عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حديثي معكم عن أفضل ما تعوذ به المتعوذون عن سورتين من كتاب الله ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلهما: سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.
هاتان السورتان قد تضمنتا الاستعاذة من جميع أنواع الشرور، قال ابن القيم رحمه الله: “تضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما”.
ما تضمنته سورة الفلق من الاستعاذة
أما سورة الفلق فتضمنت الاستعاذة من أربعة أمور:
- من شر المخلوقات التي لها شر عمومًا.
- ومن شر الغاسق إذا وقب.
- ومن شر النفاثات في العقد.
- ومن شر الحاسد إذا حسد.
وقد افتتحت هاتان السورتان بـ قُلْ والأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ التي عينها الله تعالى للنبي ؛ ليتعوذ بها، فإجابتها مرجوة.
و”الفلق” هو الصبح.
و “رب الفلق” هو الله ، فهو خالق الصبح، وأسباب ظهوره.
الاستعاذة من شر جميع المخلوقات
وقول الله : مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ أي: من شر جميع المخلوقات، وقد دخل في ذلك الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا، أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة، أو أي نوع كان من أنواع البلاء.
ثم بعد الاستعاذة من شرور المخلوقات عمومًا عُطِف على ذلك ثلاثة أنواع من الشرور:
الاستعاذة من الليل إذا أقبل ودخل
الأول: ذكره الله بقوله: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، و “الغاسق” هو الليل كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
إِذَا وَقَبَ أي: أقبل ودخل، فالوقوب معناه الدخول.
والأمر بالاستعاذة من الليل إذا أقبل ودخل؛ لأنه تكثر فيه الشرور، ومن ذلك ما ذكره النبي في حديث جابر المتفق على صحته حيث يقول: إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذ، وإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قِربَكم، واذكروا اسم الله، وخمِّروا آنيتكم، واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم [1]، وفي هذا الحديث دليل على أن إغلاق الباب مع ذكر اسم الله يمنع دخول الشياطين إلى ذلك المكان.
كذلك تغطية الطعام والشراب مع ذكر اسم الله يمنع وصول الشياطين إليه، أخرج مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : لا ترسلوا فواشيكم أي مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء، وهو الوقت الذي بين صلاتي المغرب والعشاء فإن الشياطين تنبعث حتى تذهب فحمة العشاء [2].
وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله يقول: غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، فإن في السَّنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء؛ إلا نزل فيه من ذلك الوباء [3].
هذه بعض الشرور التي تكون بالليل، وحينئذ فلا غرو أن نؤمر بالاستعاذة من شره: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ.
الاستعاذة من السحر وما يفعله السحرة
ثم أمر الله بالاستعاذة من نوع آخر من الشرور وهو نوع خبيث يحدث ضررًا عظيمًا للإنسان، وهو: السحر، وما يفعله السحرة، فقال سبحانه: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، و”النفاثات” قيل هن النساء السواحر، ورجح ابن القيم رحمه الله أن المراد بالنفاثات الأرواح والأنفس النفاثات، وهذا يعم الرجال والنساء؛ وذلك لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة، فلهذا ذكرت النفاثات بلفظ التأنيث دون التذكير.
والنفث هو النفخ مع تحريك اللسان.
وقوله: فِي الْعُقَدِ أي: أن السواحر يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشرِّ الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، وقد تساعده الروح الشيطانية على أذى المسحور، فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري للأمر الشرعي، وقد دلت الآية على تأثير السحر، وأن له حقيقة”.
فانظروا أيها الإخوة كيف تضمنت هذه الآية الكريمة: الاستعاذة بالله تعالى من هذا الشر العظيم بأبلغ وأوجز عبارة.
الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد
ثم أمر الله سبحانه بالاستعاذة من شر عظيم من نوع آخر، وهو: الحاسد إذا حسد، فقال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وشر الحاسد على المحسود عظيم، فكما أنه قد يؤذي ذلك الحاسد المحسود بيده ولسانه، فإنه قد يؤذيه كذلك بنفسه وعينه، فإن العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين.
قال بعض أهل العلم: وإنما قيدت الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد؛ لأن الإنسان قد يكون في طبعه الحسد؛ لكنه غافل لاه عن المحسود، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه، فيحصل أذى الحاسد للمحسود عند حصول الحسد بالفعل.
ويدخل في الحاسد العائن، فإن العائن حاسد خاص، وهو من أضر ما يكون من الحاسد، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا.
ولهذا جاءت الاستعاذة من الحاسد، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين، وهذا من شمول القرآن، وإعجازه وبلاغته.
والأمر بالاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد؛ لأن ضرر الحاسد على المحسود عظيم، خاصة فيما يتعلق بعين الحاسد، فإن النصوص قد دلت على تأثيرها في المحسود بإذن الله ، والتجارب عند الخاصة والعامة شاهدة بهذا، فكم من نعمة سلبت بسبب العين، وكم من إنسان معافى عاد طريحًا على الفراش قد احتار الأطباء في أمره، فحوصاتهم وتحاليلهم تثبت أنه ليس به داء، لكنه طريح على فراشه، يعاني من المرض وما ذاك إلا لأن علته متعلقة بالروح لا بالبدن.
بل إن العين ربما تسببت بإذن الله في هلاك المحسود، فعن جابر أن النبي قال: أكثرُ من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس قال الراوي: يعني بالعين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “أخرجه البزار بإسناد حسن” [4].
فانظروا أيها الإخوة كيف تضمنت هذه الآية الاستعاذة من كل ما قد يلحق المحسود من حاسده من شر بهذا اللفظ الموجز البليغ.
ما تضمنته سورة الناس من الاستعاذة
وأما سورة الناس، فقد أفردت الاستعاذة فيها من شر عظيم، وهو الذي يؤز الناس إلى المعاصي، وهو: الشيطان الرجيم، الوسواس الخناس، والمستعاذ به هو الرب جل جلاله رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
فذكر الله سبحانه في هذه الآيات ذكر له ثلاث أوصاف: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3] ثلاث صفات ذكرها جل وعلا، وهي: الربوبية، والملك، والألوهية.
قال ابن القيم رحمه الله: “تأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3]، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسماء الله الحسنى”، إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
وذكر الله تعالى المستعاذ منه، وهو: الشيطان الرجيم الذي يؤز الناس إلى المعاصي، وذكر الله تعالى له أوصافًا، فوصفه بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.
فالوسوسة هي طريق الخبيث الماكر، فالشيطان هو الذي يزين للإنسان المعاصي، ويثبطه عن الطاعات، وسلاحه في ذلك هو الوسوسة، الشيطان لا يجبر الإنسان على المعصية، ولكنه عن طريق الوسوسة يزينها له تزيينًا عظيمًا، ويرغبه فيها، ويثبطه عن الطاعات حتى تكون ثقيلة عليه.
ووصفه الله بوصف آخر، وهو: الخناس.
قال المفسرون: ومعنى الخناس الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس أي كف وانقبض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر العبد ربه انخنس”، أي: كف وانقبض، وقال بعضهم: “الشيطان رأسه كرأس الحية، وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه، فإذا ذكر الله تعالى انخنس، وإذا لم يذكره عاد ووضعه رأسه يوسوس إليه ويمنيه”.
وتأملوا أيها الإخوة كيف وصفه بالخناس، وهو من صيغ المبالغة، ولم يقل: الخانس، وذلك إيذانًا بشدة هروبه ورجوعه، وعظيم نفرة الشيطان، وهروبه من ذكر الله ، فذكر الله تعالى يقمع الشيطان ويطرده، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم ذكره جل وعلا يطرد الشيطان ويقمعه؛ لأن الشيطان يتسلط على الإنسان بغير اختياره، فجعل الله للعباد أمرًا هينًا يطردون به الشيطان، وهو ذكر الله سبحانه.
ولهذا فإن من يكثر ذكر الله لا يستطيع الشيطان أن يتسلط عليه بتزيين المعاصي، أو بتثبيطه عن الطاعات؛ إنما يتسلط الشيطان على الغافل اللاهي عن ذكر الله سبحانه.
ثم قال : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ هذه صفة ثالثة للشيطان، وهو أنه يوسوس في صدور الناس، وذلك أن الله قد جعل للشيطان نفوذًا إلى قلب العبد وصدره، فهو يدخل جوف ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم.
ثم قال سبحانه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قال ابن القيم رحمه الله: “الصواب في معنى الآية أن قول الله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فكما أن الشيطان الجني يوسوس، فكذلك للإنس شياطين يوسوسون لابن آدم؛ كما قال الله سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ [الأنعام:112]”.
ولكن إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هو بواسطة الأذن، وأما شيطان الجن فلا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل جوف ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم.
تأملوا رحمكم الله كيف دلت هاتان السورتان العظيمتان على وجازة ألفاظهما على هذه المعاني العظيمة، وما لم نذكره من المعاني أكثر بكثير مما ذكرناه.
وتأملوا كيف أن هاتين السورتين قد تضمنتا الاستعاذة من جميع الشرور التي في الدنيا، والتي قد تعرض لابن آدم، ولذلك قال النبي عن هاتين السورتين: إنهما أفضل ما تعوذ به المتعوذون [5].
وأمر بقراءتهما مع سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عقب كل صلاة، وتكرار قراءتهما بعد صلاتي الفجر والمغرب، ثلاث مرات.
وكان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ بهذه السور الثلاث، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات [6].
أسأل الله تعالى أن يعيذني وإياكم من الشيطان الرجيم، وأن يجعلني وإياكم من الموفقين المسددين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.