلفة والله المستعان، ولكن يبقى التعليل الذي ذكره الموفق رحمه الله كافٍ في تقدير الحكم، والله تعالى أعلم.

على من تجب الزكاة إذا أجر البستان؟

ومن أحكام زكاة الحبوب والثمار: أن البستان إذا أُجِّر فتجب الزكاة على المستأجر دون المالك، وذلك لأن المستأجر هو مالك الحبوب والثمار، وأما مالك الأرض فليس له إلا الأجرة، وكما يجوز تأجير الأرض يجوز تأجير أشجار البساتين في أظهر قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

خرص الثمار

ومن المسائل المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار: أنه ينبغي للإمام أن يبعث ساعيًا إذا بدا الصلاح في الثمر فيخرص عليهم ليتصرفوا فيه، فيُعرف بذلك قدر الزكاة.

قال البخاري في صحيحه: “باب خرْص التمر”، ثم ساق بسنده عن أبي حميد الساعدي قال: “غزونا مع النبي  غزوة تبوك فلما جاء وادي القرى إذا امرأةٌ في حديقة لها، فقال النبي لأصحابه: اخرصوا، وخرص رسول الله عشرة أوسق، فقال لها: أحصي ما يخرج منها…” الحديث [2].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ومعنى الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرًا”.

وفائدة الخرص: التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع من زهوها، وفي إيثار الأهل والجيران والفقراء؛ لأن في منعهم منها تضييقًا لا يخفى، وقد قال بمشروعية الخرْص جماهير العلماء، وأنكر ذلك الحنفية، والصحيح ما ذهب إيه الجمهور فإن الخرص قد عمل به النبي في حياته، وعمل به الخلفاء الراشدون من بعده.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ويُجزئ خارصٌ واحد لأن النبي كان يبعث ابن رواحة يخرص ولم يُذكَر معه غيره، ولأن الخارص يفعل ما يؤديه إليه اجتهاده، فهو كالحاكم والقائف، ويُعتبر أن يكون أمينًا كالحاكم”.

وفي حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله قال: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع [3]، أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم؛ بسند صحيح.

وقد اختُلِف في معنى هذا الحديث، فقال بعض العلماء: المراد إسقاط الزكاة في هذا القدر من الثمر، أيْ يُترك الثلث أو الربع قبل أن يعشّر.

وقال آخرون: المراد أن يُجعل الثلث من الزكاة للمالك كي يتصرَّف فيه، فيُجعل الثلث أو الربع من العشر أو نصف العشر كي يتصرف المالك في توزيعه، وهذا القول هو القول الراجح وهو أن ترك الثلث أو الربع للمالك ليس من باب الإسقاط للزكاة فيه وإنما من باب جعل التصرُّف فيه إليه؛ لأنه قد يكون للمالك أقارب وأصحاب، فيحب أن يعطيهم هو بنفسه من الزكاة.

ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: “معنى الحديث أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرّقها هو بنفسه على أقاربه وجيرانه”.

ثم إن القول بأن هذا من باب إسقاط الزكاة لا يتفق مع عموم قول النبي : فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر، فيكون الراجح في معنى الحديث أن هذا أمرٌ للسعاة بأن يدعوا الثلث أو الربع من الزكاة للمالك كي يتصرف في توزيعها.

زكاة الركاز

وأختم الحديث عن أحكام زكاة الخارج من الأرض بمسألة الركاز.

والركاز: هو ما وجد من دفن الجاهلية، أيْ قبل الإسلام، كأن يجد رجل كنزٌ مدفونًا ويجد عليه علامات تدل على أنه قبل الإسلام ففيه الخمس؛ لقول النبي : وفي الركاز الخمس [4]، متفق عليه.

وهل إخراج الخمس منه على سبيل الزكاة أو على سبيل الفيء؟

قولان للعلماء، والصحيح أنه على سبيل الفيء فيكون مصرفه حينئذ هو مصرف خمس الغنيمة الذي يُصرف في مصالح المسلمين العامة؛ وذلك لأن جعْله زكاة خالف المعهود في باب الزكاة، فالركاز لا يُشترط فيه النصاب ولا يُشترط أن يكون في مالٍ معيَّن، والواجب فيه الخمس مع أن أكثر ما ورد في الأموال الزكوية هو العشر.

والركاز في وقتنا الحاضر نادرٌ جدًا، والغالب أن ما يجده الإنسان من كنزٍ مدفون إما أن توجد عليه علامات الإسلام أو لا يوجد عليه علامات، فإن وجد عليه علامات الإسلام أو لم يوجد عليه علامات؛ فإن عُلِم صاحبه وجب ردُّه إليه، وإن لم يُعلم فحكمه حكم اللقطة يجب تعريفه سنة كاملة، فإذا جاء صاحبه وإلا فهو لواجده.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1483.
^2 رواه البخاري: 1481.
^3 رواه أبو داود: 1605، والترمذي: 643، والنسائي: 2490، وأحمد: 16093، وابن خزيمة: 2320، وابن حبان: 3280، والحاكم: 1464.
^4 رواه البخاري: 1499، ومسلم: 1710.
مواد ذات صلة