عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
التأجير المُنتهي بالتَّمليك
حديثنا في هذا الدرس عن التأجير المُنتهي بالتَّمليك، وهذا الموضوع موضوعٌ مهمٌّ، وقد جرتْ فيه بحوثٌ ومناقشاتٌ طويلةٌ، وأخذ حيزًا كبيرًا من النقاش عند كبار العلماء، ولا أدلَّ على ذلك من أنه عُرض في مجلس هيئة كبار العلماء ثلاث مراتٍ:
المرة الأولى: حصل شيءٌ من الخلاف، ولم ينتهِ العلماء إلى شيءٍ.
ثم في الدورة التي بعدها كان هناك أيضًا نقاشٌ كثيرٌ وطويلٌ، ولم ينتهِ العلماء إلى شيءٍ.
ثم في الدورة الثالثة التي بعدها حصل أيضًا نقاشٌ كثيرٌ، ثم قرر العلماء قرارًا بالأغلبية.
فكون هذا الموضوع يُطرح على مجلس هيئة كبار العلماء في ثلاث دوراتٍ، وحظي بهذا النقاش الطويل، واختلاف الآراء؛ لا شكَّ أنه موضوعٌ في غاية الأهمية.
والسبب في الاختلاف في هذا الموضوع هو: أنه موضوعٌ لم يكن معروفًا في البيئات الإسلامية من قبل، وإنما نشأ عند الغرب، ثم انتقل إلينا مُستوردًا، وهنا وقعت الإشكالية في فهم طبيعة هذا العقد، وفي تكييفه الفقهي، وحكمه الشرعي.
هذا العقد يجمع تأجيرًا وبيعًا، ومعلومٌ أن لكلٍّ منهما خصائص، ولكن هذا العقد هو عقدٌ مُهجنٌ يجمع بين خصائص البيع وخصائص الإجارة، ومن هنا وقع الإشكال في فهمه، وفي تكييفه الفقهي، وفي حكمه الشرعي.
وقبل أن نُشير إلى آراء العلماء في هذا العقد، ونُبين بعد ذلك القول الراجح فيه، أُشير أولًا إلى بعض الأمور التي يختص بها البيع، والأمور التي تختص بها الإجارة، والتي هي سبب وقوع الإشكال في فهم هذا العقد.
فأقول: البيع هو عقدٌ لازمٌ، والإجارة عقدٌ لازمٌ، ولكن الإجارة بيع منافع، بينما البيع تنتقل فيه العين مع المنفعة، ففي البيع تنتقل العين مع المنفعة، بينما في الإجارة إنما تُملك المنفعة فقط، فيصحّ أن نقول: إن الإجارة نوعٌ من البيع، لكنه نوعٌ خاصٌّ، فهي بيع منافع.
فمثلًا: عندما تستأجر بيتًا لمدة سنةٍ، فأنت تملك منفعة هذا البيت لمدة سنةٍ؛ ولذلك لو لم يتيسر لك الانتفاع بهذا البيت لك أن تُؤجره لغيرك بشرط: أن يكون مثلك أو أقلَّ منك في الضرر، لا أكثر ضررًا، كما نصَّ على ذلك الفقهاء، بشرط: أن يكون مثلك أو أقلَّ منك، لا أكثر منك ضررًا؛ وذلك لأنك تملك المنفعة.
وبهذا نعرف أنه في البيع تنتقل العين مع المنفعة، بينما في الإجارة إنما الذي ينتقل هو المنفعة فقط.
وكان الناس في السابق لا يعرفون إلا البيع بالتقسيط، وقد سبق أن تكلمنا بالأمس عن أبرز صوره، وفي هذا البيع ينتقل المبيع إلى المُشتري، وتنتقل ملكية المبيع إلى المُشتري، ويبقى الدَّين في ذمته.
فمثلًا: مَن اشترى سيارةً بمئة ألف ريالٍ مُقسطةً، من حين الشراء تنتقل الملكية إلى المشتري، وتبقى المئة ألف ريالٍ هذه دَينًا في ذمته، يُسددها في مدةٍ معينةٍ؛ قد تكون سنةً، أو سنتين، أو أكثر.
بينما في الإجارة لا تنتقل ملكية العين إلى المُستأجر، وإنما تبقى ملكًا للمُؤجر، فمَن استأجر بيتًا يبقى البيت ملكًا للمُؤجر، إنما فقط هذا المُستأجر ملك المنفعة.
فهذا العقد يهدف إلى إظهار عقد البيع في صورة إيجارٍ، فيتفادى البائع بذلك اعتبار المشتري مالكًا للمبيع، وبالتالي يتفادى تصرف هذا الذي انتقلتْ إليه العين في المبيع، وتبقى الملكية لهذا المُؤجر.
إذن الغرض أو الهدف من هذا العقد هو: ضمان بقاء ملكية هذا الشيء الذي يُراد انتقاله بالتأجير المُنتهي بالتمليك، ضمان بقائه للمُؤجر، وعدم تصرف هذا المُستأجر فيه ببيعٍ أو غيره، هذا هو الغرض أو الهدف من هذا العقد.
نشأة الإجارة المُنتهية بالتمليك
يرجع تاريخ هذا العقد -التأجير المُنتهي بالتمليك- على ما قيل إلى عام ألفٍ وثمانمئةٍ وستةٍ وأربعين ميلاديًّا، حيث ظهر هذا العقد لأول مرةٍ في إنجلترا تحت اسم (الهاي بير شاس) بهذا المُسمى، ثم بعد ذلك تطور هذا العقد، وأصبح يتطور شيئًا فشيئًا، وظهر بعد ذلك في دولٍ أخرى مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا.
ثم لا يزال هذا العقد يتطور حتى انتقل إلى البلاد الإسلامية، فنشأته إنما كانت في بلاد الغرب، والعقود التي تنشأ في بلاد الغرب تنشأ بإشكالاتها؛ لأنها بيئةٌ كافرةٌ، ويقوم اقتصادها ويرتبط بالربا وبأمورٍ تختلف نظرة الإسلام عنها.
إذن هذا العقد إنما أتى إلينا مُستوردًا من الغرب، وقد وجدت الشركات والبنوك في تطبيق هذا العقد مخرجًا لها؛ لأنها في البيع بالتقسيط تنتقل الملكية مباشرةً إلى المُشتري، وربما يتعذر تسديد المُشتري للأقساط، بينما في هذا العقد تبقى الملكية للمُؤجر، وبذلك تتفادى الشركات والمؤسسات انتقال ملكية المبيع؛ ولهذا انتشر هذا العقد عند كثيرٍ من الشركات والمؤسسات.
ولما ظهر هذا العقد اختلف العلماء المعاصرون في نظرتهم له، وفي التكييف الفقهي له، وبُحِثَ في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ثم بُحِثَ في مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
قرار هيئة كبار العلماء
أما الهيئة فكما ذكرتُ في بداية هذا الدرس بحثتْ هذا الموضوع في ثلاث دوراتٍ: في الدورة التاسعة والأربعين، والدورة الخمسين، والحادية والخمسين.
أما في الدورتين الأربعين والخمسين فحصل نقاشٌ واختلافٌ بين العلماء، ولم يخرجوا من ذلك بشيءٍ.
أما في الدورة الحادية والخمسين فقد صدر قرارٌ بالأغلبية، وكان من أبرز العلماء في ذلك الوقت: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله.
ويُلاحظ أن هذا القرار لم يُفصل في الصور، وإنما اعتبرها صورةً واحدةً، بينما أتى بعده قرار المجمع الفقهي وذكر صورًا للجواز، وصورًا للمنع، وذكر ضابط الجواز، وضابط المنع؛ ولهذا تميز قرار المجمع الفقهي بشموله وبدقته؛ ولهذا فإن قرار المجمع الفقهي أشمل من قرار هيئة كبار العلماء، ويُعتبر قرار هيئة كبار العلماء من ضمن ما تضمنه قرار المجمع الفقهي، وسنذكر القرارين معًا، لكن قرار هيئة كبار العلماء إنما حُصِرَ في الصورة الممنوعة فقط، وجاء في قرار هيئة كبار العلماء -وأبدأ به باعتبار أنه هو السابق من حيث الترتيب الزمني-: “وبعد البحث والمناقشة رأى المجلس بالأكثرية -وإنما كان بالأكثرية لأن من العلماء مَن خالف فرأى الجواز بضوابط- أن هذا العقد غير جائزٍ شرعًا؛ لما يأتي”، ثم ذكرتْ ثلاثة أمورٍ:
- الأمر الأول: أنه جامعٌ بين عقدين على عينٍ واحدةٍ.
وهذا هو أبرز الملاحظ على هذا العقد: أنه جامعٌ بين عقدين على عينٍ واحدةٍ غير مُستقرٍّ على أحدهما، وهما مختلفان في الحكم، مُتنافيان فيه؛ فالبيع يُوجب انتقال العين بمنافعها إلى المُشتري، وحينئذٍ لا يصح عقد الإجارة على المبيع؛ لأنه ملك المُشتري.
والإجارة تُوجب انتقال منافع العين إلى المُستأجر، تُوجب انتقال العين إلى المُستأجر، والمبيع مضمونٌ على المشتري بعينه ومنافعه، فتلفه عليه، يعني: تلفه على المشتري عينًا ومنفعةً، فلا يرجع بشيءٍ منهما على البائع، والعين المُستأجرة من ضمان مُؤجرها، فتلفها عليه عينًا ومنفعةً، إلا أن يحصل من المُستأجر تَعَدٍّ أو تفريطٌ.
يعني: أن أحكام البيع وخصائص البيع تختلف عن أحكام وخصائص الإجارة؛ فالبيع يوجب انتقال العين بمنافعها للمشتري، بينما في الإجارة الذي ينتقل هو منافع العين فقط.
ثم إنه في البيع ينتقل المبيع بعينه ومنافعه، فلو حصل تلفٌ مَن الذي يتحمل؟
هو المشتري.
بينما في الإجارة المُستأجر أمينٌ.
ومعنى قولنا: “أمين” أنه لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط، وبينهما فرقٌ كبيرٌ. - ثانيًا: أن الأجرة تُقدر في هذا العقد سنويًّا أو شهريًّا بمقدارٍ مُقسطٍ يُستوفى به قيمة المعقود عليه، يَعُدُّه البائع أجرةً من أجل أن يتوثق بحقه، بحيث لا يمكن للمشتري بيعه.
مثال ذلك: إذا كانت قيمة العين التي وقع عليها العقد خمسين ألفًا، وأجرتها الشهرية ألف ريالٍ بحسب المعتاد، جُعلت الأجرة في هذا العقد ألفين، وهي -في الحقيقة- قسطٌ من الثمن؛ حتى تبلغ القيمة المُقدرة.
فتُلاحظون في التأجير المُنتهي بالتمليك أن الأجرة تُرفع، يعني: لو كانت هذه السيارة تُؤجر عادةً بألف ريالٍ في الشهر، فإنها تُجعل ألفي ريالٍ، فيُرفع هذا القسط، فلا أدري: هل هو قسط المبيع، أو أنه قسط الإجارة؟
فإذا أعسر في القسط الأخير هذا المُستأجر سُحبتْ، إذا أعسر في القسط الأخير على سبيل المثال، أو في أي قسطٍ سُحبتْ منه العين باعتبار أنها مُؤجرةٌ، ولا يرد عليه ما أخذ منه؛ بناءً على أنه استوفى المنفعة.
ولا يخفى ما في هذا من الظلم، والإلجاء إلى الاستدانة لإيفاء القسط الأخير.
ففي هذا العقد يُلاحظ:
أولًا: ارتفاع القسط، فإذا كانت السيارة في العادة تُؤجر بألفٍ، فإنها تُؤجر بألفين.
ثم إذا تأخرتَ في سداد أي قسطٍ من الأقساط -ولو القسط الأخير- فإنها تُسْحَب منك السيارة، ويضيع عليك كل ما دفعتَه.
فيُلاحظ: أن هذا العقد يحمي طرفًا دون طرفٍ، وكله في صالح المُؤجر، بينما المُستأجر يقع عليه الظلم.
فهذا ابتكره بعض التجار، وكله في صالح المُؤجر على حساب المُستأجر، بل إن فيه ظلمًا -في الحقيقة- لهذا المُستأجر.
ففي مثالنا السابق: هذا شخصٌ استأجر هذه السيارة، ويدفع كل شهرٍ ألفي ريالٍ، وقيمتها خمسون ألفًا، فلما بقي القسط الأخير حصل عنده ظرفٌ، وما تمكن من دفعه؛ فيأتي هذا المُؤجر ويسحب هذه السيارة، ويضيع عليه كل ما دفعه، ولا شكَّ أن هذا فيه ظلمٌ، وفيه تَعَدٍّ، وعدم عدلٍ، وعدم إنصافٍ، وهذا ملحظٌ من الملاحظ التي لأجلها مُنع هذا العقد. - ثالثًا: أن هذا العقد وأمثاله أدى إلى تساهل الفقراء في الديون، حتى أصبحتْ ذِمَم كثيرٍ منهم مشغولةً مُنهكةً، وربما يؤدي إلى إفلاس بعض الدائنين وضياع حقوقهم في ذمة الفقراء.
فلا شك أن مثل هذه العقود أدتْ إلى تساهل كثيرٍ من المحتاجين ومن الفقراء.
وهذه العقود -في الحقيقة- ابتُكرتْ لأجل ابتزاز هؤلاء الضعفاء، وهؤلاء الفقراء، وكما يقول بعض الناس: مشكلة الفقير ليست في أن ما عنده قليلٌ، ولكن المشكلة أن الغني يطمع فيما في يده، فهؤلاء الأغنياء يطمعون فيما في أيدي الفقراء؛ فيبتكرون مثل هذه العقود لأخذ ما في أيديهم.
فلاحظ هنا: أن هذا العقد إنما هو في صالح المُؤجر، ويُعطي ضماناتٍ وحمايةً لهذا المُؤجر على حساب هذا المُستأجر الضعيف، وهو في صالح طرفٍ دون طرفٍ، وهذا المُستأجر ربما تقوده الحاجة إلى هذا العقد؛ لأنه يرى أنه بالنسبة له مريحٌ، وأنه مُيسرٌ، فيلجأ لمثل هذا العقد؛ فتنشغل ذِمته بالديون من حيث لا يشعر وتتراكم.
والدَّين أمره عظيمٌ في دين الإسلام، حتى إن النبي أخبر أن الشهيد الذي باع نفسه لله يُغفر له كل شيءٍ إلا الدَّين [1]، فكل شيءٍ يُغفر له إلا الدَّين، وحتى إن الله أمر الفقير الذي لا يجد نكاحًا بأن يستعفف، ولم يأمره بالاقتراض أو بالاستدانة: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، وما ذاك إلا لعظم شأن الدَّين.
بل قال عليه الصلاة والسلام لمَن لم يجد مهرًا: التمس ولو خاتمًا من حديدٍ، ولم يطلب منه أن يستدين من الصحابة، فلما لم يجد قال: هل تحفظ شيئًا من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا. قال: زوجتُكها بما معك من القرآن [2].
فالدَّين أمره عظيمٌ، وهذا النوع من العقود يؤدي إلى انشغال ذِمَم الفقراء بهذه الديون.
إذن هذا هو قرار هيئة كبار العلماء في هذا العقد، وكما سمعتم أنه خاصٌّ بالصورة الممنوعة.
قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي
ثم بعد ذلك مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي درس هذا الموضوع في دورته الثانية عشرة التي عُقدتْ بالرياض، وكتب في ذلك عدة أبحاثٍ، ونُشرتْ أيضًا في “مجلة المجمع”.
وذكر المجمع هنا في قراره: أن هناك صورًا جائزةً للتأجير المُنتهي بالتمليك، وصورًا ممنوعةً، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذا العقد.
وأن الصور الممنوعة التي تضمنها قرار هيئة كبار العلماء داخلةٌ في قرار المجمع، فيكون قرار هيئة كبار العلماء إنما تضمن فقط الصور الممنوعة، ولم يذكر الصور الجائزة، بينما قرار المجمع تضمن الصور الجائزة، والصور الممنوعة.
والمهم في هذا معرفة ضابط الجواز، وضابط المنع -يعني: ضابط المنع في الصور الممنوعة- ننقلها من قرار المجمع.
ضابط المنع في الصور الممنوعة: أن يرد عقدان مختلفان في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، في زمنٍ واحدٍ.
إذن هذا هو الضابط: أن يرد عقدان مختلفان في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، في زمنٍ واحدٍ، فيكون العقدان جميعًا عقد بيعٍ وعقد تأجيرٍ في نفس الوقت على عينٍ واحدةٍ.
وستأتي لهذا أمثلةٌ، لكن هذا هو الضابط: أن يرد عقدان مختلفان في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، في زمنٍ واحدٍ.
أما ضابط الجواز فهو:
- وجود عقدين مُنفصلين، يستقل كلٌّ منهما عن الآخر زمانًا، بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعدٍ بالتمليك في نهاية مدة الإجارة، والخيار يُوازي الوعد في الأحكام.
إذن ضابط الجواز: وجود عقدين منفصلين، يستقل كلٌّ منهما عن الآخر زمانًا، بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعدٍ بالتمليك في نهاية مدة الإجارة، وهذا سوف نُبينه -إن شاء الله- بالمثال. - ثانيًا: أيضًا من ضوابط الجواز: أن تكون الإجارة فعليةً، وليست ساترةً للبيع، يعني: تكون الإجارة حقيقيةً، ولا تكون صوريةً أو غطاءً لهذا البيع.
- ثالثًا: أن يكون ضمان العين المُؤجرة على المالك، لا على المُستأجر، وبذلك يتحمل المُؤجر ما يلحق العين من ضررٍ غير ناشئٍ من تعدي المُستأجر أو تفريطه، ولا يُلزم المُستأجر بشيءٍ إذا فاتت المنفعة.
العين المُستأجرة إذا حصل فيها تلفٌ، مَن الذي يضمنها؟
الذي يضمنها هو المُؤجر، إلا إذا كان هناك تَعَدٍّ أو تفريطٌ من المُستأجر، فالذي يضمن العين المُؤجرة هو المُؤجر؛ لأن المُستأجر أمينٌ.
وإذا قال الفقهاء: “أمين” فيقصدون بذلك: أنه لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.
فمثلًا: عندما تستأجر سيارةً، ثم تتلف السيارة، أو تحترق، أو يكون فيها خرابٌ، فأنت أيها المُستأجر ليس عليك شيءٌ إلا إذا كان منك تَعَدٍّ أو تفريطٌ، بينما لو اشتريتَ سيارةً، ثم تلفتْ، أو احترقتْ، فضمانها عليك أنت أيها المشتري.
فالمشتري إذن هو الذي يكون عليه الضمان مطلقًا، بينما المُستأجر لا ضمان عليه إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.
ونحن نريد أن نجعل العقد في الصور الجائزة، نجعله عقد إجارةٍ، فإذا أردنا أن نجعله عقد إجارةٍ حقيقيةٍ فلا بد أن يكون الضمان على المُؤجر الذي هو المالك.
- رابعًا من ضوابط الجواز: إذا اشتمل العقد على تأمين العين المُؤجرة فيجب أن يكون التأمين تعاونيًّا إسلاميًّا، لا تجاريًّا، ويتحمله المُؤجر، وليس المُستأجر.
إذا اشتمل العقد على تأمينٍ فيجب أن يكون التأمين تعاونيًّا، لا تجاريًّا؛ لأن التأمين التجاري مُحرمٌ، والتأمين التعاوني جائزٌ.
ولكن مَن الذي يتحمل هذا التأمين؟
لا بد أن يتحمله المُؤجر، وليس المُستأجر؛ لأن العين ما زالت ملكًا للمُؤجر؛ ولأننا قلنا: نحن نريد أن نعتبره عقد إجارةٍ حقيقيةٍ، وليس عقد بيعٍ، فالذي يتحمل هذا التأمين المُؤجر، بينما في الصور الممنوعة الذي يتحمله المُستأجر، فحتى نضبط العقد ليكون عقدًا صحيحًا نجعل تحمل تبعة التأمين على المُؤجر، وليس على المُستأجر. - خامسًا: يجب أن تُطبق على عقد الإجارة المُنتهية بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة، وأحكام البيع لتملك العين.
إذن تُطبق أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة، وأحكام البيع عند تملك العين. - سادسًا: تكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المُؤجر، لا على المُستأجر طوال مدة الإجارة.
إذن نفقات الصيانة وما تحتاج إليه هذه العين على المُؤجر؛ لأنه هو المالك في الحقيقة لهذه العين، إلا ما يتعلق بتشغيل هذه العين واستهلاكها فعلى المُستأجر.
نحن نريد أن نصيغ هذا العقد صياغةً لا إشكالَ فيها من الناحية الشرعية، فنجعل هذا العقد عقد إجارةٍ حقيقيةٍ يترتب عليه كل ما يترتب على الإجارة من أحكامٍ، مع وعدٍ غير مُلزمٍ بالتمليك: إما عن طريق الهبة، أو عن طريق عرضها للبيع بقيمتها السوقية كما يأتي.
من صور العقد الممنوعة
من صور العقد الممنوعة بعدما عرفنا الضابط -ضابط المنع وضابط الجواز-:
- أولًا: عقد إجارةٍ ينتهي بتملك العين المُؤجرة مقابل ما دفعه المُستأجر من أجرةٍ خلال المدة المحددة المتفق عليها، فإذا وضع عقد أجرةٍ، وخلال مدةٍ معينةٍ إذا سدد جميع الأقساط تملك السلعة، فهذه من الصور الممنوعة؛ لأنه اجتمع الآن عقدان في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، فانطبق عليها ضابط المنع.
- ثانيًا: أيضًا من الصور الممنوعة: إجارة عينٍ لشخصٍ بأجرةٍ معلومةٍ، ولمدةٍ معلومةٍ، مع عقد بيعٍ له مُعلقٍ على سداد جميع الأجرة المتفق عليها خلال المدة المعلومة، فإذا كانت الإجارة مُعلقةً -يعني: مُتضمنةً عقد بيعٍ مُعلقٍ على سداد جميع الأجرة- فهذه أيضًا من الصور الممنوعة.
الفرق بين الصورة الأولى والثانية:
الصورة الأولى: العقد ينتهي بتملك العين المُؤجرة تلقائيًّا دون إبرام عقدٍ جديدٍ.
انتهى العقد -عقد التأجير- وتملك هذا المُستأجر العين دون إبرام أي عقدٍ آخر، فتنقلب الإجارة في نهاية المدة إلى بيعٍ تلقائيًّا.
بينما في الصورة الثانية تكون هناك إجارةٌ مع عقد بيعٍ، لكنه مُعلقٌ على سداد جميع الأجرة.
اتَّضح الفرق بين الصورتين.
الصورة الأولى: عقد إجارةٍ ينتهي بتملك المُستأجر للعين دون إبرام عقدٍ آخر، يعني: دون إبرام عقد بيعٍ آخر.
الصورة الثانية: إجارةٌ مع عقد بيعٍ مُعلقٍ على سداد جميع أقساط الأجرة.
ومن الصور الممنوعة أيضًا: عقد إجارةٍ حقيقيٌّ، واقترن به بيعٌ بخيار الشرط لصالح المُؤجر.
لاحظ: هنا لصالح المُؤجر، وليس المُستأجر، ويكون مُؤجلًا إلى أجلٍ طويلٍ.
قالوا: وهذا ما تضمنته الفتاوى والقرارات الصادرة من الهيئات العلمية، ومنها: هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
فهذه الصور الثلاث -في الحقيقة- ترجع إلى ما ذكرناه من ضابط المنع: وهو ورود عقد بيعٍ وعقد إجارةٍ في الوقت نفسه على عينٍ واحدةٍ، وهذا يتضمن هذه الصور الثلاث، وربما أيضًا غيرها.
في الصورة الأولى: تأجيرٌ ينتهي بالتمليك تلقائيًّا من غير إبرام عقد بيعٍ، وهذه أبرز الصور، فيُكتب: تأجيرٌ مُنتهٍ بالتمليك، وإذا التزمتَ بسداد هذه الأقساط ينتهي الأمر إلى تملك هذه السلعة.
إذن هذه الصورة ممنوعةٌ وغير جائزةٍ.
الصورة الثانية: تأجيرٌ مُقترنٌ ببيعٍ مُعلقٍ على سداد جميع الأقساط، فأيضًا هذه ينطبق عليها ضابط المنع، وهو: ورود عقد الإجارة والبيع في الوقت نفسه على عينٍ واحدةٍ.
أيضًا من الصور الممنوعة: تأجيرٌ مُقترنٌ ببيعٍ بشرط الخيار للمُؤجر.
فهذه بشرط الخيار للمُؤجر مع أجلٍ طويلٍ، فهذه أيضًا من الصور الممنوعة.
فلاحظ: أن هذه الصور كلها يجمعها أنه حصل عقد بيعٍ وعقد إجارةٍ في الوقت نفسه على عينٍ واحدةٍ، فهي -في الحقيقة- ترجع إلى ضابط المنع الذي ذكرناه؛ ولذلك إذا ضبطتَ الضابط يكفي في فهم الصور الممنوعة.
من صور العقد الجائزة
أما الصور الجائزة فنحن ذكرنا الصور الجائزة، والضابط فيها: ألا يكون العقدان في وقتٍ واحدٍ، وإنما يكون عقد البيع بعد عقد الإجارة زمنًا، ويترتب على ذلك ما يترتب على الإجارة من أحكامٍ، فيكون العقد عقد إجارةٍ حقيقيًّا، مع وعدٍ بالهبة -مثلًا-، وعد بالتمليك عن طريق الهبة، أو عن طريق البيع.
فيكون من صور العقد الجائزة، نقول: من صور العقد الجائزة: عقد إجارةٍ يُمكن المُستأجر من خلاله من الانتفاع بالعين المُؤجرة، فهو عقد إجارةٍ يُمكن المُستأجر من الانتفاع بالعين المُؤجرة مقابل أجرةٍ معلومةٍ لمدةٍ معلومةٍ، واقترن به عقد هبةٍ للمُستأجر مُعلقٌ على سداد كامل الأجرة، وذلك بعقدٍ مُستقلٍّ، أو وعدٍ بالهبة بعد سداد كامل الأجرة، فيُكتب عقد إيجارٍ حقيقيٍّ، ويذكر هذا المُؤجر يقول: أنت أيها المُستأجر إن التزمتَ بالسداد ولم تتأخر فإنني أعدك بأن أَهَبَ لك هذه العين على سبيل الوعد، أو على سبيل العقد. ويعقد معه عقد هبةٍ، ولا مانع من هذا، فالإنسان حرٌّ في ماله يهبه لمَن يشاء.
وسأضرب مثالًا حتى أُبسط المسألة: لو قلتَ لزميلك: يا فلان، أنا عندي سيارةٌ، وسوف أُؤجرها عليك لمدة ثلاث سنين -بعقد إيجارٍ حقيقيٍّ- وأعدك -يعني: وعدًا غير مُلزمٍ- بأنك إذا التزمتَ لي بسداد جميع الأقساط في وقتها المُحدد أن أهبها لك. فهذا لا مانع منه، فيكون هذا من صور العقد الجائزة.
وأيضًا من الصور الجائزة: عقد إجارةٍ مع إعطاء المالك الخيار للمُستأجر بعد الانتهاء من سداد جميع الأقساط المُستحقة خلال المدة في شراء العين المُؤجرة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
فيجعل العقد عقد إجارةٍ حقيقيًّا، ويقول: لك الخيار …، إذا تضمن مثل هذا العقد، يقول: بعد انتهاء سداد جميع الأقساط لهذا المُستأجر الخيار في شراء هذه العين بقيمتها في السوق.
فكأنه يقول: إذا التزمتَ لي بسداد جميع هذه الأقساط فأنا أبيعك إياها بقيمتها في السوق.
فهذا أيضًا لا بأس به، ولا مانع منه، فيكون قد أعطاه الخيار في شراء هذه العين بعد الانتهاء من سداد جميع أقساط الأجرة.
أيضًا من الصور الجائزة: عقد إجارةٍ يُمكن المُستأجر من الانتفاع بالعين المُؤجرة مقابل أجرةٍ معلومةٍ في مدةٍ معلومةٍ، واقترن به وعدٌ ببيع العين المُؤجرة للمُستأجر بعد سداد كامل الأجرة بثمنٍ يتفق عليه الطرفان، فهنا عقد إجارةٍ مع وعدٍ بالبيع.
الفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة:
الصورة الأولى: كان عقد إجارةٍ مع إعطاء الخيار للمُستأجر في شراء العين بسعرها في السوق.
بينما في الصورة الثانية: هو عقد إجارةٍ مع وعدٍ ببيعها بعد سداد كامل الأجرة بثمنٍ يتفقان عليه.
يقول -مثلًا-: أنا أُؤجرك هذه السيارة، وتُسدد لي في كل شهرٍ ألفي ريالٍ لمدة سنتين، أو ثلاث سنواتٍ، وأعدك بأنك إذا التزمتَ لي بسداد هذه الأقساط أن أبيعك إياها بعشرة آلافٍ. واتَّفقا على هذا، فهنا لا مانع، فيكون تأجيرًا مع وعدٍ بالبيع.
نُوضحها بمثالٍ بسيطٍ: قلتَ لزميلك: أنا عندي سيارةٌ أُؤجرها عليك خلال سنتين، وتدفع لي كل شهرٍ ألفي ريالٍ، وإذا التزمتَ لي بالسداد في الوقت المُحدد فأنا أعدك بأن أبيعك هذه السيارة بعشرة آلافٍ -مثلًا-، أبيعك إياها بيعًا. فهذا لا مانع منه.
أيضًا من الصور الجائزة: عقد إجارةٍ يُمكن المُستأجر من الانتفاع بالعين المُؤجرة مقابل أجرةٍ معلومةٍ في مدةٍ معلومةٍ، ويُعطي المُؤجر للمُستأجر حقَّ الخيار في تملك العين المُؤجرة في أي وقتٍ يشاء، على أن يتم البيع في وقته بعقدٍ جديدٍ بسعر السوق، أو حسب الاتفاق في وقته.
مرةً أخرى: عقد إجارةٍ يُمكن المُستأجر من الانتفاع بالعين المُؤجرة مقابل أجرةٍ معلومةٍ في مدةٍ معلومةٍ، ويُعطي المُؤجر هذا المُستأجر حقَّ الخيار في تملك العين المُؤجرة في أي وقتٍ يشاء، على أن يتم البيع في وقته بعقدٍ جديدٍ بسعر السوق، أو حسب الاتفاق في وقته.
فيقول: أنا أعقد معك عقد إجارةٍ حقيقيًّا، ولكن متى أردتَ شراء هذه العين فأخبرني، وأبيعك إياها إما بسعرها في السوق، أو بثمنٍ يتفقان عليه في حينه.
فمثلًا: أتى شخصٌ يريد من آخر سيارةً بالتقسيط، فقال المُؤجر: أنا والله ما أريد أن أبيعك؛ لأنه ربما لا يثق في صاحبه، فقال: أنا أريد أن أُؤجر عليك هذه السيارة تأجيرًا، ولكن متى أردتَ شراءها خلال هذه المدة فأخبرني، وأنا أُبرم معك عقد بيعٍ: إما بسعرها في السوق، أو بثمنٍ يتفقان عليه في حينه، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا -في الحقيقة- ينطبق عليه ضابط الجواز، فلم يكن هنا عقد إجارةٍ وعقد بيعٍ في وقتٍ واحدٍ على عينٍ واحدةٍ، وإنما كان عقد إجارةٍ مع وعدٍ له بتمليك هذه العين بعقد بيعٍ مُستقلٍّ آخر في وقتٍ لاحقٍ، وهذا لا مانع منه.
إذن هذه بعض الصور الجائزة.
أهمية معرفة ضابط الجواز وضابط المنع
المهم هنا ضبط ضابط الجواز وضابط المنع، فإذا ضبطتَ ضابط الجواز وضابط المنع استطعتَ أن تعرف الصور الجائزة من الصور الممنوعة.
ولهذا نقول: إنه يمكن أن تُصاغ عقود التأجير المُنتهي بالتمليك صياغةً بحيث يتلافى فيها المحاذير الشرعية.
وأنا رأيتُ عقود بعض الشركات التي تبيع السيارات بالتقسيط، ولجأتْ إلى هذا العقد، وقد صِيغ لهم هذا العقد صياغةً شرعيةً صحيحةً، فكُتب في العقد: عقد تأجيرٍ، ولم يُشِرْ إلى البيع إطلاقًا: عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ، ويلتزم المُؤجر بالضمان، وهو الذي يلتزم بالصيانة، ويترتب عليها ما يترتب على الإجارة من أحكامٍ، ويكون التأمين تعاونيًّا على المُؤجر، وليس على المُستأجر، يعني: يترتب عليها جميع ما يترتب على الإجارة من أحكامٍ، مع وعدٍ بهبة هذه السيارة لهذا المُستأجر إن التزم بسداد جميع الأقساط، وهذا لا بأس به، وهذا -في الحقيقة- مخرجٌ، وفيه شيءٌ من العدل والإنصاف.
بينما الصور الممنوعة فيها ظلمٌ لهذا المُستأجر، ومُبالغةٌ في إعطاء الحماية لهذا المُؤجر على حساب هذا المُستأجر، بينما الصور الجائزة فيها مصلحةٌ للطرفين، ولا يكون فيها أي محذورٍ شرعيٍّ.
ولهذا وردتْ أسئلةٌ في دروسٍ سابقةٍ عن التأجير المُنتهي بالتمليك، يقول بعض الإخوة: ما حكم التأجير المُنتهي بالتمليك؟
نقول: لا نستطيع أن نُجيب بالمنع ولا بالجواز حتى نعرف طبيعة هذا العقد، فإن انطبق عليه ضابط الصور الجائزة أصبح جائزًا، وإن انطبق عليه ضابط الصور الممنوعة أصبح ممنوعًا، والمهم هو أن نضبط الضابط.
فإذا ورد التأجير والبيع على عينٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ يكون هذا من الصور الممنوعة، وإذا كان العقد عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ، مع وعدٍ بتملك العين عن طريق الهبة، أو عن طريق البيع؛ فنعرف أنه من الصور الجائزة.
إذن لا نستطيع أن نحكم على التأجير المُنتهي بالتمليك بأنه من الصور الجائزة أو الممنوعة حتى نعرف طبيعة ذلك العقد.
ولهذا ينبغي للمؤسسات والشركات والبنوك التي تمارس التأجير المنتهي بالتمليك أن تطلب صياغة هذا العقد من قِبَل فقهاء، بحيث تتم صياغته ليكون مُوافقًا للشريعة.
ويمكن -في الحقيقة- أن تُحقق هذه الشركة أو هذه المؤسسة غرضها وهدفها، مع عدم الوقوع في المحظور، وهذا من ثمرة التَّفقه في هذه المعاملات.
فمثلًا: شركةٌ عندها هذا العقد -التأجير المنتهي بالتمليك-، إن أخذته بالصورة الواردة إلينا من الغرب بصورته المستوردة وقعتْ في المحظور الشرعي، وانطبق عليها ما ذُكر في حيثيات قرار هيئة كبار العلماء، ولكن إن تمتْ صياغة هذا العقد صياغةً شرعيةً صحيحةً، بحيث يتلافى المحاذير الشرعية، فإن هذه الشركة أو المؤسسة تُحقق غرضها، وأيضًا يُحقق هذا المُستأجر غرضه من غير وقوعٍ في المحظور، ويكون في هذا تسهيلٌ على هذا المُستأجر، ويكون أيضًا ضمانٌ لحق الشركة من غير وقوعٍ في المحظور.
انظر إلى ثمرة التَّفقه في الدين؛ ولهذا فإنني أرى أن الشركات والمؤسسات التي تمارس التجارة في الوقت الحاضر ينبغي أن تكون عند كلٍّ منها هيئةٌ شرعيةٌ من أناسٍ فقهاء مُتخصصين؛ لأنهم يستطيعون أن يصيغوا العقود بطريقةٍ شرعيةٍ صحيحةٍ يحصل معها الغرض من غير وقوعٍ في المحظور.
وسبق أن ذكرنا في دروسٍ سابقةٍ قصة التمر الذي أُتي به للنبي ، فسأل عنه فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال عليه الصلاة والسلام: أوَّه! عين الربا، ولكن بِعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا [3]، فأرشد إلى هذا المخرج الذي يتحقق به الغرض من غير وقوعٍ في المحظور، مع أن النتيجة واحدةٌ: بيع صاعين من تمرٍ رديءٍ بصاعٍ من تمرٍ جيدٍ هي نفسها بيع صاعين من تمرٍ رديءٍ بدراهم، ثم يشتري بهذه الدراهم صاعًا من تمرٍ جيدٍ، النتيجة واحدةٌ، ولكن هذه الأولى صورةٌ ممنوعةٌ، بل سمَّاها النبي : عين الربا، والصورة الثانية صورةٌ جائزةٌ.
إذن يمكن أن تُصاغ بعض العقود بطريقةٍ شرعيةٍ صحيحةٍ، مع عدم الوقوع في المحظور، وهذا إنما يكون من التَّفقه في هذه المسائل وهذه الأحكام، وهذا من ثمرة الفقه في الدين، ومن ثمرة الفقه في هذا النوع من المعاملات.
شروطٌ غير صحيحةٍ في عقود التأجير المُنتهي بالتمليك
بقي أن نُشير إلى أن هناك بعض الشروط التي تتضمنها بعض عقود التأجير المُنتهي بالتمليك، وهي شروطٌ غير صحيحةٍ، من هذه الشروط:
مُطالبة المُؤجر للمُستأجر بدفعةٍ مُقدمةٍ، يعتبرها هذا المُؤجر حقًّا له على هذا المُستأجر عند العقد، وهذه الدفعة ليست أجرةً مُقدمةً، ولا ضمانًا لسداد الأجرة وقت استحقاقها في حال تعثر السداد، وإنما هي دفعةٌ مُقدمةٌ لهذا المُؤجر يأخذها على اعتبار أنها جزءٌ من حقِّه، ولا حقَّ له -في الحقيقة- في هذه الدفعة.
يعني: نحن الآن قلنا: إذا أردنا أن نصيغ هذا العقد صياغةً صحيحةً فيُصاغ على أنه عقد تأجيرٍ حقيقيٍّ.
إذن لماذا تُشترط هذه الدفعة؟ بأي وجه حقٍّ تُشترط هذه الدفعة؟
فإذا كنت تريد أن تصيغ هذا العقد صياغةً صحيحةً فينبغي أن يُصاغ على أنه عقد إجارةٍ حقيقيٌّ.
فكونك تشترط دفعةً مُقدمةً في بداية العقد، وليست هذه الدفعة جزءًا من الأجرة، ولا ضمانًا لسداد الأجرة في حالة التَّعثر، فهذا من الإشكالات الواردة في هذا العقد، ويُعتبر هذا شرطًا غير صحيحٍ.
وأيضًا من الشروط غير الصحيحة: إلزام المُستأجر بالتأمين على العين المُؤجرة، أو بدفع تكاليف التأمين على العين المُؤجرة، وما دام أن العقد عقد تأجيرٍ فيكون التأمين أو تكلفة هذا التأمين على المُؤجر -في الحقيقة- الذي يملك هذه العين، وليس على المُستأجر، ولكن هذا المُؤجر يريد أن يستغلَّ حاجة هذا المُستأجر المسكين؛ فيُلزمه بدفع تكاليف التأمين، وهذا شرطٌ غير صحيحٍ.
إذن إذا كان في هذه العين التي تُباع بالتأجير تأمينٌ، فتكلفة التأمين على المُؤجر، وليست على المُستأجر.
إذن هذا الشرط شرطٌ غير صحيحٍ.
أيضًا من الشروط غير الصحيحة: أن يكون ضمان التلف على المُستأجر مطلقًا، سواءٌ كان بتَعَدٍّ أو تفريطٍ، أو بدون تَعَدٍّ أو تفريطٍ، وهذا شرطٌ غير صحيحٍ؛ إذ إن المُستأجر أمينٌ، فلا يضمن إلا إذا حصل منه تَعَدٍّ أو تفريطٌ، أما إلزامه بالضمان مطلقًا، سواءٌ تلفت العين المُؤجرة بتَعَدٍّ أو بدون تَعَدٍّ، فهذا شرطٌ غير صحيحٍ.
رابعًا: أيضًا من الشروط غير الصحيحة: إلزام المُستأجر بدفعةٍ أخيرةٍ هي ثمن السلعة بعد استيفاء مدة الإجارة، وهذا أيضًا شرطٌ غير صحيحٍ؛ لأن ثمن السلعة بعد انتهاء الإجارة لا يستحقه هذا المُؤجر إلا بإبرام عقد بيعٍ، إلا بعد حصول عقد بيعٍ.
أما مُطالبة هذا الشخص المُؤجر لهذا المُستأجر بدفعةٍ أخيرةٍ فنحن قلنا: حتى يكون العقد عقدًا صحيحًا لا بد أن يكون عقد إيجارٍ، فلا معنى لمُطالبته بدفعةٍ أخيرةٍ في الحقيقة، فهذا شرطٌ غير صحيحٍ.
فهذه شروطٌ توجد في بعض العقود، وهي شروطٌ غير صحيحةٍ، إذا وُجدتْ فإنها غير صحيحةٍ، والعقد صحيحٌ.
إذن نستطيع أن نصيغ عقد التأجير المُنتهي بالتمليك صياغةً صحيحةً بعيدةً عن هذه المحاذير، فنجعله عقد إجارةٍ حقيقيًّا، مع وعدٍ بالتملك عن طريق الهبة، أو عن طريق البيع، ويكون خاليًا من هذه الشروط غير الصحيحة؛ فلا تكون هناك دفعةٌ أولى، ولا دفعةٌ أخيرةٌ، ويكون الضمان والصيانة على المُؤجر، ولا تكون على المُستأجر، وتكون تكاليف التأمين -إن كان هناك تأمينٌ- على المُؤجر، وليس على المُستأجر.
بهذا نستطيع أن نصيغ هذا العقد صياغةً صحيحةً سالمةً من المحاذير الشرعية.
وكما ذكرتُ استطاعتْ بعض الشركات أو المؤسسات أن تُحقق هذا العقد بالصياغة الشرعية الصحيحة؛ ولذلك استطاعوا أن يحصلوا على غرضهم من غير وقوعٍ في المحظور.
ولكن -كما ذكرتُ قبل قليلٍ- الإشكال أن بعض الشركات تأخذ هذا العقد المُستورد بجميع ما فيه من إشكالاتٍ، وتُطبقه بحذافيره، وحينئذٍ يقع الإشكال، لكن لو أنه عُرض على فقهاء مُتخصصين، وصِيغ صياغةً شرعيةً صحيحةً سالمةً من المحاذير؛ فإنه يكون عقدًا صحيحًا لا حرج فيه، ولا إشكال فيه، ويُحقق مصلحة الطرفين: مصلحة الشركة أو المؤسسة، ومصلحة هذا المُستأجر.
الرهن بديلٌ لعقد البيع المُنتهي بالتمليك
بقي أن نقول: إنه يُغني عن هذا العقد -في الحقيقة- عقدٌ شرعيٌّ، أو أمرٌ شرعيٌّ ذكره الله في كتابه، وهو يُحقق الضمان للبائع بالأجل أو بالتقسيط، مع عدم حصول الضرر على المُشتري، وهو الرهن.
الرهن ذكره الله تعالى في القرآن: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، والنبي رهن درعه عند يهوديٍّ في شعيرٍ اشتراه لأهله [4].
فالرهن يستطيع الإنسان الذي يبيع بالأجل أن يُوثق حقَّه عن طريقه، من غير حاجةٍ إلى اللجوء إلى هذه العقود، ويستطيع مَن يبيع بالأجل أن يرهن المبيع بثمنه.
مثال ذلك: بِعْتُ عليك سيارةً بخمسين ألف ريالٍ مُؤجلة على سنتين أو ثلاثٍ، وقلتُ: هذه السيارة رهنٌ بثمنها عليك. يعني: ما تستطيع أن تتصرف فيها أنت أيها المشتري حتى تُسدد جميع المبلغ.
فهذا الرهن صحيحٌ، ولا إشكالَ فيه بالإجماع -بإجماع العلماء-؛ لأنه منصوصٌ عليه في كتاب الله : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، وبذلك يستطيع البائع أن يُحقق غرضه، ويستغني عن التأجير المُنتهي بالتمليك، لماذا؟
لماذا لجأ التجار إلى هذا العقد؟
حتى يضمن التاجر حقَّه، فلا يتصرف المشتري في المبيع قبل سداد ما عليه من استحقاقٍ.
فنقول: يُحقق هذا الغرضَ الرهنُ، فإذا بِعْتَ سيارةً بخمسين ألفًا، وقلتَ: هذه السيارة رهنٌ بثمنها عليك. فحينئذٍ لا يستطيع هذا المشتري أن يبيع السيارة، وتبقى حتى يُسدد كامل الأقساط، وبذلك يُحقق هذا البائع غرضه من ضمان حقِّه.
ولنفترض أن هذا المشتري الذي بِيعتْ عليه السيارة بخمسين ألفًا مع رهنها عليه، نفترض أنه لم يُسدد، سدد له -مثلًا- خمسة أقساطٍ ثم توقف؛ فيستطيع هذا البائع أن يسحب منه السيارة، ويبيعها ويأخذ حقَّه، ويُرجع الباقي إلى المشتري؛ لأن هذه هي ثمرة الرهن، خاصةً على القول الراجح، وهو: أنه لا يُشترط للزوم الرهن قبض العين المرهونة.
إذن العلماء قد اختلفوا في الرهن: هل يُشترط للزومه أن يقبض المُرتهن العين المرهونة، أو أنه لا يُشترط القبض، وإنما يلزم الرهن بمجرد العقد؟
فجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على أنه يُشترط القبض، والمالكية ذهبوا إلى أنه لا يُشترط القبض، وإنما يلزم الرهن بمجرد العقد، وهذا هو القول الصحيح، وهو الذي عليه المُحققون من أهل العلم، وهو الذي عليه العمل، فلا يُشترط إذن القبض.
يعني مثلًا: عندما تبيع على آخر بيتًا بثمنٍ مُؤجلٍ، ثم إنك قلتَ لهذا المشتري: أريد منك رهنًا. قال: أرهنك هذه السيارات. يقول المشتري: أرهنك هذه السيارات. فهل يُشترط للزوم هذا الرهن أن تقبض هذه السيارات عندك أيها المُرتهن، أو لا يُشترط، وتبقى السيارات عند هذا المشتري ينتفع بها، مع لزوم الرهن؟
هذه المسألة محل خلافٍ بين العلماء، والصحيح: أنه لا يُشترط للزوم الرهن القبض، وهذا فيه توسعةٌ على الناس، وهو الذي عليه العمل.
وحينئذٍ نقول: مَن أراد أن يبيع سلعةً بالتقسيط يستطيع أن يرهن هذه السلعة بثمنها، فينصّ في العقد على أن هذه السلعة -هذه السيارة مثلًا- أنا بعتُها بخمسين ألفًا مُقسطةً إلى سنةٍ أو سنتين أو أكثر، وهي رهنٌ على المشتري بجميع ثمنها. ويشهد على هذا -مثلًا- شاهدان، فإذا عجز المشتري عن السداد تُباع هذه السيارة، ويستوفي البائع حقَّه.
فعندنا في شريعة الإسلام ما يُحقق هذا الغرض، ولكن بعض الناس لا يُعجبهم الشيء إلا إذا أتى مُستوردًا من الغرب، أما إذا كان غير مُستوردٍ من الغرب فإنه لا يُعجبهم هذا الشيء! وصدق النبي : لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم [5].
وعلى الفقهاء أيضًا وطلاب العلم مسؤوليةٌ في تنبيه التجار وأصحاب المؤسسات والشركات على مثل هذه الضمانات التي أتتْ بها شريعة الإسلام قبل أن يأتي بها الغرب.
فما الداعي لمثل هذا التأجير المُنتهي بالتمليك مع وجود ما يُحقق هذا الغرض في شريعتنا وهو الرهن؟
فبالرهن -في الحقيقة- يكون ضمان الحقوق، مع عدم الوقوع في المحظور، ولكن لو أرادتْ شركةٌ أو مؤسسةٌ أو فردٌ اللجوء إلى التأجير المُنتهي بالتمليك فينبغي أن يُصاغ هذا العقد صياغةً شرعيةً صحيحةً خاليةً من المحاذير الشرعية، فإذا صِيغ بهذه الطريقة فإنه يكون عقدًا صحيحًا لا إشكالَ فيه، أما أنه يُتلقف بجميع ما فيه من إشكالاتٍ فإنه يُوقع في المحظور.
ونكتفي بهذا القدر.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الأسئلة
المقدم: أحسن الله إليكم.
الأسئلة كثيرةٌ حول الفرق بين الإيجار المُنتهي بالتمليك وبيع التقسيط.
الشيخ: نعم، الفرق بينهما أن البيع بالتقسيط تنتقل فيه ملكية المبيع إلى المشتري مباشرةً، فعندما أبيع عليك هذه السيارة بالتقسيط تُصبح ملكًا لك، وتستطيع أن تبيعها.
يعني مثلًا: لو بِعْتُ عليك سيارةً بخمسين ألفًا إلى أجلٍ، واستلمتَها مني، وافترض أنها مُقسطةٌ عليك على خمس سنواتٍ، فإذا استلمتَ هذه السيارة تستطيع في اليوم الثاني أن تبيعها وتتصرف فيها.
بينما في التأجير المُنتهي بالتمليك -أو إذا استطعنا أن يكون … يعني: إذا أردنا أن نصيغها بصيغةٍ صحيحةٍ نقول: التأجير مع الوعد بالتمليك- لا تنتقل ملكية المبيع إلى المُستأجر، بل تبقى ملكًا للمُؤجر.
ففي مثالنا السابق: سيارةٌ أُؤجرها عليك، على أن تُعطيني في الشهر -مثلًا- ألف ريالٍ، أو ألفي ريالٍ، وأعدك بأنك إذا التزمتَ بسداد جميع الأقساط أهبها لك، فلا تزال السيارة ملكًا لي أنا أيها المُؤجر، ولا تستطيع أنت أيها المُستأجر أن تتصرف فيها ببيعٍ، فلو أنك لما استلمتَ السيارة ذهبتَ وأردتَ أن تبيعها لا تملك هذا، فما زالت السيارة ملكًا لي.
هذا هو الفرق بين البيع بالتقسيط والتأجير مع الوعد بالتمليك: أن المشتري بالتقسيط يستطيع أن يتصرف في العين المُباعة، بينما المُستأجر لا يستطيع؛ لأنه عقد إجارةٍ.
لو استأجرتَ سيارةً الآن من محلِّ تأجير السيارات، هل تستطيع أن تبيعها؟
ما تستطيع؛ لأنها ما زالت ملكًا للمُؤجر، بينما لو اشتريتَ سيارةً بالتقسيط تستطيع أن تبيعها.
وهذا هو المعنى الذي لأجله أوجد التأجير المُنتهي بالتمليك؛ حتى يمنعوا المُستأجر من التصرف بالعين المُؤجرة، يقولون: حتى نمنعه ونضمن حقَّنا نجعلها على شكل تأجيرٍ، ولا نجعلها على شكل بيعٍ.
المقدم: أحسن الله إليكم.
وهذا سائلٌ من عمان يقول: كثيرٌ من الناس يتعامل مع البنوك الإسلامية دون النظر في صحة تعاملاتها؛ وذلك لإحسانه الظن بهذه البنوك بحجة وجود لجنةٍ شرعيةٍ فيها، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
الشيخ: البنوك الإسلامية تختلف -في الحقيقة- من جهة:
أولًا: قوة الهيئات الشرعية فيها، وتمكنهم، وورعهم.
وأيضًا من جهة الرقابة على تطبيق قرارات الهيئات الشرعية، وهذا ملحظٌ مهمٌّ؛ لأنه توجد في بعض البنوك الإسلامية هيئاتٌ شرعيةٌ من علماء كبارٍ، ولكن الإشكالية تأتي في التطبيق، فهذا المُوظف ما يُطبق التعليمات، وما يُطبق قرارات الهيئة الشرعية؛ ولذلك لا بد أن يتبع وجود هيئاتٍ شرعيةٍ رقابةٌ مُستقلةٌ لتطبيق قرارات الهيئات الشرعية.
ولهذا لا بد من ملاحظة ذلك لمَن يتعامل مع البنوك الإسلامية، وأن ينظر إلى هذه الهيئات الشرعية ومدى تمكن أصحابها من العلم والورع والثقة، وأيضًا ينظر لمسألة تطبيق قرارات هذه الهيئة الشرعية.
والذي أرى أنه ينبغي لمَن أراد أن يتعامل بالتجارة في البيع والشراء أن يتفقه في مثل هذه المسائل، خاصةً وأن -ولله الحمد- المجامع الفقهية والهيئات العلمية خدمتْ هذه المسائل.
وكما ترون في كل درسٍ ننقل لكم قراراتٍ من مجامع فقهيةٍ وهيئاتٍ علميةٍ، فهذه الموضوعات قد خُدمتْ -ولله الحمد-، والأمة لا تزال بخيرٍ؛ ولذلك ينبغي التَّفقه في مثل هذه المسائل والأحكام.
وألحظ أن بعض طلاب العلم بعيدون عن مثل هذه القرارات، ومثل هذه الأحكام، بل قال لي بعض الإخوة ممن يحضرون هذا الدرس: إن بعض المصطلحات وبعض العبارات صعبةٌ؛ لأننا لأول مرة نسمع مثل هذا الكلام.
وهذا أعتبره -في الحقيقة- تقصيرًا، فينبغي لطالب العلم أن يكون مُستوعبًا لما يجري في المجتمع، وأن يكون على الأقل يعرف رأي المجامع الفقهية والهيئات العلمية.
يعني: إذا لم تكن عنده -مثلًا- قدرةٌ على …، أو لم يكن عنده الوقت الكافي لمعرفة الآراء والأدلة والمناقشات، فعلى الأقل يعرف رأي الهيئات العلمية والمجامع الفقهية، وهذا أعتبره الحد الأدنى الذي ينبغي أن يعرفه طالب العلم، وهذا -ولله الحمد- مُتيسرٌ، وأحسب أن هذه الدورة تُؤدي جزءًا من هذا المعنى.
ولذلك مَن أراد أن يتعامل بالتجارة، وأراد أن يتعامل بالبيع والشراء، ولو عن طريق البنوك الإسلامية؛ فينبغي له أن يتفقه في مثل هذه المسائل والأحكام.
المقدم: أحسن الله إليكم.
وهذا سائلٌ يقول: في إحدى الصور الجائزة إذا وقع عقد إجارةٍ، واقترن به عقد هبةٍ للمُستأجر مُعلقًا على سداد كامل الأجرة، لكن في حال عدم سداد كامل الأجرة هل تُسحب السيارة من المُستأجر؟
ثم إذا سُحبتْ منه، أليس يكون هذا تأجيرًا مُنتهيًا بالتمليك، لكن وُضع عقد الهبة حيلة على هذا العقد؟ فهل يجوز ذلك؟
الشيخ: نحن قلنا: حتى يكون العقد صحيحًا لا بد أن يكون عقد إيجارٍ حقيقيٍّ، وليس صوريًّا، فلا تجعل الإجارة غطاءً أو ستارًا على البيع.
ولهذا ذكرنا أن هذا من ضمن ضوابط الجواز، فقد ذكرنا من ضمن ضوابط الجواز: أن تكون الإجارة فعليةً، وألا تكون ساترًا للبيع، فلا بد من هذا: أن يكون عقد إيجارٍ حقيقيٍّ، وحينئذٍ إذا كان عقد إيجارٍ حقيقيٍّ، ولم يستطع هذا المُستأجر أن يُسدد قسطًا من الأقساط، أو بقية الأقساط، فمن حقِّ المُؤجر أن يسحب منه السيارة.
أرأيتَ لو استأجرتَ سيارةً من محلٍّ من محلات التأجير -تأجير السيارات- لمدة شهرٍ، فأعطيتهم -مثلًا- جزءًا من الأجرة، وشرطوا عليك فقالوا: يا فلان، لا بد أن تُعطينا كل أسبوعٍ أجرةً وإلا سحبنا منك السيارة. من حقِّهم، من حقِّ المُؤجر أن يفعل هذا؛ لأن السيارة ملكٌ له، ولا نقول: إنه مُلزمٌ بأن يُمكن هذا المُستأجر من الانتفاع بهذه السيارة، والمُستأجر لم يُسدد ما عليه من أقساطٍ، فهذا ليس فيه ظلمٌ في الحقيقة، هذا عقد إجارةٍ كسائر العقود، يعني: كسائر ما يُستأجر، وليس فيه ظلمٌ.
أما بالنسبة للوعد بالهبة: فلا مانع من الوعد بالهبة، تقول: يا فلان، أنا أعدك بأنك إذا كنت مُنتظمًا في السداد، ولم تتأخر عليَّ، فأنا سوف أهب لك هذه السلعة. ما المانع من هذا؟
يعني: هل في هذا ربا؟ هل فيه جهالةٌ؟ هل فيه غررٌ؟ هل فيه ميسرٌ؟
أبدًا، والأصل في العقود، والأصل في باب المعاملات الحِلُّ والإباحة، إذن لا مانع من هذا.
وأما القول بأن هذه الهبة حيلةٌ، فهذا ليس بصحيحٍ.
نحن اشترطنا أن يكون عقد إجارةٍ حقيقيًّا.
نعم لو كان عقد إجارةٍ صوريًّا، أو ستارًا على البيع، فهذا نمنعه، لكن إذا كان عقد إجارةٍ حقيقيًّا مع وعدٍ بالهبة، فلا مانع من هذا؛ لأنه -كما ذكرنا- لا يرجع إلى أي محظورٍ، فليس فيه ربًا، ولا جهالةٌ، ولا غررٌ، ولا ميسرٌ، ولا ظلمٌ، وحينئذٍ الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، والأصل في العقود الصحة.
المقدم: أحسن الله إليكم.
سؤالٌ ورد كثيرًا بالأمس واليوم، يقول: ما حكم المعاملة الحديثة التي تُسمى بـ(البزنس)؟
الشيخ: ما أدري، يمكن أن يكون السؤال قد أتى من بعض الإخوة في دول الخليج، وهي عندهم لها طريقةٌ معينةٌ، لكنها غير واضحةٍ تمامًا، فلعله يُجاب عنها -إن شاء الله- في درسٍ آخر بعدما يُوضح الإخوة مقصودهم بهذا المصطلح؛ لأنه قد يقصد السائل شيئًا غير الذي في ذهني.
المقدم: أحسن الله إليكم.
يقول: أريد شراء سيارةٍ من رجلٍ اشتراها بطريقة التأجير المُنتهي بالتمليك، وهو إلى الآن لم يملكها، فهل يجوز ذلك؟
الشيخ: لا يجوز، لا يجوز أن يبيع المُستأجر السيارة؛ لأنه لم يملكها بعد، فالمُستأجر إنما يملك المنفعة فقط، فحينئذٍ ليس له حق التصرف، بل إنه لا يمكن لو أراد، فما زالت السيارة ملكًا للمُؤجر، وما زالت باسمه، فهذا المُستأجر -في الحقيقة- لا يستطيع أن يبيع هذه السيارة، فلا يحقُّ له ذلك شرعًا ولا نظامًا.
وحينئذٍ نقول: انتظر حتى يُسدد، يعني: يقوم هذا المُستأجر بسداد ما عليه من الأجرة في المدة المتفق عليها، ويُنفذ هذا المُؤجر وعده بالتمليك: إما عن طريق الهبة، أو عن طريق البيع، وحينئذٍ إذا تملكها هذا المُستأجر عن طريق الهبة، أو عن طريق البيع، تقوم بشرائها منه، أما أنك تقوم بشرائها وهو لا يزال مُستأجرًا فهذا لا يصح.
المقدم: أحسن الله إليكم.
يقول: في بلدنا يتقدم الشخص بطلب قطعة أرضٍ من الحكومة، فيُعطى وصلًا لإثبات أحقيته في الحصول على ذلك عندما تقوم الجهة المُختصة بتوزيع الأراضي بعد سنةٍ أو سنتين أو أكثر، وقبل حصول التوزيع ومعرفة مكان الأرض يقوم الشخص ببيع الوصل المذكور على آخرين، فما حكم بيع وصلات الأراضي المذكورة؟
الشيخ: نعم، هذا فيه جهالةٌ وغَرَرٌ؛ ولذلك فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا الشخص قد لا يستطيع الحصول على هذه الأرض، وهو إنما له الحق، يعني: يمكن بموجب هذه الأوراق وهذه الأرقام أن يكون هو الأحق بهذه الأرض، وقد لا يحصل عليها؛ ولذلك فهذا عقدٌ يشوبه شيءٌ من الجهالة والغرر، ويختلُّ شرطٌ من شروط صحة البيع، وهو القدرة على التسليم؛ ولهذا فإنه لا يصحُّ.
المقدم: أحسن الله إليكم، وأثابكم، ونفعنا بعلمكم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | روى الترمذي: 1640 من حديث أنسٍ قال: قال رسول الله : القتل في سبيل الله يُكفر كل خطيئةٍ، فقال جبريل: إلا الدَّين، فقال النبي : إلا الدَّين. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 5135، ومسلم: 1425. |
^3 | رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593. |
^4 | رواه النسائي في “السنن الكبرى”: 6159، وابن ماجه: 2437. |
^5 | رواه البخاري: 7320، ومسلم: 2669. |