الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1433هـ)/(1) فقه المعاملات المالية المعاصرة- عناية الفقهاء بفقه المعاملات
|categories

(1) فقه المعاملات المالية المعاصرة- عناية الفقهاء بفقه المعاملات

مشاهدة من الموقع

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ۝لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فمع بداية الدرس الأول لهذه السلسلة من الدروس لفقه المعاملات المالية المعاصرة، أسأل الله ​​​​​​​ أن يُبارك فيه، وأن ينفع به.

أهمية تدريس فقه القضايا المعاصرة

أيها الإخوة، هذا الدرس في فقه المعاملات المالية المعاصرة، وقد رغب الإخوة أن يكون في هذا الفقه؛ وذلك لأن طالب العلم كما أنه ينبغي له أن يُركز على ما دوَّنه الفقهاء السابقون في كتبهم، وأن يُعْنَى بالتأصيل، فهو كذلك مطلوبٌ منه أن يُعْنَى بالفقه المعاصر.

فلا يحسن بطالب العلم ألا تكون عنده حصيلةٌ في الفقه المعاصر، فإن هذا الفقه له ارتباطٌ وثيقٌ بالحياة العملية، وكثيرًا ما تأتي الأسئلة والاستفتاءات عن مسائل متعلقةٍ بهذا النوع من الفقه، وهناك مسائل استجدتْ في الوقت الحاضر وقضايا، فينبغي أن يكون المسلم على معرفةٍ وعلمٍ بالحكم الشرعي فيها؛ حتى يكون على بصيرةٍ من أمره.

أيها الإخوة، نجد أن من الناس مَن يُركز في طلبه للعلم على ما دوَّنه الفقهاء السابقون، ولا تكون له عنايةٌ بالفقه المعاصر، سواءٌ فقه النوازل، أو فقه المعاملات المالية المعاصرة، أو غير ذلك من أنواع الفقه المعاصر.

وعلى العكس من ذلك نجد مَن يُعْنَى بهذا الفقه، لكن ليست له عنايةٌ بالتأصيل، ولا بالاطلاع على ما كتبه وما دوَّنه العلماء السابقون.

وكلا المنهجين ليس بصوابٍ، والصواب في ذلك هو الاعتدال في المنهج؛ فتكون لطالب العلم عنايةٌ بالتأصيل، وعنايةٌ بالاطلاع على ما دوَّنه فقهاؤنا، وتكون له كذلك عنايةٌ بالفقه المعاصر.

ولعلي في هذا الدرس باعتباره الدرس الأول في هذه السلسلة من الدروس، والذي -كما أُعلن- سيكون في آخر ثلاثاء من كل شهرٍ هجريٍّ، إن شاء الله تعالى.

أقول: لعلي في هذا الدرس أبدأ بمدخلٍ لدراسة المعاملات المالية المعاصرة، وأذكر في هذا المدخل جملةً من التقعيدات والتأصيل الذي لا بد منه قبل أن ندخل في التفاصيل للمعاملات المالية المعاصرة.

سنستعرض -إن شاء الله تعالى- في هذه السلسلة من الدروس جُلَّ ما يُحتاج إليه من المعاملات المالية المعاصرة، فسنتكلم -إن شاء الله- عن الأسهم، والسندات، والصناديق الاستثمارية، والأوراق التجارية، والأوراق النقدية، وبطاقات الائتمان، والتأمين بجميع أنواعه، والتأجير المُنتهي بالتمليك، وبطاقات التخفيض، إلى غير ذلك من المعاملات المالية المعاصرة.

لكن هذا الدرس الأول سأجعله في التأصيل والمدخل لهذه المسائل ولهذه المعاملات.

أقول -أيها الإخوة-: إن العالم اليوم يشهد تطورًا ماديًّا وفكريًّا سريعًا شمل معظم جوانب الحياة، وكان لعالم الاقتصاد وعالم التجارة مجالٌ رحبٌ وواسعٌ وفسيحٌ في هذا التطور.

وكان من نتاج ذلك ابتكار صيغٍ وأدواتٍ وأساليب في المعاملات والعقود لم تكن معروفةً من قبل، ومن المقرر عند أهل العلم: أنه ما من قضيةٍ تقع إلا ولله ​​​​​​​ فيها حكمٌ، علمه مَن علمه، وجهله مَن جهله.

لا يخلو زمانٌ من قائلٍ بالحق، فلا بد أن يكون أحد العلماء قد أصاب الحق، والدليل لهذا هو قول النبي : لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة [1].

وهذه الأمة معصومةٌ من الإجماع على ضلالةٍ، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالةٍ، فلا بد في الأمة إذن من عالمٍ يُوافق قولُه الحقَّ، والعلماء مجتهدون، فمَن اجتهد وأصاب فله أجران، ومَن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحدٌ.

فهذه المعاملات المعاصرة وهذه القضايا والنوازل والمُستجدات لله ​​​​​​​ فيها حكمٌ قد يُوفق له المجتهد، وقد لا يُوفق، لكن لا بد من قائلٍ بالحق، فلا يمكن أن يخفى الحقُّ على جميع علماء الأمة.

شمول الشريعة لجميع القضايا في كل زمانٍ

هذه الشريعة العظيمة -شريعة الإسلام- على مدار القرون الماضية قد استوعبت جميع النوازل والقضايا والحوادث منذ فجر الإسلام إلى وقتنا هذا، مع أن الأمة الإسلامية قد عايشت تياراتٍ وبيئاتٍ مختلفةً وصراعاتٍ، ومرَّتْ عليها أطوارٌ من الرخاء والشدة، والقوة والضعف، ولاقت مختلف العادات والتقاليد، ومع ذلك لم تعجز شريعة الإسلام عن بيان حكم واقعةٍ، ولم تقصر عن بيان ما يحتاج إليه الناس، ولم نجد في يومٍ من الأيام أن علماء الشريعة عجزوا عن بيان الحكم الشرعي في واقعةٍ من الوقائع، أو في نازلةٍ من النوازل.

والنبي قد بيَّن للأمة جميع ما تحتاج إليه، ولم يَمُتْ عليه الصلاة والسلام إلا وقد أكمل الله تعالى به الدين، وأتمَّ به النعمة، كما قال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3].

جاء في “صحيح مسلم” عن سلمان : أن يهوديًّا قال له: علمكم نبيكم كل شيءٍ حتى الخِرَاءة. يعني: حتى آداب قضاء الحاجة، قال: “أجل، لقد نهانا … أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجارٍ … ” إلى آخر الحديث [2].

فهنا هذا اليهودي قد تعجب، يقول: علمكم نبيكم كل شيءٍ حتى هذا الأمر؛ ولهذا نجد في كتب الفقه: باب آداب قضاء الحاجة، وباب السواك، وباب الاستنجاء والاستجمار، وهذا لا نظير له -أيها الإخوة- في أي دينٍ آخر، وفي أي شريعةٍ أخرى، حتى دقائق الأمور نجد أن هذه الشريعة قد عنيت بها وبيَّنتها؛ ولهذا يقول أبو ذرٍّ : “ما تُوفي رسول الله وطائرٌ يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علمًا”.

حاجة الناس إلى التَّفقه في القضايا المعاصرة

أيها الإخوة، المسلم بحاجةٍ إلى التَّفقه في الدين، ولكن مَن يتعامل بالتجارة والبيع والشراء ونحو ذلك يتأكد في حقه أن يتفقه في المعاملات، وأكثر الناس إن لم نقل جميع الناس اليوم يحتاجون إلى كثيرٍ من هذه المعاملات المعاصرة.

فعلى سبيل المثال: بطاقات الصراف الآلي، جُلُّ أو جميع الناس يحملون هذه البطاقات، فما الأحكام الشرعية المتعلقة بها؟

بطاقات (الفيزا)، وبطاقات الائتمان عمومًا، والمعاملات المتعلقة بالمصارف، وما يُسميه بعض الناس: قرضًا، وهو بيع التَّورق، أو بيع المُرابحة، أو نحو ذلك، فهذه يحتاج إليها كثيرٌ من الناس.

فلا بد إذن من العناية بهذه المسائل، ويتأكد هذا في حق المُتعاملين بالتجارة؛ ولهذا رُوي عن عمر بن الخطاب : أنه كان يختبر مَن يبيع في الأسواق -في أسواق المسلمين- ويسألهم عن بعض مسائل الحلال والحرام، فإن أجاب وإلا قال: “قم، لا تقعد في أسواق المسلمين تأكل الربا وتُؤكله الناس”، وفي روايةٍ قال: “لا يقعد في سوق المسلمين مَن لا يعرف الحلال والحرام”.

وإنه لمن الخطورة البالغة أن الإنسان يدخل في عالم التجارة وليس عنده الحد الأدنى من الثقافة، أو العلم الشرعي على الأقل في المسائل التي يُمارسها ويتعامل بها، يقول الرهوني في كتابه “أوضح المسالك” عن أحد شيوخه: “إنه أدرك المُحْتَسب يمشي في الأسواق”، المُحْتَسب مثل عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقتنا الحاضر، “يمشي في الأسواق، ويقف على كل دكانٍ فيسأل صاحبه عن الأحكام التي تلزمه في بيعه، ومن أين يدخل عليه الربا؟ وكيف يحترز منه؟ فإن أجابه أبقاه في الدكان، وإن جهل شيئًا من ذلك أقامه منه، وقال: لا تقعد في أسواق المسلمين تُطعم الناس الربا وما لا يجوز”.

ولهذا ينبغي أن يكون لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إسهامٌ في هذا الجانب، ينبغي أن يكون لهم تواجدٌ في أسواق المسلمين عمومًا، ليس فقط الأسواق التي تكون فيها النساء مع الرجال، وإنما في أسواق البيع والشراء، وأسواق التمور، وأسواق الخضار، وأسواق الذهب، ونحو ذلك، فينبغي أن يكون المُحْتَسب مُتواجدًا في هذه الأسواق، وأن يحتسب على البائعين وعلى المُشترين؛ حتى لا يقعوا في المُحرم.

دخول المسلم في التجارة من غير معرفةٍ بأحكام الحلال والحرام ومسائل الربا هذا فيه خطورةٌ عظيمةٌ على المسلم، يقول النبي وقد خرج ذات يومٍ فرأى الناس يتبايعون: يا معشر التجار، فاستجابوا له ورفعوا أعناقهم إليه، قال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجَّارًا إلا مَن اتَّقى وبَرَّ وصدق [3] أخرجه الترمذي وغيره، وهو حديثٌ صحيحٌ، وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: إن التجار هم الفُجَّار، قالوا: يا رسول الله، أليس الله قد أحلَّ البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويُحدِّثون فيكذبون [4].

وفي المقابل التاجر الصادق يقول فيه عليه الصلاة والسلام -كما عند ابن ماجه وغيره-: التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة [5].

وجاء في حديث قيس بن أبي غرزة قال: كنا -يعني: التجار- في عهد رسول الله نُسمَّى: السماسرة، فمرَّ بنا يومًا في المدينة فسمَّانا باسمٍ هو أحسن منه فقال: يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والكذب، فشُوبوا بيعكم بالصدقة [6]، وفي روايةٍ: إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة [7].

فوائد الإكثار من الصدقات

إذن مَن يتعامل بالتجارة -مَن يتعامل بالبيع والشراء- عليه أن يتفقه في هذه المسائل، وعليه مع ذلك أن يتصدق بشيءٍ مما يجنيه من أرباحٍ؛ لأنه مهما كان عليه الإنسان من التحري والورع قد يدخل عليه ما يدخل من بعض الأمور المُشتبهة، وجبرًا لذلك أرشد النبي إلى الصدقة: فشُوبوا بيعكم بالصدقة.

على سبيل المثال: مَن يتعامل بالأسهم -أسهم الشركات- حتى وإن كانت الشركات التي خلتْ قوائمها المالية من الربا، فليس هناك في الواقع شركةٌ نستطيع أن نقول: إنها نقيةٌ 100%؛ لأنها لا بد أن تتعامل مع شركاتٍ أخرى، ولا بد أن تتعامل مع بنوكٍ، حتى وإن خلتْ قوائمها المالية من الربا إلا أنها ربما تمتلك أسهمًا في شركاتٍ أخرى تتعامل بالربا؛ ولهذا فإن مَن يتعامل -مثلًا- في تجارة الأسهم، وفي بيع وشراء الأسهم ننصحه بأن يشوب ماله بالصدقة -أن يتصدق بشيءٍ من الربح-؛ جبرًا لما قد يحصل من الخلل ومن الشُّبهة في ذلك التعامل، وحتى مَن يتعامل بغير ذلك، يعني: هذا ضربتُه على سبيل المثال.

فينبغي للتاجر أن يُرتب بابًا للصدقة غير الزكاة، فيتصدق من حينٍ لآخر من الأرباح التي يحصل عليها، فهذا -أولًا- فيه جبرٌ للخلل الذي قد يقع، والأمور المُشتبهة التي قد يتعامل بها، وفيه كذلك بركةٌ لماله، فإن الصدقة شأنها عظيمٌ، والله ​​​​​​​ يقول: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].

رجلٌ من الناس كان كلما ربح في الأسهم تصدق لله بصدقةٍ من هذا الربح، ويقول الذي حكى القصة: وفَّقه الله ​​​​​​​ قبل أن يحصل نزول الأسهم إلى أن يبيع جميع الأسهم التي له، فلما حصل ذلك النزول للأسهم إذا هو قد سلم من الخسارة، وربما يكون السبب في ذلك هذه الصدقة التي يتصدق بها.

فالصدقة تدفع البلاء، والصدقة تُقرب إلى الله ​​​​​​​، والصدقة شأنها عظيمٌ؛ ولهذا رُوي عن أحد السلف أنه لا يمر عليه يومٌ إلا تصدق فيه لله بصدقةٍ، وذات يومٍ لم يجد ما يتصدق به، بحث فلم يجد شيئًا، فوجد بصلًا، فحمل هذا البصل يريد أن يتصدق به، فلقيه أحد الناس فقال: “رحمك الله! لم يُكلفك الله بهذا”، يعني: الصدقة تطوعٌ وليست واجبةً، فقال: “إني أردتُ ألا يمرَّ عليَّ يومٌ إلا تصدقتُ فيه لله بصدقةٍ؛ إنه بلغني عن رسول الله أنه قال: كل امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُفْصَل بين الناس[8].

فينبغي إذن للمسلم أن يُكثر من الصدقة، خاصةً مَن يتعامل بالبيع والشراء -مَن يتعامل بالتجارة-، فالصدقة كما أنها عطفٌ على الفقير والمسكين، فهي كذلك تطهيرٌ للنفس البشرية من الشُّحِّ والبخل، والإنسان مجبولٌ على حب المال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، ومن علاج هذا الشُّح والبخل: الصدقة؛ ولهذا أوجب الله ​​​​​​​ الزكاة في حقِّ مَن ملك نِصابًا، وتحققتْ فيه شروط وجوب الزكاة، يجب عليه أن يُخرج الزكاة إذا تحققت فيها الشروط.

فهذه الزكاة ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ من فرائض الدين، ومن أبرز أحكامها: تطهير النفس البشرية من الشُّح، ومن البُخل.

هذا إذن أمرٌ -أيها الإخوة- نُؤكد عليه، وهي وصيةٌ لكل مسلمٍ، لكنها تتأكد في حقِّ مَن يتعامل بالتجارة، مَن يتعامل بالبيع والشراء، فيتأكد في حقِّه الإكثار من الصدقة.

عناية الفقهاء بفقه المعاملات

أيها الإخوة، فقهاؤنا عنوا عنايةً كبيرةً بما يحتاج إليه المسلمون عمومًا، ولهم عنايةٌ خاصةٌ بأبواب المعاملات، فقد أصَّلوا هذه الأبواب، وذكروا لها قواعد جامعةً، وضوابط نافعةً، يستطيع طالب العلم الانطلاق من هذه القواعد، وهذه الضوابط، بل إن فقهاءنا السابقين رحمهم الله تعالى قد ذكروا معاملاتٍ لم تقع، ذكروا معاملاتٍ افتراضيةً، بل ذكروا مسائل افتراضيةً ليست خاصةً بأبواب المعاملات، ومن أهدافهم في ذلك الذكر: أنها إذا وقعتْ يكون طالب العلم على معرفةٍ وإلمامٍ بها.

ويوجد عندنا في قسم الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مشروع سلسلةٍ من الرسائل العلمية: (ماجستير) و(دكتوراه) في المسائل الافتراضية التي افترضها الفقهاء السابقون، ووقعتْ في وقتنا الحاضر، وأنا أُشرف على بعض هذه الرسائل العلمية.

فهذا يُبين لنا عناية فقهائنا السابقين بمثل هذه المسائل، يعني: ذكروا ما يحتاج إليه الناس في مجتمعهم، وذكروا مسائل مُفترضةً ربما تقع في المستقبل، وقد وقع كثيرٌ مما افترضوه.

ومما يدل على عناية الفقهاء السابقين بأبواب المعاملات: أنك لا تكاد تجد كتاب فقهٍ إلا وفيه أبوابٌ للمعاملات، ليس بابًا، بل أبوابٌ مُخصصةٌ للمعاملات في جميع المذاهب الفقهية، بل إن أبواب المعاملات ربما تأخذ من بعض الكتب الفقهية الربع أو أكثر؛ وذلك لأهميتها، ولحاجة الناس إليها.

قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “أصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره”، يعني: أجود المذاهب الأربعة في الجملة هو مذهب المالكية، والإمام أحمد يوافق الإمام مالك في كثيرٍ من أصوله، فمذهبا المالكية والحنابلة من أجود المذاهب في المعاملات المالية، وفي المعاملات عمومًا.

قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “أصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يُقال: هو أفقه الناس في البيوع، كما كان يُقال: عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم -النخعي- أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم لذلك كله.

ارتباط الاقتصاد العالمي بعضه ببعضٍ

أيها الإخوة، المعاملات المالية أصبح التعامل بها مُنتشرًا في كثيرٍ من أقطار الأرض، والعالم كما ترون أصبح -كما يُقال- كالقرية الصغيرة، وارتبط بعضه ببعضٍ؛ ولذلك ما إن يقع خبرٌ في أي مكانٍ إلا وينتشر بسرعةٍ.

وقد جاء في “صحيح البخاري”: أن النبي قال: لا تقوم الساعة حتى … يتقارب الزمان [9]، وفسر بعض أهل العلم تقارب الزمان بمثل هذا الذي وقع في وقتنا الحاضر من هذه الثورة العظيمة في عالم الاتصالات والمواصلات، فتقارب الناس، وأصبح الخبر الذي يكون في أقصى الشرق يسمع به وربما يُشاهده عن طريق (التلفزة) مَن في الغرب، والخبر الذي يقع في أقصى الشمال يُشاهده وربما يسمع به مَن في أقصى الجنوب، فأصبح العالم كالقرية الصغيرة.

ومع هذا الترابط بين العالم بعضه ببعضٍ نشأ ما يُسمى بالاقتصاد العالمي؛ ولهذا يستطيع الإنسان أن يُحول أي مبلغٍ لأي دولةٍ في العالم بسبب هذا الترابط بين دول العالم، وارتباط الاقتصاد بعضه ببعضٍ، وهذا الاقتصاد العالمي قد ارتبطت به المصارف والبنوك، ومن هنا تقع الإشكالية الكبيرة -والتي ربما بسببها حُرِّمتْ بعض التعاملات المصرفية- وهي: أن نظرة هذا المُسمى بالاقتصاد العالمي -وهو الذي قد ارتبطت به البنوك- نظرته لبعض العقود المالية تختلف اختلافًا جذريًّا عن نظرة الإسلام لهذه العقود.

الفرق بين القرض الحسن والقرض بفائدةٍ

ولهذا لا تعجب إذا رأيت بعض العلماء يُفتي بتحريم كثيرٍ من المعاملات البنكية، مع أن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، وذلك بسبب أن هذه البنوك تختلف في نظرتها لبعض العقود عن نظرة الشريعة الإسلامية لهذه العقود.

وبالمثال يتضح المقال، فعلى سبيل المثال: القرض الذي هو السلف، وليس القرض الذي يقصده بعض الناس عندما يقول: أخذتُ من البنك قرضًا. وهو يقصد أنه اشترى سلعةً، وليس هذا هو المقصود بالقرض، وينبغي أن تُسمى الأمور بأسمائها، فهذا ليس قرضًا، هذا إما مُرابحة، أو تورق، والقرض هو السلف، ووردت تسميته بالسلف في بعض الأحاديث؛ كما في قول النبي : لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ [10]، فالمقصود بالسلف هنا: القرض، ولا يزال القرض يُسمى: سلفًا عند الناس، يعني: في الوقت الحاضر.

ويُعرف الفقهاء القرض بأنه: دفع مالٍ لمَن ينتفع به ويردُّ بدله.

هذا هو تعريف القرض: دفع مالٍ لمَن ينتفع به ويردُّ بدله.

هذا القرض الذي هو السلف، ونظرة الإسلام للقرض تختلف اختلافًا جذريًّا عن نظرة البنوك للقرض؛ فالإسلام ينظر للقرض على أنه من عقود الإرفاق والإحسان؛ ولهذا فإن صورة القرض في الأصل هي صورةٌ ربويةٌ، فعندما تُقرض أو تُسلف شخصًا عشرة آلاف ريال، يردها لك بعد شهرٍ أو شهرين أو سنةٍ عشرة آلاف ريال، فهنا لم يتحقق التَّقابض بين العشرة آلاف ريال والعشرة آلاف ريال الأخرى، فصورتها هي صورةٌ ربويةٌ، لكن الشريعة الإسلامية استثنتْ هذه الصورة وأجازتها؛ تشجيعًا للناس على الإرفاق والتعاون والإحسان فيما بينهم، فإذا أصبح هذا القرض لا يُراد به الإرفاق والإحسان، وإنما يُراد به الربحية والمُعاوضة؛ رجع القرض لصورته في الأصل، وهي الصورة الربوية.

وهذا معنى قول الفقهاء: “كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا”، لماذا كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا؟

لأن صورة القرض في الأصل صورةٌ ربويةٌ، لكنها إنما جازت إذا كانت مبنيةً على الإرفاق والإحسان، فإن أصبح لا يُراد به الإرفاق والإحسان، وإنما يُراد به المُعاوضة، ويُراد به الربحية؛ رجع القرض لصورته في الأصل، وهي الصورة الربوية.

فانتبه لهذه الفائدة التي لا تجدها في كتابٍ، فهذا هو السبب في قول الفقهاء: “كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا”.

إذن إذا كان القرض مبنيًّا على الإرفاق والإحسان فهو جائزٌ، وإذا كان يُقصد به المُعاوضة والربحية فهو غير جائزٍ.

طيب، البنوك هل تريد بالقرض: الإرفاق والإحسان؟

لا تريد به الإرفاق والإحسان، البنوك ما أُنشئت إلا لتربح.

إذن ليس من خلق البنوك الإقراض الذي هو السلف، ولا أعني به: المُرابحة أو التَّورق، ليس هذا من خلق البنوك.

وبناءً على ذلك فالبنك لا يمكن أن يُقرض قرضًا لوجه الله تعالى، البنك إنما يُقرض لأجل أن يربح، لأجل أن يستفيد، ومن هنا تحصل هذه الإشكالية الكبيرة.

ولهذا أنا أعجب من بعض البنوك التي تُعطي الناس بطاقاتٍ، وتقول: إنه قرضٌ حسنٌ! كيف يكون قرضًا حسنًا؟!

القرض الحسن ليس بخلقٍ للبنوك أصلًا، فكيف يكون قرضًا حسنًا؟!

لكنهم وضعوا عمولةً ورسومًا هي فائدةٌ ربويةٌ، لكنهم غطُّوها باسم أن هذه رسومٌ إداريةٌ، وسموا هذا القرض الربوي: قرضًا حسنًا، وهذا من تسمية الأمور بغير أسمائها، وسنتعرض -إن شاء الله تعالى- في هذه السلسلة من الدروس لشيءٍ من ذلك.

الضمانات البنكية

مثالٌ آخر: الضمان:

الضمان في الشريعة الإسلامية من عقود الإرفاق والإحسان، فهو كالقرض، ولا يجوز أن يُراد به الربحية والمُعاوضة، وعلى هذا اتَّفقت المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

الآن الضمانات البنكية مُنتشرةٌ في البنوك، ولا يكاد يوجد بنكٌ إلا وعنده تعاملٌ بضماناتٍ بنكيةٍ، بل المشاريع الكبيرة يُشترط لمَن يدخل فيها أن يأتي بضمانٍ بنكيٍّ، وهنا ترد هذه الإشكالية الكبيرة، فكيف نحلّ هذه الإشكالية؟

إن أخذ البنك عمولةً على الضمان نفسه لم يجز هذا؛ لأن الضمان من عقود الإرفاق، ولا يجوز أخذ عِوضٍ عليه، لكن بعض البنوك الإسلامية تأخذ عمولةً على الأتعاب الإدارية، وهذا لا بأس به، لكن يجب أن تكون تلك العمولة التي تأخذها مقابل الأتعاب الإدارية والمصاريف الفعلية الحقيقية، ولا يجوز أن تزيد على ذلك.

وهنا يأتي دور الهيئات الشرعية للبنوك، ودورها الرقابي على البنوك، وهذه -إن شاء الله- أيضًا سنتعرض لها.

الآن معظم البنوك تأخذ عمولةً على الضمان البنكي، فترد هذه الإشكالية، فإذا قلتَ للبنك: كيف تأخذ العمولة على الضمان البنكي؟

يقول: وكيف أضمنه أيضًا مجانًا؟

فالسبب في هذه الإشكالية: أن نظرة الشريعة الإسلامية للضمان تختلف عن نظرة البنوك للضمان.

فلاحظوا يا إخوان هذه القواعد وهذه الأصول، فهذا الاختلاف الجذري في النظرة هو السبب في هذه الإشكاليات، فانتبهوا لهذه المسائل.

لكن أيضًا إذا حرَّمنا على الناس شيئًا فلا بد أن نذكر البدائل، فعلى سبيل المثال: في القرض نقول: البديل أن البنك لا يتعامل بالقرض الذي هو السلف؛ لأن البنك لا يمكن أن يُقرض لوجه الله، لكن يتعامل بالبيع والشراء، بالمُرابحة، بالتَّورق.

وفي البديل للضمان نقول: لا بأس أن يُقدم البنك ضماناتٍ بنكيةً، لكن يأخذ مُقابلها المصاريف الفعلية الحقيقية ولا يزيد، ولا يأخذ على الضمان نفسه.

الأصول المهمة في أبواب المعاملات

ننتقل بعد ذلك إلى بعض الأصول المهمة في أبواب المعاملات.

عندما تُذكر الأصول يأتي الأصل العظيم في أبواب المعاملات وهو: أن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة إلا ما ورد الدليل بتحريمه، فالأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، عكس العبادات، فالأصل في العبادات الحظر والمنع إلا ما ورد الدليل بمشروعيته، أما المعاملات فالأصل فيها الحِلُّ والإباحة إلا ما ورد الدليل بمنعه.

ولهذا لو اختلف اثنان في معاملةٍ من المعاملات، أحدهما يقول: إنها حلالٌ. والآخر يقول: إنها حرامٌ. فمَن الذي يُطالب بالدليل؟

الجواب: الذي يقول: إنها حرامٌ، أما الذي يقول: إنها حلالٌ، فمعه الأصل.

طيب، في العبادات لو اختلف اثنان، أحدهما يقول: هذه العبادة مشروعةٌ، والآخر يقول: إنها غير مشروعةٍ، فمَن الذي يُطالب بالدليل؟

الذي يقول: إنها مشروعةٌ؛ لأن الأصل عدم المشروعية، فالأصل الحظر والمنع: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

هذا الأصل نرجع إليه في كثيرٍ من تقرير الأحكام الشرعية في أبواب المعاملات، فنقول: الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، فننظر: هل هذه المعاملة تضمنت أمرًا مُحرمًا؛ تضمنت ربًا، تضمنت ميسرًا، تضمنت غَرَرًا؟ فنمنعها، وإلا فنبقى على الأصل وهو: أن الأصل الحِلُّ والإباحة.

ولكن ينبغي أن يُقرن أيضًا بهذا الأصل أمرٌ آخر وهو: أن مع كون الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة إلا أن الشريعة الإسلامية قد شددتْ في شأن الربا تشديدًا عظيمًا، وسدَّت الذرائع المُوصلة إليه ولو من وجهٍ بعيدٍ؛ ولهذا يقول الله ​​​​​​​: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، ويقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، فتوعد الله ​​​​​​​ آكل الربا بالحرب من الله ورسوله .

ولهذا يقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “يُقال لآكل الربا يوم القيامة: خُذْ سلاحك للحرب”، من باب التَّبكيت له.

ولعن النبي آكل الربا، ومُوكله، وكاتبه، وشاهديه، واللعن يقتضي الطرد والإبعاد عن رحمة الله.

أيهما أشدُّ: الربا أم الزنا؟

الربا أعظم إثمًا من الزنا، مع أن الزنا من كبائر الذنوب إلا أن الربا أعظم إثمًا من الزنا.

ذكر القرطبي رحمه الله في “الجامع لأحكام القرآن”: أن رجلًا أتى للإمام مالك -الإمام مالك بن أنس- يستفتيه -يسأله- يقول: يا أبا عبدالله، إني رأيتُ رجلًا سكرانًا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر. يعني: من شدة سُكره يقفز عدة مراتٍ، فتأثر هذا الرجل من هذا الموقف: كيف أن الخمر يذهب بعقل صاحبه إلى هذه الدرجة؟ فقال: قلتُ: امرأتي طالقٌ إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر.

فالرجل الآن يستفتي الإمام مالك: هل تُطلق امرأته أم لا؟

فالإمام مالك رحمه الله استعظم هذه المسألة وقال: “ارجع حتى أنظر في مسألتك”، فرجع وأتاه من الغد، فقال: “ارجع حتى أنظر في مسألتك”، فأتاه من الغد، فلما أتاه في اليوم الثالث قال الإمام مالك: “امرأتك طالق؛ إني تصفحتُ كتاب الله وسنة نبيه “، أو قال: “تأملتُ كتاب الله -يعني: ما ورد في كتاب الله- وسنة رسوله ، فلم أرَ شيئًا أشرَّ من الربا؛ لأن الله آذن فيه بالحرب”.

فالربا أمره عظيمٌ، ومن كبائر الذنوب، ومن السبع المُوبقات؛ ولهذا سدَّت الشريعة جميع الذرائع المُوصلة إليه، ولو من وجهٍ بعيدٍ.

جاء في حديث سعد بن أبي وقاص : أن النبي سُئل عن بيع الرُّطَب بالتمر، فقال عليه الصلاة والسلام: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن [11] أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.

يعني: بيع الرُّطَب بالتمر لا يجوز ولو مع التَّقابض، ولو مع التَّماثل في الكيل أو الوزن لا يجوز، يعني: حتى تبيع كيلو جرام تمرٍ بكيلو جرام رُطَبٍ مع التقابض لا يجوز، لماذا؟

لأن هذا الرُّطب سينقص إذا يبس.

فانظر إلى عناية الشريعة بهذا الجانب: شددتْ في شأن الربا، وفي منع جميع الذرائع المُوصلة إليه، ولو حتى من وجهٍ بعيدٍ.

إذن إذا نظرنا إلى قاعدة: أن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، فلا بد أيضًا أن نقرنها بمسألة تشديد الشريعة في شأن الربا، حتى إنها منعتْ بعض التعاملات سدًّا لذريعة الربا.

مثلًا: بيع العينة: أن يبيع السلعة بثمنٍ مُؤجلٍ، ثم يشتريها بأقلّ منه نقدًا، لماذا يحرم بيع العينة؟

لأنه ذريعةٌ للربا.

إذن الشريعة سدَّت الذرائع المُوصلة للربا، وشددتْ في شأن الربا، مع أن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة.

أيها الإخوة، وإن من ثمرة التَّفقه في مسائل المعاملات وأبواب المعاملات: أن المسلم يستطيع أن يحصل على غرضه بطريقٍ مُباحٍ، ومن غير أن يقع في الحرام.

وأذكر لهذا قصةً وقعتْ في عهد النبي ، فقد جاء في الصحيحين: أن النبي أُتي بتمرٍ بَرْنِيٍّ -يعني: تمرًا من النوع الجيد- وقيل له: إن هذا التمر من تمر خيبر. فقال عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله، إنَّا نبيع الصاع من هذا بالصاعين -يعني: بالتمر الرديء الذي يُسمى: جمعًا- والصاعين بالثلاثة.

ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟

قال: أوَّه، عين الربا [12]، لكنه عليه الصلاة والسلام لما حرَّم هذا وبيَّن أن هذا عين الربا، أرشد للبديل والمخرج.

وهكذا إذا حرَّمنا على الناس شيئًا ينبغي ما أمكن أن نذكر لهم البديل المباح، قال: ولكن بِعِ الجمع بالدراهم، واشتَرِ بالدراهم جَنِيبًا [13]، يعني: بِعِ التمر الرديء -الجمع- بالدراهم، وخُذ الدراهم واشتَرِ بها تمرًا جيدًا.

طيب، النتيجة واحدةٌ، أليس كذلك؟

يعني: بيع صاعين بصاعٍ الغرض منه في النهاية هو: أن تحصل على تمرٍ جيدٍ مقابل هذا التمر الرديء، فما الفرق بينه وبين أن تبيع الرديء بدراهم، ثم تشتري بالدراهم تمرًا جيدًا؟

الفرق أن الصورة الأولى حرامٌ، بل عين الربا، والصورة الثانية مباحةٌ، بل أرشد إليها النبي ، وهذا يدل على أن الصورية في المعاملات مُؤثرةٌ.

قد يقول بعض الناس: إن هذا -يعني- صورةٌ أو حيلةٌ، هذا عقدٌ صوريٌّ، وحيلةٌ على التعامل بالربا.

نقول: ليس هذا حيلةً، الصورية في بعض المسائل مُؤثرةٌ.

إذن النتيجة واحدةٌ، لكن الأولى عين الربا، والثانية مخرجٌ شرعيٌّ، وهذه من ثمرات التَّفقه في الدين، ومن ثمرات التَّفقه على وجه الخصوص في أبواب المعاملات: أن الإنسان يستطيع أن يحصل على غرضه بطريقٍ مباحٍ.

وإذا أردنا أن نربط هذا بالواقع المعاصر: مَن أراد أن يحصل على السيولة النقدية، عنده -مثلًا- مشروعٌ تجاريٌّ، أو عنده أي غرضٍ يريد معه الحصول على السيولة النقدية من بنكٍ من البنوك، فلو ذهب واقترض مباشرةً، أخذ -مثلًا- مئة ألفٍ بمئةٍ وعشرة، يعني: نقدًا بنقدٍ مع الزيادة، فهذا هو الربا، وهذا مُحرمٌ بالإجماع.

طيب، ما المخرج؟

المخارج كثيرةٌ، والبدائل كثيرةٌ -ولله الحمد-، فمن المخارج: التَّورق، أو المُرابحة للآمر بالشراء، فيطلب من البنك أن يشتري له سلعةً، بشرط أن البنك يملك السلعة، ويقبض السلعة، ثم يبيعها عليه بثمنٍ مُؤجلٍ، ثم يبيعها هو على طرفٍ ثالثٍ، وبذلك يحصل على ما أراد من السيولة النقدية.

وهذه المسألة سأتعرض لها بالتفصيل -إن شاء الله تعالى- في أحد دروس هذه السلسلة، إن شاء الله تعالى.

فيُمكن أن يحصل على السيولة النقدية بصيغةٍ من الصيغ المباحة المُجازة شرعًا.

لو ذهب وأخذ نقدًا بنقدٍ مع التفاضل وقع في الربا المُجمع عليه، ولو أراد أن يحصل على السيولة بطريق المُرابحة، أو بطريق التَّورق، فهذا لا بأس به، هذا مخرجٌ شرعيٌّ، وهذا من ثمرات التَّفقه في الدين، ومن ثمرات التَّفقه في هذه الأبواب؛ أبواب المعاملات.

وأُنبه -أيها الإخوة- إلى أن الفرق بين الحلال والحرام في أبواب المعاملات أحيانًا يكون دقيقًا جدًّا، وربما يخفى على بعض الناس، وهذا الفرق الدقيق قد أنكره المشركون في عهد النبي ، وقالوا: ما الفرق بين البيع والربا؟ كلها واحدةٌ، لا فرق.

قال الله ​​​​​​​: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، هذا هو حكم الله: أن هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ.

أما قولهم: لا فرق، فهذا غير صحيحٍ؛ ولهذا نجد بعض الناس يُهاجم بعض البنوك الإسلامية بحجة أنه لا فرق بين تعاملها وتعامل البنوك غير الإسلامية، ومُهاجمتهم بسبب جهلهم بالفرق بين المعاملات المباحة والمعاملات المُحرمة.

قد يكون هذا الفرق فرقًا دقيقًا، ففي قصة التمر البَرْني التي ذُكرتْ قبل قليلٍ كانت النتيجة واحدةً، لكن الأولى صورة عين الربا، والثانية مخرجٌ شرعيٌّ، وهذه الفروق الدقيقة يُدركها العلماء.

إذن ليس بالضرورة أن يكون الفرق فرقًا جليًّا ظاهرًا واضحًا، فقد يكون الفرق فرقًا دقيقًا؛ ولهذا من الأهمية بمكانٍ لطالب العلم أن يُعنى بفهم القواعد والضوابط في هذه الأبواب.

والعلماء المعاصرون لهم في الواقع جهودٌ كبيرةٌ في توضيح الأحكام الشرعية للتعاملات المالية المعاصرة، فهناك فتاوى وبحوثٌ وكتبٌ ورسائل علميةٌ، وهناك جهودٌ فرديةٌ، وجهودٌ جماعيةٌ، ولكن أفضل طريقةٍ لمعرفة الحكم الشرعي -ليس فقط في المعاملات المالية المعاصرة، بل في النوازل عمومًا- هي: معرفة الاجتهاد الجماعي في هذه القضايا والنوازل، فالاجتهاد الجماعي أقرب للتوفيق إلى حكم الله ورسوله من الاجتهاد الفردي؛ لأن الإنسان مهما كان عليه من العلم قد يغفل وقد يذهل عن بعض المسائل.

فعلى سبيل المثال: لما تُوفي النبي بعض أكابر الصحابة أنكر ذلك من قوة الصدمة.

يقولون: المصيبة أول ما تقع وتكون شديدةً أول مراحلها عدم التصديق.

عمر قال: “إن رسول الله لم يَمُتْ، ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى” [14].

وأيضًا قال بهذا القول غير عمر، فأتى أبو بكرٍ وصعد على المنبر وقرأ قول الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وقول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، يقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكرٍ” [15].

طيب، هم يقرؤون هذه الآيات، لكن ذهلوا عن معناها، فالإنسان قد يذهل وقد يغفل عن بعض المعاني، وهذا هو عمر أعلم الصحابة بعد أبي بكرٍ، ومع ذلك حصل الذهول عن هذا المعنى.

فالإنسان يبقى بشرًا، ويعتريه ما يعتري البشر من ذهولٍ ومن نسيانٍ؛ ولهذا في الاجتهاد الجماعي يُذكر العلماء بعضهم بعضًا، وقد يكون هذا العالم خفي عليه الدليل، فيأتي عالمٌ آخر بدليلٍ لم يقف عليه العالم الأول، وقد يكون اعتمد على دليلٍ، فيأتي العالم الآخر ويُبين له أن هذا الدليل ضعيفٌ من جهة الإسناد، حديثٌ ضعيفٌ من جهة الإسناد مثلًا.

الاجتهاد الجماعي في زمن الصحابة

الاجتهاد الجماعي كان موجودًا وقت الصحابة ، فعلى سبيل المثال: لما وقع الطاعون بأرض الشام، وكان عمر قد خرج إلى الشام، فأخبره الصحابة بأن الطاعون قد وقع بأرض الشام؛ فتوقف وهو في الطريق، ودعا الصحابة الذين معه -دعا فقهاء الصحابة- يستشيرهم في هذه النازلة.

نازلةٌ الآن وقعتْ في الطريق وهو ذاهبٌ إلى الشام، فنادى ابنَ عباسٍ وقال: “ادعُ لي المهاجرين الأولين”، فدعاهم -يعني: يريد أن يجتهد عمر وهم اجتهادًا جماعيًّا- واستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ، ولا نرى أن تُقدمهم على هذا الوباء.

ثم قال: “ادعُ لي الأنصار”، فاجتمعوا، فاختلفوا أيضًا، ثم قال عمر: “ادعُ لي مَن كان هاهنا من مشيخة قريشٍ من مُهاجرة الفتح”، فدعاهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، وقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدمهم على هذا الوباء.

فنادى عمر في الناس وأخبرهم بأنه عازمٌ على الرجوع، فقال أحد أكابر الصحابة -وهو أبو عبيدة -: “يا أمير المؤمنين، أفرارًا من قدر الله؟!” قال عمر: “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبلٌ هبطتْ واديًا له عُدْوَتان -العُدْوة هي: المكان المُرتفع- إحداهما خصبةٌ، والأخرى جدبةٌ، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبة رعيتها بقدر الله؟!”.

ثم جاء عبدالرحمن بن عوف -وكان مُتغيبًا في بعض حاجته- فقال: “إن عندي في هذا علمًا”، قالوا: وما عندك؟ قال: “سمعتُ رسول الله يقول: إذا سمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه“، فحمد اللهَ عمرُ، ثم انصرف [16].

فاجتهد عمر والصحابة ووُفِّقوا لإصابة الحق، ثم أتى عبدالرحمن وأخبرهم بأن هذا الذي قد اجتهدوا فيه واستقرَّ عليه رأيهم أن هذا قد سمعه من رسول الله .

أخرج الدارمي عن المسيب بن رافع قال: كانوا -يعني: صحابة رسول الله – إذا نزلتْ بهم قضيةٌ ليس فيها من رسول الله أثرٌ اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا.

إذن كان هذا هو منهج الصحابة -منهج الخلفاء الراشدين- أنهم يجتمعون ويتباحثون ويتشاورون، وفي الغالب يُوفَّقون للحكم الشرعي.

والمشورة في الإسلام لها شأنٌ عظيمٌ، فالله ​​​​​​​ يقول: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159].

قال الحسن: “ما تشاور قومٌ بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يشغلهم”.

الاجتهاد الجماعي في الوقت الحاضر

هو -ولله الحمد- قائمٌ وموجودٌ، ومن صور الاجتهاد الجماعي في الوقت الحاضر: المجامع الفقهية.

والمجامع الفقهية لها دورٌ كبيرٌ في دراسة الكثير من القضايا والنوازل والمعاملات المالية المعاصرة.

وأبرز هذه المجامع: مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وهذا كان يرأسه الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله، ثم الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، ثم حاليًّا يرأسه سماحة المُفتي سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وفَّقه الله.

وقد شاركتُ في بعض دورات المجمع، وله عنايةٌ كبيرةٌ بالقضايا والنوازل، ويستكتب ويُدْعَى له أبرز فقهاء العالم الإسلامي، وينعقد كل سنتين تقريبًا.

الثاني: مجمع الفقه الإسلامي الدولي المُنبثق من منظمة التعاون الإسلامي، وهذا كان يرأسه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، والآن يرأسه الشيخ صالح بن حميد وفَّقه الله، وقد أصدر جملةً من القرارات، ونُشرت جميع بحوثه.

وهناك أيضًا مجامع أخرى؛ يعني: أُقِرَّ مُؤخرًا مجمع الفقه الإسلامي السعودي، وهذا في طور الإنشاء، ونُؤمل فيه خيرًا للمسلمين، إن شاء الله.

وهناك مجمع البحوث الإسلامية في مصر، ومجمع فقهاء الشريعة في أمريكا، ومجمع الفقه الإسلامي في الهند.

هذا بالنسبة للمجامع.

أيضًا من صور الاجتهاد الجماعي: مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهي تجتمع كل ستة أشهرٍ، وغالبًا تدرس القضايا والنوازل المعاصرة.

ومنها أيضًا: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وهي مُتفرعةٌ من هيئة كبار العلماء.

أيضًا من المؤسسات التي تُمثل الاجتهاد الجماعي: هيئة المُراجعة والمُحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، ومقرها في البحرين، وهذه الهيئة لها جهودٌ كبيرةٌ جدًّا في وضع المعايير الشرعية للمعاملات المالية المعاصرة.

وبالمناسبة: هي موجودةٌ ومطبوعةٌ، وأنصح بالإفادة منها وقراءتها.

وتتميز هذه الهيئة بأن القضية التي تُطرح تُناقش في أكثر من مجلسٍ وأكثر من هيئةٍ، وعندما تُطرح القضية للنقاش يُستكتب لها أحد الباحثين المُتخصصين، ثم يُناقش ما كتبه من اللجنة الشرعية، ثم بعد ذلك يُعرض على المجلس الشرعي، ثم بعد سلسلةٍ طويلةٍ من النقاش والمُداولة والمُدارسة يصدر في ذلك معيارٌ مُختصرٌ ومُلخصٌ.

أيضًا من المؤسسات التي تُعنى بالاجتهاد الجماعي: الهيئات الشرعية في المصارف الإسلامية.

ومن أبرز المصارف الإسلامية، ولا بأس أن أذكرها بالاسم تشجيعًا لها؛ لأنها ينبغي أن تُدعم -المصارف الإسلامية- من قِبَل المجتمع.

من أبرز الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية التي لها مزيد عنايةٍ وضبطٍ:

أولًا: الهيئة الشرعية في مصرف الراجحي.

ثانيًا: الهيئة الشرعية في بنك البلاد.

ثالثًا: الهيئة الشرعية في مصرف الإنماء.

فهذه الهيئات الثلاث مع احترامي لبقية الهيئات الشرعية، لكن هذه الهيئات لها عنايةٌ كبيرةٌ وتَحَرٍّ للمُباح من المعاملات المالية، وأيضًا لها جهاز رقابةٍ يُشرف على تطبيق قرارات الهيئة الشرعية في تلك المصارف.

إذن هذه أبرز المؤسسات التي تُعْنَى بالاجتهاد الجماعي.

مناهج الفُتيا في المسائل المعاصرة

إذا نظرنا إلى مناهج الفُتيا في المسائل المعاصرة عمومًا -وفي المعاملات المالية على وجه الخصوص- فيمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أقسامٍ أو ثلاثة مناهج:

المنهج الأول: التساهل في الفُتيا، والتوسع في القول بالإباحة، وتمييع كثيرٍ من الأحكام الشرعية بحجة التوسعة على الناس.

والمنهج الثاني عكسه تمامًا: التَّشدد في الفُتيا، والمُبالغة في الاحتياط وفي التحريم.

والمنهج الثالث: هو الاعتدال والتوسط، والتَّشديد فيما تُشدد فيه الشريعة، والتوسعة على الناس فيما تُوسع فيه الشريعة.

أما المنهج الأول -وهو التساهل- فنجد هذا موجودًا من بعض الناس، فنجد أن من الناس مَن يتساهل في الفُتيا ويُبرر بضغط الواقع، وكأن أحكام الشريعة تُلوى أعناق النصوص لأجل أن تتوافق مع الواقع، وهذا خطأٌ، والمُفترض هو العكس: أن يُكيف الواقع لكي يتوافق مع الشريعة، هذا هو المطلوب.

والمنهج الآخر عكسه، وهو: التَّشدد في المسائل المالية، وفي النوازل عمومًا، فنجد أن أصحاب هذا المنهج يُبالغون في الاحتياط، وفي التحريم، وعندما يُسأل أحدهم عن مسألةٍ تجد أنه يتبادر إليه القول بالتحريم مباشرةً، وكما قال سفيان رحمه الله: “التَّشديد كلٌّ يُحْسِنه، وإنما العلم الرُّخَص عن الثقات”، يعني: قوله: “إن هذا الشيء حرامٌ” كلٌّ يُحْسِن هذا، لكن الرخصة عن عالمٍ ثقةٍ هذا هو العلم في الحقيقة.

المنهج الثالث هو المنهج الصحيح، وهو: النظر إلى القضايا والمسائل المعاصرة حسبما يقتضيه الدليل الشرعي والقواعد الشرعية من غير تشددٍ، ومن غير تساهلٍ، فإذا كان الدليل يُشدد في المسألة فنُشدد فيها، وإذا كان لا يُشدد في المسألة، وإنما جعل فيها سعةً؛ فلا نُشدد في هذه القضية، أو في هذه المسألة.

مثلًا: مسائل الربا والأمور المتعلقة بالربا نُشدد فيها؛ لأن الشريعة الإسلامية شددتْ فيها، والمسائل التي ليس فيها ربًا ولا جهالةٌ ولا غَرَرٌ ولا مَيْسِرٌ نتوسع فيها؛ لأن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة.

ولعلي أختم بالنسبة لذكر مناهج العلماء في النظر للمسائل والمعاملات المالية المعاصرة فأقول: ينبغي لمَن ينظر في المعاملات المالية المعاصرة أن يستصحب معرفة مقاصد الشريعة، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية: مقصود الشارع من هذا الحكم.

فعندما -مثلًا- يُحرم الشارع هذه المعاملة ما مقصوده من هذا التحريم؟

فمعرفة مقاصد الشريعة أمرٌ في غاية الأهمية، فينبغي أن تكون الفتوى والنظر لهذه المسائل متفقةً مع مقاصد الشريعة، وألا تكون مُخالفةً لمقصدٍ من مقاصد الشريعة.

وهذا الأمر من أعظم مَن يُعْنَى به: الإمام ابن تيمية رحمه الله، فهو يُعْنَى كثيرًا بمعرفة مقاصد الشريعة، وضبط المسائل والأحكام بمقاصد الشريعة، والنظر إليها عند الترجيح بين المسائل الخلافية.

هذه -أيها الإخوة- نبذةٌ مُوجزةٌ ومُختصرةٌ ومدخلٌ للمعاملات المالية المعاصرة، واعتبارًا من الدرس القادم -إن شاء الله- سوف نبدأ في دراسة جملةٍ من هذه المسائل والمعاملات المالية المعاصرة.

نسأل الله ​​​​​​​ جميعًا الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البزار في “مسنده”: 1216.
^2 رواه مسلم: 262.
^3 رواه الترمذي: 1210، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 2146، والحاكم: 2144.
^4 رواه الحاكم: 2145، والبيهقي في “شعب الإيمان”: 4505.
^5 رواه ابن ماجه: 2139، والحاكم: 2142.
^6 رواه أبو داود: 3327، والنسائي: 3797.
^7 رواه الترمذي: 1208، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والطبراني في “المعجم الكبير”: 913.
^8 رواه أحمد: 17333، وابن حبان: 3310.
^9 رواه البخاري: 1036.
^10 رواه أحمد: 6671، وأبو داود: 3504، والترمذي: 1234، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^11 رواه أحمد: 1515، وأبو داود: 3359، والترمذي: 1225، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 4545، وابن ماجه: 2264.
^12 رواه البخاري: 2312، ومسلم: 1594.
^13 رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593.
^14 رواه أحمد: 13028، وابن حبان: 6875.
^15 رواه البخاري: 3668، 4454.
^16 رواه البخاري: 5729، ومسلم: 2219.
مواد ذات صلة