الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1433هـ)/(2) فقه المعاملات المالية المعاصرة- الأوراق المالية والأسهم والسندات
|categories

(2) فقه المعاملات المالية المعاصرة- الأوراق المالية والأسهم والسندات

مشاهدة من الموقع

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ۝ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ۝لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الثاني من سلسلة الدروس الشهرية في فقه المعاملات المالية المعاصرة، وكنا قد بدأنا في الشهر الماضي بمقدمةٍ في فقه المعاملات المالية المعاصرة اشتملتْ على أبرز القواعد والضوابط في هذا الفقه.

المقصود بالأوراق المالية

نبتدئ في هذا الدرس بأولى قضايا المعاملات المالية المعاصرة، وسيكون الحديث في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- عن موضوعٍ في غاية الأهمية، وله صِلةٌ بواقع الناس، وتكثر الأسئلة حوله، وهو الأوراق المالية.

وإذا قيل: الأوراق المالية، فالمقصود بها: الأسهم والسندات.

ولذلك يُفرق بين الأوراق المالية، والأوراق التجارية، والأوراق النقدية.

هذه ثلاث مصطلحاتٍ، وكل مصطلحٍ له مدلولٌ.

أما الأوراق المالية فالمقصود بها: الأسهم والسندات.

والأوراق التجارية المقصود بها: الشيكات والسندات لأمرٍ، أو السندات الإذنية و(الكمبيالات).

وأما الأوراق النقدية: فهي الأوراق التي يتعامل بها الناس اليوم، سواءٌ سُميت: ريالات، أو دولارات، أو جنيهات، أو أي عملةٍ من العملات.

وكل هذه -إن شاء الله- سأتكلم عنها في هذا الدرس، والحديث في هذا الدرس عن الأوراق المالية، أي: عن الأسهم والسندات.

وتُعرف الأوراق المالية بأنها: صكوكٌ تُمثل مبالغ نقديةً قابلةً للتداول بالطرق التجارية، وتُمثل حقًّا للمُساهمين أو المُقرضين.

وهذه -كما ذكرنا- هي الأسهم والسندات التي تُصدرها المصارف، أو الشركات، أو المؤسسات، أو الدول.

الفرق بين الأوراق المالية والأوراق التجارية

بهذا يتبين أن بين الأوراق المالية والأوراق التجارية شبهًا من جهة كونها صكوكًا تُمثل مبالغ نقديةً قابلةً للتداول بالطرق التجارية، ولكن بينهما فروقٌ كثيرةٌ، من أبرزها: أن الأوراق التجارية تُمثل عادةً ديونًا تستحق لدى الاطلاع كما في الشيك، أو بعد أجلٍ كما في (الكمبيالة) والسند لأمرٍ.

والأوراق التجارية هي -كما ذكرنا- الشيكات و(الكمبيالات) والسندات لأمرٍ، وتقبل الخصم لدى المصارف؛ لكونها مُستحقة الوفاء، أما الأوراق المالية التي هي الأسهم والسندات فيتعذر خصمها؛ لكونها قروضًا طويلة الأجل.

معنى الأسهم

قلنا: إن الأوراق المالية تنقسم إلى الأسهم والسندات، فما معنى الأسهم؟ وما معنى السندات؟

الأسهم جمع سهمٍ، والسهم قال عنه ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة”: “السين والهاء والميم أصلان: أحدهما يدل على تغيرٍ في لونٍ، والآخر على حظٍّ ونصيبٍ وشيءٍ من أشياء”، وهذا الثاني هو المقصود هنا.

أما تعريفها اصطلاحًا: فعُرفتْ بعدة تعريفاتٍ، من أبرز هذه التعريفات: أنها صكوكٌ تُمثل حصصًا في رأس مال شركةٍ، متساوية القيمة، غير قابلةٍ للتجزئة، وقابلةٌ للتداول بالطرق التجارية.

فالسهم باختصارٍ هو: حصةٌ في رأس مال شركةٍ.

ولو أردنا أن نُبسط هذا المعنى، فمثلًا: نحن -الحاضرين- في هذا الجامع لو افترضنا افتراضًا وقلنا: نريد إنشاء مكتبةٍ، وهذه المكتبة تحتاج إلى رأس مالٍ كبيرٍ، فقلنا: نجعل رأس المال على شكل أسهمٍ، والسهم عشرة آلاف ريالٍ، فمنا مَن يدفع سهمًا واحدًا، ومنا مَن يدفع سهمين، ومنا مَن يدفع عشرة أسهمٍ، ومنا مَن يدفع أكثر أو أقلّ، ومجموع هذه الأسهم يكون رأس مالٍ لهذه المكتبة.

وهكذا تمامًا بالنسبة للأسهم والشركات المساهمة؛ فالشركات المساهمة هي مجموع هذه الحصص، لكن لا بد أن تكون متساوية القيمة، فلا يصح أن يكون هذا السهم أكثر من هذا، لا بد أن تكون متساوية القيمة، وقابلةً للتداول بحيث يمكن طرحها في السوق وبيعها وشراؤها، فلا بد أن تكون قابلةً للتداول بالطرق التجارية.

هذا معنى الأسهم، وهذه حقيقة الأسهم.

معنى السندات

أما السندات فهي: ما يُعرض للجمهور لغرض استثمار رؤوس أموالهم مقابل فائدةٍ مضمونةٍ، فهي -في الحقيقة- ورقةٌ أو صكٌّ يتضمن تعهدًا إما من مصرفٍ، أو من شركةٍ، أو نحوهما لحامل ذلك السند بسداد مبلغٍ مُقررٍ في تاريخٍ معينٍ نظير فائدةٍ بسبب قرضٍ عقدته شركةٌ أو هيئةٌ تحتاج إلى مالٍ؛ لكي تتوسع في أعمالها.

فأحيانًا إما -مثلًا- شركاتٌ كبيرةٌ، أو هيئاتٌ، أو دولٌ تحتاج إلى سيولةٍ نقديةٍ، فتريد أن تجمع سيولةً من الجمهور، فيطرحون سنداتٍ ويقولون -مثلًا-: السند بعشرة آلاف، فتُعطينا عشرة آلاف الآن ونُعطيك عليها ورقةً، وتحصل بعد سنةٍ -مثلًا- على أحد عشر ألفًا، فنُعطيك بدلًا منها أحد عشر ألفًا.

وبهذا يتبين أن السندات لا تنفك عن الفائدة الربوية، فالسندات مُرتبطةٌ بالفائدة الربوية؛ ولذلك هي مُحرمةٌ بالإجماع.

إذن السندات لا إشكالَ في تحريمها؛ ولذلك لن ندخل في تفاصيلها؛ لأنها مُحرمةٌ، ولا يجوز الدخول فيها أصلًا، إلا أنه في الآونة الأخيرة -يعني- بعض المصارف المحافظة أو المصارف الإسلامية -كما يُقال- بدأت بإيجاد صكوكٍ مُباحةٍ بديلةٍ عن السندات المُحرمة، مثل: صكوك الإجارة، أو صكوك المشاركة، أو صكوك المضاربة، فهذه إذا ضُبطتْ بالضوابط الشرعية يمكن أن تحلّ محل السندات الربوية المُحرمة.

لكن إذا أُطلق لفظ “السندات” فالمشهور عند الناس أنها هذه السندات المُشتملة على فوائد ربويةٍ، لكن يمكن أن تُضبط مستقبلًا بضوابط وتُجعل في غير القرض، تُجعل -مثلًا- في الإجارة، أو تُجعل -مثلًا- في المشاركة، أو تُجعل -مثلًا- في المضاربة، وتُضبط بضوابط معينةٍ، ولو ضُبطتْ فإنها يمكن أن تصح، ويمكن أن تكون بديلًا لهذه السندات الربوية المُحرمة.

الفرق بين الأسهم والسندات

بهذا يتبين الفرق بين الأسهم والسندات؛ فالسهم يُمثل جزءًا من رأس مال الشركة، بينما السند يُمثل جزءًا من دَينٍ على الشركة.

وصاحب السهم يملك حصةً من الشركة، فهو شريكٌ فيها، ويتعرض للربح والخسارة، بينما صاحب السند له فائدةٌ مضمونةٌ لا تزيد ولا تنقص، وليس مُعرضًا لخسارة الشركة، وحتى لو خسرت الشركة فصاحب السند لا تشمله هذه الخسارة.

السهم لا يُسدد إلا عند تصفية الشركة، أو بيع الجزء الذي يتعلق بالسهم، أما السند فله وقتٌ محددٌ، وتاريخٌ معينٌ لسداده.

إذن السندات قلنا: إنها مُحرمةٌ بإجماع العلماء.

السندات الموجودة على الصيغة المعروفة الآن التي هي قروضٌ ربويةٌ هذه مُحرمةٌ بالإجماع؛ لاشتمالها على فوائد ربويةٍ مضمونةٍ، سواء ربحت الشركة أو خسرتْ.

وتكييفها الفقهي أنها من قبيل القرض بفائدةٍ، فحقيقة هذه السندات أنها قرضٌ بفائدةٍ، والقرض بفائدةٍ مُحرمٌ، وحُكي إجماع العلماء عليه.

طيب، لماذا القرض بفائدةٍ مُحرمٌ؟ وعند العلماء قاعدةٌ مشهورةٌ هي: كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا.

يعني: لو سأل سائلٌ: لماذا لا يُقرض الإنسان آخر، والآخر يرد عليه السلف أو القرض ويُعطيه زيادةً؟ فلماذا حرمت الشريعة هذه الزيادة: كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا؟

نقول: الجواب عن هذا …

انتبه لهذه الفائدة التي لا تجدها في كتابٍ: لماذا الفوائد على القروض مُحرمةٌ وربًا؟

الجواب عن هذا: أن صورة القرض في الأساس هي صورةٌ ربويةٌ، فكوني أُعطيك عشرة آلاف وتردها لي عشرة آلاف بعد سنةٍ، هذه في الأصل صورةٌ ربويةٌ، لكن استَثْنَت الشريعة هذه الصورة تشجيعًا للناس على الإرفاق والتكافل والتعاون فيما بينهم، من باب التَّشجيع، فاستَثْنَتْها من الصور الربوية المُحرمة.

فإذا أصبح القرض لا يُراد به الإرفاق ولا الإحسان، وإنما أصبح يُراد به المُعاوضة والربحية؛ ترجع صورة القرض لما كانت عليه في الأصل، فيكون مُحرمًا، وهذا معنى قولهم: كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا، هذا هو السبب في هذا.

ولهذا لو وقعت الزيادة من غير شرطٍ ولا عُرْفٍ فإنها تكون جائزةً، فلو أن شخصًا سلَّفك عشرة آلاف، ولما أردتَ أن تردها عليه رددتَ عليه عشرة آلاف وقلتَ: خُذْ هذه هديةً: ألف ريال، فهذا يجوز ما دام أنها بدون شرطٍ، وبدون عُرْفٍ، فهي جائزةٌ.

أما المشروطة أو المُتعارف عليها، فإن المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا، فإن هذه مُحرمةٌ.

فالسندات إذن مشروطةٌ، فعندما يُكتب سندٌ للشخص يُكتب بشرط دفع فائدةٍ ربويةٍ، يعني يقول: نحن اقترضنا الآن هذا المبلغ، ونُعيده لك بعد مدةٍ معينةٍ بفائدةٍ ربويةٍ. فهذا مُحرمٌ بالإجماع.

أما الأسهم: فالأسهم مجموعها يُمثل الشركات المساهمة، وهذه سنقف معها وقفةً في حقيقة الشركات المساهمة، وحكم تداول أسهم الشركات، وكيف تُزكَّى أيضًا أسهم هذه الشركات؟ لكن قبل ذلك نأخذ نبذةً مُوجزةً عن الشركات في الفقه الإسلامي.

معنى الشركات

الشركات جمع شركةٍ، والشركة معناها في اللغة: الخُلطة أو الاختلاط، والشرك هو النَّصيب.

ومعناها في الاصطلاح: عقدٌ بين المُتشاركين في رأس المال والربح.

وعرَّفها بعضهم -وهو التعريف المشهور- بأنها: اجتماعٌ في استحقاقٍ أو تصرفٍ.

“اجتماعٌ في استحقاقٍ” المقصود به: شركة الأملاك.

ومعنى شركة الأملاك: أن يتملك شخصان فأكثر شيئًا من المال أو الأعيان على سبيل الشراكة: كالإرث مثلًا، خمسة إخوة مات أبوهم فورثوا ماله، فهم شركاء في هذا الإرث، وهذه تُسمى: شركة أملاكٍ.

أو الهِبَة: هؤلاء الإخوة -مثلًا- وُهِبوا هبةً، فهم شركاء فيها، أو نحو ذلك، فهذه تُسمى: شركة أملاكٍ.

وقولهم في التعريف: “أو تصرف” هذا المقصود به شركة العقود، وشركة العقود هي المقصودة في هذا الباب، فهي التي يبحثها الفقهاء في باب الشركة، وهي: أن يتعاقد شخصان فأكثر بعملٍ ومالٍ، أو عملٍ من أحدهما، ومالٍ من الآخر، أو العكس.

أقسام شركات العقود

تنقسم شركات العقود إلى أربعة أقسامٍ، وبعضهم يُضيف قسمًا خامسًا:

  • القسم الأول: شركة العنان، ومعناها: أن يشترك اثنان بمالهما على أن يعملا بأبدانهما، والربح بينهما، وهذه تُسمى: شركة عنان.
    مثال ذلك: اتَّفق رجلان على فتح محلٍّ تجاريٍّ، وكلٌّ منهما دفع مئة ألف ريالٍ، واتَّفقا على أن أحدهما يبيع في هذا المحل يومًا، والآخر يبيع في اليوم الثاني، وأن الربح بينهما أنصافٌ، أو الربح بينهما، مثلًا: أحدهما له ثلاثة أرباع الربح، والآخر له الربع، فهذه لا بأس بها، وتُسمى: شركة العنان، وقد اشتركا بالمال والبدن.
  • القسم الثاني: شركة المُضاربة، وهي: أن يدفع شخصٌ مالًا إلى آخر ليتَّجر به، والربح بينهما، يعني يقول: أنا عندي مالٌ، وأريد أن أُشغل هذا المال، وأنت عندك خبرةٌ، فخُذْ هذا المال، خُذْ -مثلًا- مئة ألف ريالٍ، أو أكثر، أو أقلّ، وشغِّله في التجارة، والربح بيننا أنصافٌ، أو لي -مثلًا- 75% من الربح، أو لي 80% من الربح، ولك الباقي.
    فهذه أيضًا لا بأس بها، وتُسمى بشركة المُضاربة، وهي مأخوذةٌ من الضرب في الأرض الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20].
    ويُسميها بعض الفقهاء أيضًا بشركة القراض.
  • والقسم الثالث: شركة الوجوه، ومعنى شركة الوجوه: أن يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريانه بجاههما وثقة الناس فيهما، من غير أن يكون لهما رأس مالٍ، ويعملان فيه، وما يحصلان عليه من الربح فهو بينهما على ما شرطاه.
    مثال ذلك: اثنان ليس عندهما رأس مالٍ، لكن لهما وجاهةٌ في المجتمع، ثِقتان، قالا: كلٌّ منا يقترض، أنا أقترض مبلغًا من المال، وأنت تقترض، ونجمع هذا المبلغ الذي نقترضه ونعمل فيه، والربح بيننا أنصافٌ، أو على حسب ما شرطاه.
    فهذه تُسمى: شركة الوجوه، وهي جائزةٌ، ولا بأس بها.
  • القسم الرابع: شركة الأبدان، ومعناها: أن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبونه بأبدانهم، ويكون الربح بحسب ما شرطوه.
    ومن ذلك: اشتراك أصحاب الصنائع، مثلًا: اثنان يعملان في النجارة، أو في الحدادة، أو في أي عملٍ من الأعمال، وقالا: بدل أن يعمل كل واحدٍ منا وحده، نشترك أنا وأنت، ونجمع ما نُحصله ونقسمه بيننا، فأنت اليوم تربح، وأنا ما أربح، وأنا غدًا أربح، وأنت ما تربح، فنريد أن كلًّا منا يساعد الآخر، فهذه تُسمى بشركة الأبدان، وهي أيضًا جائزةٌ.
    ومن ذلك: اشتراك بعض العمالة في بعض ورش السيارات، أو بعض المحلات، أو نحو ذلك.
    هذا إذا كان على سبيل الشركة، أما لو كان مُرتبًا فهذه لها توصيفٌ آخر.
  • زاد بعضهم قسمًا خامسًا وهو: شركة المُفاوضة، ومعنى شركة المُفاوضة: أن يُفوض كل واحدٍ من الشريكين إلى الآخر الشراء، أو البيع، أو المُضاربة، أو التوكيل، أو فعل ما فيه مصلحةٌ لهذه الشركة، وهي شركةٌ صحيحةٌ على القول الصحيح، وبعضهم اعتبرها قسمًا مُستقلًّا، ولكن الصحيح أنها لا تخرج عن الأقسام السابقة، فهي إما شركة عنان، أو شركة وجوهٍ، فهي ترجع لأحد الأقسام السابقة: إما عنان، أو وجوه، أو نحو ذلك، فهي لا تخرج عما سبق.

هذه أنواع الشركات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم.

بعض القواعد المتعلقة بالشركات

قبل أن ننتقل للنوع الجديد من الشركات -وهو الشركات المساهمة- نذكر بعض القواعد المتعلقة بالشركات، وهي قواعد مهمةٌ جدًّا.

من أبرز هذه القواعد: أن الربح على حسب ما اتَّفق عليه الشركاء، وأن الخسارة على رب المال، فالربح لا يُحدد بحدٍّ معينٍ، فلو أن أحد الشريكين قال: أنا لي 80% من الربح، وأنت لك 20%، فإذا تراضيا على ذلك لا بأس؛ لأن أحدهما قد يكون أكثر خبرةً وحِذْقًا ومهارةً، والآخر ليس كذلك، فالربح إذن على حسب ما اتَّفق عليه الشريكان، وأما الخسارة فإنها تكون على رب المال.

في شركة المُضاربة الخسارة تكون على رب المال، وليس على المُضارب العامل، فالعامل -في الحقيقة- خسر جهده، ولا يتحمل جزءًا من الخسارة إلا إذا حصل منه تعدٍّ أو تفريطٌ.

فلو أنك أعطيتَ شخصًا مبلغًا من المال، وقلتَ: خُذْ هذا المبلغ شغِّله. فلما شغَّله خسر، هل يتحمل الخسارة؟

لا يتحمل إلا إذا تعدَّى أو فرَّط؛ ولهذا لما حصل نزول أسعار الأسهم وانهيار الأسهم في الفترة الماضية، بعض الناس الذين أعطوا آخرين أموالًا لكي يعملوا بها في الأسهم أقاموا عليهم دعاوى، وقال أحدهم: والله أنا أعطيتُ هذا مليون ريالٍ لكي يُشغله في الأسهم، وخسرت، وما عندي الآن إلا مئة ألفٍ.

فنقول: إن هذا الذي أعطيتَه هذا المبلغ ليُشغله لا يتحمل الخسارة، فالخسارة عليك أنت رب المال، أنت وثقتَ به، وأعطيتَه هذا المال؛ ولذلك لا يتحمل هو هذه الخسارة، فهو خسر جُهده، إلا إذا استطعتَ أن تُثبت أنه تعدَّى أو فرَّط؛ فيتحمل، أما إذا كان اجتهد ولم يتعدَّ ولم يُفرط، لكن حصل أن الأسعار نزلتْ من غير تعدٍّ منه ولا تفريطٍ؛ فإن هذا العامل لا يتحمل شيئًا من الخسارة، حتى لو شرط عليه عدم الخسارة، حتى لو شرط عليه الضمان.

بعض الناس يقول: أنا أعطيتُه هذا المال ليُشغله، واشترطتُ أن يتحمل الخسارة وقَبِلَ.

نقول: هذا الشرط شرطٌ غير صحيحٍ؛ وذلك لكونه يُنافي مُقتضى العقد، ومُقتضى عقد الشراكة أن الخسارة على رب المال، وليست على العامل، فحتى لو شرطتَ عليه هذا الشرط، نقول: هذا الشرط غير صحيحٍ.

على أن اشتراط الضمان -ضمان رأس المال- في الشركة لا يجوز؛ لأن اشتراط ضمان رأس المال يُحول الشركة -في الحقيقة- من كونها شركةً، ومن كونها مُضاربةً إلى كونها قرضًا بفائدةٍ، فلا يجوز أن يقول: أُعطيكم هذا المال بشرط أني ما أخسر.

التجارة المشروعة لا بد أن تكون قابلةً للربح والخسارة، أما التجارة المضمون فيها عدم الخسارة فإنها غير جائزةٍ، فالتي يُضمن فيها عدم الخسارة هذه قروضٌ بفائدةٍ، وليست بيعًا وشراء، فالبيع والشراء قابلٌ للربح والخسارة.

بعض الناس يقول: أنا أريد أن أضمن عدم الخسارة.

نقول: هذا لا يجوز، ولو شرط هذا الشرط فهو شرطٌ لاغٍ وشرطٌ غير صحيحٍ.

وجمهور العلماء على أنه لو شرط هذا الشرط -يعني: لو شرط عدم الخسارة- فإن الشركة صحيحةٌ والشرط باطلٌ.

وبعض العلماء ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، قال: إن الشركة أصلها كلها تبطل ولا تصح.

ولكن القول الصحيح هو قول الجمهور، وهو: أن الشركة صحيحةٌ والشرط باطلٌ؛ لأن الأصل صحة العقود.

طيب، هل يلزم المُضارب أن يُقيم البينة على أنه ما تعدَّى ولا فرَّط؟

ما يلزمه، المُضارب أمينٌ، أنت وثقتَ به، وأعطيتَه مالك، فهو أمينٌ، وإذا كنت لا تثق به لماذا تُسلمه مالك؟!

فلا يُطالَب بالبينة، مَن الذي يُطالَب بالبينة؟

أنت يا رب المال أثبت أنه تعدَّى أو فرَّط، فإذا أثبتَّ فنعم يتحمل الخسارة، أما إذا لم تستطع أن تُثبت فالأصل أن المُضارب أمينٌ، وأن قوله مقبولٌ.

إذن من أبرز الفروق بين القرض بفائدةٍ والمُضاربة هو: مسألة ضمان الخسارة، فلو تأملتَ في الفروق بين المُضاربة والقرض بفائدةٍ وجدتَ أبرز الفروق هو: مسألة ضمان الخسارة؛ فالقرض بفائدةٍ يضمن عدم الخسارة، بينما المُضاربة ما فيها ضمانٌ لعدم الخسارة، فهي قابلةٌ للربح والخسارة.

ولذلك فإن مَن يشترط على المُضارب عدم الخسارة هذا -في الحقيقة- قرضٌ بفائدةٍ، كأنه يقول: أُقرضك على أن ترد عليَّ بفائدةٍ. فهذا لا يجوز؛ ولهذا جاء في قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وأنقل مُقتطفاتٍ من هذا: “لا يجوز في المُضاربة أن يُحدد المُضارب لرب المال مقدارًا مُعينًا من المال؛ لأن هذا يتنافى مع حقيقة المُضاربة؛ ولأنه يجعلها قرضًا بفائدةٍ، والفرق الجوهري الذي يفصل بين المُضاربة والقرض بفائدةٍ الذي تُمارسه البنوك الربوية هو: أن المال في يد المُضارب أمانةٌ، لا يضمنه إلا إذا تعدَّى أو قصَّر، والربح يُقسم بنسبةٍ شائعةٍ متفقٍ عليها.

وقد أجمع الأئمة الأعلام على أن من شروط صحة المُضاربة: أن يكون الربح مشاعًا بين رب المال والمُضارب”.

إذن لا يجوز ضمان عدم الخسارة، ولا يجوز أيضًا ضمان الربح؛ لأن هذا يقلب الشركة من كونها شركةً إلى كونها قرضًا بفائدةٍ.

أيضًا من القواعد: أن المال في يد المُضارب أمانةٌ، قلنا: لا يضمنه إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.

هذه أبرز القواعد في هذا الباب: باب الشركات.

الشركات المساهمة

ننتقل للنوع الجديد من الشركات، وهو: الشركات المساهمة.

والشركات المساهمة هي -في الحقيقة- وإن كانت نوعًا جديدًا إلا أنها لا تخرج عن الأقسام التي ذكرها الفقهاء، فلا تخرج عن الأقسام السابقة.

وتُعرف بأنها: الشركات التي لها رأس مالٍ مُقسمٍ إلى أسهمٍ متساوية القيمة، قابلةٍ للتداول، وغير قابلةٍ للتجزئة، ولا يكون الشريك مسؤولًا إلا بما وضع من أسهمٍ.

فهذه الشركات كما مثَّلنا قبل قليلٍ بمثالٍ، يعني: لو اتفقنا نحن على إنشاء مشروعٍ معينٍ، وقلنا: كل واحدٍ منا يدفع ما يستطيع من الأسهم، لكن السهم بعشرة آلاف، فمنا مَن يدفع سهمًا، ومنا مَن يدفع سهمين، ومنا مَن يدفع عشرةً، ومنا مَن يدفع مئةً، ويكون له من الربح بحسب أسهمه، وعليه من الخسارة بحسب أسهمه.

هذه هي حقيقة الشركات المساهمة، ولو أخذتَ الآن أي شركةٍ من الشركات الكبيرة المساهمة الموجودة الآن في السوق، مَن مُلاك هذه الشركة؟

مُلاكها المساهمون.

طيب، ومجلس إدارة الشركة؟

مجلس إدارة الشركة مجرد عاملٍ يُدير الشركة فقط، فإما أنه يعمل بأجرةٍ، أو يكون له نصيبٌ من الأرباح بحسب وضع الشركة، لكنه -في الحقيقة- يعمل لأجل المساهمين.

ففي مثالنا السابق الذي مثَّلنا به: لو أننا -معشر الموجودين في المسجد- اتفقنا على إنشاء مكتبةٍ، وقلنا: السهم بكذا، فسنضع لهذه المكتبة إذا أنشأناها مَن يُديرها، وهذا هو مجلس الإدارة.

ومجلس الإدارة عادةً في القطاع الخاص يضع له إدارةً تنفيذيةً، يعني: هو فقط مجرد مُشرفٍ، لكن تكون هناك إدارةٌ تنفيذيةٌ هي التي تُدير أعمال الشركة، وهذا هو الذي عليه عمل الشركات.

فعندما نقول: إن هذه الشركة مَن يملكها؟

نقول: يملكها المساهمون، مُلاكها هم المساهمون، لكن بعض المساهمين يملك نسبةً كبيرةً، وبعضهم يملك نسبةً قليلةً، فبعضهم ما يملك إلا سهمًا واحدًا، وبعضهم سهمين، وبعضهم عشرةً، وبعضهم مئةً، وبعضهم ألفًا، وبعضهم عشرة آلافٍ، فهي تختلف بحسب وضع الشركة وعدد المساهمين.

والشركات المساهمة -في الحقيقة- لها أهميةٌ كبيرةٌ في الاقتصاد المعاصر، بل إنها تُعتبر نقلةً كبيرةً في عالم الاقتصاد، حتى إن بعضهم قال: إن الشركات المساهمة هي العمود الفقري للحياة الاقتصادية، لماذا؟

لأن هناك مشاريع ضخمةً لا يستطيع الفرد الواحد أن يقوم بها، فبعض المشاريع تحتاج إلى مليارات لتمويلها، فهذه ما يستطيع الفرد الواحد أن يقوم بها، فالشركات المساهمة تقوم بها، فتجمع الأموال من الناس بهذه الأسهم، ثم تقوم بهذه المشاريع الكبيرة الضخمة.

ولذلك لما نشأت الشركات المساهمة كان لها أثرٌ كبيرٌ جدًّا في عالم الصناعة، وفي عالم التجارة، وأصبح بالإمكان تجميع رؤوس أموالٍ ضخمةٍ، وقيام هذه الشركات بهذه المشاريع الكبيرة التي تجمعتْ من هذه الأسهم.

إذن هي تقوم بدورٍ كبيرٍ في المجتمع، وكما ذكرنا مقولة بعضهم: إنها العمود الفقري للحياة الاقتصادية.

والشركات المساهمة لما نشأتْ أول ما نشأتْ كانت مُرتبطةً بالنظام الاقتصادي العالمي، والنظام الاقتصادي العالمي في أصله مُرتبطٌ بالربا، ومنشؤه الربا؛ ولذلك منذ بداية قيام هذه الشركات، بل حتى إلى وقتٍ ليس بالبعيد لا توجد شركةٌ مساهمةٌ لم تتورط في الربا، فإلى قريبٍ من خمسة عشر عامًا لم تكن هناك شركةٌ واحدةٌ لم تتورط في الربا، فكلها مُتورطةٌ: إقراضًا واقتراضًا.

ولكن في الوقت الحاضر -ولله الحمد- ازداد الوعي لدى المسلمين، ونشأتْ مصارف إسلاميةٌ، وكذلك شركاتٌ خلتْ قوائمها المالية من التعاملات المُحرمة، وهذه الشركات وُجدتْ، وهي في تزايدٍ، ولله الحمد.

والمجتمع -في الحقيقة- يستطيع أن يفرض كلمته على هذه الشركات، ويُجبرها على أن تترك التعاملات الربوية والتعاملات المُحرمة؛ فإذا قاطع المجتمع الشركات التي تتعامل بالربا فإنها ستضطر إلى ترك الربا؛ لكي تُرضي المُساهمين -تُرضي الناس-؛ لأنها إذا واجهت مُقاطعةً من المجتمع فإنها سوف تفشل.

ولهذا ينبغي بثُّ الوعي حول هذا الموضوع في أوساط الناس وأوساط العامة؛ حتى يُشكلوا ضغطًا على هذه الشركات، وسوف نُسلط الضوء عليها عندما نتكلم عن حكم الدخول في الشركات المُختلطة، لكن قبل ذلك نريد أن نُلقي الضوء على معنى السهم، وحقيقة السهم، والتكييف الفقهي للسهم، وهذا الموضوع -في الحقيقة- مهمٌّ جدًّا.

حقيقة السهم

نحن قلنا في السهم: إنه حصةٌ في رأس مال شركةٍ، وهذا هو المشهور عند المتقدمين وعند المتأخرين؛ ولذلك قالوا: إن حقيقة الأسهم أنها حصةٌ في رأس مال الشركة، فمعنى ذلك: أن المساهم يملك جزءًا من هذه الشركة.

ونحن -في الحقيقة- في هذا الدرس وبهذا الجمع لا نريد أن نُسمي شركاتٍ.

فلو أنك تملك -مثلًا- أسهمًا في شركةٍ من الشركات، فأنت أحد مُلاك هذه الشركة، هذا هو التكييف الذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، وهو الذي عليه كثيرٌ من القانونيين أيضًا.

وهناك من المعاصرين مَن ذهب إلى أن السهم ليس حصةً في رأس مال شركةٍ، وإنما هو عروض تجارةٍ، ولا ينظر إلى ما تُمثله هذه الأسهم من حصص أموال الشركة.

وقالوا: بدليل أن بعض الأسهم تكون مرتفعةً والشركة خاسرةٌ، وهذا يدل على أنه لا علاقة بين السهم والشركة.

وهذا القول -في نظري- قولٌ مرجوحٌ، وتلزم عليه لوازم كبيرةٌ، فلو قلنا بهذا القول لترتب على ذلك: جواز المساهمة في شركة الخمور إذا لم تكن هناك علاقةٌ بين السهم ونشاط الشركة، أو شركات الدعارة، أو الشركات المُجمع على تحريمها، وهذا لا يقول به أحدٌ، لكن هذا من لوازم هذا القول.

إذن السهم -في الحقيقة- هو: حصةٌ من رأس مال شركةٍ، ولا ينفك عن الشركة.

ولهذا إذا أفلستْ هذه الشركة، فإن الأسهم تنهار، ولا يستطيع المُساهم أن يحصل على حصته من هذه الشركة، فكيف يُقال: لا علاقة بين السهم والشركة؟!

أما كون بعض الأسهم ترتفع والشركة خاسرةٌ، فهذا بسبب سوء سلوك بعض المُتعاملين وبعض المُساهمين، ويُفترض أن الجهات الرقابية هي التي تضبط هذا السوق، وهذا صحيحٌ أنه قد وُجد في فترةٍ مضت: أن الشركات خاسرةٌ، وأسهمها مُرتفعةٌ.

فنقول: هذا بسبب النَّجَش الذي يُمارسه بعض المُتعاملين وبعض المُساهمين، فبعض المساهمين يعملون حركاتٍ لا تخفى على الجميع، فإذا أرادوا رفع سعر سهمٍ لهم طريقةٌ معينةٌ، وإذا أرادوا أيضًا خفض سعر سهمٍ لهم طريقةٌ معينةٌ في هذا؛ ولذلك يُمارسون النَّجَش، فقد يرتفع سعر السهم والشركة خاسرةٌ، فهذا لا يؤثر على التكييف الفقهي لحقيقة السهم، وأنه حصةٌ في رأس مال شركةٍ، وهذا بسبب سوء سلوك بعض المساهمين وبعض المتعاملين.

ولهذا نجد أن بعض المؤسسات المالية وبعض المصارف لديهم قسمٌ اسمه: البحوث والدراسات، وهذا القسم يُعطي القيمة العادلة لأسهم كل شركةٍ، فتقول -مثلًا-: شركة كذا ما القيمة العادلة لها؟ فيدرسون مُعطيات هذه الشركة: يدرسون أداءها في السوق، ويدرسون قوائمها المالية، ويقولون: القيمة العادلة لسهم هذه الشركة هي كذا.

وهذا موجودٌ، لكن -حسب علمنا- لا يُتاح للناس مجانًا، ولكن بمقابلٍ، يعني: يشتري الإنسان هذه القيمة العادلة لأسهم الشركات، ويستطيع أن يعرف ما القيمة العادلة لسهم كل شركةٍ؟

إذن هذا الذي يُمارسه بعض الناس من النَّجَش أو غيره لا يُؤثر على التكييف الفقهي لحقيقة السهم، فالتكييف الفقهي لحقيقة السهم أنه حصةٌ في رأس مال شركةٍ.

انتبهوا لهذا التكييف؛ لأنه سيكون مُؤثرًا في الحكم: حكم تداول أسهم الشركات المختلطة.

ومَن أراد المزيد من التوسع في هذا فقد ذكرتُ الكلام عن التكييف الفقهي للسهم في كتابي “فقه المعاملات المالية المعاصرة” الذي سيخرج قريبًا -إن شاء الله-، وهو الآن في المطابع، وهذه خلاصةٌ فقط، يعني: الكلام فيها هو ما ذكرتُ، ومَن أراد المزيد من التوسع فليرجع للكتاب الذي سيخرج -إن شاء الله- قريبًا، وأُشعركم في حينه بوجوده في المكتبات.

حكم تداول أسهم الشركات المساهمة

بعد ذلك ننتقل إلى الكلام عن حكم تداول أسهم الشركات المساهمة.

لو قال شخصٌ: أنا أريد أن أدخل الآن في تداول أسهم هذه الشركات، هل يجوز، أو لا يجوز؟ هل الأسهم فيها شبهةٌ؟ هل -كما يقول بعض الناس- بيع وشراء الأسهم قِمارٌ؟

هذه مقولةٌ عند بعض الناس، كل بيع هذه الأسهم قِمارٌ في قِمارٍ، هل هذا صحيحٌ؟

أقسام الشركات المساهمة

نقول: إن الشركات المساهمة تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: الشركات التي يكون نشاط تعاملها مباحًا، ولا تتعامل بالربا، ولا بغيره من المُحرمات؛ فلا تتعامل بالربا: لا إقراضًا، ولا اقتراضًا، ولا بغيره من المُحرمات، كأن تكون هذه الشركة شركةً زراعيةً، أو صناعيةً، أو تجاريةً، فهذه يجوز تداول أسهمها بالإجماع.
    ولكن بعض الناس يُسمي هذا النوع من الشركات بالشركات النَّقية، ولكن إطلاق وصف “نقية” تزكيةٌ شديدةٌ؛ ففي نظري حتى الآن لا تكاد توجد شركةٌ نقيةٌ 100%، وإنما مُقاربةٌ للنقاء.
    ولذلك الأحسن ألا نصفها بهذا الوصف، وإنما نقول: الشركات التي خلتْ قوائمها المالية من التعاملات المُحرمة؛ لأننا عندما نحكم على شركةٍ لا نستطيع أن نُحيط بجميع تعاملاتها، فإننا ننظر فقط للقوائم المالية، حتى الشركات المُصنفة الآن: أن هذه نقيةٌ، وهذه غير نقيةٍ، كيف حُكم بأنها نقيةٌ أو غير نقيةٍ؟
    بالنظر فقط للقوائم المالية، والقوائم المالية قد لا تُعطي الوصف الدقيق لواقع الشركة، فهي مُؤشرٌ، لكنها لا تُعطي الوصف الدقيق، فقد تكون هذه الشركة تملك أسهمًا في شركاتٍ أخرى، وقد تكون لها تعاملاتٌ أخرى مع مصارف أجنبيةٍ، فالشركات والبنوك الآن بعضها مُرتبطٌ ببعضٍ؛ ولهذا فإن إطلاق وصف “النقاء” عندي أنه محل نظرٍ.
    الأحسن أن نقول: التي خلتْ قوائمها المالية من التعاملات المُحرمة، هذا هو الوصف الصحيح والدقيق والعادل والمُنصف؛ فنحن نحكم فقط على هذه الشركة بموجب هذه القوائم المالية، وما ذهبنا لهذه الشركة وعرفنا جميع تعاملاتها، ودخلنا في دهاليزها، وعرفنا حكمنا عليها 100% أنها نقيةٌ، لا، مَن يُحكم عليها بالنقاء إنما يكون فقط بمجرد النظر لقوائمها المالية، وكونها لا تتعامل تعاملاتٍ مُحرمةً فقط.
    ولهذا فالوصف الصحيح والدقيق والعادل أن نقول: التي خلتْ قوائمها المالية من التعاملات المُحرمة، فهذا النوع من الشركات يجوز الدخول فيه، وتداول أسهمه، سواء بطريق المُتاجرة التي يُسميها بعض الناس: المُضاربة، أو بطريق الاستثمار، أو الاكتتاب، كلها تجوز، فعند طرحها للاكتتاب -مثلًا- أو كون الإنسان يأخذ الأسهم ويُبقيها عنده يتربص بها -مثلًا- ارتفاع الأسهم، أو أنه يبيع ويشتري فيها؛ هذه كلها جائزةٌ بالنسبة لهذا القسم من الشركات.
    وكما قلتُ قبل قليلٍ: كان هذا النوع غير موجودٍ أصلًا قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، ووُجد في الوقت الحاضر، وهذه الشركات -ولله الحمد- في تزايدٍ، وتحتاج إلى تشجيعٍ من المجتمع بأن يكون تعامله وتداول الأسهم لهذا النوع من الشركات، ومُقاطعة الشركات التي تتورط في الربا.
    إذن هذا هو القسم الأول، وحكمه ظاهرٌ.
  • القسم الثاني -وأيضًا حكمه ظاهرٌ-: الشركات المساهمة التي يكون نشاطها مُحرمًا: كشركات الخمور، أو شركات بيع الدخان، أو نحو ذلك، فهذه أيضًا لا يجوز تداول أسهمها بإجماع العلماء.
  • القسم الثالث -وهو محل الخلاف الكبير-: وهو ما يُسمى بالشركات المختلطة، فهذا القسم من الشركات العمل أو النشاط الذي تُمارسه مباحٌ، فهي إما شركاتٌ زراعيةٌ، أو صناعيةٌ، أو تجاريةٌ، أو في قطاع الاتصالات -مثلًا-، أو نحو ذلك من الأنشطة المُباحة.
    لكن هذه الشركات لها تعاملاتٌ مُحرمةٌ: كالإقراض أو الاقتراض بفائدةٍ، فهل يجوز الدخول في هذا النوع من الشركات؟
    هذه شركةٌ زراعيةٌ -مثلًا- أو شركةٌ صناعيةٌ، فالمجال الذي تُمارسه مُباحٌ في الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة، أو الاتصالات، لكن عندها قروضٌ ربويةٌ: مُقترضةٌ بالربا، أو مُقرضةٌ بالربا، ولها تعاملاتٌ مُحرمةٌ، فهل هذه التعاملات المُحرمة مُؤثرةٌ على حكم تداول أسهمها؟ وهل نقول: إن تداول أسهم هذا النوع من الشركات جائزٌ، أو غير جائزٍ؟

حكم الشركات المُختلطة

اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة، وقبل أن نذكر الخلاف نُحرر محل الخلاف:

  • أولًا: لا خلاف بين العلماء في أن مجالس إدارات هذه الشركات التي لها تعاملاتٌ مُحرمةٌ من الإقراض أو الاقتراض الربوي، لا خلاف بين العلماء في أنهم آثمون، ومُعرِّضون أنفسهم للعنة الله وغضبه وعقابه؛ لأن النبي لعن آكل الربا، ومُؤكله، وكاتبه، وشاهديه [1]، فهذا بالإجماع، ولا يوجد عالمٌ من علماء المسلمين يقول: إن أصحاب مجالس إدارة هذه الشركات غير آثمين، فهم بإجماع العلماء آثمون.
    ولكن يبقى النظر في حال هذا المُساهم الضعيف الذي لا يملك القرار في هذه الشركات، والذي لو أراد أن يقول لهذه الشركة: لا تتعاملوا بالربا، ما سمعوا كلامه، فهل نقول: إنه يجوز له الدخول في هذا النوع من الشركات، أو نقول: إنه لا يجوز؟
  • ونقول ثانيًا: لا خلاف بين العلماء في أن مَن دخل في هذا النوع من الشركات يجب عليه التَّطهير، وهو: أن يتخلص من القدر المُحرم في وجوه البرِّ، ويدفعه بنية التخلص، لا بنية التَّقرب إلى الله تعالى.
    إذن عندنا الفقرة الأولى نقول فيها: لا خلاف بين العلماء في أن مجالس إدارة هذه الشركات آثمون.
    ثانيًا: لا خلاف بين العلماء في أن مَن دخل فيها على القول بالجواز يجب عليه التَّطهير.
  • ثالثًا: الخلاف في حكم الدخول في هذا النوع من الشركات: هل يجوز مع التطهير، أو لا يجوز مطلقًا؟
    قولان مشهوران للعلماء المعاصرين:

    • القول الأول: أنه يجوز الدخول في هذا النوع من الشركات بشرط: أن يتخلص المُساهم من القدر المُحرم.
      وهذا القول أبرز مَن قال به، وأول مَن قال به -في الحقيقة-: الهيئة الشرعية لشركة الراجحي، فإن الهيئة الشرعية لشركة الراجحي قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، بل ربما أكثر من ذلك؛ لأن أول هيئةٍ شرعيةٍ أُنشئت عام ألفٍ وأربعمئةٍ وتسعةٍ.
      فلما نظرتْ في الشركات المساهمة ما وجدتْ شركةً واحدةً غير مُتورطةٍ بالربا، وسمعتم أثر الشركات في المجال الاقتصادي، وأنها العمود الفقري للمجال الاقتصادي، فأجازت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي الدخول في هذا النوع من الشركات وَفْق نِسَبٍ مُعينةٍ، يعني: ألا تزيد القروض على 30%، وألا يزيد الإيراد على 5%، وأيضًا قيَّدت الجواز بالحاجة، فإذا زالت الحاجة فإنه لا يجوز، وهي بهذا أول مَن أفتى بجواز الدخول في هذا النوع من الشركات، وتبعتْها على ذلك جميع الهيئات الشرعية للبنوك.
      وبنك البلاد أول ما تأسس اشترط أولًا: ألا يدخل إلا في الشركات التي خلتْ قوائمها المالية من الربا، ثم بعد ذلك أخذوا بالقول الآخر وهو: الدخول في جميع الشركات المُختلطة، فجميع الهيئات الشرعية تأخذ بهذا القول.
      ونُسِبَ هذا القول بالجواز إلى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله، لكن -في الحقيقة- نُسِبَ إليه أيضًا القول بالتحريم، فعنه في هذه المسألة -في الحقيقة- قولان؛ ففي بعض كتبه نُسِبَ إليه القول بالجواز، وفي كتبٍ أخرى نُسِبَ إليه القول بالتحريم، فربما يكون للشيخ قولان في هذه المسألة.
    • القول الثاني في المسألة: تحريم تداول أسهم الشركات المُختلطة مطلقًا، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، وقد أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وكذلك مجمع الفقه الإسلامي الدولي المُنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وهو رأي أكثر العلماء المعاصرين.

أحد المشايخ عندنا في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أراد أن يعرف رأي أبرز العلماء المعاصرين في هذا النوع من الشركات، فطلب من طلابه نشاطًا: أن يذهب كل واحدٍ من الطلاب إلى أحد المشايخ، ويطلب رأيه في الشركات المُختلطة، ويطلب من الشيخ أيضًا أنه إذا كتب رأيه لهذا الطالب لا يكتبه لطالبٍ آخر؛ كي يعرف رأي أكبر عددٍ من المشايخ في هذا النوع من الشركات.

يقول: وكانت المُفاجأة أن 95% من المشايخ يرون تحريم الدخول في هذا النوع من الشركات، يعني: نسبةً كبيرةً، ومع ذلك فإن القول الأول هو القول الأشهر؛ لأن القول الأول ربما يكون أبرز مَن قال به لهم -يعني- اتصالٌ بالإعلام وأبرزوا قولهم، لكن أكثر العلماء على التحريم، وهذا هو القول الراجح: أنه لا يجوز ما دامت الشركة مُتورطةً بالربا؛ لا يجوز تداول أسهمها، فالربا مُحرمٌ: قليله وكثيره، حتى لو كان 1%.

ولو أن المشايخ اتَّفقوا على هذا الرأي لكان هذا أكبر رادعٍ لهذه الشركات عن الدخول في الربا.

وكما سمعتم أن جميع الهيئات الشرعية بدون استثناءٍ تُجيز الدخول في الشركات المُختلطة، وهذا هو الذي جعل هذه الشركات لا تزال تتعامل بالربا، ومتورطةٌ بالربا، وتتوسع في هذا.

ومع الأسف عندما تُطرح بعض الشركات للاكتتاب تجد أن عندها مستشارًا قانونيًّا، ومستشارًا اقتصاديًّا، ومستشارًا إعلاميًّا، وخُذْ من أنواع المُستشارين، لكن لا يوجد مستشارٌ شرعيٌّ!

هذا -في الحقيقة- يدل على قِلة مُبالاةٍ بأمور الشرع، فيضعون مستشارًا إعلاميًّا، ومستشارًا اقتصاديًّا، ومستشار تسويقٍ، ومستشارًا قانونيًّا، ومستشارًا …

انظر إلى نشرة الإصدار عندما تصدر، أما المستشار الشرعي فلا يوجد، وهو أهم المستشارين في هذا، وهذا يدل على قِلة الاهتمام بأوامر الشرع.

ولهذا ينبغي أيضًا للمجتمع أن تكون له كلمته، والمجتمع يستطيع أن يضغط على هذه الشركات بأن يُقاطع الشركات التي تتعامل بالربا، ويُشجع الشركات التي لا تتعامل بالربا؛ فسيكون هذا أكبر رادعٍ لأصحاب مجالس إدارات تلك الشركات، حتى لا يقعوا في الربا، وفيما حرَّم الله تعالى، خاصةً أن البدائل موجودةٌ الآن، يعني: لا داعي لأن تتورط الشركة في الربا، فبإمكانها أن تحصل على السيولة النقدية بطريق المُرابحة، أو بطريق التَّورق، لكنها قِلة الاهتمام بهذا الأمر أصلًا، يعني: الجانب الشرعي لا يوجد عندهم، فهذا -في الحقيقة- مما يُؤْسَف له.

لكن -ولله الحمد حتى نُبرز الجانب المُشرق- وُجد في الآونة الأخيرة اهتمامٌ من بعض أصحاب مجالس إدارات الشركات ووعيٌ أيضًا؛ ولذلك نجد أن معظم الشركات التي طُرحت للاكتتاب في العامين الأخيرين لها عنايةٌ بألا تتورط بالربا، ولها عنايةٌ بسلامة نشرة الإصدار وواقع الشركة من التعاملات الربوية.

أقول: الشركات التي تتعامل بالربا هي -في الحقيقة- عندها جرأةٌ على هذا الأمر، لكن في المُقابل وُجدتْ شركاتٌ أصحاب مجالس الإدارات عندهم حرصٌ، وعندهم اهتمامٌ بالجوانب الشرعية.

وهذا -كما ذكرتُ- في السنتين الأخيرتين، حيث نجد أن معظم الشركات التي طُرحت للاكتتاب خلتْ قوائمها المالية من التعاملات المُحرمة.

أدلة الفريقين: القائلين بالجواز والقائلين بالمنع

نريد أولًا أن نذكر وجهة مَن أجاز، ووجهة مَن منع.

أولًا: قلنا: إن الجواز عند كثيرٍ من أصحاب القول الأول مُقيدٌ بالحاجة؛ ولذلك ينبغي أن يُراجعوا هذا القول بعدما انتفت الحاجة الآن.

كذلك استدلوا ببعض القواعد التي ذكرها الفقهاء، مثل: قاعدة: إذا اختلط المال الحلال بالمال الحرام، وكان الحرام مُحرمًا لكسبه؛ لم يحرم الجميع.

وقاعدة: يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا.

وقاعدة: للأكثر حكم الكل.

هذه القواعد تدل على أن المُعول عليه عند اختلاط الحلال بالحرام أن الحكم للأكثر.

وقالوا: هذا النوع من الشركات نسبة الحرام فيه قليلةٌ مُقارنةً بالحلال، فيكون الحكم للأكثر.

قالوا: والدليل على هذا: أن النبي كان يتعامل مع اليهود وهم أكَّالون للسُّحْت؛ لكون مالهم الحلال قد اختلط بالمال الحرام.

وهذا الدليل -في الحقيقة- هو استدلالٌ بقواعد صحيحةٍ، لكن هذه القواعد لا تنطبق على مسألتنا هذه، لماذا؟

لأن هذه القواعد إنما تنطبق على اختلاط المال الحلال بالمال الحرام، بينما الشركات المُساهمة تتضمن مالًا وعملًا؛ فالمساهم في الشركة تُنْسَب له جميع أعمال الشركة، يعني: لو أن شركةً من الشركات الموجودة الآن تتعامل بالربا، فالتعامل بالربا يُنْسَب لمَن؟

لمُلاك الشركة، مَن هم مُلاك الشركة؟

المساهمون، فإذا كنت مُساهمًا فأنت واحدٌ منهم، فيُنْسَب لك الربا، لكن بالوكالة، يُنْسَب لك الربا بالوكالة، فأنت تعاملتَ بالربا بالوكالة.

فهناك فرقٌ كبيرٌ بين مسألة اختلاط الحلال بالحرام، وهذه المسألة.

هذه الآن: أن تُوكل مَن يعمل نيابةً عنك، فلا تأتِ مسألة اختلاط المال الحلال بالمال الحرام.

اختلاط المال الحلال بالمال الحرام: هذا إنسانٌ له أعمالٌ حلالٌ وأعمالٌ حرامٌ، يعني: له تعاملاتٌ ربويةٌ، لكن يبيع ويشتري، فهذا يجوز أن تتعامل معه: يجوز أن تقبل هديته، ويجوز أن تبيع وتشتري منه، وتُجيب دعوته، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع اليهود.

أما بالنسبة للشركات المساهمة فليست المسألة مسألة اختلاط مالٍ حلالٍ بمالٍ حرامٍ، المسألة مسألة أنك تُوكل مَن يقوم عنك بأعمال الشركة، فهذا العمل إذا كان ربًا فأنت قد تعاملتَ بالربا لكن بالوكالة، وهذا هو الإشكال الكبير في الشركات المختلطة.

أيضًا من وجهتهم أنهم قالوا: إن هذه الشركات المساهمة تقوم بأعمالٍ كبيرةٍ، وتُشكل عنصرًا اقتصاديًّا مهمًّا في حياتنا المعاصرة، فلا غِنَى للأمة عنها، والقول بتحريم الدخول فيها يؤثر على مصالح الناس.

وهذا -في الحقيقة- تأثرٌ بالواقع، ولا ينبغي -يا إخوان- أن نُخضع الشريعة للواقع، بل يجب أن نُخضع الواقع للشريعة، والتَّبرير بضغط الواقع هذا خطأٌ منهجيٌّ كبيرٌ، فلا نتأثر بالواقع، ودين الله ​​​​​​​ ثابتٌ وباقٍ، ولا يتأثر بواقع الناس، فإذا كان واقع الناس خطأً يجب أن نُصحح الواقع، أما أن نلوي أعناق الشريعة لكي تتكيف مع الواقع فهذا منهجٌ غير سديدٍ ومنهجٌ خاطئٌ.

فنجد أن معظم أصحاب هذا القول تأثروا بضغط الواقع، وقالوا: كيف نحرم الأمة من هذه الشركات؟

نقول: هذه الشركات يجب عليها أن تترك الربا، ولماذا تتعامل هذه الشركات بالربا؟!

ثم أيضًا لو قيل بأهميتها في الاقتصاد المعاصر هل يجب أن تتعين طريقةً للكسب؟

توجد طرقٌ أخرى.

ثم أيضًا لا يُقطع بارتفاع الحاجة عند ارتكاب هذا المحظور، فقد يُساهم الإنسان في شركةٍ مشبوهةٍ فيخسر، ومن شروط استباحة المحظور عند الفقهاء: أن يُقطع بارتفاع الضَّرر عنهم.

ثم أيضًا الربا مُحرمٌ: قليله وكثيره، ولا يمكن أن يُبرر أخذ الربا بحاجة الناس.

فلو قال أحد الناس: أنا والله إنسانٌ مُضطرٌّ؛ أريد أن أقترض قرضًا ربويًّا، هل يجوز؟

لا يجوز، ولو كان مُضطرًّا.

نقول: كُلْ من الميتة، ولا تأخذ من الربا، فالربا أمره عظيمٌ جدًّا.

وكما ذكرنا في الدرس السابق قصة الإمام مالك رحمه الله لما أتاه رجلٌ يستفتيه، وقال: إني رأيتُ البارحة رجلًا سكرانًا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر. فكان يقفز من شدة سُكره، يقفز ثم يسقط، فتأثر مَن رآه بهذا الموقف، وحلف بالطلاق قائلًا: امرأته طالقٌ إن كان يدخل جوف ابن آدم شيءٌ أخبث أو أشرُّ من الخمر.

فذهب للإمام مالك يستفتيه: هل تُطلق امرأته أم لا؟

والإمام مالك استعظم هذا السؤال وقال: “ائتِ في الغد”، فأتاه في الغد، فقال: “ائتِ في الغد”، فأتاه في الغد، فلما أتاه في اليوم الثالث قال: “امرأتك طالقٌ؛ إني تأملتُ كتاب الله فلم أرَ شيئًا يدخل جوف ابن آدم أعظم ولا أخبث من الربا”.

فيقول: امرأتك طالقٌ؛ لأنه حلف بالطلاق أنه لا يوجد شيءٌ أخبث من الخمر، قال الإمام مالك: لا، هناك شيءٌ أخبث من الخمر، وهو الربا، فالربا قليله وكثيره مُحرمٌ، وشددتْ فيه الشريعة، وسدَّتْ جميع الذرائع المُوصلة إليه، ولو من وجهٍ بعيدٍ.

لعلنا إذن نختم هذا الدرس فنقول: إن أصحاب القول الأول بنوا استدلالهم على هذين الأمرين:

  1. مسألة القواعد؛ الاستدلال ببعض القواعد التي ذكرها الفقهاء، والتي قلنا: إنها قواعد صحيحةٌ، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة.
  2. والأمر الثاني: التَّبرير بضغط الواقع.

مَن قال بالجواز فعمدة استدلالهم هو ما ذكرنا من أن المُساهم يمتلك جزءًا من هذه الشركة، وأن السهم هو حصةٌ في رأس مال الشركة، فالمساهم -في الحقيقة- عندما تكون الشركة مختلطةً يكون قد تعامل بالربا، أو بالتعامل المُحرم، لكن بطريق الوكالة، فيكون قد مارس التعامل المُحرم بطريق الوكالة.

هذا هو مأخذ القول بالتحريم، وهذا هو الذي بنى عليه أصحاب هذا القول المأخذ لقولهم بتحريم الدخول في الشركات المُختلطة.

وهذا هو القول الراجح، وهو الإقرار الذي أقرته المجامع الفقهية، والذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، يعني: أنقل عبارة المجمع الفقهي:

جاء في قرار المجمع الفقهي بالرابطة: “والتحريم في ذلك واضحٌ؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة بتحريم الربا؛ لأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المُشتري بذلك يعني: اشتراك المُشتري نفسه في التعامل بالربا؛ لأن السهم يُمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصةً شائعةً في موجودات الشركة، فكل مالٍ تُقرضه الشركة بفائدةٍ أو تقترضه بفائدةٍ فللمساهم نصيبٌ منه؛ لأن الذين يُباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابةً عنه، والتوكيل بعمل المُحرم لا يجوز”.

فبناءً على ذلك نقول: مَن يدخل في عالم الأسهم يجب عليه أن يجتنب الدخول في أسهم الشركات المُختلطة، وأن يقتصر على أسهم الشركات التي خلتْ قوائمها المالية من التعاملات المُحرمة.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1598.
مواد ذات صلة