عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد تكلمنا عن جملة من المسائل المتعلقة بالنوازل في العبادات، وأما النوازل في المعاملات، فسبق أن تكلمنا عنها في الدورة الماضية، وخصصنا لها الحديث في الدورة الماضية، بعنوان: المسائل المالية المعاصرة، وهي موجودة ومحفوظة في موقع الجامع على الإنترنت بالصوت، وأيضًا مكتوبة.
ولذلك فإننا لن نعيد الكلام فيها، وذكرت لكم في أول الدورة أنها إن شاء الله تعالى ستكون في كتاب بعد مراجعتها، ربما أيضًا إضافة بعض الموضوعات الجديدة لها، ولعلها في غضون بضعة أشهر يخرج هذا الكتاب إن شاء الله.
ولهذا فلن نتكلم عن النوازل في المعاملات لهذا السبب، أما النوازل في النكاح في كتاب النكاح فهي.. لأن أحكام النكاح معروفة، ومدونة في كتب الفقهاء، ولكن قد توجد صيغ وأنواع من النكاح، وتسمى بأسماء معينة من الفقهاء، ومن ذلك: ما عرض في الدورة الأخيرة الدورة الثامنة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي: الأنكحة المستحدثة، وموقف الشريعة منها.
وقد شاركت في أعمال هذه الدورة تقريبًا، ودرس المجمع أنواعًا من العقود، درس أنواعًا من الأنكحة، وهي: نكاح المسيار، ونكاح الأصدقاء، والزواج المؤقت في الإنجاب، والزواج بنية الطلاق.
أما النكاح بنية الطلاق، أو الزواج بنية الطلاق موجود من قديم، والكلام عنه في كتب أهل العلم معروف، وهكذا أيضًا: الزواج المؤقت في الإنجاب لا يعد كذلك من النوازل، ولهذا فإننا لن نفصل فيهما، سوف نشير إليهما إشارة مختصرة إن شاء الله.
زواج المسيار
والذي سوف نتكلم عنه في هذا الدرس هو ما يسمى بنكاح، أو زواج المسيار، وزواج الأصدقاء، فما المراد بهما؟ وما الحكم فيهما؟
قبل أن نبين المراد بهما، نقول: إنه بعد صدور قرار المجمع تناول بعض الكتّاب وغيرهم في الصحافة وغيرها من الوسائل الإعلامية، تناول هذا الموضوع بالذات مقررات المجمع.
وتكلم عنه أناس غير متخصصين في علوم الشريعة، وربما بعضهم انتقد قرار المجمع في هذا، ولكن السبب: هو جهلهم بأحكام الشريعة، الأحكام الشرعية ليست مبنية على العواطف والأهواء، وإنما مبناها على الدليل والبرهان، والنظر في الأصول والقواعد الشرعية.
معنى زواج المسيار
نبدأ ببيان معنى زواج المسيار:
أولًا: وجه كونه نازلة: أن هذا النوع من النكاح غير معروف عند الفقهاء المتقدمين بصيغته الحالية، وبمسماه الحالي، وإن كان الفقهاء يبحثون مسائله مفردة، وأما اجتماع صوره، وبهذا الاسم، فلم يكن موجودًا عند الفقهاء المتقدمين.
وبهذا الاعتبار يسمى نازلة تحتاج إلى نظر، وإلى دراسة من فقهاء العصر، وله شبه بما ذكره الفقهاء من نكاح النهاريات والليليات.
نكاح النهاريات والليليات موجودة في كتب الفقه، ومعنى نكاح النهاريات والليليات: أن يتزوج رجل من امرأة تعمل خارج منزلها، وترجع إلى زوجها نهارًا، يتزوج رجل من امرأة تعمل خارج منزلها ليلًا، وترجع إلى بيت زوجها نهارًا، أو العكس، تعمل نهارًا، وترجع إلى منزل زوجها ليلًا.
هذا النكاح اختلف فيه الفقهاء، فمنهم من قال: إنه نكاح غير صحيح، وقد روي ذلك عن الإمام أحمد، وكذلك أيضًا: هو المشهور من مذهب المالكية، وقال بعضهم: إن هذا النكاح صحيح؛ لأنه مكتمل الأركان والشروط، وهو نكاح صحيح، وهذا هو الأقرب والله أعلم.
لكن نكاح المسيار يختلف عن نكاح النهاريات والليليات، فالمسيار على وزن مفعال من السير وهو المشي، وأطلق الناس على هذا النوع من النكاح هذه التسمية؛ لأن الرجل يسير فيه إلى المرأة ما بين حين وآخر، وليست المرأة هي التي تسير إليه مرة واحدة، وتستقر في بيته، ولكن الرجل هو الذي يسير إلى المرأة من حين لآخر.
وأكثر ما استعمل هذا المصطلح عند الناس في دول الخليج، يستخدمون هذا المصطلح، ولهذا إذا ذهب الإنسان إلى آخر، يقال: سير عليه، يعني: سار إليه وجلس عنده للزيارة، فيقولون: سير عليه.
ومن هنا سُمي هذا النكاح بالمسيار؛ لأن الرجل يسير إلى المرأة في أوقات.. من حين لآخر، يسير للمرأة من حين لآخر.
وعرف المجمع الفقهي نكاح المسيار بأنه: إبرام عقد زواج تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والقِسم، أو بعض منها، وترضى بأن يأتي الرجل إلى دارها في أي وقت شاء من ليل أو نهار.
ولاحظ هنا أن المجمع أولًا لم يسم هذا العقد بنكاح المسيار، وأذكر أنه في مناقشات المجمع: كان هناك توجه من بعض العلماء إلى أن يسمى باسمه، ورأى آخرون: ألا يسمى باسمه، حتى لا يشجع هذا النوع من النكاح، وإن قلنا بجوازه؛ لأنه ليس هو النكاح المنشود، وقرر المجمع بالأغلبية ألا يسمى، وإنما يوصف فقط.
فهذا إذن هو وصفه، ولاحظ هنا أنه ليس فيه شرط على المرأة، وإنما مجرد محض تنازل منها، فهي التي تتنازل عن بعض حقوقها: من السكن والنفقة والقِسم.
الفرق بين نكاح الأصدقاء ونكاح المسيار
وأما ما يسمى بنكاح الأصدقاء، فهو في الحقيقة هو شبيه بنكاح المسيار، لكن على الطريقة الأوروبية كما يُقال، فيقال إن أول من ابتكر صيغته الشيخ عبدالمجيد الزنداني، هو أول من ابتكر صيغته، ثم شاع وانتشر.
وعرفه المجمع بأنه: إبرام عقد زواج على أن تظل الفتاة في بيت أهلها، ثم يلتقيان متى رغبا في بيت أهلها، أو في أي مكان آخر، حيث لا يتوافر سكن لهما، ولا نفقة.
فزواج الأصدقاء شبيه بالمسيار من جهة أنه ليس هناك نفقة ولا سكنى للمرأة، ولكن المسيار المرأة تتنازل عن السكن، ولكن قد تهيئ هي لنفسها سكنًا، أو يهيئ لها أهلها، أو ربما يهيئ لها الزوج، ويلتقيان في هذا السكن، أو في هذه الدار.
بينما في زواج الأصدقاء ليس هناك سكن أصلًا، وإنما يلتقيان إما في بيت الأهل، أو في أي مكان، وما يسمى بزواج الأصدقاء هذا هو شائع في البلاد الأوروبية على وجه الخصوص، وقد ذكر لنا بعض الفقهاء الذين لهم اتصال بالمسلمين في أوروبا بأن تكاليف المعيشة عندهم باهظة، وتوجد بعض الأسر المحافظة، ويكون في بعض هذه الأسر شاب، وفي أسرة أخرى شابة، وتريد الأسرتان تزويج هذا الشاب بهذه الشابة؛ ليتحقق الإحصان والإعفاف لهما في تلك البلدان.
ولكن لا يستطيع هذا الشاب والشابة توفير السكن، ولهذا يتزوجان بهذه الطريقة، بأن لا سكن ولا نفقة، وإنما يلتقيان متى شاءا، إما في بيت أهلها، أو في أي مكان آخر يحدداه.
وبهذا نعرف أن الحكم فيهما واحد؛ الحكم في المسيار والأصدقاء أنه واحد؛ لأنهما يجتمعان في أن الزوجة تتنازل عن حقها في القِسم والمبيت والنفقة والسكنى.
خلاف الفقهاء في هذين النكاحين
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذين النكاحين على قولين مشهورين:
القول الأول: أن هذا النكاح جائز وصحيح، وإن كان خلاف الأوْلى، واستدلوا لذلك فقالوا: إن هذا النكاح مستكمل لجميع أركانه وشروطه، فهو نكاح قد تم بإيجاب وقبول بشروطه المعروفة: من رضا الطرفين، ووجود الولي، والشهود، ووجود المهر فيه، فهو نكاح قد استكمل أركانه وشروطه، وانتفت الموانع، فيكون نكاحًا صحيحًا.
واستدلوا كذلك بما جاء في الصحيحين: أن أم المؤمنين سودة رضي الله عنها لما كبر سنها، وخشيت أن يطلقها النبي ، وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها، وقالت: “يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة”، فكان رسول الله يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة [1].
ووجه الدلالة: أن سودة بهبتها يومها لعائشة، وقبول النبي لذلك، أن في هذا دلالة على أن الزوجة لها أن تسقط حقها، أو بعض حقها الذي جعله الشارع لها؛ كالمبيت والسكن والنفقة.
وجه الدلالة: أن قصة سودة تدل على أن الزوجة لها أن تسقط حقها، أو بعض حقها الذي جعله الشارع لها: من المبيت، أو النفقة، أو السكن، ونحو ذلك.
أيضًا استدل أصحاب هذا القول بأن هذا النوع من النكاح فيه مصالح كثيرة، فهو يؤدي إلى إحصان وإعفاف كل من الزوجين، وهذه المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح تقبله برضاها، فهي ليست مجبرة عليه، وكونها تقبل بهذا النوع من النكاح، فتكون زوجة خير من أن تبقى بدون نكاح؛ لأن الغالب أن المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح تكون عندها ظروف معينة، بحيث تقل الرغبة فيها.
ولهذا فإنها تتنازل عن بعض حقوقها، حتى يرغب فيها، فيكون في هذا إحصان وإعفاف لها، ولزوجها، وفي إباحة هذا النوع من النكاح إسهام في التقليل من العنوسة، ومصالح أخرى، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول.
وذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن هذا النوع من النكاح غير جائز، واستدلوا لذلك بما يأتي:
قالوا: أولًا: إن هذا الزواج لا يحقق الأهداف المنشودة من النكاح الشرعي، فليس فيه سوى التمتع بين الزوجين، والزواج في الإسلام له مقاصد أوسع وأعمق من هذا: من السكن، والمودة، والرحمة، والإنجاب، وغير ذلك، فهذا النوع من النكاح لا يحقق المقصود الشرعي من النكاح في الإسلام.
ثانيًا: قالوا: إن هذا النوع من النكاح ما هو إلا وسيلة لابتزاز المرأة؛ لأن المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح هي في الغالب امرأة لها ظروف معينة، فيكون الزوج بهذا الزواج قد ابتز هذه المرأة، واستغل ظروفها، وهذا معنى ممنوع شرعًا.
أيضًا: قالوا: إن الغالب على هذا النوع من النكاح هو الكتمان والسرية، وهذا يتنافى مع ما هو مطلوب شرعًا من إعلان النكاح.
أيضًا: قالوا: إن هذا النوع من النكاح فيه شبه بنكاح المتعة، وزواج المحلل، وهما محرمان، فإن نكاح المتعة قد أجمع أهل السنة على تحريمه، وكذلك نكاح المحلل، فقد لعن النبي المحلل والمحلل له، وسماه التيس المستعار، قالوا: فهذا النوع من النكاح فيه شبه بهما.
أيضًا: قالوا: إن هذا النوع من النكاح فيه امتهان لكرامة المرأة، وهو غير لائق بها، حيث يجعل الرجل هذه المرأة قنطرة لقضاء متعته وشهواته، فهو غير لائق، ولذلك فهو ممنوع شرعًا، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول.
وبعد أن عرفنا رأي الفريقين، الذي يظهر والله أعلم هو أن القول الراجح هو القول الأول، وهو أن نكاح المسيار، ومثله ما يسمى بنكاح الأصدقاء أنه نكاح جائز، ما دام مستوفيًا لأركانه وشروطه، وإن كانا خلاف الأولى.
قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي
وهذا هو ما أقره مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، حيث جاء في القرار:
هذان العقدان، والمراد بهما: المسيار والأصدقاء، وأمثالهما صحيحان إذا توافرت فيهما أركان الزواج وشروطه، وخلوه من الموانع، ولكن ذلك خلاف الأولى.
فنحن الآن لدينا نكاح مكتمل الأركان والشروط، وخال من الموانع، ففيه ولي، وفيه شهود، وفيه مهر، وخال من الموانع، فلا نستطيع أن نمنع هذا النوع من النكاح، ما دام قد اكتملت أركانه وشروطه، وانتفت موانعه.
والمرأة من حقها أن تتنازل عن بعض الحق الذي جعله الشارع لها، ولهذا سودة رضي الله عنها تنازلت عن ليلتها، فهو حق لها تنازلت عنه، وقبِل منها النبي هذا التنازل، فغاية ما في الأمر أن هذين النوعين من النكاح قد تنازلت فيه المرأة عن بعض حقوقها.
مناقشة أدلة المانعين
وأما ما ذكره المانعون مما سمعتم، فنأتي لها.. نأتي لهذه الاستدلالات واحدًا واحدًا، أما قولهم: إن هذا الزواج لا يحقق المقصود شرعًا من النكاح، والهدف من النكاح، وأن المقصود من النكاح في الإسلام ليس هو مجرد المتعة، وإنما له مقاصد من السكن والمودة.. إلى آخر ما ذُكر.
فنقول: نحن نسلم بهذا، ولكن نقول: إن هذا النوع من النكاح ليس هو الزواج المنشود، ليس هو الزواج المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن، وما لا يدرك كله لا يترك جله، فتحقيق النكاح للمقاصد الشرعية قد لا يتأتى حتى مع النكاح المشروع، يعني غير نكاح المسيار.
فمن جهة أولًا: الإنجاب: هب أن رجلًا تزوج امرأة عاقرًا لا تنجب، أو أن امرأة تزوجت رجلًا عقيمًا، فلم يتحقق الإنجاب، وهو من مقاصد النكاح، فهل معنى هذا أن هذا النكاح غير صحيح؟ أبدًا.
أيضًا: هب أن رجلًا تزوج امرأة سيئة الخلق، نكدت عليه عيشه، ولم يجد معها المودة، والسكن، والرحمة، فلم يتحقق المقصود من هذا النكاح، فهل نقول: إن هذا النكاح أنه غير صحيح؟ فأحيانًا الزواج الشرعي لا يتحقق منه مقاصد النكاح، وليس ذلك مبررًا لإبطاله.
فنحن نقول: إن هذا ليس هو الزواج المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن، وما ذكر من أن هذا الزواج لا يحقق مقاصد النكاح لا يقتضي إبطاله، فإن الزواج الشرعي قد لا يحقق كثيرًا من مقاصد النكاح كما مثلنا.
وتجد من الناس من يتزوج امرأة، وتسوء العشرة بينهما، ويبقى فقط مجرد زوج، لا يعاشرها، ولا يجد معها المودة والسكن والرحمة، وهذا كله لا يقتضي إبطال ذلك النكاح.
وأما قولهم: إن هذا النكاح هو وسيلة لابتزاز المرأة، فهذا غير صحيح، وغير مسلم، إذ أن المرأة يشترط رضاها، فإذا لم ترض بهذا النكاح، أو بغيره، فإن النكاح غير صحيح.
ولهذا ثبت أن امرأة أتت النبي ، وأخبرت بأن أباها زوجها وهي كارهة، فأراد النبي أن يرد نكاحها، فرضيت بعد ذلك به، وقالت: أردت أن أبين أن للنساء حقًا.
فرضا المرأة شرط، فما دام أن المرأة قد رضيت بهذا النوع من النكاح، فكيف يكون وسيلة لابتزازها؟ وبعض النساء التي يكون لها ظروف معينة، وقد لا يرغب فيها من كثير من الرجال، هي بين أمرين: إما أن تقبل بهذا النوع من النكاح، وإما أن تبقى بدون زواج.
ويذكر أحد المشايخ أن امرأة اتصلت به، وذكرت أن لها ظروفًا معينة، وأن عندها أولاد، وأنها بين هذين الأمرين: هل تقبل بهذا النوع من النكاح، أو تبقى بدون زواج؟ ولا شك أن قبولها بهذا النوع من النكاح أوْلى من بقائها بدون زواج، فربما أن هذا الزوج الذي تزوجها بطريق المسيار أنه يرغب فيها، فتكون أمًّا لأولاده، فإذن القول بأن هذا الزواج فيه ابتزاز للمرأة غير مسلّم.
وأما القول بأنه يشبه نكاح المتعة والمحلل، فغير صحيح، إذ أن نكاح المتعة هو نكاح مؤقت بمدة معينة، ومقابل مهر أو أجر معين، وبمجرد انتهاء هذه المدة، ينتهي النكاح تلقائيًّا.
وأما نكاح المسيار، ومثله الأصدقاء فهو زواج دائم، لا يتحدد بمدة معينة، ولا ينتهي إلا بطلاق أو فسخ أو خلع، وهكذا أيضًا بالنسبة لنكاح المحلل، فالقول بأن هذين النوعين من النكاح شبيهان به غير صحيح، إذ أن زواج المحلل زواج غير مقصود.
ولا هدف للزوج في هذا الزواج، إلا أن يحلل هذه المرأة لزوج آخر، فهو غير مقصود لذاته، وإنما جعل هذه المرأة قنطرة ليعبر عليها، وليحللها لرجل آخر، فنكاح المحلل نكاح مراد لتحقيق هدف رجل آخر.
أما نكاح المسيار، ومثله الأصدقاء فهو زواج مقصود، قد تفاهم عليه الرجل والمرأة وقصداه، وهو زواج دائم، فالقول بأن فيه شبهًا بنكاح المتعة أو المحلل غير صحيح.
وأما ما ذكر من أن فيه كتمانًا وسرية، فنقول: الكتمان والسرية ليست من لوازم هذين النوعين من النكاح، وأحيانًا يكون نكاح المسيار ليس متكتمًا عليه، وربما يكون متكتمًا عليه نسبيًّا عن الزوجة فقط وأهلها، وإلا فإنه يكون فيه شهود، ووجود شاهدين في عقد النكاح هو الحد الأدنى للإعلان، فما دام أنه يوجد فيه شهود، فلا يقال: إن فيه كتمانًا.
نعم، لو كان بدون شهود، وبدون إعلان، هذا هو نكاح السر الذي لا يصح عند كثير من أهل العلم، لكن نكاح المسيار ومثله الأصدقاء يوجد فيه شهود، فما دام أنه قد وجد فيه شهود شاهدان على الأقل، فهذا هو الحد الأدنى لإعلان النكاح.
وأما القول بأن هذا النكاح فيه امتهان لكرامة المرأة، وهذا هو الذي ركز عليه بعض الكتّاب في الصحافة وغيرهم، قالوا: إن هذا النوع من النكاح فيه امتهان لكرامة المرأة، وإنه غير لائق اجتماعيًّا، حيث إن الرجل يجعل هذه المرأة قنطرة لقضاء متعه وشهواته.
فنقول: أولًا: القول بأن فيه امتهان لكرامة المرأة غير صحيح، إذ أن هذه المرأة يشترط رضاها بهذا النوع من النكاح، والعفة والإحصان لها قيمة كبيرة في الشريعة الإسلامية، بل إن النبي يقول: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، فيكون له فيها أجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام، أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال [2]، فالعفة والإحصان أمر مقصود في النكاح، بل هو من أعظم مقاصد النكاح.
ولكن بعض الناس يخلط بين كون الشيء غير جائز شرعًا، وبين كونه غير مقبول اجتماعيًّا، فكونه غير مقبول اجتماعيًّا لا يقتضي عدم صحته، ونضرب لهذا أمثلة: زواج المرأة مثلًا من سائقها، من سائق سيارتها، هو من الناحية الشرعية إذا اكتملت أركانه وشروطه، وخلا من الموانع، زواج صحيح، لكنه اجتماعيًّا غير لائق، فلا يخلط بين الأمرين.
زواج الرجل من خادمته كذلك هو غير لائق اجتماعيًّا، لكنه من الناحية الشرعية إذا كان بولي، واكتملت جميع أركانه وشروطه، وخلا من الموانع، هو زواج صحيح من الناحية الشرعية.
زواج أيضًا رجل كبير قد جاوز الستين بامرأة صغيرة، قد يكون غير مقبول اجتماعيًّا، لكنه من الناحية الشرعية صحيح إذا اكتملت أركانه وشروطه، أو العكس.
زواج رجل شاب بامرأة كبيرة في السن، هل نقول: إن هذا الزواج غير صحيح؟ هو زواج صحيح من الناحية الشرعية، اكتملت أركانه وشروطه، وخلا من الموانع، وإن كان غير لائق اجتماعيًّا، فلا يخلط بين كون الشيء غير لائق اجتماعيًّا، وبين كونه غير جائز من الناحية الشرعية.
فبعض الناس يرى أن نكاح المسيار والأصدقاء أنه غير لائق اجتماعيًّا، ويبني على ذلك أنه لا يجوز من الناحية الشرعية، وهذا غير صحيح، إذ أنه لا تلازم بينهما.
أيضًا أمر آخر ذكره بعض من قال بعدم صحة نكاح المسيار والأصدقاء، قال: إن الله تعالى جعل القوامة للرجل على المرأة، وفي هذين النوعين من النكاح لا تتحقق القوامة. ولكن نقول: إن الله تعالى جعل للرجال قوامة على النساء بأمرين: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالقوامة جعلها الله تعالى لأمرين:
الأمر الأول: بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34]، والمراد به: ما خص الله به الرجال من القدرة على التحمل والصبر والمسؤولية أكثر من المرأة، ونكاح المسيار والأصدقاء لا يسقط هذا الأمر، فتبقى المسؤولية على الزوج، ويبقى التفضيل موجودًا بالنسبة له.
وأما الأمر الثاني: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فيكفي هنا أن الزوج يدفع المهر، ويدفع الصداق، فهو قد أنفق من ماله، ولهذا فإنه يستحق القوامة بمجرد الدخول قبل بدء النفقة اليومية.
وبهذا كما ترون ليس هناك في الحقيقة حجة ظاهرة لمن منع هذا النوع من النكاح، فالصواب هو أن هذا النكاح أنه صحيح وجائز، إذا اكتملت أركانه وشروطه، وخلا من الموانع، وإن كان خلاف الأوْلى؛ لأنه ليس هو الزواج المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن.
وبعض الناس يرى أن تسمية النكاح بالأصدقاء أنها غير مناسبة، وعلى كل حال لا مشاحة في الاصطلاح، المهم معرفة حقيقة هذا النكاح وحكمه الشرعي، سواء سمي نكاح أصدقاء، أو سمي بغير ذلك.
وهكذا أيضًا بالنسبة لنكاح المسيار، المهم معرفة حقيقته وحكمه الشرعي، بغض النظر عن الأسماء والمصطلحات.
هذا النوع من النكاح نحن قلنا: إن المرأة تتنازل فيه عن حقها، كالسكن والنفقة والمبيت، ولكن لو أن الرجل هو الذي اشترط عليها ذلك، اشترط عليها أن لا نفقة لها، أو ألا يطأها، فعند كثير من أهل العلم أن النكاح صحيح والشرط باطل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهناك قول بأنه يبطل النكاح، ولكنه قول مرجوح.
فإذا كان على سبيل الشرط، وليس على سبيل التنازل من المرأة، فإن هذا الشرط غير صحيح، والنكاح صحيح، وإنما كان الشرط غير صحيح؛ لأنه ينافي مقتضى عقد النكاح، ولكن إذا كان بمجرد تفاهم، وتتنازل فيه المرأة عن بعض حقوقها، فهو نكاح المسيار الذي قصدناه، ونحن قلنا: إنه لا بأس به.
النكاح العرفي
بعدما عرفنا حقيقة نكاح ما يسمى بالمسيار والأصدقاء، والحكم فيهما، ننتقل إلى الكلام عن بعض الأنكحة التي نبين حقيقتها، حتى لا تشتبه بهذين النوعين من النكاح.
هناك في بعض الدول نكاح يسمى بالنكاح أو الزواج العرفي، فما معنى الزواج العرفي؟ وما حكمه؟
معنى الزواج العرفي
المقصود بالزواج العرفي: هو عقد مستكمل للأركان والشروط، إلا أنه لا يوثق رسميًّا بالمحاكم الشرعية، أي أنه زواج مكتمل لجميع أركانه وشروطه، إلا أنه غير موثق رسميًّا لدى الجهات المختصة.
حكم الزواج العرفي
وهذا النوع من النكاح عقد صحيح، ولا إشكال فيه من الناحية الشرعية، وكونه غير موثق لا يؤثر في صحته؛ لأنه ليس من شروط النكاح أن يثبت في وثيقة رسمية، فهو إذن من الناحية الشرعية نكاح صحيح، وإن كان غير موثق لدى الجهات المختصة، وإن كان المطلوب هو توثيقه حفظًا للحقوق، ولكن عدم التوثيق لا يؤثر في صحته، هذا هو المقصود بالزواج أو النكاح العرفي، هذا هو المشهور من هذا المصطلح.
ولكن قد يطلق الزواج أو النكاح العرفي أيضًا في بعض البلدان على الزواج بدون ولي، إن يتفقا رجل مع امرأة على أن يتزوجها عن طريق مأذون أو محام أو..، ويكون بدون ولي، وهذا نكاح غير صحيح؛ لأن النكاح بدون ولي نكاح غير صحيح، وأيما امرأة نكحت بلا ولي، فنكاحها باطل، باطل، باطل [3].
الزواج المؤقت بالإنجاب
من تمام الفائدة أن نذكر العقود الأخرى التي ذكرت في قرار المجمع النكاح أو الزواج المؤقت بالإنجاب:
الزواج المؤقت بالإنجاب: هو عقد مكتمل الأركان والشروط، إلا أن أحد العاقدين يشترط في العقد أنه إذا أنجبت المرأة، فلا نكاح بينهما، يشترط في العقد أنه إذا أنجبت المرأة فلا نكاح بينهما، أو أن يطلقها.
وقرر المجمع أن هذا الزواج فاسد؛ لوجود معنى المتعة فيه؛ لأن التوقيت كما يكون بمدة معلومة، كشهر، فإنه يكون كذلك بتحديده بالإنجاب، التوقيت يكون بمدة معلومة كشهر، أو بمدة مجهولة كالإنجاب، وهذا يصيره نكاح متعة، وهو محرم، فإذن الزواج المؤقت بالإنجاب زواج غير صحيح.
الزواج بنية الطلاق
الزواج بنية الطلاق: هو زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه، ولكن أضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة، نوى عقد الزوج على هذه المرأة، وهو ينوي طلاقها بعد مدة معلومة، أو حتى بعد مدة مجهولة؛ كإتمام دراسته، أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله، فهو إذن نكاح مكتمل الأركان والشروط، إلا أن الزوج نوى طلاق هذه المرأة بعد مدة معلومة، أو مجهولة.
وهذا النوع اختلف الفقهاء فيه، كما ذكرت في أول الدرس أنه ليس هذا من النوازل، هو موجود في كتب الفقه، بحثه موجود في كتب الفقه، اختلف العلماء فيه، وقد ذكر الموفق ابن قدامة في المغني أن أكثر العلماء على صحته، ومن أشهر من قال بصحة هذا النكاح وجوازه سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
والقول الثاني: أنه نكاح غير صحيح، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، ومنهم: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهذا القول هو الذي أقره المجمع الفقهي الإسلامي، جاء في قرار المجمع:
وهذا النوع من النكاح على الرغم من أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه؛ لاشتماله على الغش والتدليس، إذ لو علمت المرأة، أو وليها بذلك لم يقبلا بهذا العقد، ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة، وأضرار جسيمة تسيء إلى سمعة المسلمين.
فالإشكال في هذا النكاح، هو مكتمل الأركان والشروط، لكن هو فقط فيه الغش بهذه المرأة أو وليها؛ لأنه لا يخلو إما أن تعلم المرأة أو وليها بأن هذا الزوج سوف يطلقها أو لا تعلم، فإن علمت بذلك فإنه يكون نكاح متعة، إن علمت بأن هذا الزوج سوف يطلقها يكون نكاح متعة، يكون كأن هذين الزوجين اتفقا على نكاح مدة معينة، على أن يكون هذا النكاح مدة معينة، وإن كانت المرأة أو وليها لا يعلمان بأن هذا الزوج سوف يطلقها، فإنه يكون قد غشهما.
وإذا كان لك بنت أو أخت، فتزوجها رجل، ثم طلقها، وعلمت فيما بعد أن هذا الرجل قد نوى طلاقها عند العقد، فلا شك أنك تعتبر قد غشك، وغش موليتك، بل تعتبر أن هذا جناية كبيرة، فالغش فيه ظاهر.
ولكن المجيزين له، قالوا: إن هذا الرجل قد ينوي نكاحها، ثم يرغب فيها، ولكن لا تبنى العقود على مثل هذه الاحتمالات، ثم أيضًا: إن بعض الناس قد أساء في استخدام هذا النوع من النكاح، واستغلال فتوى المجيزين.
فبعض الناس يسافر إلى بعض البلدان، ويتزوج عدة مرات، يتزوج ثم يطلق، ويتزوج ثم يطلق عدة مرات، ولا شك أن هذا ينافي مقاصد النكاح شرعًا، وفيه تلاعب بأحكام الدين، وفيه استهانة بالنكاح الذي سماه الله ميثاقًا غليظًا.
ولهذا فإن الأظهر والله أعلم في هذه المسألة هو عدم صحة النكاح بنية الطلاق، وهو الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسائل.
الأسئلة
طيب نجيب عما تيسر من الأسئلة، كان بودي أن تكون الأسئلة متعلقة بالدرس.
السؤال: هل من شروط النكاح الكفاءة؟
الشيخ: الكفاءة الصحيح أنها تشترط فقط في الدين؛ فلا يتزوج الرجل بامرأة كافرة غير كتابية، ولا تتزوج المرأة بكافر مطلقًا، أما غير الدين فالصحيح أنه لا يشترط، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وزينب وهي قرشية تزوجت بزيد بن حارثة وهو من الموالي.
السؤال: يقول: عند الأذان مع وجود الميكرفونات والأجهزة التي تسمع من مكان بعيد، ما حكم الالتفات عن يمين ويسار عند الحيعلتين؟
الشيخ: الالتفات عند الحيعلتين لا شك أنه قد وردت به السنة، ولكن مع وجود مكبرات الصوت في الوقت الحاضر، الذي أرى في هذه المسألة أن المؤذن يلتفت التفاتًا يسيرًا بالقدر الذي يصيب به السنة، ولا يلتفت التفاتًا يؤدي إلى ذهاب الصوت أو إضعافه؛ لأن المقصود من الأذان إبلاغ الناس بدخول وقت الصلاة، فإذا التفت التفاتًا يضعف الصوت، فإن هذا يتنافى مع هذا المقصود، ولكن يلتفت التفاتًا يسيرًا، بحيث يصيب السنة، ولا يضعف معه الصوت.
.. يضعف، نعم.
الشيخ: لكن ما المقصود بالالتفات؟ لماذا يلتفت المؤذن؟
الشيخ: لماذا؟ ما المقصود الشرعي؟ لا بد ننظر لمقاصد الشريعة، ما المقصود من الالتفات؟ المقصود إبلاغ الناس، إبلاغهم عن يمينه وعن يساره، وهذا متحقق بمكبر الصوت، فننظر إلى المقصد الشرعي من هذا الحكم، لا بد من النظر.. عند تقرير الأحكام الشرعية لا بد من النظر إلى مقاصد الشريعة.
السؤال: هل الإسبال يقع على الإزار فقط، أو يشمل القميص والبنطال، أم هو عام؟
الشيخ: نعم، هو يشمل اللباس كله، ليس خاصًا بالقميص أو البنطال، هو يشمل اللباس كله، كما يكون الإسبال في الثوب، يكون في القميص، يكون في المشلح، يكون في البنطال في جميع أنواع اللباس، أما إذا كان عن خيلاء فهو مجمع على تحريمه فهو من كبائر الذنوب، وإذا كان الإسبال بغير قصد الخيلاء فمحل خلاف، والصحيح أيضًا أنه محرم.
السؤال: عند التحويل إلى بلدي والحوالة بالريال واستلامها بالريال في بلدي، لكن عندما أحول يأخذ على كل ألف عشرة ريالات قلّت أو كثرت، هل هذا من الربا؟
الشيخ: لا، ليس هذا من الربا، هذا مقابل خدمة، ولا تلزم البنوك ولا غيرها من المؤسسات المالية بأن تخدم الناس مجانًا، فكونهم يخدمون هذا الإنسان بهذا التحويل لا بأس أن يأخذوا رسمًا مقابل هذه الخدمة.
السؤال: هل يجزئ دفع زكاة المال لترميم مسجد، أو تغيير فرشه ومكيفاته وتعديل؟
الشيخ: لا، الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن الله تعالى جعل الزكاة لثمانية أصناف فقط: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فلا يجوز أن تصرف الزكاة لغير هذه المصارف الثمانية.
وننظر هل المسجد من هذه المصارف الثمانية؟ وبعض أهل العلم قال بذلك، قال: إنه يدخل في قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، وجعله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] يشمل جميع أنواع القرب، وجميع أنواع البر، ولكن هذا القول مرجوح.
وبحِثت هذه المسألة في مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة، وصدر فيها قرار بالأغلبية بأن المقصود بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: الجهاد في سبيل الله، المقصود بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ: الجهاد في سبيل الله.
وأما القول بأنه في جميع وجوه البر، فلا يكون لهذا التحديد معنى، لو قلنا: في جميع وجوه البر، لقال: إنما الصدقات في سبيل الله، ولا داعي لأن يقول: الفقراء والمساكين.. وبقية الأصناف، لأنه لو قلنا: إنه في سبيل الله في جميع وجوه البر لشملت الفقراء، وشملت المساكين، شملت الغارمين، شملت ابن السبيل.
ولكن يعني هذا التحديد، وهذا التقسيم يدل على أن قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، ليس المقصود به: في وجوه البر، كما قال أصحاب هذا القول وإنما المقصود بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، المقصود به: الجهاد في سبيل الله، ولهذا فالصواب أن الزكاة لا تدفع في بناء المساجد، أو ترميمها، أو فرشها؛ لأنها لا تدخل في هذه الأصناف الثمانية.
وهكذا حلقات تحفيظ القرآن لا تدخل في هذه الأصناف الثمانية، يدفع لها من غير الزكاة، الزكوات حق لمن فرضه الله في هذه الآية فقط، حق لهؤلاء المذكورين في هذه الآية، وهم هؤلاء الأصناف الثمانية.
السؤال: رجل يُعطى من جهة عمله هدايا، ويُترك الحرية للتصرف فيها حسب ما يراه للزوار أو الزبائن، فهل يحق له الأخذ من هذه الهدايا لنفسه أو لأصحابه أو أقاربه، علمًا بأن هؤلاء من الزبائن؟
الشيخ: جاء في الصحيحين: أن النبي بعث رجلًا لجلب أموال الصدقة من الناس، فأتى النبي ، وقال: هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ، يعني: لما أراد أن يجمع الصدقة أهداه الناس هدايا.
فقام النبي وخطب على المنبر، ليبين الحكم للأمة، فقال: ما بال الرجل نستعمله، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منها شيئًا، إلا أتى به يوم القيامة إن كان بعيرًا له رغاء.. [4] إلى آخر الحديث، وهو مخرج في الصحيحين.
فهنا وضع النبي لنا قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهي قوله: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟، هذه قاعدة.
فنقول: الآن هذا الموظف لو أنه جلس في بيت أبيه وأمه، هل ستأتيه هذه الهدايا؟ في الواقع لا، لن تأتيه هذه الهدايا، ولذلك لا يجوز له أن يأخذها، ولاحظ أن هذا الرجل الذي بعثه النبي لأخذ الزكوات فقط من أصحابه، ومع ذلك أهدي له هدايا.
فأنكر النبي ، وبين هذا الحكم، وخطب على المنبر، وهذا يدل على الوعيد الشديد في مثل هذه المسألة، ولذلك فإنه لا يجوز أخذ الهدايا في مثل هذه الحال، والقاعدة هي لو جلس هذا الموظف في بيت أبيه وأمه، فينظر هل سيهدى إليه شيء؟
فإن كان الجواب: نعم، وأن هذا المهدي تربطه به علاقة قديمة أو صداقة أو قرابة، ولو جلس في بيت أبيه وأمه سيهدي له، حينئذ نقول: هذه الجائزة لا بأس بأخذها، لكن لو أنه جلس في بيت أبيه وأمه لم يهد إليه هذا المهدي، لا يجوز له أخذ هذه الهدية.
ومثل ذلك: المدير لا يجوز أن يأخذ من الموظفين هدايا؛ لأن هذا المدير لو جلس في بيت أبيه وأمه لم يهد إليه هذا الموظف شيئًا، ومثل ذلك أيضًا: المعلم مع طلابه لا يجوز له أن يأخذ هدايا منهم؛ لأن هذا المعلم لو جلس في بيت أبيه وأمه لم يهد له هذا الطالب هدية، فهذه قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه شيء، أم لا؟.
فإذا أشكل عليك شيء من المسائل في هذا الباب، فطبقها على هذه القاعدة، فقل: هذا الرجل لو جلس في بيت أبيه وأمه، أيهدى إليه شيء أم لا؟ إن كان نعم سوف يهدى إليه، وأن هذه الهدية بسبب آخر فلا بأس، أما إذا كان لا يهدى إليه لو جلس في بيت أبيه وأمه، فحينئذ لا يحل له أن يأخذ هذه الهدية.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.