عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي الحلقة الحادية والعشرون من هذه المادة، مادة عقود المعاوضات المالية، كنا قد تكلمنا في آخر المحاضرة السابقة عن تعريف الإجارة، والأصل فيها، وهل هي على وفق القياس أم على خلاف القياس؟ وعن أركانها، وذكرنا أن الإجارة أنها بيع منافع.
ننتقل بعد ذلك للكلام عن شروط صحة الإجارة، وشروط العين المؤجرة، وما يتصل بذلك من مسائل وأحكام.
المرجع لهذه المادة بالنسبة للشروط هو كتاب “الروض المربع شرح زاد المستنقع”، وهو الذي سننطلق منه في بيان الشروط، وهو من أفضل الكتب الفقهية في هذا.
شروط صحة الإجارة
تصح الإجارة بثلاثة شروط:
- الشرط الأول: معرفة المنفعة؛ لأنها هي المعقود عليها، فاشترط العلم بها كالمبيع، فلا بد أن تكون المنفعة معلومة، نحن قلنا: إن الإجارة بيع منافع، وكما اشترطنا في شروط البيع العلم بالمبيع، فلا يصح البيع مع جهالة، ومع الغرر، ومع عدم القدرة على التسليم، كذلك أيضًا هنا لا بد من العلم بالمنفعة؛ لأن العقد على المنفعة؛ فهي المعقود عليها، فاشترط العلم بها كالمبيع، ويدل لهذا ما تقدم من الأدلة الدالة على اشتراط العلم بالمبيع التي تكلمنا عنها في المحاضرة السابقة؛ ولقول الله تعالى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، والرضا لا يتوجه إلا إلى معلوم.
بما تحصل معرفة المنفعة؟ تحصل معرفة المنفعة إما بالعرف، فسكنى الدار مثلًا معلوم إذا استأجر دارًا لسكناها، فهنا لا يحتاج إلى ذكر صفات السكنى، كيف تسكن البيت، لا يحتاج إلى هذا؛ لأنه معلوم بالعرف والتفاوت فيها يسير، فلم يحتج إلى ضبطها، لكن من استأجر مثلا دارًا للسكني ليس له أن يعمل فيها مثلًا حدادة، يحولها لمحل نجارة، أو حدادة، أو يجعلها مثلًا محلًا للدواب والبهائم، أو نحو ذلك، لكن يسكنها بما جرى به العرف؛ ولهذا قال الفقهاء: له أن يسكن ضيفًا أو زائرًا، أو نحو ذلك، ولا يحتاج إلى أن يستأذن المؤجر، ومثل ذلك أيضًا يعني مما تحصل به المعرفة من أمثلة ذلك، ونحن قلنا: سكنى الدار، وخدمة الآدمي، استأجر آدميًّا لخدمته، استأجر خادمًا فهنا يخدمه بما جرت به العادة والعرف من ليل أو نهار، إن لم يكن بينهما عقد، فمثلًا الخدم الذين يكونون في البيوت والسائقين إن كان هناك شرط بأن يعمل ساعات معينة، فعلى ذلك الشرط، وعلى ذلك العقد المبرم، إن لم يكن هناك عقد، ولم يكن هناك شروط، فإن المرجع في ذلك إلى العرف، ويصح استئجار آدمي لعمل معلوم كخياطة مثلًا أو تعليم، أو نحو ذلك. وقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة: أن النبي وأبا بكر استأجرا رجلًا وهو عبدالله بن أريقط، وكان كافرًا، وكان هاديًا خريتًا يعني خبيرًا وماهرًا، إذًا هذا ما يتعلق بالشرط الأول، وهو معرفة المنفعة. - الشرط الثاني: معرفة الأُجرة بما تحصل به معرفة الثمن، فلا تصح الإجارة مع عدم معرفة الأجرة، نص الفقهاء على أنه تصح الإجارة في الأجير والظئر، ومعنى الظئر يعني مرضع بإطعامهما وكسوتهما؛ لقول الله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، وإن كان في هذا في الحقيقة نوع من الجهالة والغرر، لكنها جهالة وغرر يسيران، فيغتفران للحاجة.
ومثل ذلك أيضًا ما يكون في بعض المطاعم مما يسمى بالبوفيه المفتوح، يدخل الإنسان هذا المطعم، ويأكل منه حتى الشبع، مقابل مبلغ مقطوع مثلًا مقابل عشرين ريالًا أو ثلاثين ريالًا، هذا لا بأس به، قياسًا على ما ذكره الفقهاء، هنا من جواز استئجار الظئر والأجير بطعامهما وكسوتهما، فإن الأجير عندما يستأجر بطعامه وكسوته لا ندري ماذا يأكل هذا الأجير؟ هل يأكل قليلًا أو يأكل كثيرًا؟ هل يحتاج إلى كسوة كثيرة أو قليلة؟ خاصة بالنسبة للأكل ربما يعني كسوة تكون يعني معروفة في الجملة، لكن بالنسبة للأكل، فلا ندري ماذا يأكل هذا الأجير؟ كذلك الظئر يعني المرضع يصح استئجارها بطعامها وكسوتها، ولا ندري ماذا تأكل؟ هل تأكل كثيرًا قليلًا، ومع ذلك أجاز العلماء ذلك؟ أجازوا استئجار الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما، فأقول: يقاس على ذلك هذه المسألة، وهي مسألة أن الإنسان يدخل مطعمًا ويأكل منه ما أراد، مما هو معروض مقابل مبلغ مقطوع، هذا لا بأس به، وما فيه من الجهالة والغرر فيهما مغتفران كالجهالة والغرر كاستئجار الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما؛ لهذا أقول: القول الصحيح إنه لا بأس أن يدخل الإنسان مطعمًا مثلًا، أو ما يُسمّى يعني مطعمًا مفتوحًا، ويأكل منه حتى الشبع، نظير مبلغ مقطوع هذا لا بأس به قياسًا على ما ذكره الفقهاء، هنا في هذه المسالة من جواز استئجار المرضع التي هي الظئر والأجير بطعامهما وكسوتهما.
طيب لو قدر أن أنه لم يكن بينهما عقد، رجل ركب مع سيارة أجرة، قال: أوصلني إلى المحل الفلاني، فأوصله، ولم يتعاقد معه على مبلغ معين، فما الحكم في هذا؟ نقول: تصح الإجارة هنا، لكن بأجرة العادة، يعني: يرجع في ذلك إلى العرف، فمثلًا إذا كان ركب من المحل كذا إلى المطار في عرف الناس كم الأجرة؟ إذا كان في عرف الناس مثلًا أن الأجرة خمسون ريالًا يعطيه خمسين ريالًا، لو أن صاحب السيارة قال: لا أريد مائة ريال، ليس له ذلك، لو أن أيضًا هذا الشخص المستأجر أراد أن يعطيه عشرة ريالات، فليس له ذلك، وإنما يرجعان في ذلك إلى العرف، إن لم يكن بينهما اتفاق مسبق، فيرجعان في ذلك إلى ما جرى به العرف والعادة، أتى بعامل لكي يعمل له سباكة، أو يصلح له مثلًا كهرباء، أو نحو ذلك، ولم يتفق معه على مبلغ معين، ثم بعد ذلك اختُلف في قدر الأجرة، فيرجع في ذلك إلى العرف والعادة، هذه قاعدة في مثل هذه المسائل. - الشرط الثالث: الإباحة في نفع العين، يعني تكون العين مباحة، فلا تصح أن تكون الإجارة على نفع عين على نفع محرم كالزنا والغناء، وبيع الخمور، ونحو ذلك، وهذا أمر ظاهر.
هذه شروط صحة الإجارة، لكن الفقهاء يذكرون شروطًا أخرى للعين المؤجرة، غير شروط صحة الإجارة، هذه الثلاثة التي ذكرنا: معرفة المنفعة، ومعرفة الأجرة، وأن تكون المنفعة مباحة، هذه شروط صحة الإجارة، نحن قلنا: إنها شروط صحة الإجارة، لكن نريد أن ننتقل إلى شروط العين المؤجرة.
شروط العين المؤجرة
ما الذي يشترط في العين المؤجرة نفسها؟
فنقول: أنه يشترط في العين المؤجرة شروط.
- الشرط الأول: معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة، كما قلنا في البيع تمامًا، قلنا: معرفة المبيع برؤية أو صفة، هذه من شروط صحة البيع، كذلك نقول هنا في الأجرة: معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة، وكما ذكرنا أن الإجارة في الحقيقة هي نوع من البيع، هي بيع منافع، فنحن نشترط هنا هذا الشرط معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة، وما ذكرناه هناك نذكره هنا، فبالرؤية هذا ظاهر، وبالصفة إن كانت مما ينضبط بالوصف، كما ذكرنا ذلك أيضًا في البيع، إن كانت مما يمكن ضبطه بالوصف، لو قال شخص: عندي دار صفتها كذا وكذا وكذا، فقال: أجِّرنيها، قال: أجَّرتك هذه الدار لمدة شهر، أو لمدة سنة بمبلغ قدره كذا، قال الآخر: قبلت انعقد عقد الإجارة، ولو لم يره، إنما يصح أن تكون بالوصف، كما أن البيع يصح أن يكون بالوصف، إذا كان مما يمكن ضبط صفاته، إذا هذا هو الشرط الأول.
- الشرط الثاني: أن يعقد على نفعها المستوفى دون أجزائها، يعني يكون العقد على المنفعة دون الأجزاء؛ وذلك لأن الإجارة هي بيع منافع، فلا تدخل الأجزاء فيها، بناء على هذا الشرط لا يصح إجارة الطعام للأكل، ولا الشمع ليشعله، ونحو ذلك، وهذا أيضًا يعني أمر ظاهر،
- الشرط الثالث: القدرة على التسليم، وهذا الشرط ذكرناه في شروط صحة البيع ذكرنا من شروط صحة البيع القدرة على التسليم، ونذكره هنا أيضًا، لا بد من القدرة على تسليم العين المؤجرة، وهذا باتفاق العلماء، فلا تصح إجارة العبد الآبق، أو الجمل الشارد، أو الطير في الهواء، أو السمك في الماء، أو نحو ذلك، لا تصح إجارة المغصوب كذلك إلا لمن يقدر على أخذه على غاصبه؛ هذه كلها يعني سبقت معنا في البيع، ونحن نذكر هنا.
حكم تأجير المسلم نفسه للكافر
هنا مما يذكره الفقهاء من المسائل هنا: هل يصح أن يُؤجر مسلم لذمي ليخدمه؟ يقولون: إن تأجير المسلم للذمي ينقسم إلى قسمين: لغير المسلم -الذمي- أو من كان معصوم الدم كالمعاهد والمستأمن، هذا تأجير المسلم نفسه للكافر معصوم الدم طبعًا، ينقسم إلى قسمين:
-
- الأول: أن يكون للخدمة كتقديم الطعام له، وتنظيف بيته، ونحو ذلك، المذهب عند الحنابلة، ومذهب المالكية عدم الجواز؛ لأنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر: ولأن في هذا إذلالًا للمسلم عند الكافر، والله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].
والقول الثاني في المسألة: وهو قول الحنفية والشافعية: أنه تصح إجارة المسلم للكافر المعصوم للخدمة مع الكراهة، تصح مع الكراهة، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-، أنها تصح مع الكراهة؛ إذ أنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على المنع، وقد يكون هذا المسلم فقيرًا، ويحتاج إلى عمل، وربما لا يجد إلا مثل هذا العمل، فنقول: لا بأس به، لكن مع الكراهة، يعني: إن وجد غيره فهو أولى. - القسم الثاني: أن يكون تأجير المسلم نفسه لغير المسلم، لغير الخدمة كالبناء والخياطة والحرث، يعني: غير ذلك، كأن يعمل في شركة مثلًا، أو نحو ذلك، فهذا يجوز باتفاق العلماء؛ لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، وقد روي أن عليًا أجّر نفسه من يهودي، كل دلو بتمرة، إذًا تأجير المسلم نفسه لغير المسلم إن كان ذلك لغير الخدمة، نقول: إنه لا بأس به باتفاق العلماء، إن كان ذلك للخدمة هذا هو الذي فيه الكلام، فيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه يجوز مع الكراهة.
- الأول: أن يكون للخدمة كتقديم الطعام له، وتنظيف بيته، ونحو ذلك، المذهب عند الحنابلة، ومذهب المالكية عدم الجواز؛ لأنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر: ولأن في هذا إذلالًا للمسلم عند الكافر، والله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].
- الشرط الرابع: من شروط العين المؤجرة اشتمال العين على المنفعة، فلا تصح إجارة ما لا منفعة فيه كأرض لا تنبت الزرع؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، ولا يمكن تسليم هذه المنفعة من هذه العين.
- الشرط الخامس: من شروط العين أن تكون المنفعة مملوكة للمؤجر، أو مأذونًا له فيها، وهذا الشرط أيضًا نظيره قد تقدم معنا في شروط صحة البيع، فلو تصرف فيما لا يملكه بغير إذن مالكه لم يصح كالبيع.
حكم تأجير العين المؤجرة بعد قبضها
هل يجوز تأجير العين المؤجرة بعد قبضها أو لا يجوز؟ يعني: هذا إنسان استأجر بيتًا، هل يجوز أن يؤجره؟
نعم، نقول: له أن يؤجره لمن يقوم مقامه في الانتفاع أو دونه؛ لأن المنفعة لما كانت مملوكة له جاز له أن يستوفيها بنفسه ونائبه، لا بأكثر منه ضررًا؛ لأنه لا يملك أن يستوفيه بنفسه وبنائبه أولى، يعني هذا رجل استأجر بيتًا للسكنى، لكنه لم تتيسر ظروفه، فألزم بهذا العقد استأجر هذا البيت لمدة سنة، أو لمدة مثلًا خمس سنوات، لكنه وجد نفسه يعني أن الظروف لا تساعده على سكنى هذه الدار، فله أن يؤجر هذه الدار غيره، هذه الدار مع أنه مستأجرًا، وليس مالكًا، لكنه في الحقيقة يعتبر مالكًا للمنفعة، يُؤجر هذه الدار غيره لمن هو مثله، أو دونه في الضرر، كيف لمن هو مثله، أو دونه في الضرر؟ يعني مثلًا يؤجره لمن يسكن هذه الدار، لكن لا يحدث فيها ضررًا، فلا يُؤجر مثلًا هذه الدار؛ لتكون مثلًا محلًا للنجارة، أو محلًا للحدادة، أو لتكون مصنعًا، أو نحو ذلك؛ لأن هذا في الحقيقة فيه ضرر على صاحب الدار، لكن هو استأجر هذه الدار للسكنى، له أن يُؤجر هذه الدار لمن يسكنها، هذا لا بأس به، ولا يحتاج إلى إذن المالك لهذه الدار، ما لم يشترط عليه ذلك، ما لم يشترط عليه ألا يُؤجر إلا بإذنه، لكن إذا لم يشترط عليه ذلك، فهو مالك لهذه المنفعة؛ ولذلك هو حر فيها، هو له أن يستوفي المنفعة بنفسه أو بنائبه، لكن بهذا الشرط الذي ذكرناه، يعني لمن كان يقوم مقامه في الانتفاع، لا بأكثر منه ضررًا.
حكم تأجير الوقف
الوقف هل يصح تأجيره؟
نقول: نعم تصح إجارة الوقف باتفاق العلماء؛ لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه، فجاز تأجيره كالمستأجر، إذًا هذه هي شروط العين المؤجرة خمسة شروط.
ننتقل بعد ذلك إلى بعض المسائل المتعلقة بالإجارة.
حكم الإجارة على أعمال القُرب
الإجارة على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، أي مسلمًا يعني الإجارة على أعمال القُرب، مثلًا الإجارة على الحج، وعلى الأذان، وتعليم القرآن، وتعليم العلوم الشرعية، ونحو ذلك، نقول:
أولًا: حتى نحرر الكلام في هذه المسألة، نقول: هو يجوز أخذ الرزق على ذلك من بيت المال، يجوز أخذ الرزق على الإمامة، وعلى الأذان، وعلى القضاء، وعلى تعليم العلوم الشرعية، وعلى تعليم القرآن، وهذا حكي اتفاق العلماء على ذلك؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أما ما يُؤخذ من بيت المال، فليس عوضًا وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذ فهو رزق للمعونة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف من أعمال البر، إلى آخره، وقد حكي اتفاق العلماء على ذلك.
لماذا يجوز الأخذ من رزق بيت المال على الإمامة والأذان وتعليم القرآن وتعليم العلوم الشرعية والقضاء، ونحو ذلك من أعمال القرب والوظائف الدينية؟
لأن بيت المال يصرف في الأمور الشرعية التي تكون في مصالح المسلمين، بيت المال يصرف في مصالح المسلمين، ولا شك أن من أعظم مصالح المسلمين أن يصرف رزق للإمام والمؤذن لأجل أن ينتظم أمر المسجد، فإنه لو لم يصرف للإمام والمؤذن رزقًا لما استقام أمر إمامة هذا المسجد، وأذان هذا المسجد، بل كل وقت يؤذن شخص، ولا يتكفل شخص ويرتبط بالإمامة وبالأذان، ففرض رزق من بيت المال للإمام والمؤذن لا شك أنه من أعظم المصالح، فأيضًا بالنسبة للقضاء، بالنسبة للفتيا، بالنسبة لتعليم العلوم الشرعية، هذه أيضًا أخذ رزق من بيت المال عليها لا بأس به باتفاق العلماء، وكذلك أيضًا على سبيل الجُعالة يجوز، وقد حكي الاتفاق على ذلك، يعني: ليس على سبيل الإجارة، وإنما على سبيل الجعالة، وفرق بين الإجارة وبين الجعالة، فالإجارة أضيق من الجعالة.
وإن شاء الله تعالى تأخذون مسائل وتفاصيل أحكام الجعالة بالتفصيل.
إذًا أخذ الرزق على القُرب، وأخذ الجعالة على قُرب لا بأس به، أخذ الأجرة على أعمال القُرب هذا محل خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: إنه لا يجوز أخذ الأجرة على أعمال القُرب، كالحج مثلًا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، ومذهب الحنفية، وقالوا: إن هذه عبادات وأعمال قُرب، فلا يجوز أخذ أجرة عليها؛ لأن من شرط هذه الأفعال كونها قُربة إلى الله تعالى، فلم يجز أخذ الأجرة عليها، كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه.
والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز أخذ الأجرة على القُرب، واستدلوا بحديث ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخ كبير، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، أفأحُجُّ عنه؟ قال حجي عنه [1]، متفق عليه، قالوا: فإذا جازت النيابة فيه جاز أخذ الأجرة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يستحب للرجل أن يأخذ مالًا ليحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين، إما رجل يحب الحج ورؤية المشاعر وهو عاجز، فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح، ويؤدي عن أخيه فريضة الحج، أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة بينهما، أو لرحمة عامة بالمؤمنين، ونحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك”، وأجمعوا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ، إذا أخذ ليحج فلا بأس، وأما أن يحج ليأخذ، فهذا لا يجوز.
يعني: لا يجعل نيته هو المال؛ ولهذا يعني قال شيخ الإسلام أيضًا في موضع آخر: “من أخذ ليحج فلا بأس، ومن حج ليأخذ فما له في الآخرة من خلاق”، هذه هي يعني أقوال العلماء في المسألة.
والذي يظهر أنه في مثل هذا يعني الذي عليه العمل هنا هو: أن الأخذ يكون على القرب، الأخذ على القرب في مثل هذا من الرزق من بيت المال، يعني: الأخذ على الإمامة والأذان والقضاء والفتيا وتعليم العلوم الشرعية، أنه من بيت المال، زد على ذلك تعليم العلوم الشرعية في المدارس الأهلية مثلًا هذا على سبيل الأجرة، وليس على سبيل يعني ليس رزق بيت المال، وليس جعالة، وإنما على سبيل الأجرة، يرد فيه هذا الخلاف الذي ذكرنا؛ والأقرب -والله أعلم- أنه لا بأس بذلك؛ لأنه إنما يأخذ على ارتباطه بهذا العمل، هو لا يأخذ لأجل قربة، وإنما يأخذ على ارتباطه بهذا العمل، هو مدرس مثلًا يدرس الصبيان القرآن، أو يدرسه في مدارس أهلية مثلًا علومًا شرعية، هو في الحقيقة قد ارتبط بهذا العمل؛ ولذلك لو قلنا: إنه لا ليس له إن يأخذ لربما تعطلت هذه المصالح، وبحث هذه المسألة ربما يكون يعني أوسع ومذكور في الكتب المطولة، لكن أكتفي بالإشارة إلى أن الخلاف وقع بين العلماء في هذه المسألة.
إذًا نلخص الكلام في هذه المسألة: أخذ عوض على القُرب:
- إن كان ذلك على سبيل الرزق من بيت المال لا بأس به.
- إن كان ذلك على سبيل الجُعالة لا بأس به.
- إن كان ذلك على سبيل الإجارة: فمحل خلاف بين العلماء، فمنهم من منع من ذلك، ومنهم من أجاز. والأقرب -والله أعلم- أنه لا بأس به، إذ أن ما ورد في ذلك من المنع لا يثبت في ذلك شيء عند كثير من المحققين من أهل العلم.
ثمة مسائل متعلقة بالإجارة، وما يتعلق بالأجير الخاص، والأجير المشترك، والأحكام المتعلقة بهما، وأيضًا نوع عقد الإجارة، وما يتعلق بذلك من مسائل وأحكام، هذه إن شاء الله تعالى سوف أرجئ الحديث عنها إلى المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى، ألتقي بكم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1513، ومسلم: 1334. |
---|