logo

(1) مقدمة في آداب طالب العلم

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فضل طلب العلم

فأحمد الله ​​​​​​​ أن يَسَّرَ هذه الدورة، وبسم الله نفتتح هذه الدورة العلمية، والتي تُقام فيها حلقات علمٍ، وحلقات العلم هي من مجالس الذكر التي أخبر النبي أن لله تعالى ملائكةً سيَّارةً تلتمس مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ قالوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم، فيسألهم الربُّ ​​​​​​​ -وهو أعلم بهم-: ما يقول عبادي؟ قالوا: يُسبِّحونك ويُكبِّرونك ويحمدونك ويُمَجِّدونك. قال: فيقول: هل رَأَوْنِي؟ قال: فيقولون: لا والله ما رَأَوْكَ. قال: فيقول: وكيف لو رَأَوْنِي؟ قال: يقولون: لو رَأَوْكَ كانوا أشدَّ لك عبادةً، وأشدَّ لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. قال: يقول: فما يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة .. قال: فَمِمَّ يتعوَّذون؟ يقولون: من النار .. فيقول الله: أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم، فتقول الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقول الله: هم القوم لا يَشْقَى بهم جليسهم [1]، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلمٌ.

قال أهل العلم: ويدخل في ذلك مجالس العلم الشرعي، تدخل في مجالس الذكر، فهذه المجالس مجالس إيمانية، هي من أسباب مغفرة الذنوب، وهذه المجالس حِلَق علمٍ، ومَن يجلس فيها فهو قد سعى للتَّفقه في دين الله، والنبي يقول: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [2] متفقٌ عليه.

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين، فإذا وجدتَ من نفسك حرصًا على التَّفقه في الدين، وحرصًا على طلب العلم، ومحبةً لذلك، فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.

ومفهوم هذا الحديث: أن مَن لم يُرد به الخير لا يُوفق للفقه في الدين.

والإنسان -أيها الإخوة- مهما كان عليه من القوة في العبادة لا يمكن أن يعبد الله كما يُحب الله إلا عن طريق العلم؛ ولذلك كان فضل العالِم على العابد كبيرًا.

الرحلة في طلب العلم

كان السلف الصالح -رحمهم الله- يرتحلون في سبيل طلب العلم، وكانت الرحلة آنذاك رحلةً شاقَّةً؛ كان عندما يرتحل طالب العلم لطلب العلم يغترب عن أهله، يغترب عن زوجته وأولاده ووالديه ليس شهرًا، ولا شهرين، ولا سنةً، ولا سنتين، سنين عديدة.

ثم إذا اغترب عنهم ينقطع تواصله بهم تمامًا، فليست هناك وسائل تواصل، ليست هناك جوَّالات، ولا وسائل تواصل؛ فينقطع عنهم هذه السنين، لا يدري عنهم، ولا يدرون عنه، فيغترب غربةً كاملةً، كل ذلك في سبيل طلب العلم.

وعندما نقرأ سِيَر العلماء السابقين نجد أن معظم العلماء السابقين ارتحلوا في سبيل طلب العلم، بل هناك مَن ارتحل لأجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط: جابر بن عبدالله الأنصاري ، وهذه القصة ذكرها البخاري في "صحيحه" مُعلِّقًا لها بصيغة الجزم [3]، ارتحل جابرٌ  من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط، ومكث في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب، وشهرًا في الإياب.

ارتحل على بعيره وحده لأجل سماع حديثٍ واحدٍ، فإنه قد بلغه أن عبدالله بن أُنَيْسٍ سمع من النبي حديثًا، فجهز راحلته، وركب بعيره، وقطع المفاوز والفيافي والقِفَار، ومكث في الرحلة شهرًا كاملًا من المدينة إلى الشام، ثم التقى بعبدالله بن أُنَيْسٍ وسأله عن الحديث، فأخبره به، ثم رجع ومكث في العودة أيضًا شهرًا كاملًا، فبقي شهرين في هذه الرحلة من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط.

أبو أيوب الأنصاري ارتحل من المدينة إلى مصر من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط.

وقد صنَّف بعض أهل العلم مُصنفاتٍ في الرحلة لطلب العلم، فكان السلف الصالح يرتحلون في سبيل طلب العلم.

أما في وقتنا الحاضر فقد أصبح العلم ميسورًا ومبذولًا، فأصبحت تُلْقَى مثل هذه الدورات المباركة، وأصبح أهل العلم يأتون لطلبة العلم؛ لتعليمهم وإلقاء الدروس عليهم، بل أصبح بالإمكان أن الإنسان يُتابع دروس العلم وحِلَق العلم وهو في بيته عن طريق وسائل التواصل، وعن طريق البثِّ المباشر.

من آداب طالب العلم

لكننا نحتاج في هذا الزمن إلى رفع مستوى الهمة في طلب العلم، وأن يحرص طالب العلم على طلب العلم، وأن يُخلص النية لله في ذلك، وأن يعمل بما يعلم، فإن العلم بلا عملٍ لا فائدة منه، بل يكون حُجَّةً على صاحبه يوم القيامة.

وقد ذكر النبي أول مَن تُسَعَّر بهم النار، وذكر منهم رجلًا تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فَأُتِيَ به، فيقول: يا ربّ، تعلمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن. فيُقال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلم ليُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار [4].

هذا أول مَن تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة، أصبح علمه وبالًا عليه، وحُجَّةً عليه؛ لكونه لم يعمل بعلمه، وإنما جعل هذا العلم مطيةً لتحصيل مطامع دنيوية، وللرياء والسُّمْعَة.

كذلك ينبغي لطالب العلم أن يتأدب بآداب طالب العلم، وأن تظهر أخلاق المؤمنين على طالب العلم.

وإنك لتعجب عندما ترى بعض طلبة العلم وهم يتخلَّقون بأخلاقٍ بعيدةٍ كل البُعد عن أخلاق المؤمنين!

إذا لم تظهر أخلاق المؤمنين على طالب العلم، فما الفائدة من علمه؟!

لا بد أن يظهر عليه التواضع، وأن تظهر عليه المحبة لإخوانه، وأن يُحب لهم ما يُحب لنفسه، واللين، والرفق، والحرص على تعليمهم ودعوتهم وإرشادهم، فهذه أمورٌ ينبغي أن يُحققها طالب العلم.

أيها الإخوة، مَن يحضر هذه الحِلَق وهذه الدروس فهو على خيرٍ، ولو لم يكن من الخير إلا أنه يتعرض لمغفرة الله: أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم [5]، ولو لم يكن من الخير إلا أنه يُصلي على النبي إذا ذُكِرَ.

ضبط العلم وتقييده

ينبغي مع ذلك لمَن يحضر هذه الحِلَق أن يضبط العلم الذي يسمع، وأن يُقيد ذلك: إما بالكتابة، أو بالتَّسجيل؛ لأن الذاكرة عند الناس في الوقت الحاضر قد ضعفتْ بسبب اعتمادهم -أو اعتماد كثيرٍ منهم- على وسائل التقنية الحديثة، والذاكرة -كما يُقال- إذا دُرِّبَتْ قويتْ، وإذا مُرِّنَت الذاكرة قويتْ، وإذا أُهْمِلَتْ ضعفتْ؛ فأصبح بعض الناس لا يحفظ أرقام الهواتف.

وكان الناس قديمًا يحفظون كثيرًا من أرقام الهواتف، وأصبحوا لا يحفظون أشياء يسيرةً، وإنما يعتمدون على وسائل التقنية الحديثة، وهذا له أثرٌ في ضعف الذاكرة، لكن ينبغي أن يُعوض عن ذلك بالمُراجعة والمُذاكرة، فإن حياة العلم المُذاكرة، وقبل ذلك أن تكون هناك آليةٌ جيدةٌ لضبط العلم: إما بالكتابة، أو بالتَّسجيل.

وبعض الناس -كما يُقال- بَصَرِيُّون، يعني: عندما يرى يحفظ، فهذا الأفضل له الكتابة.

وبعض الناس سَمْعِيُّون -كما يُقال- أي: يضبط ويحفظ بالسمع أكثر من النظر، فهؤلاء سَمْعِيُّون، فالأفضل لهم التَّسجيل، المهم أن تكون هناك آليةٌ لضبط العلم.

^1, ^5 رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689.
^2 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^3 رواه البخاري: 1/ 26.
^4 رواه مسلم: 1905.
zh