القصص لها سلطانٌ على النفوس، ولها تأثيرٌ عظيمٌ وبليغٌ؛ ولذلك تجد أن الناس في مجالسهم إنما تَحْلُو مجالسهم بالقصص الصحيحة، ويأنسون بها، ويشغلون بها مجالسهم وأحاديثهم، فنجد أن هذا الأسلوب -أسلوب ذكر القصص- هو أسلوب القرآن والسنة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه:99].
فالله تعالى قص في القرآن الكريم قصصًا كثيرةً؛ ولذلك النبي أيضًا ذكر لنا قصصًا من قصص الأمم السابقة، فهذه القصص لها تأثيرٌ عظيمٌ على النفوس، هناك قصةٌ واحدةٌ أفرد الله تعالى لها سورةً كاملةً، وهي قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، قصةٌ من أعجب وأعظم قصص القرآن!
يوسف عليه الصلاة والسلام: هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم الصلاة والسلام، هل هناك أشرف من هذا؟! نبيٌّ، وأبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جده أبو الأنبياء، ومع ذلك حصل له ما حصل؛ حسده إخوته، وإخوته الصحيح أنهم ليسوا هم الأسباط، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثيرٍ، ليس أخوة يوسف هم الأسباط، لا يمكن أن يكون أنبياء يفعلون هذه الفعلة، يهمون بقتل أخيهم لأجل أن أباهم يحبه أكثر، مع أن أباهم يعقوب قد يكون معذورًا؛ لأن يوسف وأخاه بنيامين كانت أمهما ميتةً، بينما بقية إخوتهما أمهم موجودةٌ، فكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يعطف عليهما أكثر، ويريد أن يعوضهما عن فقد الأم بمزيد من الحنان، لكن بقية أولاده لم يعذروه بذلك، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8]، وصفوا أباهم بهذا الوصف الذي لا يليق أن يكون في حق نبيٍّ عظيمٍ: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8].
انظر كيف أن الحقد إذا وصل بالإنسان واستحكم في الإنسان؛ يجعله لا يفكر بالطريقة الصحيحة، ولا يتكلم بالطريقة الصحيحة، ويضخم الأمور، كيف يصفون أباهم بهذا الوصف: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؟! ثم أيضًا يَهُمُّون بهذه الفعلة الشنيعة: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9].
فالصحيح: أنهم ليسوا من الأسباط، لكنهم تابوا إلى الله فيما بعد، وطلبوا من يوسف أن يعفو عنهم، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، ويوسف مباشرةً عفا عنهم: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92].
أما يعقوب فقد كان ألمه أشد، سبحان الله! لاحِظ، ألم الأب أشد من ألم من وقعت له المصائب، يوسف هو الذي وقعت له هذه المصائب، ألم أبيه أشد من ألم يوسف، فلما قالوا: يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97]، يعني: لا زال الجرح لم ينكأ بعد، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:98]، يعني: اتركوني الآن، فيما بعد، عندما يَصْفو الخاطر سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
ولذلك أحيانًا ألم الوالدين يكون أشد من ألم الولد نفسه، ربما يمرض الولد؛ من ابنٍ أو بنتٍ، فيتألم أبوه أو أمه أشد من ألمه هو، فانظر هنا كيف أن ألم يعقوب أشد من ألم يوسف عليهما السلام؛ ولذلك يوسف مباشرةً قال: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، ويعقوب قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، سوف: فيما بعد، بعدما يصفو الخاطر وأهدأ، ونحو ذلك.
وقيل: إنه أراد أن يؤخر الاستغفار لهم إلى آخر الليل، لكن لم يثبت هذا، الذي يظهر أنه كان متأثرًا جدًّا من هذا الذي حصل، فأجَّل الاستغفار لهم إلى وقتٍ آخر.
يوسف الذي هو نبيٌّ، وأبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جده أبو الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، بِيعَ رقيقًا كأنه عبدٌ، هذا يدل على حقارة الدنيا، كيف هذا الرجل الشريف النبي، أبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جده أبو الأنبياء، ومع ذلك يُسترقُّ ويباع رقيقًا، يباع عبدًا، هذا يدل على حقارة الدنيا، وأن الدار التي ينبغي أن يسعى لها المسلم، والتي فيها السعادة الأبدية، هي الدار الآخرة، ينبغي أن يسعى لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، أما هذه الدنيا فكما وصفها ربنا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
هذا النبي العظيم، نبيٌّ وأبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جده أبو الأنبياء، ومع ذلك يسترق ويباع رقيقًا، ثم بعد ذلك يعيش في قصر العزيز، وتحصل له محنةٌ عظيمةٌ، وفتنةٌ كبيرةٌ من أعظم الفتن، اجتمعت فيها جميع مقومات الإغراء: فإنه شابٌّ ومغتربٌ، شابٌّ في منتهى الشباب والفتوة، وقوة الشهوة، ومغتربٌ، والمغترب لا يَعيبه ما يعيب غير المغترب، ثم امرأة العزيز هي سيدته، تتأمر عليه، ثم أيضًا امرأة العزيز امرأةٌ جميلةٌ، كما ذُكر، من أجمل النساء، ثم أيضًا تزينت، يعني امرأةٌ جميلةٌ وتزينت، ثم خَلَت به، وغلَّقت الأبواب، ثم هي التي دعته، فاجتمعت جميع أسباب الفتنة، ومع ذلك عصمه الله ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]؛ ولذلك الصحيح في تفسير الآية: أنه لم يَهُمَّ أصلًا، يعني لولا أن رأى برهان ربه؛ لَهَمَّ بها، كما تقول: إن جئتني أكرمتك، لكنك لم تأتني؛ فلم أكرمك، فقال: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، يعني: لو قلبتَ المعنى، لولا أن رأى برهان ربه؛ لهم بها، معنى ذلك: أن الهم لم يقع من يوسف، هذا هو القول الصحيح عند المحققين، أن الهم أصلًا لم يقع من يوسف ، ولأن الله تعالى ذَكَره في موضع الثناء العظيم عليه بالعفة، فهذا يؤيد أنه لم يقع الهم منه، وإن كان يوجد لديه ما يوجد لدى غيره من الشباب، لكن الله تعالى عصمه؛ ولهذا قال سبحانه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، لماذا؟ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، أي: لأنه من عبادنا المخلصين، مَن صدق مع الله وأخلص؛ عصمه الله تعالى من فتن الشبهات ومن فتن الشهوات.
ثم بعد ذلك تأتيه المحنة الأخرى، وهي أن يُظلم ويسجن، يعني: سجنٌ مع ظلمٍ، يعني هو البريء، المفروض الذي يعاقب امرأة العزيز، ويَعرف زوجها العزيز ذلك، ويقول: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، لا تتكلم فيه، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، يعرف بأنها مخطئةٌ، ومع ذلك يقلب المسألة، فيوسف هو الذي يسجن، يوسف البريء هو الذي يسجن، ويسجن بضع سنين! فاجتمع عليه السجن مع الظلم، وهذا من أشد ما يكون أيضًا من المحنة.
ثم كان معه في السجن فَتَيان، وذكر الله تعالى شأنهما، ورأيا من يوسف عليه الصلاة والسلام العجب؛ ولذلك وَصَفَاه فقالا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36]، كل من رأى يوسف وصفه بالإحسان، حتى إخوته وصفوه بالإحسان: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78]، كل من الْتقى به يصفه بالإحسان عليه الصلاة والسلام.
الفَتَيان رأيا منه عجبًا، فعبر لهما الرؤيا، وأحدهما كان تعبير الرؤيا أنه سوف ينجو، فقال: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42]، بعض الناس يقول: إنه عوقب بسبب ذلك، وهذا غير صحيحٍ، يعني: هو أراد أن يفعل سببًا؛ لأنه مظلومٌ بهذا السجن، فقال: اذكرني عند الملك، مقتضى تعبير هذه الرؤيا ستكون جليس الملك، فاذكرني عنده، فليس في هذا ملامةٌ على يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك يكون هذا السجين هو سبب خروج يوسف من السجن واعتلائه عرش مصر.
سبحان الله! الإنسان لا يدري ربما يأتيه الخير من سببٍ لا يأبه به، سجينٌ تسبب في هذا الخير العظيم ليوسف ، ذَكَر يوسف عند الملك بعدما الملك رأى رؤيا وقال: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، فهذا الرجل تذكر يوسف، ويوسف عليه الصلاة والسلام عبر الرؤيا، أولًا الملك أراد يوسف عليه الصلاة والسلام، فقال: لا، ما دام الملك يريدني، أنا أريد أولًا أن تظهر براءتي، مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50].
فأجرى الملك تحقيقًا، وظهر له براءة يوسف ؛ ولهذا قال: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ [يوسف:51]، لاحِظ جَزْم الملك يدل على أنه أجرى تحقيقًا وعرف الحقيقة، فأُسقِطَ في أيديهن، فاعترفن: قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]، رأى الملك رجلًا عظيمًا، ليس كسائر الناس، عالمٌ بتعبير الرؤى، عفيفٌ، سُجن بسبب عفته ظلمًا، ليس له تطلعٌ للدنيا، يناديه الملك، ويقول: تعال، يقول: لا، أنا لن آتي حتى تظهر براءتي، مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50]، فرأى رجلًا لم يَرَ مثله في أوساط الناس، فأعجب به الملك إعجابًا شديدًا، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54]، هذا رجلٌ عجيبٌ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف :54]، يعني: ذو مكانةٍ عظيمةٍ وأمانةٍ.
يوسف عليه الصلاة والسلام تعامل مع الموقف بحكمةٍ، لما رأى الملك قال هذا؛ ساعده على اتخاذ القرار، قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، ليس حرصًا على الدنيا، لكن يعرف أنه ليس في الحاضرين من يقوم مقامه، اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وليس هذا من باب التزكية، لكن هو مضطرٌّ لأن يقول هذا الكلام، مقبلون الآن -على حسب رؤيا الملك- على كوارث مقبلةٍ، وليس هناك أحدٌ يقوم مقامه، فلذلك لا بأس أن يطلب الإنسان الولاية إذا كان في ذلك مصلحةٌ راجحةٌ، وغلب على ظنه أنه سيتحقق على يديه مصالح عظيمةٌ.
وأيضًا لا بأس بتزكية النفس على سبيل التعريف لمن يجهل الإنسان، وربما أن يوسف لو لم يقل ذلك؛ لتركه الملك كالمستشار له، ولم يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض، وأصبح هو ملء السمع والبصر كما يقال، الملك اختفى، وأصبح كأن ملك مصر هو يوسف عليه الصلاة والسلام، وأصبح عنده خدمٌ وحشمٌ وأموالٌ، وهو الذي يدير البلد؛ ولذلك لما أتى إخوة يوسف؛ جاؤوا إليه فعرفهم وهم له منكرون، وحصل ما حصل مما قصه الله تعالى علينا.
فهذه القصة -قصة يوسف – من أعجب القصص، فينبغي لك -أخي المسلم- عندما تقرأ هذه القصة أن تتأمل فيها، وأن تتدبرها، وأن تستفيد من العبر العظيمة التي حوتها هذه القصة، والكلام عنها يطول، لكن نختصر، حسبنا أن نشير إشاراتٍ فقط، وإلا فالكلام عنها طويلٌ.