عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أهمية اجتماع الكلمة
إن اجتماع الكلمة ووحدة الصف مقصد شرعي عظيم؛ لما يترتب عليه من المصالح العظيمة في أمور الدين والدنيا، وإنك لتعجب حين تقرأ قول النبي : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو أن يفرق جماعتكم فاقتلوه [1]، رواه مسلم.
وفي رواية أخرى لمسلم: يقول عليه الصلاة والسلام: إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنًا من كان [2].
فمع عظيم شأن القتل في الإسلام إلا أن النبي أمر بقتل من يسعى لتفريق كلمة الأمة وشق عصاها، وما ذاك إلا للعناية العظيمة من الشريعة الإسلامية باجتماع الكلمة، ونبذها للفرقة والاختلاف.
ولتحقيق هذا المقصد العظيم عُنيت الشريعة الإسلامية بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ وذلك لأهميتها من جهة، وحساسية من جهة أخرى.
فإن بعض النفوس قد لا تصبر، وخاصة عندما ترى أثرة واستئثارًا بحظوظ الدنيا، وقد لا تصبر كذلك عندما ترى بعض المنكرات، فحسم النبي هذه المسألة، ولم يجعلها راجعة إلى اجتهاد المكلف، فأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف.
حكم طاعة ولي الأمر
يقول الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه: مسائل الجاهلية التي خالف فيها النبي أهل الجاهلية؛ يقول: “المسألة الثالثة من مسائل الجاهلية: أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عند أهل الجاهلية فضيلة وبعضهم يجعله دينًا، فخالفهم النبي في ذلك وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلَّظ في ذلك وأبدى وأعاد”.
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله” [3].
قال النووي رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: “الأثرة هي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا، أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم..
قال: وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال لأجل اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم”.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية [4].
وتأمل أخي المسلم قول النبي : خرج من السلطان شبرًا، ففيه إشارة لأدنى خروج.
خطورة إثارة العامة على ولاة الأمر
إن شحن نفوس العامة ضد ولاة الأمر كما أنه مخالف للشرع فإن آثاره السيئة على الأمة وخيمة، وقد يتسبب في فتح أبواب من الفتن.
ولهذا جاء في صحيح البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قيل له: لو أتيت فلانًا، أي أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، فكلمته، أي ناصحته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أن أسمعكم؟! إني أكلمه في السرِّ دون أن أفتح بابًا لا أكون أول من فتحه” [5]، فخشي أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما خشي من أنه لو نصح عثمان علنًا خشي أن يفتح على المسلمين باب فتنة وشر.
وإن على العلماء وعلى أهل الحل والعقد وأرباب القلم وأرباب التأثير في الأمة عليهم مسؤولية كبيرة في حث الناس على اجتماع الكلمة، ونبذ الفرقة، كما أن عليهم مسؤولية عظيمة في تأليف قلوب العامة تجاه ولاة الأمر، وإبعادهم عن كل ما يشحن النفوس، ويملأ القلوب تجاههم، فإن من النصيحة لولاة الأمر تألف قلوب الناس لطاعتهم.
قال النووي رحمه الله: “من النصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وتألف قلوب الناس لطاعتهم”.
وإن شحن قلوب الناس تجاه ولاة الأمر يجر أبوابًا عظيمة من الشر والفتنة.
ولهذا عندما نقرأ التاريخ الإسلامي نجد أن أول فتنة وقعت في تاريخ المسلمين كانت الفتنة التي حصلت بعد مقتل عثمان بن عفان ، وقد كانت شرارة الفتن التي وقعت زمن أمير المؤمنين عثمان هي شحن قلوب العامة تجاه عثمان ، وتولى كِبْرها عبدالله بن سبأ حتى حصل ما حصل من الفتن العظيمة، مع أن كثيرًا من علماء الصحابة كانوا موجودين في مدينة النبي ، ولكن لما شحنت النفوس تجاه الخليفة الراشد أحد العشرة المبشرين بالجنة، لما شحنت النفوس تجاهه أصبح أولئك العامة الخارجون عليه لا يقبلون من علماء الصحابة، بل ويتهمونهم بمداهنة الخليفة.
آفة عدم تقدير النعم
إن بعض الناس يعيش في نعم عظيمة، ولكنه ينظر إلى من هو أعلى منه فيظل ساخطًا ويظل متشكيًا؛ ولو أنه عمل بوصية النبي لنظر إلى من هو أقل منه، فإنه بذلك يعرف قدر نعمة الله عليه ولا يحتقرها، يقول النبي : انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا أي: ألا تحتقروا نعمة الله عليكم [6].
إن من الناس من يعيش عيشة ملوك، ومع ذلك يظل ساخطًا، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسأله رجل من الناس، فقال له: ألسنا من فقراء المهاجرين؟! يريد أن يستفسر هل هو من الفقراء أم لا؟! وهل تحل له الصدقة أم لا؟! فانظروا بما أجاب عبدالله، قال له عبدالله بن عمرو : ألك امرأة تأوي إليها؟! قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت إذن من الأغنياء، قال: إن لي خادمًا، قال: فأنت إذن من الملوك.
وكان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكًا، وقرأ قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20].
فبعض الناس يعيش عيشة ملوك، ومع ذلك يظل متشكيًا ساخطًا.
قال ابن القيم رحمه الله: “من الآفات الخفية أن يكون العبد في نعمة أنعم الله تعالى بها عليه واختارها له، فيملها العبد، ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله، وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعًا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها، واستحكم ملله لها سلبه الله إياها، فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه، فهؤلاء تكون حالهم مثل حال بني إسرائيل الذين أنعم الله تعالى عليهم بالمنِّ والسلوى فتململوا من هذه النعمة وطلبوا البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل فأجيبوا إلى ما طلبوا وأبدلوا نعمة المنِِّ والسلوى بما هو أقل منها؛ كما قال ربنا : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61]
أسأل الله تعالى أن يحفظنا وبلادنا وولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، وأسأله أن يرزقنا شكر نعمه وآلائه العظيمة، وأن يجعلنا من أنصار الحق وأعوانه، هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.