الرئيسية/برامج تلفزيونية/عقود المعاوضات المالية- جامعة الإمام/(8) عقود المعاوضات المالية- تتمة أقسام الخيار
|categories

(8) عقود المعاوضات المالية- تتمة أقسام الخيار

مشاهدة من الموقع

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تتمة مسائل القسم الثاني: خيار الشرط

هذه هي المحاضرة الثامنة في هذه المادة، مادة عقود المعاوضات المالية، وكنا قد تكلمنا في المحاضرة السابقة، بدأنا بالحديث عن الخيار، وتكلمنا عن خيار المجلس، وابتدأنا أيضًا الحديث بالكلام عن خيار الشرط، بدأنا الحديث عن خيار الشرط، وذكرنا جملة من المسائل، والأحكام المتعلقة بهذا الخيار، وقد وعدت باستكمال الحديث عن خيار الشرط في هذه المحاضرة.

التصرف في المبيع في مدة الخيار

من المسائل المتعلقة بخيار الشرط، أنه ليس لأحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار؛ وذلك لأنه ليس ملكًا للبائع، ولا للمشتري، أما كونه ليس ملكًا للبائع، فلأنه في زمن الخيار يحتمل أن ينتقل للمشتري، فهو ليس ملكًا للبائع يتصرف فيه، ولم تنقطع علاقته به، فيتصرف فيه المشتري، إذا ليس ملكًا للبائع، وليس ملكًا للمشتري في هذه الحال، يعني مقصودنا بالملك هنا الملك التام، وإلا هو في الأصل هو ملك للبائع، لكن لا يملكه ملكًا تامًا، بناء على هذا إن تصرف أحدهما في المبيع تصرفًا ينقل الملك، كالبيع والهبة والوقف، ونحو ذلك، فإنه لا يصح ذلك التصرف إلا أن يكون الخيار للمشتري فقط دون البائع، فإن تصرف المشتري في هذه الحال يعتبر فسخًا لخياره، وإمضاء لبيعه، أما تصرف البائع في المبيع إذا كان الخيار له وحده دون المشتري، تصرف البائع في المبيع إذا كان الخيار للبائع فقط دون المشتري، فهذا اختلف العلماء في حكمه، والقول الراجح أن البائع في هذا كالمشتري، أي: أن تصرفه في المبيع -إذا كان الخيار له وحده- يعتبر فسخًا للخيار.

إذًا خلاصة الكلام في هذه المسألة: إذا كان الخيار للبائع والمشتري جميعًا، فليس لأحدهما التصرف فيه إلا بإذن الآخر، إذا كان الخيار لأحدهما، فإن تصرفه يعتبر فسخًا للخيار، في هذه الحال، استثنى الفقهاء: تصرف المشتري في المبيع لغرض تجربة المبيع، فيصح من غير حاجة إلى استئذان البائع، كأن يشتري سيارة، ثم يسير بها لأجل تجربتها، واختبار سيرها، فهذا لا بأس به، ما يحصل من غلة ونماء منفصل، وكذا من أيضًا نماء متصل على القول الصحيح، يكون ذلك كله للمشتري.

ويدل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلًا ابتاع غلامًا، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي ، فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغل غلامي، وفي رواية قال: خراجه يا رسول الله، فقال النبي : الخراج بالضمان [1].

وهذه كلمة عظيمة، وجعلها العلماء قاعدة من القواعد الفقهية: الخراج بالضمان، هذا الحديث أولًا أخرجه أبو داود، وهو حديث صحيح، الفقهاء جعلوا هذا الحديث قاعدة فقهية، وهي قاعدة الخراج بالضمان، وبنوا على هذه القاعدة أحكامًا كثيرة، معنى الخراج بالضمان، أي: أنّ غلة هذا العبد وكسبه مقابل ضمانه إياه، لو هلك، فكما أن العبد لو هلك لكان من ضمان المشتري، فكذلك ينبغي أن يكون له خراجه وغلته، وكما يقال: الغُنم بالغُرم، فإذًا، ما يحصل من نماء للمبيع في زمن الخيار يكون للمشتري؛ وذلك لأنه أيضًا لو هلك؛ لكان عليه الضمان، فمقتضى العدالة والإنصاف كما أنّ عليه الغُرم والخسارة لو هلك، فله الربح والنماء لو ربح.

توريث خيار الشرط

من مسائل خيار الشرط، توريث خيار الشرط، هل يُورث خيار الشرط؟

اختلف العلماء في هذه المسألة:

  • فذهب الحنفية إلى أنّ خيار الشرط لا يُورث مطلقًا.
  • وذهب الحنابلة إلى أنه يُورث، إذا كان قد طالب بالخيار قبل موته فيورث كالشفعة، وإلا لم يورث.
  • وذهب المالكية والشافعية إلى أن خيار الشرط يُورث مطلقًا.

فالمسألة فيها ثلاثة أقوال: قول: بأنه لا يُورث مطلقًا، وهو قول الحنفية، وقول: بأنه يُورث إذا كان قد طالب به قبل موته، وهو قول الحنابلة، وقول: بأنه يُورث مطلقًا، وهو قول المالكية والشافعية، والأقرب -والله أعلم- أنه يُورث، وهو قول المالكية والشافعية؛ وذلك لأنه حق للميت، وقد قال عز وجل في آية المواريث مِمَّا تَرَكَ [النساء:11] وقال: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] فيشمل ذلك جميع ما تركه الميت من حقوق وأعيان ومنافع، والخيار حق من جملة الحقوق، فيدخل في ذلك، والله تعالى أعلم.

القسم الثالث: خيار الغبن

ننتقل بعد ذلك إلى القسم الثالث من أقسام الخيار، وهو خيار الغبن، خيار الغبن، الغبن ورد ذكره في القرآن، وهناك سورة من سور القرآن اسمها سورة التغابن، الغبن الحقيقي ليس غبنًا في تجارة أو في بيع أو في شراء؛ الغبن الحقيقي إنما يكون يوم القيامة حينما يرى من ضيعوا أعمارهم في لهو وفي غفلة يرون المؤمنين ومعهم الحسنات العظيمة كأمثال الجبال، ويرون إكرام الله تعالى للمؤمنين والفوز العظيم لهم، وأولئك قد أضاعوا أعمارهم في المعاصي وفي اللهو وفي الغفلة؛ فإنهم يصابون بغبن عظيم؛ ولذلك سمى الله تعالى يوم القيامة بيوم التغابن يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] هذا هو الغبن الحقيقي، لكن الغبن الذي نتكلم عنه هنا في هذا الباب هو غبن في بيع وشراء، هذا غبن في الدنيا، لكن ليس هو الغبن الحقيقي، الغبن الحقيقي هو الذي يكون في الآخرة نعود لموضوعنا: خيار الغبن، إذا غبن البائع أو المشتري غبنًا يخرج عن العادة، ثبت له الخيار، إذا كان هذا الغبن في عادة الناس أنه خارج عن العادة، فيثبت له الخيار في إمضاء ذلك البيع أو فسخه، طيب نريد الآن بعد ما قلنا: إن من غبن في البيع وفي الشراء يثبت له الخيار، نريد أن نضبط هذا الغبن؛ ما ضابطه؟ ما حده؟

ضابط الغبن في البيع والشراء

اختلف العلماء في هذه المسألة:

فمن العلماء من حده بالثلث، وهو مذهب المالكية، فالمالكية يقولون: إذا زادت نسبة الربح على الثلث فإن المشتري يعد مغبونًا كذلك، أيضًا إذا بيعت السلعة بأقل من ثمنها بأقل من قيمة الثلث فيعد مغبونًا، فالمالكية إذا حددوا الغبن بالثلث.

وذهب جمهور العلماء إلى أنه يرجع للعرف، فما عده الناس في عرفهم غبنًا فهو غبن، وهذا هو القول الصحيح، فالقول الصحيح: أن المرجع في الغبن إلى العُرف والعادة، ما عده الناس في عرفهم غبنًا فهو غبن، وما لا فلا؛ وذلك لأن التحديد بابه التوقيف، كل من حدد بشيء معين يطالب بالدليل، وليس هناك دليل يدل على تحديد الغبن بالثلث، وكل ما ورد في الشرع ولم يحدد، وليس له حد فيه، ولا في اللغة فالمرجع فيه للعُرف، هذه قاعدة عند العلماء، والغبن من هذه الأمور لم يرد في الشريعة تحديد له، فلذلك المرجع فيه إلى العرف، بل إنه قد جاء في صحيح البخاري عن عروة بن جعد ، أنّ النبي أعطاه دينارًا ليشتري له به شاة، فذهب عروة واشترى بهذا الدينار شاتين، وأتى النبي بشاة ودينار، نعم أعطاه النبي دينارًا ليشتري به شاة، فذهب عروة، واشترى بهذا الدينار شاتين، وباع إحدى الشاتين بدينار، وأتى النبي بشاة ودينار، فدعا له النبي بالبركة، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه [2].

طيب أتساءل الآن: كمْ نسبة ربح عروة هنا؟ عندما أعطاه النبي دينارًا يشتري به شاة اشترى شاتين، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، نسبته الآن في الربح، يعني مائة بالمائة في الشراء وفي البيع، ومع ذلك أقره النبي على ذلك، ولم يعد هذا غبنًا، والذي يظهر أنّ هذا كان يعني العرف يجري به في عهد النبي ، وهذا في الحقيقة فيه رد على المالكية الذين حددوا الغبن بالثلث؛ ولهذا فالصواب أنّ المرجع في ذلك هو العُرف والعادة.

يعني نوضح هذا بمثال: لو أن رجلًا اشترى سيارة، وهذه السيارة قيمتها في السوق عشرة آلاف، غره البائع، وباعه إياها بأربعين ألفًا، يعني لو بيعت ما تساوي عشرة آلاف، لكن خدعه البائع وغره، فاشتراها بأربعين ألفًا، فهنا يثبت للمشتري الخيار؛ لأن هذا في عرف الناس غبن، كذلك لو كان العكس أراد رجلًا أن يبيع سيارته، هذه السيارة قيمتها خمسون ألفًا، أو أربعون ألفًا، فأتى أحد الناس وغره واشتراها منه بعشرة آلاف، فيثبت للبائع الخيار، خيار الغبن في هذه الحال.

أدلة ثبوت خيار الغبن

ومن الأدلة على ثبوت هذا الخيار، أولًا عموم الأدلة الدالة على أن مال المسلم لا يحل إلا بطيبة نفس منه، كقول النبي : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه [3]، وفي رواية: إلا بطيبة من نفسه والمغبون لم تطب نفسه بذلك البيع، أو الشراء؛ ولقول النبي لا ضرر ولا ضرار [4].

وهذا المغبون قد حصل له الضرر بذلك الغبن، لكن إذا كان الغبن في شيء يسير قد جرت العادة بالتسامح فيه فإنه لا يثبت فيه الخيار، قال ابن هبيرة رحمه الله: اتفقوا على أنّ الغبن في المبيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته، يعني: مثلًا لو كانت قيمة السيارة اثنا عشر ألفًا باعها بعشرة آلاف، فمثل هذا لا يُؤثر هذا فرق يسير، أو كانت قيمته عشرة آلاف اشتراها بإحدى عشر ألفًا، أو باثني عشر ألفًا، فهذه يعني الفرق يسير ولا يؤثر ولا يثبت به الخيار.

القسم الرابع: خيار التدليس

القسم الرابع من أقسام الخيار: خيار التدليس، والتدليس مأخوذ من الدلسة، وهي الظلمة، فكأن البائع بتدليسه قد صير المشتري في ظلمة معنوية، بالنسبة إلى حقيقة الحال، نحتاج إلى أن نعرف ضابط التدليس، ما هو ضابط التدليس؟

ضابط التدليس الذي يثبت به الخيار

أن يظهر البائع السلعة بمظهر مرغوب فيه، وهي خالية منه بما يزيد به الثمن.

ومن ذلك: ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله  مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا يا صاحب الطعام قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني [5].

إذًا وضع الطعام السليم فوق الطعام الذي أصابته السماء يعتبر في الحقيقة نوع تدليس، ومن ذلك أن توضع مثلا الفاكهة التالفة تكون أسفل الصندوق والفاكهة السليمة أعلى الصندوق، هذا نوع من التدليس، يثبت به الخيار، ومن ذلك أن يكون عند رجل سيارة مصدومة مثلًا، ثم يقوم بإصلاحها، وصبغها، وبيعها على أنها سليمة، فهذا نوع تدليس، فلو تبيّن هذا للمشتري فيثبت له الخيار، ومن ذلك أيضًا ما يفعله بعض الناس من وضع مواد كيماوية على الفواكه والخضروات لأجل أن تنضج قبل موعدها، هذا نوع تدليس وغش، ومن ذلك أيضًا حقن الدواجن بمواد كيماوية لأجل أن تكبر في وقت وجيز، خلط الألبان بالماء أو بالبودرة، ونحو ذلك.

كل هذا من التدليس والغش، وهذا في الحقيقة الذي يفعله بعض الناس هو أولًا يأثم به الإنسان، يكسب به ذنوبًا وأوزارًا، وكذلك أيضًا مثل هذه التصرفات هي في الحقيقة سبب لنزع البركة من تلك المبيعات؛ لقول النبي : فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما [6].

فالكذب والكتمان أسباب نزع ومحق البركة، بينما الصدق والبيان والوضوح من أسباب حلول البركة، ومما يذكره الفقهاء تحت هذا القسم من المسائل: مسألة تصرية الإبل والغنم؛ وذلك بأن يحبس اللبن في ضرعها مدة؛ لأجل أن يجتمع اللبن، تصرية البهائم، بأن يحبس اللبن في الضرع مدة لأجل أن يجتمع، فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها؛ لما يرى من كثرة اللبن، وفي هذه الحال يثبت للمشتري الخيار، بين الإمساك أو الرد، مع رد صاع من تمر، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: لا تصرُ الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها، وصاعًا من تمر [7].

وجاء في رواية مسلم: فهو بالخيار ثلاثة أيام [8]، فيخير إذًا مشتري المصراة، سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم يخير المشتري، منذ علم بين الإمساك أو الرد، مع صاع من تمر، إذا كان قد حلبها والصاع من التمر مقابل الحليب الذي قد انتفع به، واستفاد منه، وإذا كان لم يحلبها فلا حاجة؛ مع أنه لا يستطيع أن يكتشف أنها مصراة إلا بالحلب، لكن لو قدر أنه أخبر مثلًا، أو تبيّن له قبل أن يحلب، ففي هذه الحال لا حاجة؛ لأن يرد صاعًا من تمر، قد يحلبها، ثم يتبيّن أيضًا يرد اللبن ولا حاجة؛ لأن يرد صاعًا من تمر، إذًا متى يرد الصاع من التمر مع المصراة؟

إذا كان قد انتفع بهذا اللبن فإنه يرد هذه المصراة مع صاع من تمر مقابل ذلك اللبن، وإن تراضوا على قيمة معينة فلا بأس…، يعني: لو قال مثلًا: أنا ما عندي صاع من تمر، أنا أعطيك مبلغًا قدره كذا، وتراضيا على ذلك، فلا حرج في هذا.

القسم الخامس: خيار الخُلف في الصفة

القسم الخامس: من أقسام الخيار، خيار الخُلف في الصفة؛ وذلك فيما إذا اشترى شيئًا موصوفًا، ثم بعد رؤيته له تبيّن له تخلف صفة أو أكثر، فيثبت له في هذه الحال الخيار، مثال ذلك: اشترى سيارة بمواصفات معينة، وبعد أن رأى تلك السيارة التي اشتراها، تبيّن اختلاف الصفة، مثلًا اشترى سيارة موديلها مثلًا ألفين وتسعة، ثم لما أحضرت هذه السيارة تبيّن أن موديلها ألفان وثمانية، هنا يثبت له الخيار في إمضاء ذلك البيع أو فسخه، أو اشترى سيارة على أن لونها كذا، ثم تبيّن أن لونها بخلاف ما وصف له، فيثبت في هذه الحال له الخيار، وهذا ما يسميه العلماء خيار الخلف في الصفة.

القسم السادس: خيار العيب

القسم السادس من أقسام الخيار: خيار العيب، ونقول: إن خيار العيب المقصود به الخيار الذي يثبت بسبب العيب، والضابط فيه: نقصان قيمة المبيع به في عُرف التجار، فما عده التجار في عُرفهم منقصًا لقيمة المبيع ثبت به الخيار للمشتري، مثال ذلك اشترى رجلًا من آخر سيارة، ثم تبيّن للمشتري بعد ذلك أن بهذه السيارة خللًا، وهذا الخلل تنقص به قيمة السيارة في عُرف الناس، ويُعتبر هذا الخلل عيبًا يثبت للمشتري به الخيار، لكن لو كان المشتري عالمًا بذلك العيب، فلا خيار له، باتفاق العلماء، ولكن ما الحكم فيما إذا شرط البائع على المشتري البراءة من كل عيب، يجده المشتري في السلعة؟ هل يبرأ البائع بذلك؟ ويسقط حق المشتري؟ في الخيار فيما لو وجد في تلك السلعة عيبًا، هذه مسألة سبق أن أشرنا لها في المحاضرة السابقة.

وذكرنا أن القول الصحيح: أنّ البائع إذا كان يعلم بهذا العيب، فإنه لا تبرأ ذمته بذلك، ولا ينفعه هذا الشرط، وأما إذا كان غير عالم، فالشرط صحيح، ذكرنا هذه المسألة عندما تكلمنا عن الشروط في البيع، وذكرنا قصة عبدالله بن عمر لما باع عبدًا على زيد بن ثابت بثمانمائة درهم بشرط البراءة من كل عين، فأصاب به زيد عيبًا، فأراد رده فلم يقبل بذلك ابن عمر، وترافع إلى عثمان ، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ قال: لا، فرده عليه [9].

هذا إذا شرط البائع على المشتري البراءة من كل عيب، ولكن إذا باعه من غير أن يشترط عليه ذلك الشرط، فوجد المشتري عيب بالمبيع لم يكن عالمًا به فله حينئذٍ الخيار، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء خيار العيب، له الخيار بين الإمساك أو الرد، وأخذ الثمن، سواء كان البائع علم بالعيب فكتمه أو لم يعلم بذلك.

قال الموفق ابن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا”.

إذاً إذا وجد المشتري العيب بالسلعة فيثبت له الخيار، لا نقول: إنه ينفسخ العقد، وإنما له الخيار، لو أراد أن يمضي ذلك العقد فلا بأس، ليس معنى قوله: يثبت له الخيار أن العقد ينفسخ، لا.

نقول: أنت أيها المشتري لك الخيار بين إمضاء ذلك العقد أو فسخه، لكن إذا اختار الإمساك فله أن يأخذ معه الأرش، له أن يأخذ معه الأرش، وما هو الأرش؟ الأرش هو قسط ما قيمة المبيع صحيحًا، وقيمته معيبًا، قسط ما بين قيمة المبيع صحيحًا، وقيمته معيبًا، ووجه القول بأخذ الأرش في هذه الحال هو أن المتبايعين قد تراضيا على أن الثمن في مقابلة المبيع، فكل جزء منه يقابله جزء من الثمن، ومع العيب فات جزء من المبيع، فكان له الرجوع ببدله وهو الأرش.

والقول بأن للمشتري الإمساك مع أخذ الأرش في هذه الحال هذا هو المذهب عند الحنابلة في الرواية المشهورة، وهو من مفردات المذهب، ثم ذكر ذلك صاحب الإنصاف، وذهب الحنفية والشافعية إلى أن المشتري إذا وجد عيبًا، فليس له إلا الإمساك أو الرد، ولا أرش له في هذه الحال إلا أن يتعذر رد المبيع؛ فحينئذٍ يكون له الأرش، هذا القول قلنا: هو مذهب المالكية والحنفية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولعله القول الراجح.

ووجه هذا القول أن النبي جعل لمشتري المصراة الخيار بين الإمساك من غير أرش، أو الرد، ولم يجعل له الأرش؛ ولأن المشتري يملك الرد، فلم يملك أخذ جزء من الثمن، فهذا هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

حكم الخيار لمن اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده فاسدًا

وهناك أيضًا جملة من المسائل المتعلقة بخيار العيب، يعني: لعلنا نشير لها أيضًا على وجه الإيجاز؛ لأجل نختم هذه المحاضرة، الفقهاء قالوا: إذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده فاسدًا كبيض الدجاج، والبطيخ والرمان، ومثل ذلك أيضًا في وقتنا الحاضر المعلبات بجميع أنواعها، فيرجع المشتري على البائع بالثمن؛ لأن عقد البيع يقتضي السلامة من العيوب، فإذا وجد المشتري عيبًا له الخيار، واستثنى بعض الفقهاء من ذلك ما إذا كان يبقى للمبيع قيمة بعد كسره، كجوز الهند، وبيض النعام، فإن المشتري إذا أراد الرجوع إلى البائع بالثمن فيلزمه رد المبيع في هذه الحال، مع رد أرش كسره.

ما الحكم إذا اختلف المتبايعان فيمن حدث عنده العيب؟

إذا اختلف المتبايعان في من حدث عنده العيب، مع احتمال أن يكون قد حدث عند كل واحد منهما، إن كان هناك بينة، فالقول قول صاحب البينة، سواء كان البائع أو المشتري، إن لم يكن هناك بينة، وكل واحد منهما يدعي حدوث العيب عند الآخر، اختلف الفقهاء في هذه المسألة، والقول الراجح -والله أعلم- أن القول قول البائع بيمينه، وهذا هو الذي يدل له ظاهر السنة، كما جاء في حديث ابن مسعود  أن النبي  قال: إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان [10]، أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد، وله طرق متعددة، وهو صحيح بمجموع طرقه؛ ولأن الأصل السلامة، وعدم وجود العيب، ودعوى المشتري أن العيب سابق على العقد خلاف الأصل، فكان القول قول البائع، والله تعالى أعلم.

ونلتقي بكم على خير في المحاضرة القادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3510، وابن ماجه: 2243.
^2 رواه البخاري: 3642.
^3 رواه أحمد: 21082.
^4 رواه ابن ماجه: 2341.
^5 رواه مسلم: 102.
^6 رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532.
^7 رواه البخاري: 2150، ومسلم: 1515.
^8 رواه مسلم: 1524.
^9 رواه مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري: 2482.
^10 رواه أبو داود: 3511، والترمذي: 1270، والنسائي: 4648، وابن ماجه: 2186، وأحمد: 4445.
مواد ذات صلة