الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1433هـ)/(6) فقه المعاملات المالية المعاصرة- التورق المصرفي
|categories

(6) فقه المعاملات المالية المعاصرة- التورق المصرفي

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

سنة القيام للجنازة

فهذا هو الدرس السادس في هذه السلسلة من الدروس لفقه المعاملات المالية المعاصرة، وقبل أن نبدأ في درسنا هذا، أود أن أنبه أن هناك سنة يغفل عنها كثير من الناس، وهي ما ورد في قول النبي : إذا رأيتم الجنازة فقوموا [1]، ولما رأى النبي جنازة قام عليه الصلاة والسلام فقيل: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال: أليست نفسًا؟ [2]، أخرجه البخاري في صحيحه، وفي رواية أخرى: إن للموت فزعًا [3]، وقد اختلف العلماء: هل القيام للجنازة هل هو على الوجوب، أو الاستحباب؟

فمن العلماء من قال: إنه واجب؛ لأن الأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، ولكن الصحيح ما عليه أكثر أهل العلم أنه مستحب استحبابًا مؤكدًا، لما جاء في صحيح مسلم عن علي : “أن النبي قام ثم قعد” [4].

وبكل حال فهي سنة فعندما ترى الجنازة في هذا الجامع، فالسنة أن الجميع يقومون، ولا يحسن بالمسلم أن يرى الجنازة أمامه، ويرى هذا الإنسان الذي كان حيًّا، وإذا هو الآن ميت جثة هامدة مسجى، وألا يحدث ذلك في نفسه شيئًا.

لهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن للموت فزعًا [5]، ولما قيل: إنها جنازة يهودي، قال: أليست نفسًا؟ [6]، فأحببت التنبيه إلى هذه السنة التي رأيت أن كثيرًا من الإخوة ربما إما يجهلها، أو يتساهلون فيها.

التورق المصرفي

موضوع الدرس معنا هذه الليلة هو عن التورق المصرفي، وهذا الموضوع من الموضوعات المهمة التي يكثر عنها سؤال الناس، ومعظم برامج الإفتاء لا تخلو من سؤال عن هذه المعاملة “التورق المصرفي”.

فما معنى التورق المصرفي؟ وما حكمه؟ وما هو واقعه في البنوك؟ وما هي أفضل وسيلة للحصول على السيولة عن طريق البنوك والمصارف؟

هذا ما سنجيب عنه إن شاء الله تعالى في هذا الدرس.

التورق المصرفي نبدأ أولًا بالتورق عمومًا، ثم نبين التورق المصرفي، فالتورق هذا المصطلح ورد في كتب الفقهاء، والتورق من الورق، والورق: الفضة، ويطلق على المال، لكن عند الإطلاق المقصود بالورق: الفضة.

وكما قال الله في قصة أصحاب الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، وكما في قول النبي : وفي الرقة ربع العشر [7].

معنى التورق

معنى التورق اصطلاحًا: أن يشتري الإنسان سلعة نسيئة، ثم يبيعها نقدًا لغير البائع بأقل مما اشتراها منه، ليحصل بذلك على النقد، لهذا شخص يريد سيولة نقدية ذهب واشترى سلعة ممن يبيع بالتقسيط أو بالأجل، اشترى مثلًا سيارة، أخذ هذه السيارة وذهب بها إلى سوق السيارات، وباعها نقدًا، فحصل على السيولة النقدية.

اشترى مثلًا هذه السيارة بخمسين ألف ريال مؤجلة إلى سنة، أو إلى سنتين، ثم ذهب بها إلى حراج السيارات وباعها بأربعين ألفًا نقدًا، فهذه هي مسألة التورق.

لاحظ أنها بين ثلاثة أطراف، التورق يعني أكثر من يسميه بهذا المصطلح هم الحنابلة، الشافعية يسمون هذه المعاملة بالزرنقة، وبعض الفقهاء يذكرونها بوصفها من غير تسمية لها، وعندنا في المملكة ماذا تسمى؟

نعم، غايب، أو الوعدة، يسمونها الوعدة، طيب وأيضًا لها تسميات أخرى يسمونها الوعدة ويسمونها الدينة، ومن قديم الزمان هي موجودة الناس يتعاملون بها من قديم.

حكم التورق المصرفي

فإذن هي بين ثلاثة أطراف، هذه اختلف العلماء في حكمها، لكن أكثر العلم على جوازها، وهو المذهب عند الحنابلة: أنها جائزة ولا بأس بها؛ لأنهما عقدان منفصلان، أنا أشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم أبيعها على طرف ثالث نقدًا.

ومن أهل العلم من منعها، قال: إنها حيلة على الربا، ومن أشهر من منعها: أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم يقول: إنني راجعته مرارًا في هذه المسألة، فتمسك برأيه، لعله رحمه الله رغم ما عنده من سعة خاصة في أبواب المعاملات، إلا أنه في هذه المسألة بالذات شدد فيها ومنعها.

ولكن كل يؤخذ من قوله ويرد، إلا رسول الله ، الصواب ما عليه أكثر أهل العلم من الجواز؛ وذلك لأنهما عقدان منفصلان، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، هو قد اشترى سلعة بمؤجل، ثم باعها بنقد أقل منه، فما هو وجه المنع منها؟

والقول بأنها حيلة على الربا لا يسلم، هي ليس فيها حيلة على الربا، حيلة على الربا لو أنه باعها على من اشتراها منه، أما إذا باعها على طرف ثالث ليس له علاقة بالأول، فأين الحيلة؟

وسبق أن ذكرنا في درس سابق قصة النبي لما أوتي بتمر برني يعني من النوع الجيد، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: يا رسول الله إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة؟ فقال: أوه، هذا عين الربا [8].

ثم أرشد إلى المخرج، ما هو المخرج؟ ولكن بيع الجمع يعني: التمر الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم جنيبًا، مع أن النتيجة واحدة، كونك تبيع صاعين بصاع هي نفسها تبيع صاعين بدراهم، وتشتري بالدراهم صاعًا، ومع ذلك سمى النبي بيع الصاعين بالصاع عين الربا.

وأرشد إلى المخرج: هو بيع الصاعين بدراهم، ويشتري بالدراهم تمرًا جيدًا أرشد إليه، هذا يدل على أنه ليس كل ما كان فيه صورية يكون حيلة على الربا، الصورية تكون أحيانًا مؤثرة، فهذه هنا الصورية مؤثرة فيها.

ولهذا مسائل الربا من أدق ومن أشكل المسائل، تحتاج إلى نظر دقيق، وإلى فهم، فأقول: إن مسألة التورق الصحيح أنها جائزة، وأنه لا بأس بها، وهذا هو الذي عليه فتاوى علماء هذه البلاد، عامة علماء المملكة يفتون بجواز مسألة التورق.

الفرق بين التورق والعينة

نحن قلنا: إن مسألة التورق بين ثلاثة أطراف، طيب العينة؟ ما الفرق بين العينة والتورق؟ أو ما معنى العينة أولًا؟

أن يشتري السلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها على من اشتراها منه بأقل منه نقدًا، لاحظ أن الفرق بين العينة والتورق، التورق بين ثلاثة أطراف، أما العينة بين طرفين فقط، يشتري السلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها عليه مرة أخرى، يشتريها بثمن مؤجل، ثم يبيعها بأقل منه نقدًا، فهذه الحيلة فيها ظاهرة، هي حيلة على الربا، لماذا؟

كأن المسألة بيع نقد بنقد، بيع نقد مؤجل بنقد حاضر دخلت بينهما هذه السلعة، ولهذا قال ابن عباس: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة، مثالها مثال العينة:

أن يبيع سيارة بخمسين ألف ريال مؤجلة، ثم يشتري سيارته بأربعين ألف ريال نقدًا، فالسيارة الآن ذهبت ثم رجعت، والمشتري حصل على أربعين ألف ريال نقدًا، وثبت في ذمته خمسون ألف ريال مؤجلة.

كأنها بيع خمسون ألف مؤجلة بأربعين ألف نقدًا، لكن دخلت بينهما هذه السيارة، هذه السيارة ذهبت ثم رجعت، هذه هي العينة.

طيب العينة جمهور الفقهاء على تحريمها، ولكن الشافعية أجازوها، لكن قول الشافعية في هذه المسألة قول ضعيف؛ لأن الحديث ورد بتحريمها، وهو ما جاء في سنن أبي داود بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه منكم، حتى ترجعوا إلى دينكم [9]، وهذا يقتضي ذم العينة، وأيضًا قصة زيد بن أرقم لما أنكرت عليه عائشة رضي الله عنها، فالصواب إذن هو تحريم بيع العينة.

طيب ما هي الحكمة من تحريم بيع العينة؟ أنها ذريعة للربا من باب سد الذرائع، كونه يبيع السلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، فهي ذريعة للربا.

طيب: إن لم يحصل بينهما اتفاق، يعني باع السلعة بثمن مؤجل، ثم إنه ندم واشتراها نقدًا، يعني قال: سلعتي أنا أريدها، فذهب لهذا المشتري، وقال: أنا أعطيك نقدًا، نقول: هذا لا يجوز، حتى لو يعني حصل ذلك من غير مواطأة، ومن غير اتفاق، وذلك من باب سد الذريعة، فإذن يعني غير جائزة بإطلاق، إذن هذا هو التورق، وهذه هي العينة.

التورق المصرفي المنظم

المصارف في الوقت الحاضر، أو يعني كثير من المصارف، والمؤسسات المالية توسعت في مسألة التورق، وأخذت هذا التورق الذي أجازه جمهور الفقهاء، وتوسعوا فيه توسعًا جعل كثيرًا من العلماء المعاصرين يفتون بالتحريم.

وهذا ما نعنيه بقولنا: التورق المصرفي المنظم، صورته:

أن المصرف يكون له سلع يملكها، إما من الحديد، أو المعادن، أو مكيفات، أو أرز، أو صوف، أو غير ذلك من السلع، وهو يملكها ثم يبيعها على العميل بثمن مؤجل، ثم يتوكل المصرف عن العميل ببيعها على طرف ثالث نقدًا، فيحصل العميل على ما أراد من سيولة نقدية.

والعميل عندما يأتي للبنك، عميل هذا البنك عندما يأتي للبنك يقولون: وقع على شراء هذه السلع، مثلًا حديد أو أرز أو معادن، يوقع على شرائها بمبلغ قدره مثلًا مائة ألف مؤجلة إلى سنة سنتين أو أكثر، ثم يقولون: وقع على توكيلنا في بيع هذه السلعة على طرف ثالث، يوقع على الوكالة، ثم بعد ذلك ينزل في رصيده ما أراد من السيولة النقدية.

ولذلك هم ابتداء يقولون لك: كم تريد من سيولة نقدية؟ يقول مثلًا: أريد مائة ألف، يقولون: نبيعك الحديد أو المعادن أو الأرز، أو المكيفات نبيعها عليك بمائة وعشرة، وتوكلنا في بيعها على طرف ثالث، فنبيعها عليه بمائة ألف، ونعطيك مائة ألف نقدًا، فيحصل على مائة ألف نقدًا، ويثبت في ذمته مائة وعشرة.

لو نظرنا لهذه المعاملة يعني نظرنا لها بفصل كل عقد عن الآخر، لقلنا: إنها جائزة، لماذا؟ لأنه أولًا العميل اشترى من المصرف بثمن مؤجل، وقلنا: إن هذا جائز، سبق أن قلنا في الدرس السابق: إن الشراء بالأجل جائز وحكي إجماعه.

الوكالة جائزة، فما المانع؟ نقول: اجتماع هذه العقود بهذه الطريقة أخرجها من الحل إلى الحرمة، وجعل المسألة كلها حيلة على الربا، ولهذا المجامع الفقهية اتفقت على تحريمها، ترتيب هذه المعاملة بهذه الطريقة وبهذا التركيب جعلها محرمة.

والناس يسمونها في الوقت الحاضر ماذا؟ يسمونها قرضًا، يسمون هذا قرضًا، يقولون: نريد أن نأخذ قرضًا من البنك، قرض في حديد، قرض في معادن، قرض في مكيفات.

طيب أنا أطرح تساؤلًا نريد أن نناقش هذا المصطلح، الآن عند الناس يسمونه قرضًا، وسمعته قبل قليل من أحد الإخوة، نحن قلنا: إنه التورق المصرفي المنظم، ونريد أن نسمي الأشياء بأسمائها، تسميتها بالقرض هل هي تسمية صحيحة؟

من يجيب؟

الطالب:…

الشيخ: لماذا؟

الطالب:…

الشيخ: ما معنى القرض أولًا؟ القرض، ما معنى القرض؟

الطالب:…

الشيخ: السلف يعني، السلف.. هل هذا ينطبق عليه سلف؟ يعني هذه سلف، أم بيع وشراء؟

هذه ليست سلفًا، القرض هو السلف، تسميته بالسلف ورد في قول النبي : لا يحل سلف وبيع [10].

السلف الذي هو القرض: هو دفع مال لمن ينتفع به، ويرد بدله، أعطيك ألف ترده عليَّ ألف بعد شهر بعد سنة، هذا هو القرض، تسمية هذه المعاملة بالقرض هذه تسمية غير صحيحة، هو ليس قرضًا، وإنما هو تورق، لا بد أن نسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة.

ولهذا تجد بعض الناس يعني يأتي للمفتي يقول: أنا أخذت من البنك قرضًا، هذا غير صحيح، هو ليس قرضًا، هو تورق، ولذلك الصواب في العبارة أن يقول: أخذت تورقًا من البنك في حديد في معادن في كذا، فينبغي أن ننتبه لهذا.

أقول: ترتيب العملية بهذه الطريقة أخرجها عن مسألة التورق المعروفة عند الفقهاء، ولذلك المجامع الفقهية أفتت فيها بالتحريم، جاء في قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بعدما وصفوا هذا التورق، قالوا: إن هذا العمل أو التورق المصرفي المنظم إنه غير جائز شرعًا، وذكروا مبررات لهذا، قالوا: أولًا: التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر، أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعًا، سواء أكان الالتزام مشروطًا صراحة، أم بحكم العرف والعادة.

ما معنى هذا الكلام؟ يعني ترتيب التوكيل عن العميل في بيعها على طرف ثالث، هذا يجعلها شبيهة بالعينة الثلاثية، بل إن أحد الإخوة يقول لي: أني ذهبت إلى مصرف، وأردت أن أشتري منهم حديدًا، وقلت لهم: أنا أريد أن أشتري منكم الحديد، لكن تسلمونه لي، في البداية قالوا: نسلمها لك هو في المكان الفلاني.

ولما رأوا أني جاد في هذا، قالوا: أبدًا ما يمكن نسلمه لك، يقول طيب أنا اشتريت منكم حلالي هذا تسلموه لي أتصرف فيه، أنا أريد الحديد، قالوا: لا، أنت ملزم بالتوكيل، إذن كيف تقولون: نحن بعنا عليك الحديد، أين الحديد؟ قالوا: هذا نظام البنك أنك ملزم بالتوكيل، لا بد أنك توكلنا نبيعها على طرف ثالث.

هذا يدل على أن المسألة كلها تلاعب، يفترض أن الإنسان إذا اشترى شيئًا يمكّن منه، هذا مقتضى العقد، وبعض البنوك في البداية إذا قلت: أعطوني هذه السلعة، يقولون: نعطيك إياها، لكن يضعون أمامك عقبات وعراقيل حتى تمل وتوكلهم.

وأحد الإخوة أيضًا يقول: أنه ذهب للبنك، واشترى منهم حديدًا، وقال: أنا أريد الحديد، أريد أن أبيعها بنفسي على طرف ثالث، فوافقوا على هذا، يقول: وهو خارج من البنك في الطريق نزل في رصيده المبلغ، فيعني أصبحت المسألة هذه تلاعب وحيلة على الربا.

ولذلك قد يكون يملكون حديدًا أو معادن أو أرز، لكن تجد أنه مكوم في مستودع، ويبيعونه على آلاف العملاء وهو في هذا المكان من غير تعيين، ويقولون: نحن نملك حديد، نملك أرز، نملك معادن، هم صادقون يملكون، لكن يملكون كمية قليلة، يبيعونه على آلاف العملاء من غير تعيين؛ لأنهم يعرفون أن العملاء ما يريدون أصلًا حديدًا ولا يريدون أرزًا ولا يريدون مكيفات، ولا يريدون معادن، وإنما يريد السيولة، فهل مثل هذا تجيزه الشريعة الإسلامية، هذا لا شك أنه موغل في الحيلة الربوية، هذا بدل ما يأتون بالربا الصريح أدخلوا هذه الحديد والمعادن و…

ثم أيضًا عندما يحتج عليهم يقولون: عندنا فتوى من الهيئة الشرعية، الهيئة الشرعية أفتت لكن بضوابط وشروط، هل هذه الشروط والضوابط طبقت، فبهذه الطريقة لا شك أنها لم تطبق الشروط ولا الضوابط، ولهذا المجامع الفقهية كلها اتفقت على التحريم.

جاء في الأمر الثاني من قرار المجمع أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشرط القبض الشرعي، وأيضًا: أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة -لما سمي بالمستورق فيها- من المصرف في معاملة البيع والشراء، والتي هي صورية في معظم أحوالها.

يعني هذه التعاملات صورية، مجرد وقع على ورقة بالشراء، ثم وقع على أخرى بالتوكيل تحصل على ما أردت من سيولة نقدية، ويثبت في ذمتك أكثر منها، هذه صورية في الحقيقة، هل رأيتم أن أحدًا اشترى معادن من بنك، وأخذ هذه المعادن، أو أخذ حديدًا، أو أخذ مكيفات، أو أخذ..؟ كلها.

لم نسمع يومًا من الأيام أن أحدًا اشترى من بنك شيئًا من هذه السلع وأخذها واستفاد منها، أو باعها هو بنفسه، فهي في الحقيقة صورية، وحيلة على الربا، وكما قال أيوب السختياني: “يلعبون على الله، كما يلعبون على الصبيان”، ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، فالحيلة الربوية لا تحلل الحرام، بل ربما تكون أسوأ من الحرام.

ولهذا ذكر الله تعالى في قصة أصحاب القرية الذين ابتلاهم الله ​​​​​​​، كان محرمًا عليهم وهم بني إسرائيل، طائفة من بني إسرائيل، كان محرمًا عليهم الصيد يوم السبت، وما عداه من أيام الأسبوع يجوز، ابتلاهم الله تعالى أصبحت الحيتان لا تأتي إلا يوم السبت، وفي غير يوم السبت ما تأتي، غير يوم السبت ما في شيء أبدًا في البحر.

يوم السبت تأتي هذه الحيتان والأسماك بكثرة، ففكروا وقدروا قالوا: كيف نحرم أنفسنا منها، فأتوا بحيلة قالوا: نأتي بالشباك وننصبها مساء الجمعة، في الجمعة في الليل، ولا نأخذها يوم السبت، نأخذها صباح الأحد، وبذلك نكون لم نصطد في يوم السبت، لاحظ هذه حيلة على الحرام.

الصالحون انقسموا قسمين: قسم أنكروا عليهم، قالوا: هذا حرام، وهذا لا يجوز، وهذه حيلة على الربا، القسم الثاني: صالحون لكن لم ينكروا عليهم، بل إنهم مع عدم إنكارهم عليهم قاموا بتثبيط المنكرين، وقالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164]، اتركوهم هؤلاء ما فيهم فائدة، فما هي النتيجة؟ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، فذكر الله تعالى أن هؤلاء المنكرين أنجاهم الله تعالى، وهؤلاء الذين وقعوا في الحيلة على الحرام أخذهم الله تعالى بعذاب بئيس بأن قلبهم قردة وخنازير.

طيب القسم الثالث ما حاله؟ وهم الصالحون الذين لم ينكروا المنكر، بل إنهم قاموا بالتثبيط لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164]، ترك الله ذكرهم.

قيل: إنهم عوقبوا مع أولئك الذين ارتكبوا المنكر، وقيل وهو الأقرب: أنهم لم يعاقبوا، لكن الله تعالى لم يذكر شأنهم تحقيرًا لهم، لا يستحقون التنويه بشأنهم، إنما الذي نوه بشأنه هم المنكرون للمنكر، ولهذا قال: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165]، ذكر الله تعالى هذا في معرض الثناء عليهم والتنويه بهم.

أما أولئك الصالحون لكنهم سلبيون؛ ما ينكرون المنكر، فترك الله تعالى ذكرهم من باب التقليل من شأنهم، وأن هؤلاء لا يستحقون الذكر، ولا التنويه بشأنهم.

فهذه القصة أيها الإخوة تدل على أن التحايل على الحرام أنه لا يحلل الحرام، وأن من يتحايل على الوقوع في الحرام يعرض نفسه للعقوبة، فهذا التورق الذي يكون في بعض البنوك بهذه الطريقة هي نوع من الحيلة على الربا، وهي لا تحلل الحرام، إذن هذا هو حكم التورق المصرفي المنظم بهذه الطريقة قلنا: إنه محرم.

هذه المحاذير الشرعية التي ذكرت في التورق المنظم أتت بعض الهيئات الشرعية، وقالوا: نجيز التورق المصرفي لكن بشرط تطبيق ضوابط معينة إذا طبقت خلت هذه المعاملة من المحاذير، وممن قال بهذا: الهيئة الشرعية في مصرف الراجحي.

ضوابط التورق المصرفي

فالهيئة الشرعية في مصرف الراجحي قالوا: إنه يجوز التورق المصرفي بضوابط، فأخذوا هذه المحاذير الموجودة في قرار المجمع، وجعلوا تلافيها شرطًا أو ضابطًا، فقالوا: يجوز بضوابط:

  • الضابط الأول: أن تكون تلك السلع مملوكة للمؤسسة المالية ومتعينة بموجب الوثائق، مملوكة وأيضًا متعينة، كيف متعينة؟ يعني عندما يأتي هذا العميل ويشتري مني حديدًا، لا بد أن نعين له الحديد، لا بد تملك الحديد في المكان الفلاني ورقمه كذا، ولا أبيعه على طرف آخر، ما أبيعه على عميل آخر، فإذا كان الحديد لا بد مرقم، وأنت عندما أبيعك هذا الحديد برقم كذا رقم عشرة رقم عشرين رقم مائتين رقم كذا، فلا بد من التعيين.
    إذا أردنا أن نصحح هذه العملية لا بد مع الملك من التعيين، لا يكفي الملك فقط، وإنما لا بد من التعيين، هذا هو الضابط الأول.
  • الضابط الثاني: ألا يكون العميل الذي تبيع عليه الشركة السلعة آجلًا هو الذي باع السلعة بصفته مالكًا لها أو لأكثرها، يعني: ألا تكون من قبيل بيع العينة، وإنما تباع على طرف ثالث، وهذا يعني سهل تطبيقه.
  • الثالث: ألا تكون السلعة المبيعة آجلًا ذهبًا أو فضة، وهذا أيضًا يعني سهل تطبيقه.
  • الرابع: ألا يكون مواطأة أو حيلة على التمويل بالفائدة الربوية.

فإذا تحققت هذه الضوابط، فنكون في الحقيقة قد تلافينا المحاذير التي ذكرت في قرار المجمع الفقهي، لكن لاحظ هنا يعني المجمع الفقهي قال: محرم لكذا وكذا وكذا، أتت الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي وقالوا: هو جائز بشرط خلوه من هذه المحاذير، يعني عكس، والواقع أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، فإذن لا بد إذا انطبقت هذه الضوابط على هذا التورق أنه لا بأس به.

وأهم هذه الضوابط الأول: أن تكون مملوكة ومتعينة، فإذا كان المصرف جادًّا، فنقول: لا بد من التعيين، أما أن تأتوا لي بحديد أو مكيفات وتجعلونه في المستودع، وتبيعونه على آلاف العملاء هذا لا يجوز، وإنما قل لي مثلًا: هذه المكيفات للعميل الفلاني، وهذه للعميل الفلاني، وهذه للعميل الفلاني، حتى تكون المعاملة صحيحة.

فإذن نحن إذا طبقنا هذه الضوابط تلافينا تلك المحاذير المذكورة في التورق المصرفي.

واقع المصارف بالنسبة للتورق

طيب: إذا نظرنا إلى واقع المصارف بالنسبة للتورق، فنجد أنها على قسمين:

القسم الأول: المصارف التي تطبق التورق بالصورة المحرمة، وهي في الحقيقة أكثر المصارف، أكثر المصارف على هذا، يقولون: عندنا حديد، عندنا معادن، عندنا مكيفات، عندنا صوف، عندنا كذا، ويملكون كمية بسيطة منها، ويبيعونها على آلاف العملاء، وكما قلنا هذا محرم.

هناك بعض المصارف الإسلامية التي تطبق التورق المصرفي بصورته الجائزة، وذكرنا مثلًا الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي يعني من هذا، فهذه تطبق التورق المصرفي بصورته الجائزة، هنا لا بد من التملك والتعيين.

طيب كيف نعرف أن البنك العميل أحيانًا أو الإنسان يقول: والله ما أدري هل البنك يملك؟ هل السلعة متعينة؟ كيف أعرف؟

هنا يفترض أن يكون مع الهيئة الشرعية جهاز رقابة، وهيئة شرعية بدون جهاز رقابة الحقيقة أنها ليس لها كبير فائدة، تكون مجرد قرارات وحبر على ورق، لا بد من جهاز رقابي مرتبط بالهيئة الشرعية، وليس مرتبط بإدارة البنك.

يعني الذي يعينه، والذي له السلطة عليه الهيئة الشرعية، وهذا الجهاز الرقابي لا بد أن يقدم تقريرًا للمصرف، يعني على الأقل كل سنة، والأحسن كل ربع سنة عن مدى التزام البنك بتطبيق قرارات الهيئة الشرعية، بدون هذه الطريقة تكون قرارات الهيئة الشرعية حبر على ورق ما لها قيمة.

وموظفو البنوك إذا لم يلزموا بتطبيق القرارات فإنهم لن يلتزموا، وربما لا يفهمونها أصلًا، وهنا يعني نقول: إذا كان البنك جادًّا في طلب الحلال، وفي البعد عن الحرام، فلا بد من أن يكون جهاز الرقابة عنده جهازًا قويًّا.

والمصارف الإسلامية لديها أجهزة رقابة جيدة، بعض المصارف يوجد لديها أكثر من أحد عشر موظفًا متفرغون فقط للرقابة على تطبيق قرارات الهيئة الشرعية، أكثر من أحد عشر موظفًا، ليس لهم عمل ولا شغل إلا فقط التأكد من تطبيق قرارات الهيئة الشرعية، هذه البنوك الجادة.

أما البنوك غير الجادة لا تضع مراقبين، وإن وضعت وضعت واحدًا على البنك كله، ومثل هذه الحقيقة أنها لا تبرأ بتعاملاتها الذمة.

فإذن هذا هو واقع المصارف بالنسبة للتورق، والحقيقة أن بعض المصارف التي تطبق التورق المصرفي بصورته الممنوعة يصورون قرار الهيئة الشرعية، ويضعونه دعاية لهم، فكل تعامل هذا قرار الهيئة الشرعية، طيب هل هو يطبق التطبيق الصحيح؟

المشكلة في التطبيق، وإذا أردت أن تعرف هل هذا المصرف يطبق التورق بصورته الصحيحة أم لا، فاسأل عن التعيين، فهي تقول مثلًا: هل تملكون هذه المكيفات؟ هل تملكون هذا الأرز؟ قالوا: نعم.

طيب هل إذا اشتريت منكم يكون ملكًا لي متعينًا لي أستطيع أني أستلمه؟ فإذا كان نعم فلا بأس بذلك، لكن الواقع أنهم يقولون: نعم في البداية، فإذا كنت جادًّا تجد أن هذا الكلام غير صحيح.

طيب إذن هذا هو التورق بصورته العامة.

هناك نوع من التورق يجوز حتى لدى تلك المصارف التي تمارس التورق بصورته الممنوعة، يعني تورق في شيء معين يمكن تطبيقه في جميع البنوك بصورته الجائزة.

التورق في الأسهم، الأسهم يشترط لمن يدخل في الأسهم عن طريق المصارف: أن يفتح له محفظة هذا لا بد منه، تشترط مؤسسة النقد فتح محفظة.

وعندما تذهب لمصرف من المصارف، وتقول: أريد تورقًا في الأسهم، وتختار لهم شركات معينة، فيلزمونك يقولون: لا بد من فتح محفظة لديهم، فيشتري المصرف الأسهم، ثم يبيعها عليك فتدخل محفظتك، فإذا دخلت في محفظتك، فالتملك واضح والقبض واضح هنا والتعيين، فالأسهم الآن مملوكة لك ومتعينة، مملوكة ومتعينة.

ثم بعد ذلك تبيع أنت هذه الأسهم على طرف ثالث، أو حتى توكل البنك ما في مشكلة الآن؛ لأنك الآن ملكتها ومتعينة لك، فالتورق في الأسهم هو أفضل طريقة للحصول على السيولة النقدية عن طريق المصارف، لكن بشرط انتبه لهذا الشرط: أن تكون أسهم شركات مباحة.

سبق أن تكلمنا عن تداول الأسهم في درس سابق بالتفصيل، وذكرنا خلاف العلماء المعاصرين في الشركات المختلطة، وقلنا: القول الراجح هو التحريم.

فإذن أنت تختار لهم الشركات، تقول: أريد شركة كذا، وكذا، وكذا، وكذا، أريد مثلًا مائة ألف ريال، لكن أسهم شركات معينة، فهم يعني يشترون هذه الأسهم، ويبيعونها عليك بثمن مؤجل، تدخل محفظتك، ثم أنت تبيعها، وتوكل حتى البنك في بيعها على طرف ثالث، وتحصل على ما أردت من السيولة النقدية، بهذه الطريقة نقول: إن هذه جائزة، من أي بنك.

طيب ما الفرق بينها، وبين ما ذكرنا قبل قليل من التورق في الحديد وفي المعادن وفي الصوف؟

الفرق هو أن الأسهم التملك والتعيين فيها واضح تمامًا، هي تدخل محفظتك، تكون قبضتها، وتكون أيضًا متعينة لك.

أحد الإخوة لما أتى وسألني، وقال: أنا أريد سيولة نقدية عن طريق، يقول: أني أريد قرضًا، طبعًا هذا المصطلح قلنا: إنه مصطلح غير دقيق، قال: ما أفضل طريقة للحصول على السيولة النقدية؟ قلت له: التورق عن طريق الأسهم، أسهم الشركات المباحة، فقال: الأسهم أنا أخشى أني إذا اشتريت أسهمًا، أنه بعدما اشتريها تنزل قيمتها، قلت: وهذا يؤكد حلها، هذا يؤكد حلها وجوازها؛ لأن التجارة المشروعة هي القابلة للربح والخسارة، يعني ما يكون فيها ضمان، قد تربح وقد تخسر، فهذا يدل على أنك تملكها ملكًا حقيقيًّا، وأنك تتصرف فيها، وأنها متعينة لك، فإذن يعني نأخذ هذه الفائدة يا إخوان: أن أفضل طريقة للحصول على السيولة النقدية عن طريق المصارف هو التورق عن طريق أسهم الشركات المباحة، هذا حاصل كلام أهل العلم في التورق والتورق المصرفي.

التورق العكسي أو المقلوب

هناك نوع آخر من التورق، وهو عكس التورق، يسمونه عكس التورق، وبعضهم يسميه مقلوب التورق، وأيضًا من المصطلحات المعاصرة له: الاستثمار المباشر، وأيضًا يسمى الوديعة لأجل، ويسمى المرابحة العكسية، ويسمى التورق العكسي، هذه كلها يعني ألقاب لهذا النوع من التعامل.

هذا مقلوب التورق عكس التورق المصرفي المنظم، فالتورق المصرفي المنظم الذي يحتاج للسيولة هو من؟ هو العميل، مقلوب التورق الذي يحتاج للسيولة ليس العميل، وإنما البنك والعميل يريد استثمار أمواله.

فهنا يقول البنك للعميل: وكلنا في شراء سلعة، وكلنا نشتري لك سلعة، فإذا اشتريتها وملكتها وقبضتها تبيعها علينا بثمن مؤجل، فهي عكس التورق المصرفي، فالتورق المصرفي يأتي العميل ويقوم للبنك يبيع عليه السلعة، ثم يقول: وكلنا في بيعها على طرف ثالث.

هنا العكس العميل الآن ما يريد سيولة، يريد فقط استثمار أمواله، البنك الذي يريد سيولة، فالبنك يقول: أنا أوفر لك سلعة، وكلني في شرائها لك، فالعميل يوقع عقد وكالة أن البنك يشتري هذه السلعة لفلان.

فإذا اشتراها البنك للعميل وقبضها، يقول البنك: بعها عليَّ الآن، فيبيعها العميل على البنك بثمن مؤجل، هذا هو الاستثمار المباشر، أو مقلوب التورق، أو الوديعة لأجل، أو التورق العكسي، هذه هي صورتها، فهو عكس التورق المصرفي.

وحكمه: ذهب كثير من العلماء المعاصرين إلى منعه، وعلى ذلك أيضًا: اتفق المجمعان: مجمع الفقه الإسلامي الدولي، ومجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وعللوا لذلك قالوا: إن هذه المعاملة مماثلة للعينة، أو شبيهة بالعينة المحرمة شرعًا، وباعتبار أن السلعة المبيعة ليست مقصودة لذاتها، فتأخذ حكمها، خاصة أن المصرف يلتزم للعميل بشراء هذه السلعة منه.

وقالوا: إنها تدخل يعني هذه المعاملة صورية في الحقيقة كأن البنك يقول بدل ما يقول: أعطني مائة ألف نقدًا، وأعطيك إياها مائة وعشرة بعد سنة مؤجلة، أدخل هذه السلعة بينهما، فهي يعني صورة من صور الحيلة على الربا.

ويعني هي شبيهة بالتورق المصرفي من جهة المآخذ الشرعية عليها، فهي شبيهة بالعينة الثلاثية من جهة، وكذلك أيضًا: فيها نوع من الحيلة على الربا، ولهذا المجامع الفقهية قررت تحريمها.

بعض الهيئات الشرعية للمصارف كما قلنا في التورق المصرفي أيضًا عكست المسألة، فقالوا: بما أن المعاملات الأصل فيها الحل والإباحة، فلماذا لا نقول: الأصل فيها الجواز بضوابط، وأخذوا المحاذير التي ذكرتها المجامع الفقهية، وقالوا: نتلافاها بهذه الضوابط، فما هي المحاذير عندكم؟

ضوابط مقلوب التورق

قالوا: المحاذير عندنا: أنها تكون غير مملوكة، وغير متعينة، فيقولون: نحن نشترط أن تكون مملوكة ومتعينة، ونشترط ألا يكون فيها مواطأة ولا حيلة ربوية، ومن أشهر من ذهب إلى هذا: الهيئة الشرعية لمصرف الراجحي، فأفتت وقررت جواز مقلوب التورق بضوابط:

  • الضابط الأول: أن تتعين السلعة المشتراة للعميل بموجب وثائق تعيينها، ويتسلمها العميل، إذن يملكها العميل وتتعين له، انتبه لشرط التعيين، أهم شرط في التورق المصرفي المقلوبة التعيين، التعيين هو الذي يخرجها عن الصورية، فما معنى التعيين؟
    التعيين مثلًا عندما البنك يقول للعميل: أشتري لك حديدًا، طيب: أنا أريد وثائق على شراء الحديد، وعلى رقم هذا الحديد، فلا بد أن يكون مثلًا هذا الحديد عند البنك مرقمًا واحد اثنان ثلاثة إلى ألف مثلًا، أو إلى ألفين أو أكثر أو أقل.
    فرقم واحد للعميل الفلاني، رقم اثنين للعميل الفلاني، بهذه الطريقة نتأكد من أنها فعلًا أنه يملكها، وأنها متعينة له، أما أن يجعل لي حديد في مستودع، ثم أبيعها على آلاف العملاء، هذا هو الذي يعني يكون فيه حيلة على الربا.
    فمثلًا بيع الحديد الذي يكون في الأسواق العالمية، مثل: أسواق لندن أو غيرها والمعادن هناك وثائق لتعيينها، فإذا كان العميل عندما يشتريها يعطى هذه الوثيقة، يقال لك الحديد في سوق لندن مثلًا ورقم الحديد هو كذا، تستطيع أن تحصل عليه أو توكل في بيعه، نعرف المسألة هنا ليست يعني حيلة على الربا، وأنه فعلًا اشتراها وأنها متعينة له، كذلك إذا كانت مكيفات، إذا كان أرزًا لا بد من تعيينه، لا بد من التعيين.
  • ثانيًا: ألا تكون المسألة من قبيل العينة، ثالثًا: ألا تتوكل الشركة عن العميل في البيع على نفسها، يعني تبيع الشركة، يعني لا تكون الشركة تتولى جميع الأدوار، هي التي تتوكل وتشتري للعميل، ثم تتوكل وتبيع عل نفسها، فهذا لا يجوز، معنى ذلك العميل يعني لم يقم بأي شيء، فالعميل هو الذي يقوم ببيعها على الشركة، حتى يعني يخرجها عن الصورية.
  • أيضًا: ألا تكون السلعة آجلًا ذهبًا أو فضة، وألا يكون مواطأة وحيلة على الفائدة الربوية، لاحظ أنها قريبة من الضوابط التي ذكرت في التورق المصرفي.

إذا طبقت هذه الضوابط فهي في الحقيقة تزول المحاذير التي ذكرتها المجامع الفقهية، لكن المشكلة في التطبيق، المشكلة هي في التطبيق، فمن الذي يضمن التطبيق؟

أهمية الرقابة الشرعية على المصارف

هنا يأتي أهمية الرقابة الشرعية، ودور الرقابة الشرعية، إذا كان البنك جادًّا في طلب الحلال، فسيضع جهازَ رقابة قويًّا، والحقيقة أن الهيئات الشرعية نفسها تتحمل جزء كبيرًا من المسؤولية، يفترض أن الهيئة الشرعية لا تقبل بالعضوية إلا بشرط أن يكون جهاز الرقابة جهازًا قويًّا؛ أن تطلب من البنك تعزيز الجهاز الرقابي على المصرف.

ولهذا لو أن المصارف فعلت هذا، وعززت جهاز الرقابة، وتحرت الحلال، لوثق الناس فيها، وهي في الحقيقة تكسب والناس يكسبون، لكن نجد قلة الاهتمام بالأمور الشرعية هو السبب في هذا، يعني لماذا تأتي هذه الإشكالات؟ لماذا يكون جهاز الرقابة ضعيفًا؟ لماذا لا يكون التعيين موجودًا لدى بعض المصارف؟

السبب قلة الاهتمام بأمور الشرع، ولهذا أنا أعجب من بعض الشركات إنما تطرح للاكتتاب تجد لديها مستشارًا ماليًّا، ومستشارًا قانونيًّا، ومستشارًا إعلاميًّا، ومستشارًا للتسويق، وخذ أحيانًا عشرة مستشارين، وأحيانًا أكثر، ولا تجد مستشارًا شرعيًّا، لماذا؟

ما في اهتمام؛ يجعل البنك مستشارًا للتسويق، ومستشارًا قانونيًّا، لكن ما تجد مستشارًا شرعيًّا، السبب: هو قلة الاهتمام بأمور الشرع.

ولهذا نقول: إن على القائمين على تلك المصارف مسؤولية كبيرة، ومن يتحرى الحلال فإنه يُعرف بين الناس، ويبارك الله تعالى له، لكن من لا يبالي بمسائل الحلال والحرام، تجد أن الناس يتوجسون منه خيفة، وتجد أن حتى من يذهب لها يكون قلقًا، هل هذه المعاملة جائزة أو غير جائزة.

فأقول: إن بعض المصارف الجادة في طلب الحلال تكون عندها جهاز رقابي قوي يطبق قرارات الهيئة الشرعية، ويزود الهيئة الشرعية بتقارير دولية عن مدى التزام المصرف بتطبيق قرارات الهيئة الشرعية.

وبعض المصارف تدعي أنها إسلامية، لكنها في الواقع تتوسع كثيرًا في هذه التعاملات، خاصة فيما يتعلق بالتورق تتوسع كثيرًا، فكيف تكون إسلامية، وكيف توصف بأنها إسلامية، وهي تمارس هذه الحيل الربوية، تمارسها بتوسع فهي أبعد ما تكون عن وصفها بالمصارف الإسلامية ما دامت أنها تتوسع في الحيل الربوية وفي التعاملات بهذه الطريقة.

هذا هو حاصل كلام العلماء المعاصرين في التورق المصرفي، وفي مقلوب التورق، وبكل حال من يريد أن يذهب لمصرف من المصارف، ويريد أن يحصل على سيولة نقدية، أرى أنه لا بد أن يسأل من يثق فيه من أهل العلم عن تلك المعاملة؛ لأنه كما ذكرنا.. ولا يكتفي بأن البنك يعطيه فتوى الهيئة الشرعية، ويقول: إن الهيئة الشرعية أجازتها، قد تكون أجازتها صحيح نظريًّا، لكن التطبيق لا تطبق التطبيق الصحيح، إلا في بعض المصارف التي هي جادة في طلب الحلال، وعندها تحري، وعندها جهاز رقابة قوي، فهذه يطمئن المسلم على تعاملاتها.

نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بتسليط الضوء حول هذه المسألة الهامة في الحقيقة والتي يكثر السؤال عنها، وأختم كلامي عن هذه المسألة بدعوة القائمين على تلك المصارف بأن يحرصوا على التزام الحلال، وعلى البعد عن الحيل الربوية.

والفرق بين الحلال والحرام فرق دقيق يا إخوان، الفرق بين الحلال والحرام فرق دقيق، لو أن تلك المصارف التزمت بتطبيق الضوابط الشرعية لكانت تلك المعاملات لا شبهة فيها، وكانت حلالًا، وإنما قلت: الفرق بين الحلال والحرام دقيق؛ لأنه أحيانًا يكون وصف واحد مؤثرًا في قلب تلك المعاملة من كونها حلالًا إلى حرام؛ مثل وصف التعيين مثلًا.

ولهذا المشركون لما حُرّم الربا استغربوا وتعجبوا، قالوا: ما الفرق بين الربا والبيع، كلها واحد؟ فأنزل الله قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، الله تعالى قال: إن هذا حلال، وهذا حرام، فهذا هو حكم الله، وهذا هو شرع الله، وبينهما فرق وإن كان الفرق فرقًا دقيقًا.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1307، ومسلم: 958.
^2, ^6 رواه البخاري: 1312، ومسلم: 961.
^3 رواه النسائي: 1922، وابن ماجه: 1543، وأحمد: 8527.
^4 رواه مسلم: 962.
^5 سبق تخريجه.
^7 رواه البخاري: 1454.
^8 رواه البخاري: 2312، ومسلم: 1594.
^9 رواه أبو داود: 3462.
^10 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، والنسائي: 4611.
مواد ذات صلة