logo

(10) باب ما يوجب الغسل

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

تعريف الغسل

الغُسل: بضم الغين؛ الاغتسال، فهو اسم مصدر من الاغتسال، اغتسل: المصدر هو اغتسالًا، واسم المصدر غُسلًا، وما الفرق بين المصدر واسم المصدر؟

المصدر: ما تضمن معنى الفعل بحروفه، بينما اسم المصدر: ما تضمن معنى الفعل دون حروفه.

نوضح هذا بالأمثلة:

توضأ، المصدر: توضئًا، اسم المصدر: وضوءً.

تطهَّر، المصدر: تطهُّرًا، اسم المصدر: طُهورًا.

اغتسل، المصدر: اغتسالًا، اسم المصدر: غُسلًا.

تسحَّر، المصدر: تسحُّرًا، اسم المصدر سُحورًا، وهكذا.

فإذًا: الغُسل: اسم مصدر من الاغتسال، وهو: استعمال الماء في جميع بدنه على وجه مخصوص.

قال ابن القيم رحمه الله: “إيجاب الشارع الغُسل لخروج المني دون البول وغيره قال: هي من أعظم محاسن الشريعة، فإن المني يخرج من جميع البدن؛ ولهذا سماه الله تعالى سُلالة ثُمَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ سُلالَةٍ مِن مَّاءٍ مَهِينٍ [السجدة:8] لأنه يسيل من جميع البدن”.

ثم أيضًا قالوا: إن الغُسل يخلف على البدن ما تحلل منه؛ لأن الجنابة تحدث ثقلًا وكسلًا، والغُسل يجدد النشاط والخفة؛ ولذلك شرع عند خروج المني الاغتسال، وقوله:

وما يوجب الغسل؛ وهي سبعة:

أي: الأشياء التي يجب بها الغُسل، وحصرها المؤلف في سبعة.

انتقال المني

فقال:

أحدها: انتقال المني، فلو أحس بانتقاله فحبسه، ولم يخرج وجب الغُسل.

يعني: مجرد انتقال المني على رأي المؤلف يوجب الغسل حتى ولو لم يخرج، فإنه قد يحس الإنسان بانتقال المني، ثم لا يخرج من الذكر، فهل هذا موجب للغسل؟ المؤلف يرى أنه موجب للغسل وهو المذهب عند الحنابلة، وقالوا لأن الماء قد باعد محله، علَّلوا ذلك بأن الماء قد باعد محله فيصدق عليه اسم الجنب.

وذهب أكثر العلماء إلى أن انتقال المني دون خروجه لا يوجب الغسل، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقد اختار هذا القول الموفق ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، وهذا هو القول الصحيح في المسألة؛ وذلك لأن النبي إنما علق الاغتسال على رؤية الماء، فلا يثبت الحكم بدونه؛ ولأنه لو أحس بخروج البول ولم يخرج، هل ينتقض وضوؤه؟ لا ينتقض، ولو أحس بخروج الغائط ولم يخرج، ولو أحس بخروج الريح ولم تخرج، فهذه الصور لا ينتقض وضوؤه بالإجماع، ولا يوجب ذلك الوضوء، فكذلك أيضًا هنا، مجرد الإحساس بخروج المني من غير خروجه لا يوجب الاغتسال.

ولقوله عليه الصلاة والسلام: إنما الماء من الماء [1] وهنا لم يوجد ماء، وإنما وجد مجرد إحساس بانتقاله؛ ولأن الأصل عدم وجوب الغسل، ولا نعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، وليس هناك دليل يدل على أن مجرد انتقال الماء من غير خروجه أنه موجب للغسل.

ولهذا فالقول الصحيح هو قول أكثر أهل العلم أن انتقال المني دون خروجه أنه لا يوجب الغسل، قال:

خروج المني بعد الاغتسال بلا لذة

فلو اغتسل له ثم خرج بلا لذة لم يُعد الغُسل.

هذا أيضًا مما يضعف هذا القول، المقصود أن الصواب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف في اعتبار هذا من موجبات الغسل.

خروج المني من مخرجه ولو دمًا، ويشترط أن يكون بلذة

خروجه من مخرجه ولو دمًا، ويشترط أن يكون بلذة ما لم يكن نائمًا ونحوه.

يعني: خروج المني بلذة، وبعض الفقهاء يقول: دفقًا بلذة، وهذه عبارة صاحب الزاد، دفقًا بلذة، ولكن يكفي أن يقال في الضابط: بلذة؛ لأنه لا يمكن أن يخرج المني بلذة إلا إذا كان دفقًا، فتكون دفقًا من باب زيادة التوضيح، ويضيفون هذه الكلمة لأجل موافقة قول الله تعالى: خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] وإلا فإن خروج المني بلذة تكفي عن زيادة: دفقًا، ولهذا نجد أن صاحب المنتهى لم يعبر إلا باللذة، فيكفي أن نقول: خروج المني بلذة، من غير أن نقول: دفقًا، وإن قلت: دفقًا، فهذا من باب زيادة التوضيح.

ما الدليل أن خروج المني بلذة موجب للغُسل؟

الدليل حديث علي أن النبي قال: إذا فضخت الماء فاغتسل، وإن لم تكن فاضخًا فلا تغتسل [2] رواه أبو داود والنسائي وأحمد، وإسناده صحيح.

وجاء في رواية: إذا خذفت فاغتسل من الجنابة، وإن لم تكن خاذفًا، فلا تغتسل [3] أخرجه أحمد.

والفضخ -وهكذا الحذف -معناه: خروج المني بالغلبة، ولا يكون كذلك إلا بشهوة، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء أنه يشترط لخروج المني الموجب للغسل أن يكون بلذة، وذهب الشافعية إلى أنه يجب الغسل بمجرد خروج المني، ولو كان بغير لذة؛ لعموم حديث: إنما الماء من الماء [4].

والصواب هو قول الجمهور، أنه يشترط أن يكون بلذة؛ لحديث علي السابق: إذا فضخت الماء فاغتسل، وإن لم تكن فاضخًا فلا تغتسل وفي الرواية الأخرى: إذا خذفت… وهذا يقيد الاغتسال فيما إذا خرج المني بلذة.

فإذا خرج المني بغير لذة، فإنه لا يوجب الغسل؛ كيف يخرج المني بغير لذة؟

لمرض مثلًا، أحيانًا بعض الأمراض التي تصيب بعض الناس يخرج معه المني بدون لذة، فهذا لا يوجب الغُسل، أذكر اتصل بي سائل قال: إنه يخرج منه المني بدون لذة لمرض في ظهره، فمثل هذا نقول: لا يجب عليه الاغتسال، ولكن بعض الناس يشتبه عليه أيضًا المني بالودي، الودي: سائل أبيض يخرج عقب البول عند بعض الناس، وليس عند جميع الناس، فهذا ودي حكمه حكم البول، فبعض الناس يسمي هذا الودي منيًّا.

فنقول: المني له صفة معينة يختلف اختلافًا كبيرًا عن الودي، الودي يكون قليلًا، والمني أكثر منه، أما المذي فأيضًا مختلف اختلافًا كبيرًا، المذي بالذال يكون مع اشتداد الشهوة، ثم انكسارها، ويكون أيضًا قليلًا، فالودي والمذي يكونا أقل بكثير من المني، أقول هذا لأني ألمس أن بعض الناس عنده اشتباه بين المني والودي على وجه الخصوص، لكن لو تحقق أنه مني وخرج بدون لذة فهو لا يوجب الغُسل؛ ولهذا اشترط المؤلف، قال: “ويشترط أن يكون بلذة”.

خروج المني من النائم ولو لم يذكر لذة

ولكن هذا الشرط إذا لم يكن نائمًا، أما إذا كان نائمًا، فإنه لا يشترط أن يخرج بلذة؛ لأن النائم قد لا يحس به، وإذا استيقظ وجد أثر المني في لباسه، والعبرة بوجود المني بعد قيامه من النوم، ولو لم يتذكر احتلامًا؛ لحديث أم سلمة عن أم سليم رضي الله عنها: أنها سألت النبي عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غُسل؟ فقال النبي : نعم، إذا رأت الماء [5] متفق عليه.

فعلق النبي عليه الصلاة والسلام الاغتسال برؤية الماء، وهذا يعم الرجل والمرأة؛ ولهذا قال العلماء: إنه لو تذكر احتلامًا، ولم يجد أثرًا للمني، فهل يجب عليه الاغتسال؟ إنسان تذكر أنه احتلم، لكن ما وجد أي أثر للمني، هل يجب عليه الاغتسال؟ لا يجب، طيب لو كان العكس؟ وجد أثرًا للمني ولم يتذكر احتلامًا يجب عليه الاغتسال؟ نعم؛ فالعبرة برؤية الماء؛ ولهذا قال: نعم، إذا هي رأت الماء فالعبرة برؤية الماء من الرجل ومن المرأة، على أن ماء الرجل يختلف اختلافًا كبيرًا عن ماء المرأة، يختلف اختلافًا كبيرًا والاحتلام قليل جدًّا أو نادر، وأكثر منه بالنسبة للرجال.

فإذا جهل هل هو مني أم لا؟ وهذا أكثر ما يحصل للمرأة، فإن كثيرًا من النساء تشتبه عليهن السوائل التي تخرج، فإذا جهل هل هو مني أم لا؟

إن تذكر احتلامًا فليجعله منيًّا؛ لأنه وجد رطوبة وبللًا مع تذكر احتلام، وإن سبقه تفكير في الجماع ونحوه، فإنه يكون مذيًا، وأما إن لم يسبق نومه تفكير ولم يتذكر احتلامًا، فقيل: يجب عليه الغُسل احتياطًا، وقيل: لا يجب، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الأصل براءة الذمة، إنسان من رجل أو امرأة قام ووجد في ملابسه بللاً لا يدري هل هو مني أم لا؟ لم يستطع أن يميز هل هو مني أم لا؟ إن لم يتذكر احتلامًا ولم يسبق نومه تفكير فبعض أهل العلم قال: إنه يجب عليه أن يغتسل.

وقال آخرون: أنه لا يجب، والصحيح أنه لا يجب، الصحيح أنه يستحب له؛ لأن في ذلك براءة للذمة، لكن من حيث الحكم الذي يظهر أنه لا يجب عليه الاغتسال، قال:

خروجه من مخرجه ولو دمًا.

يعني: ولو اختلط بدم؛ مقصوده ولو اختلط بدم؛ لأنه أحيانًا -خاصة مع القسطرة -يكون هناك جرح لمجرى البول، فيختلط المني بشيء من الدم، قال:

تغييب الحشفة كلها أو قدرها بلا حائل

الثالث: تغييب الحشفة كلها أو قدرها بلا حائل في فرج، ولو دبرًا لميت أو بهيمة أو طير.

تغييب الحشفة، ما معنى الحشفة؟

أولًا: تغييب الشيء في الشيء، معناه: أن يختفي فيه فلا يُرى.

والحشفة، هي: “ما تحت الجلد المقطوعة من الذكر في الختان”؛ هذا تعريف البعلي في المطلع.

وعرفه ابن منظور في لسان العرب تعريفًا أوضح، قال: “هي رأس الذكر”؛ هذه التي يقطع ما عليها من الجلد أثناء الختان تسمى الحشفة.

فإذًا لا بد من تغييب الحشفة كلها، فإذا حصل تغييب للحشفة، فهذا موجب للغُسل، حتى ولو لم يحصل إنزال، مثلًا رجل جامع أهله وحصل تغييب للحشفة فقط، ثم نزع، ولم ينزل، فهل يجب عليه الغسل أم لا؟

نقول: يجب عليه الغسل حتى ولو لم يحصل إنزال، انتبهوا لهذه المسألة، هذه يجهلها بعض العامة، حتى ولو لم ينزل، قد كان في أول الإسلام لا يجب الاغتسال، قد ورد قول النبي : إنما الماء من الماء [6]، ثم نسخ ذلك، وهذا تجده في بعض كتب الفقه وبعض كتب الحديث يسمى الإكسال، معنى الإكسال: أنه يجامع أهله ثم يكسل فينزع من غير أن ينزل، كان في أول الإسلام كما ذكرنا لا يجب الاغتسال، ثم نسخ ذلك بقول النبي في حديث أبي هريرة: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل [7]، جاء في رواية مسلم: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل.

فإذن إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل على الرجل وعلى المرأة، ولو لم يحصل إنزال، قال:

أو قدرها.

يعني: قدر الحشفة، هذا يكون من مقطوع الحشفة، طيب مقطوع الحشفة هل يمكنه أن يجامع؟ نعم، نحن قلنا: إن الحشفة ليست كل الذكر، الحشفة فقط رأس الذكر، قالوا: حتى ولو كان مقطوع الحشفة وجامع، فمجرد تغييب قدرها يوجب الغسل، قال:

بلا حائل.

يعني: لو كان بحائل، فإن هذا لا يوجب الغسل.

في فرج.

يعني: قبلًا كان أم دبرًا.

ولو دبرًا لميت.

حتى لو كان تغييب الحشفة في دبر ميت.

أو بهيمة.

وذكر هذه الأمثلة لا يدل على جوازها، الفقهاء يذكرون الشيء لأجل بيان حكم هذه المسألة، طبعًا هذه الأشياء لا شك أنها محرمة، الوطء في الدبر، ووطء البهيمة، هذه محرمة ومن كبائر الذنوب، لكن كلامنا الآن في الاغتسال، قال:

أو طير.

هل هذا يتصور أو أنه من باب تمرين الذهن؟ ربما في وقتنا الحاضر غير متصور، الطير على وجه الخصوص، قال:

لا يجب الغسل على ابن عشر أو بنت تسع

ولكن لا يجب الغسل إلا على ابن عشر وبنت تسع.

يعني: هل يجب الغسل على ابن عشر سنين؟ لو جامع وعمره عشر سنين، أو بنت وطئت وعمرها تسع سنين، وهما لم يبلغا، غير بالغين، يعني الصبي المميز إذا حصل منه تغييب للحشفة فهل يجب عليه الغسل أم لا؟

المذهب عند الحنابلة: أنه يجب عليه الغسل إذا بلغ الصبي عشرًا، وبلغت الجارية تسعًا.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجب على غير البالغ غسل، وقد اختار هذا القول القاضي أبو يعلى، وهو القول الراجح، والله أعلم؛ لأنه إذا كان لا تجب عليه الصلاة ولا الصيام ولا سائر شرائع الإسلام، فكذلك أيضًا لا يجب عليه الغسل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: الصبي حتى يبلغ [8].

فالصواب إذًا خلاف ما ذهب إليه المؤلف، الصواب: أنه لا يجب الغسل على غير البالغ مطلقًا ولو بلغ عشر سنين، ولو بلغت الجارية تسع سنين، غير البالغ لا يجب عليه شيء؛ لأنه مرفوع عنه القلم، قال:

إسلام الكافر ولو مرتدًا

الرابع: إسلام الكافر ولو مرتدًا.

يعني: أنه إذا أسلم الكافر يجب عليه أن يغتسل، سواء كان كافرًا أصليًّا أم مرتدًّا، والدليل لهذا: أن النبي أمر قيس بن عاصم لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر [9] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وهو حديث صحيح، قالوا: والأصل في الأمر الوجوب.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجب الغُسل على الكافر إذا أسلم وإنما يستحب له ذلك، وهذا قول الجمهور، وهو القول الراجح أنه لا يجب الغسل على الكافر إذا أسلم؛ وإنما يستحب له ذلك، وهذا قول الجمهور، وهو القول الراجح أنه لا يجب؛ وذلك لأنه أسلم في عهد النبي أناس كثير، ولم ينقل عن النبي أنه أمر كل من أسلم بالغسل، ولو كان الغسل واجبًا لبين ذلك النبي ؛ لأن هذا مما تحتاج الأمة إلى بيانه، وإنما أمر قيس بن عاصم وبعض من أسلم من باب الاستحباب على سبيل الإرشاد فقط، هذا هو القول الراجح في المسألة، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، أنه لا يجب الاغتسال على الكافر إذا أسلم، وإنما يستحب له ذلك، وهذا يحصل تجد أنه أحيانًا يأتي الإنسان الكافر في مسجد الجامع ويعلن إسلامه ثم يتوضأ ويصلي مع الناس فلا نأمره بالاغتسال على القول الراجح، لكن على المذهب: لا، نقول له: اذهب واغتسل أولًا قبل أن تصلي.

خروج دم الحيض

الخامس: خروج دم الحيض.

يعني: إذا حاضت المرأة، وهكذا إذا نفست وانقطع عنها دم الحيض وجب عليها أن تغتسل؛ وهذا بإجماع العلماء، لقول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُو أَذَىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ… ولهذا قال الموفق ابن قدامة: “لا خلاف في وجوب الغسل عليهما” يعني: على الحائض والنفساء.

خروج دم النفاس

السادس: خروج دم النفاس.

ذكرناه مع دم الحيض، والنفاس يعتبر نوع من الحيض، ويدل لهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها لما حاضت: لعلك نفِست [10].

تغسيل الميت

السابع: الموت تعبدًا.

المعنى: أنه إذا مات المسلم وجب على المسلمين تغسيله، وتغسيل الميت من فروض الكفاية بالنسبة للمسلمين، لكن بالنسبة لهذا الميت يجب أن يُغسل، ولا يجوز دفنه بدون تغسيل، ويدل لهذا حديث أم عطية رضي الله عنها: لما ماتت بنت النبي قال: اغسلنها ثلاثًا… [11].

وقول المؤلف “تعبدًا”: احترازًا من تغسيله عن حدث أو نجاسة، فلو نوى المغسل تغسيله عن جنابة مثلًا أو عن حدث، فإن هذا لا يجزئ، بلا لابد أن يقصد المغسل التعبد بتغسيله.

تغسيل السقط

بالنسبة للسقط هل يغسل أو لا يغسل؟ المرأة إذا أسقطت جنينًا وخرج ميتًا هل يغسل أو لا؟

نقول: إذا نفخت في السقط الروح فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، أما قبل نفخ الروح فيه فإنه لا يغسل ولا يدفن في المقبرة، ولا يصلى عليه حتى؛ لماذا؟ لأنه قبل نفخ الروح ليس إنسانًا، هو مجرد قطعة لحم نطفة أو علقة أو مضغة ليس إنسانًا، لم تنفخ فيه الروح، فكيف تصلي عليه؟ كيف تغسله؟ فالتغسيل وحقوق الميت إنما تكون إذا نفخت فيه الروح،

نفخ الروح دل حديث ابن مسعود على أنه يكون بعد أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر من ماذا؟ من الحمل، لكن كيف يحسب الحمل؟ انتبهوا، طريقة الأطباء في حساب الحمل تختلف عن الطريقة الشرعية، الأطباء يحسبون الحمل من أول يوم من آخر حيضة، يحسبون هكذا من أول يوم من آخر حيضة يحسبون الحمل؛ لكن الطريقة الشرعية من التلقيح يحسب الحمل، هذا مؤثر حقيقة في الحكم الشرعي، يعني مثلًا قال إنسان: إن امرأته أسقطت سقطًا عمره مائة وعشرين يومًا، نقول: كيف عرفت أنه مائة وعشرين يومًا؟ كيف حسبتها؟ لا بد أن نستفسر منه، صحيح لو قال مثلًا: خمسة أشهر أو ستة أشهر هذا الأمر واضح، لو قال أيضًا: ثلاثة أشهر الأمر واضح، لكن الإشكال لو قال: أربعة أشهر، فيختلف حساب الأطباء عن الطريقة الشرعية، الطريقة الشرعية لحساب الحمل أن الحمل يبدأ من التلقيح، إذا نفخت فيه الروح فيغسل، أما قبل نفخ الروح فلا.

التخليق له علاقة بدم النفاس ودم الفساد والخروج من العدة، التخليق له أحكام تختلف عن نفخ الروح، لاحظ الفرق، التخليق متى يكون؟ التخليق يكون بعد تسعين يومًا قطعًا، وقبل ثمانين يومًا لا يكون تخليق، ما بين الثمانين والتسعين محتمل، فينظر للسقط، فإذا كان هناك تخليق فيعتبر الدم دم نفاس، وتنقضي به عدة المرأة، إذا لم يكن هناك تخليق فيعتبر دم فساد، ولا تنقضي به العدة، لكن مسألة التغسيل والتكفين والصلاة عليه هذه متعلقة بنفخ الروح، وليس بالتخليق، فانتبهوا للفرق بينهما.

مداخلة:…

الشيخ: هذا سؤال جيد يصعب معرفة التلقيح على وجه دقيق، لكن حدثني أحد الأطباء أنه يمكن أن يعرف ذلك عن طريق بعض أنواع الأشعة ممكن أن يُسأل الأطباء في هذا، يعرف كم عمر هذا الجنين من التلقيح.

حدثني أحد الأطباء أنه يمكن أن يعرف ذلك عن طريق بعض أنواع الأشعة.

شروط الغسل

قال: فصل:

وشروط الغسل سبعة:

ذكر المؤلف بعد ذلك شروط الغسل، قال:

انقطاع ما يوجبه.

فمثلًا الحيض، لا يصح الغسل إلا بعد انقطاع الدم، فلو أن المرأة اغتسلت ولا زال الدم يخرج منها، فإن هذا الاغتسال غير صحيح، اللهم إلا أن تكون مستحاضة، وسيأتي الكلام إن شاء الله عن أحكام الحيض وأحكام الاستحاضة.

والنية.

لا بد من النية، والنية شرط للعبادات كلها.

والإسلام.

فالاغتسال يقولون: لا يصح من الكافر؛ لأنه يشترط له النية، والنية لا تصح من الكافر.

والعقل.

فالمجنون لا يصح الاغتسال منه؛ لأن المجنون لا يعقل النية، ويشترط لصحة الغسل النية.

والتمييز.

ولم يقل المؤلف: والبلوغ، فلا يشترط البلوغ لصحة الاغتسال، وإنما الاغتسال كالوضوء وكالصلاة يشترط له التمييز فقط.

والماء الطهور المباح.

لا بد أن يغتسل بماء طهور، احترازًا من الماء النجس، فلا يصح الاغتسال به، وأن يكون مباحًا فلا يكون ماء محرمًا، لكن في الماء المحرم هذا محل خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: إن الماء المحرم يصح الاغتسال به مع الإثم، كالصلاة في الدار المغصوبة، هذه مسألة أصولية يعني الخلاف فيها خلاف أصولي بالدرجة الأولى، ويتفرع عنه كثير من المسائل، الوضوء بالماء المغصوب والصلاة في الدار المغصوبة والاغتسال بالماء المغصوب مثلًا، الصحيح أنه يصح ذلك كله؛ لأن الجهة منفكة، فالاغتسال صحيح ويأثم بالغصب، والوضوء صحيح ويأثم بالغصب، والصلاة صحيحة ويأثم بالغصب، لكن المذهب أن هذا لا يصح كله، قوله:

وإزالة ما يمنع وصوله.

يعني: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة، وهذا مشترط في الوضوء وفي الغُسل، وبناء على ذلك: لو كان هناك لصقة مثلًا وضعها على ظهره، ثم اغتسل، فإنه لا يصح اغتساله، والمطلوب منه إما أن يزيل هذه اللصقة إن أمكن من غير ضرر، وإما ماذا؟ أن يمسح عليها، قال:

وواجبه.

وميزة دليل الطالب تجد الترتيب بهذه الطريقة، ترتيب الشروط، وترتيب مثلًا موجبات الغسل، وترتيبه بهذه الطريقة يكون أكثر نفعًا وفائدة للدارس.

قال: “وواجبه” يعني: واجب الغسل.

التسمية واجبة في الغسل وتسقط سهوًا

التسمية وتسقط سهوًا.

يعني: واجب الغسل: التسمية، وتسقط سهوًا، وهو كالوضوء يعتبرون واجب الوضوء هو التسمية مع الذكر، هكذا أيضًا يقولون في الغسل: إن واجب الغسل التسمية مع الذكر.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، والكلام فيها واحد فيما يتعلق بالوضوء والغسل، فمن العلماء من قال: إن التسمية واجبة مطلقًا في الوضوء وفي الغسل، ومنهم من قال: إنها واجبة مع الذكر كما هو المذهب عند الحنابلة، وأكثر العلماء على أنها مستحبة.

من قال: بأنها واجبة استدل بحديث: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه [12] وهذا الحديث بعض العلماء جمع له طرقًا متعددة، ولكن جميع طرقه ضعيفة، ولا يصح حتى بمجموع الطرق؛ ولهذا قال الإمام أحمد: “لا يصح في هذا الباب شيء”.

وتعرفون حكم الإمام أحمد له اعتباره؛ لأنه من أئمة هذا الشأن.

واستدل الجمهور بقولهم بأن التسمية مستحبة في الوضوء، وفي الغسل بأن الواصفين لوضوء النبي لم ينقلوا أنه سمى في أول وضوئه، ولو كانت التسمية واجبة لسمى عليه الصلاة والسلام؛ ولنقل ذلك الصحابة، والصحابة قد نقلوا كل شيء، وقد نقلوا أمورًا أقل من هذا، حتى إنهم نقلوا اضطراب لحية النبي وهو يصلي، فلو كان قد سمى لنقل ذلك الواصفون لوضوئه قطعًا، فلما لم ينقل ذلك ولا في حديث واحد دل على أنه لم يسمِّ عليه الصلاة والسلام جهرًا، والمقام مقام بيان وتعليم فقد كان يعلم الصحابة الوضوء، فدل ذلك على أن التسمية ليست واجبة، ثم لو افترضنا أن حديث: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ثابتًا، فيكون معناه لا وضوء كامل جمعًا بين الأحاديث الواردة، لا وضوء كامل فإن النفي قد يكون نفيًا للصحة، وقد يكون نفيًا للكمال، فنتأوله على أنه نفيٌ للكمال جمعًا بين ذلك وجمعًا بين الأحاديث التي وردت فيها صفة وضوء النبي .

بناء على ذلك يكون القول الراجح أن التسمية عند الغسل أنها مستحبة وليست واجبة، قال:

تعميم جميع البدن بالماء

وفرضه: أن يعم بالماء جميع بدنه.

يعني: فرض الغسل تعميم جميع البدن بالماء، ولو بقيت بقعة لم يصبها الماء، فإنه لا يصح الاغتسال، والدليل لذلك: أن النبي رأى في قدم رجل لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة [13] مع أنه شيء يسير، ومع ذلك أمره عليه الصلاة والسلام أن يعيد الوضوء، فكذلك أيضًا الاغتسال؛ ولهذا تجد بعض الناس بين إفراط وتفريط، بعض الناس يتساهل في الاغتسال، وربما بقي جزء من بدنه لم يصبه الماء، وهذا لا يصح اغتساله، وبعض الناس على العكس من ذلك يستهلك كميات كبيرة من الماء وربما وقع في شيء من الوسوسة، والمطلوب هو الاعتدال، أن يتأكد من وصول الماء إلى جميع بدنه، وقوله:

وداخل فمه وأنفه.

وذلك لأن المضمضة والاستنشاق على المذهب واجبان، وهذا هو القول الراجح كما مر معنا أن المضمضة والاستنشاق أنها واجبة، وقد سبق بحث هذه المسألة، وإن كان هذا من المفردات إلا أنه هو القول الأظهر من حيث الدليل.

طيب، لو عم جميع بدنه ولم يتمضمض ولم يستنشق، هل يصح اغتساله؟

هذا إنسان خرج من بركة، أو من مسبح مباشرة وأتى وصلى؟

على القول بوجوب المضمضة والاستنشاق لا يصح؛ لأنه لم يتمضمض ولم يستنشق، وعلى قول الجمهور يصح، قال:

حتى ما يظهر من فرج المرأة عند القعود لحاجتها، وحتى باطن شعرها.

يعني يقولون: ينبغي أن يتعاهد المسلم والمسلمة جميع بدنه بالماء حتى هذا الشيء لا بد أن يصل إليه الماء، ما يظهر من فرج المرأة عند القعود للحاجة عند قضاء الحاجة، فيقولون: لا بد أن يصله الماء؛ لأن المطلوب تعميم جميع بدنه الظاهر بالماء، وهذا يقولون: إنه في حكم الظاهر، ولا مشقة في غسله.

وهكذا أيضًا باطن الشعر، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يخلل شعره بالماء، فلا بد من أن يصل الماء إلى جميع البدن الظاهر وجميع الشعر، قال:

يجب نقض الشعر في الحيض والنفاس ولا يجب في الجنابة

ويجب نقضه في الحيض والنفاس لا الجنابة.

ويجب نقضه الضمير يرجع على الشعر، يعني شعر المرأة.

يجب نقضه “في الحيض والنفاس لا الجنابة” يعني: في اغتسال الحيض والنفاس لا الجنابة، ويدل لذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ [14] وفي رواية أخرى عند مسلم: “فأنقضه ‌للحيضة والجنابة؟” [15] قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين هذا الحديث ورد فيه “أفأنقضه للجنابة؟” وهذه لا إشكال في أنها رواية محفوظة عند مسلم، وهذا يدل على أن المرأة لا يجب عليها نقض شعر رأسها عند الاغتسال للجنابة، وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك، وأنه لا يجب ذلك، والحديث فيه صريح صحيح، يعني: إذا كانت المرأة قد شدت رأسها لا يجب عليها أن تنقضه، وإنما تحثي عليه الماء فقط، ولكن هل يشمل ذلك الحيضة يعني عند الاغتسال من الحيض، أو أنه خاص بالاغتسال من الجنابة؟

هذا مما اختلف فيه العلماء، فمن العلماء من قال: بأن هذا خاص باغتسال الجنابة، وأما عند الاغتسال للحيض والنفاس، فلا بد من نقض شعرها، وهذا هو المذهب عند الحنابلة كما ذكره المؤلف.

والقول الثاني: أنه لا يلزمها نقض شعر رأسها حتى في اغتسال الحيض والجنابة، لرواية أخرى عند مسلم قالت: “فأنقضه ‌للحيضة”.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله خلاف العلماء في هذه المسألة في كتابه القيم (تهذيب سنن أبي داود) وأطال في الكلام عن هذه المسألة، ورجح ما عليه المذهب أنه يجب نقضه في الحيض والنفاس لا الجنابة، وتكلَّم عن رواية “للحيضة” كلامًا طويلًا خلاصته: أن هذه الرواية غير محفوظة، وأن المحفوظ هو فقط الاقتصار على ذكر الجنابة، وهو من أحسن من تكلم عن هذه المسألة فيما وقفت عليه.

ومما يدل لهذا أيضًا أنه جاء في حديث عائشة: لما سألت النبي عن غسل المحيض؟ فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، إلى أن قال: فسألته عن الجنابة؟ فقال: تأخذ ماء… الخ” [16]، ففي الحيض قال عليه الصلاة والسلام: تأخذ ماءها وسدرها فتدلكه دلكًا شديدًا هذا فيه إشارة إلى أنه لا بد من نقض الشعر، وهنا فرق بين الحيض وبين الجنابة.

وهذا هو القول الراجح والله أعلم، وهو ما مشى عليه المؤلف من أنه يجب نقض شعر المرأة في الحيض والنفاس دون الجنابة، ولعل من حكمة هذا أنه في الجنابة يشق عليها هذا؛ لأن الجنابة تتكرر بخلاف الحيض لا يأتيها في الشهر إلا مرة واحدة، والنفاس ربما لا يأتيها في العام، أو ربما الأعوام إلا مرات قليلة، فلا يشق نقض شعر الرأس في الغسل من الحيض والنفاس بخلاف الغسل من الجنابة.

ولهذا الصواب هو ما ذهب إليه المؤلف من أنه يجب نقض شعر الرأس في الحيض والنفاس دون الجنابة، قوله:

يكفي الظن في الإسباغ

ويكفي الظن في الإسباغ.

يعني: تكفي غلبة الظن.

في أمور العبادة يا إخوان تكفي غلبة الظن، حتى في إفطار الصائم تكفي غلبة الظن بغروب الشمس حتى في هذا الأمر، مع أن العلماء قالوا: الأصل بقاء النهار إلا أنهم قالوا: إنه تكفي غلبة الظن بغروب الشمس، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يستحب الإفطار بمجرد غلبة الظن بغروب الشمس، وأنه لا يشرع تأخير الإفطار إلى اليقين بغروب الشمس، قال: لأن هذا هو الذي كان عليه الأمر في عهد النبي وعهد الصحابة، ولن يكون أحد أطوع لله من رسول الله ومن صحابته” وقد قالت أسماء: “أفطرنا على عهد رسول الله في يوم غيم، ثم طلعت الشمس” وهذا دليل على أنهم يفطرون بناء على غلبة الظن، فإذا كان هذا في إفطار الصائم، فما بالك بغيره من العبادات، فأمور العبادة مبناها على غلبة الظن، ففي الإسباغ يكفي غلبة الظن؛ ولهذا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في صفة غُسل النبي : “… حتى إذا ظن أنه أروى بشرته أفاض عليه الماء” [17].

سنن الغسل

قال:

وسننه.

يعني: سنن الغسل.

الوضوء قبله، وإزالة ما لوثه من أذى، وإفراغه الماء على رأسه ثلاثًا، وعلى بقية جسده ثلاثًا.

لو أن المؤلف أتى بصفة الوضوء لكان أحسن من التفصيل بهذه الطريقة، لكن نذكر صفة الوضوء، وتدخل فيها هذه السنن التي ذكرها المؤلف.

الوضوء له صفتان: صفة مجزئة، وصفة كاملة.

الصفة المجزئة: أن يعم جميع بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق، هذه الصفة مجزئة، طبعًا مع المضمضة والاستنشاق بالنسبة إذا أراد أن يصلي بهذا الغسل، وإلا لا تشترط المضمضة والاستنشاق لأجل رفع هذا الحدث الأكبر؛ ولذلك فنحن نقول الصفة المجزئة للغسل دون الوضوء أن يعم جميع بدنه بالماء، فهو إذا عم جميع بدنه بالماء فقد ارتفع الحدث الأكبر؛ ولهذا قال ابن عبد البر: “المغتسل إذا عم بدنه ولم يتوضأ فقد أدى ما عليه؛ لأن الله إنما افترض عليه الغسل، وهذا إجماع لا خلاف عليه” فلو أن رجلًا أتى لصنبور الماء، وصب الماء على جميع بدنه، ثم خرج، هل ترتفع عنه الجنابة أم لا؟ ترتفع عنه الجنابة، أو أنه دخل في بركة ثم خرج، أو في مسبح ثم خرج؛ وعم جميع بدنه بالماء فهنا نقول: ارتفع الحدث الأكبر.

هذه إذًا هي الصفة المجزئة.

الصفة الكاملة أشار إليها المؤلف: أولًا: أن يسمي، وقد سبق أن قلنا: إن التسمية على المذهب واجبة مع الذكر، وقلنا: الصحيح أنها مستحبة.

ثم يغسل يديه ثلاثًا، والمقصود باليدين هنا: الكفين.

ثم يزيل ما لوّثه من أذى أشار إليها المؤلف قال: إنها من سنن الاغتسال؛ وذلك بأن يغسل أثر الجنابة، فيغسل فرجه، وما حصل من أثر للجنابة، وجاء في حديث ميمونة: “… ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثًا” [18]، وربما يستعاض عن هذا بأنواع المنظفات في الوقت الحاضر الصابون أو الشامبو، ونحوه.

ثم بعد ذلك بعد ما يغسل فرجه يتوضأ، وهذا أشار إليه المؤلف بقوله: “والوضوء قبله”.

ثم بعد ذلك يحثي على رأسه الماء ثلاثًا، يعني ثلاث مرات، يغسل رأسه ثلاث مرات، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه: “… ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده” [19].

ثم بعد ذلك يغسل بقية بدنه مبتدئًا بشقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، قوله:

وإعادة غسل رجليه بمكان آخر.

فالمذهب عند الحنابلة أنه يغسل رجليه بمكان آخر.

وظاهر كلام المؤلف أن هذه من سنن الغسل مطلقًا، وذهب بعض أهل العلم إلا أنه لا يفعل ذلك، لا يغسل رجليه في مكان آخر إلا إذا كان المكان غير نظيف، كما لو كان مثلًا يغتسل على أرض فيها تراب، أما إذا كان المكان نظيفًا كما عليه الحال الآن في وقتنا الحاضر الاغتسال يكون في دورات المياه وتكون نظيفة، وتكون مبلطة، فلا يشرع غسل رجليه مرة أخرى في مكان آخر؛ وذلك لأنه ما ورد غسل رجليه في مكان آخر؛ وذلك إنما ورد ذلك في حديث ميمونة فقط، ولم يرد في بقية الأحاديث، لم يرد في حديث عائشة، فهذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يفعله في كل مرة عندما يغتسل، وإنما في حديث ميمونة قالوا: لعل المكان لم يكن نظيفًا.

وهنا قال المؤلف: “ثلاثًا” فأفادنا المؤلف هنا إلى أنه يشرع التثليث في الغسل، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا تثليث في غسل البدن؛ لعدم صحته عن النبي .

إذًا صفة الوضوء كاملة مرة أخرى:

أولًا: يسمي، ثم يغسل كفيه ثلاثًا، ثم يغسل فرجه وما أصابه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على جسده مبتدئًا بشقه الأيمن ثم الأيسر.

هذه هي الصفقة الكاملة في الاغتسال ولو أنه عمم الماء جميع بدنه لأجزأ ذلك، لكن لا بد في هذه الصفة الكاملة من تعميم الماء جميع البدن، أقول هذا لأنه مرة من المرات سألنا سائل قال: إنه كان يفعل هذه الطريقة، لكن ما كان يغسل رأسه يبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر، واستمر على هذا مدة طويلة؛ ولهذا لا بد من تعميم البدن بالماء، لكن يكون بهذه الطريقة الكاملة، قال:

من نوى غسلًا مسنونًا أجزأ عن الواجب

ومن نوى غسلًا مسنونًا أو واجبًا أجزأ عن الآخر.

غسلًا مسنونًا يعني: مثل غسل الجمعة مثلًا.

“أو واجبًا” مثلًا غسل الجنابة، قال: “أجزأ عن الآخر” قال الموفق ابن قدامة: “إنه إذا اغتسل ينوي الطهارتين أجزأ عنهما” يعني عن الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، فإذا اغتسل غسلًا واجبًا فعلى رأي الجمهور يجزئ عن الوضوء بشرط ماذا؟

أن يتمضمض ويستنشق، هذا إنسان أراد أن يغتسل غسل الجنابة، فاغتسل غسل الجنابة، وتمضمض واستنشق، وأتى يصلي المهم أنه اعتاض بالاغتسال عن الوضوء، فيقولون: إنه يجزئ ذلك، لكن قال الموفق ابن قدامة في المغني: “وعنه -يعني وعن الإمام أحمد- لا يجزئه حتى يتوضأ، وهو أحد قولي الشافعي”.

فالمسألة إذًا هي محل خلاف، ونقْل بعض العلماء الإجماع لا يصح في هذا؛ ولهذا قول ابن عبد البر: “إن المغتسل إذا عم بدنه ولم يتوضأ فقد أدى ما عليه، وهذا إجماع لا خلاف فيه” حكاية الإجماع هذه غير صحيحة، وابن عبد البر رحمه الله عنده تساهل في حكاية الإجماع، ولهذا نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: لا يجزئه حتى يتوضأ، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأن الله تعالى أمر بالوضوء، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المْرَافِقِ [المائدة:6] قالوا: وهذا لم يتوضأ وإنما اغتسل.

ولعل الأقرب -والله أعلم- أنه إذا نوى بهذا الاغتسال الوضوء وتمضمض واستنشق لعل الأقرب هو قول الجمهور أنه يجزئ؛ لأنهما طهارتان صغرى وكبرى ودخلت الصغرى في الكبرى، لكن مع ذلك أقول: ينبغي لمن أراد أن يغتسل أن يأتي بالصفة الكاملة، فهو إذا أتى بالصفة الكاملة فسوف يتوضأ وبذلك يزول الإشكال.

طيب، إذا نوى غسلًا واجبًا فالقول الصحيح أنه يجزئ عن الغسل المسنون، ويجزئ كذلك عن الوضوء.

الغسل الواجب يجزئ عن الغسل المسنون، يعني مثلًا كان عليه جنابة يوم الجمعة واغتسل للجنابة، فيجزئ عن غسل الجمعة، وكذلك أيضًا على القول الراجح يجزئ عن الوضوء إذا تمضمض واستنشق.

طيب، لو كان العكس؟ أتى بغسل مسنون، هل يجزئ عن الغسل الواجب أم لا؟ يعني: اغتسل للجمعة، هل يجزئ عن غسل الجنابة؟

نقول: إذا نوى ذلك فإنه يجزئ، والأحسن أن ينويه للجنابة وللجمعة جميعًا، أو ينويه للجنابة، لكن إذا نواه للجمعة ناسيًا للجنابة، فبعض العلماء يقولون: إنه لا يجزئه ذلك؛ لأنه لم ينو ارتفاع الجنابة، لكن الأظهر أنه يجزئه؛ لأنه أتى بغسل مسنون مشروع فيجزئه، كما لو توضأ وضوءًا مشروعًا، لو توضأ لقراءة القرآن فله أن يصلي بهذا الوضوء، كذلك لو اغتسل لغسل الجمعة ارتفع الحدث الأكبر.

لكن غسل الجمعة هل يجزئ عن الوضوء أم لا؟ هذا محل خلاف بين العلماء، وأقول: قد حكينا خلاف العلماء في الغسل الواجب هل يجزئ عن الوضوء أم لا؟ فكيف بالغسل المسنون؟

ولهذا فالقول الصحيح أنه لا يجزئ الغسل المسنون عن الوضوء، بل لا بد أن يتوضأ، وبناء على ذلك لا يجزئ غسل الجمعة عن الوضوء، هذا هو القول الصحيح في المسألة، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز، وأيضًا الشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله تعالى أنه لا يجزئ الغسل المسنون عن الوضوء بل لا بد أن يتوضأ، وغسل الجمعة يستحب أن يأتيه على الصفة الكاملة لغسل الجنابة، وهو إذا فعل ذلك سوف يتوضأ في أوله، لكن لو لم يفعل هذا، فنقول: إذا انتهيت من غسل الجمعة فتوضأ، هذه المسألة انتبهوا لها يا إخوان، تجد بعض العامة يغتسل للجمعة ثم يأتي للمسجد الجامع من غير أن يتوضأ، وهذا على القول الصحيح لا يجزئه، بل إن ابن قدامة ذكر في المغني قال: “إذا لم ينو الوضوء لم يجزئه إلا عن الغسل فقط” إذا لم ينو الوضوء حتى في الغسل الواجب لم يجزئه إلا عن الغسل فقط؛ لحديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى [20].

خلاصة الكلام في هذه المسألة، نقول:

إذا نوى غسلًا واجبًا أجزأ عن الغسل المسنون.

وإذا نوى غسلًا مسنونًا أجزأ عن الغسل الواجب على القول الراجح.

هل يجزئ عن الوضوء؟

إذا نوى غسلًا واجبًا أجزأ عن الوضوء في أظهر أقوال العلم بشرط أن يتمضمض ويستنشق.

إذا نوى غسلًا مسنونًا، فإنه لا يجزئ عن الوضوء.

أيضًا نقيد إذا نوى غسلًا واجبًا يجزئ عن الوضوء، نجعله بشرطين: بشرط أن يتمضمض وأن يستنشق، وبشرط أن ينوي الوضوء، هذا الشرط ذكره ابن قدامة في المغني، بشرط أن ينوي الوضوء لا بد أن ينوي الوضوء.

طيب، بالنسبة لرفع الحدث، قال:

نية رفع الحدث

وإن نوى رفع الحدثين أو الحدث وأطلق أو أمرًا لا يباح إلا بوضوء وغسل أجزأ عنهما.

يعني: يكفي أن ينوي رفع الحدث، ما يشترط أن ينوي رفع الحدثين، فيجزئ ذلك ويرتفع الحدث الأصغر والحدث الأكبر، ونحن ذكرنا الخلاف في هذه المسألة، وقلنا: إنهما طهارتان صغرى وكبرى دخلت الصغرى في الكبرى لكن بشرط أن ينوي الوضوء وبشرط أن يتمضمض ويستنشق، قوله:

أو أمرًا لا يباح إلا بوضوء وغسل أجزأ عنهما.

يعني: كالصلاة مثلًا، نوى الاغتسال للصلاة، فيجزئ ذلك، قال:

يسن الوضوء بمد والاغتسال بصاع

ويسن الوضوء بمدّ.

ثم بين مقداره على ما كان في زمن المؤلف.

وهو رطل وثلث بالعراقي، وأوقيتان وأربعة أسباع بالقدسي، والاغتسال بصاع.

وذكر أيضًا مقداره.

وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وعشر أواق وسبعان بالقدسي.

“يسن الوضوء بمد” لأن النبي كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع [21].

“يتوضأ بالمد” ما هو المد؟ المد كما قال صاحب القاموس: “هو ملء كفي الإنسان المعتدل الخلقة إذا مدّهما” كان النبي يتوضأ بقدر هذا.

“ويغتسل بالصاع” الصاع كم مد؟ أربعة أمداد، بقدر هذا أربع مرات، قال رجل لأنس: لا يكفيني، قال: قد كفى من هو خير منك، وأوفر شعرًا [22].

كان عليه الصلاة والسلام شعره طويلًا، ومع ذلك كان يغتسل بالصاع، وهذا يدل على أن المشروع هو الاقتصاد في ماء الوضوء والغسل، وعدم الإسراف، تجد كثيرًا من الناس في الوقت الحاضر عندهم إسراف في ماء الوضوء والغسل. هذا لا شك أنه خلاف السنة؛ ولذلك قالوا: من قلة فقه الرجل ولوعه بالماء، وقد نقل عن أحد تلامذة الإمام أحمد قوله: “كان الإمام أحمد يتوضأ ووالله إني لأستره من العامة خشية أن ينظروا إليه فيقولون: إنه لا يحسن الوضوء” من قلة ولوعه بالماء، والإمام أحمد صاحب سنة وأثر، كان رحمه الله يقتصد في ماء الوضوء حتى إن أحد طلابه يستره من أن يراه العامة فيقولون: إنه لا يحسن الوضوء، فكلما كان الإنسان أفقه كان أقل ولوعًا بالماء.

لكن ورد أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ بثلثي مد [23] يعني: بأقل من المد؛ ولهذا أشار المؤلف قال: “ويكره: الإسراف لا الإسباغ بدون ما ذكر” يعني: إذا حصل الإسباغ بدون ما ذكر، مراد المؤلف: المد والصاع، يعني لو حصل إسباغ بأقل من المد فيجزئ، قد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ بثلثي مد، لكن لاحظوا هنا أنه لا بد من الإسباغ، يعني لا بد من جريان الماء على العضو؛ لأن بعض الإخوة عندهم مبالغة في تطبيق هذا، فبعض الإخوة يقول: إنه يغتسل بماء قليل، لكن في الحقيقة هو يمسح تمسيحًا ليس غسلًا، يأخذ الماء ويمسح بأعضائه، هذا مسح، الغسل لا بد من جريان الماء على العضو، أما مجرد أنك تمسح تمسيحًا هذا ليس غسلًا، ولا يجزئ، فانتبهوا لهذا بعض الإخوة يأخذ هذه المسألة ويغلو فيها، فتؤخذ كما وردت وباعتدال، وهكذا بالنسبة أيضًا بالنسبة للغسل لو كفى أقل من الصاع فلا بأس بذلك؛ ولهذا قال المؤلف: “لا الإسباغ بدون ما ذكر”، قوله:

يباح الغسل في المسجد ما لم يؤذ به

ويباح الغسل في المسجد ما لم يؤذ به.

يعني: لما كان في السابق تكون أحيانًا سقاية في المسجد، فيأتي بعض الناس ويريد أن يتوضأ أو يغتسل فيقول المؤلف: لا مانع يمنع من هذا، وفي الوقت الحاضر هناك دورات مياه ملحقة بالمساجد، وهي تعتبر خارج المسجد، قال:

يباح الغسل في الحمام إن أمن الوقوع في المحرم

وفي الحمام إن أمن الوقوع في المحرم، فإن خيف كره، وإن علم حرم.

 هل مراد المؤلف بالحمام دورات المياه المعروفة في وقتنا الحاضر؟

ليس المقصود بها هذا، دورات المياه التي نسميها الآن دورات مياه نحن، ماذا تسمى عند الفقهاء؟ الخلاء أو الحش أو الكنيف أو المرحاض، أما الحمام يقصدون به أماكن معدة للاغتسال كانت موجودة بكثرة في الشام، وقد ورد أيضًا ذكرها في بعض الأحاديث، وكره بعض السلف الاغتسال في الحمام لما فيه من كشف العورات، ولما فيه من الاختلاط بين الرجال والنساء، وأحيانًا يحصل فيها كشف عورات؛ ولهذا المؤلف كأنه أراد أن يرد على من كره ذلك، قال: إن الاغتسال في الحمام مباح إن أمن الوقوع في المحرم، سواء كان كشف العورة أو الاختلاط.

فإن خيف من ذلك كره، وإن علم حرم، إن كان مجرد تخوف، فيكون مكروهًا، أما إذا تيقن بأنه سيحصل كشف عورة فيكون هذا حرامًا.

ثم قال المؤلف رحمه الله:

الأغسال المستحبة

فصل في الأغسال المستحبة.

انتقل المؤلف بعد ذلك للأغسال المستحبة بعدما تكلم عن الأغسال الواجبة.

وهي ستة عشر:

حصرها في ستة عشر غسلًا، لكننا سنناقش المؤلف فيها، وربما لا يبقى معنا إلا القليل.

غسل الجمعة

آكدها: لصلاة جمعة في يومها لذَكَر حضرها.

آكدها غسل الجمعة، وهذا إنما قال خاص بالذَّكَر؛ ولهذا قال: “لذكر حضرها” فغسل الجمعة إنما يستحب في حق الذكر الذي يحضر الجمعة فقط، وإلا لو كان أيضًا ذكرًا لا يحضر الجمعة مريضًا مثلًا أو مسافرًا لا نقول: إنه يستحب له غسل الجمعة، وهكذا المرأة التي تصليها ظهرًا في البيت لا يستحب لها غسل الجمعة، وإنما يكون مباحًا كسائر الأغسال.

وغسل الجمعة متأكد؛ قد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: غسل الجمعة واجب على كل محتلم [24]، وجاء أيضًا في الحديث الآخر: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل [25].

واختلف العلماء في غسل الجمعة، هل هو واجب أو مستحب؟

فمن أهل العلم من قال: إنه واجب، وهو قول عند الحنابلة، ومن أبرز ممن ذهب إلى هذا القول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وقال: إن النبي أعطي جوامع الكلم، ولو أن فقيهًا من الفقهاء عبر عن حكم بأنه واجب لتلقفه الناس، فكيف بالنبي يقول بصريح العبارة: إن غسل يوم الجمعة واجب، ونحن نقول: إنه ليس واجبًا؟

فأخذ بظاهر اللفظ، أخذ أصحاب هذا القول بظاهر اللفظ.

والقول الثاني وهو قول أكثر العلماء: أن غسل الجمعة مستحب استحبابًا مؤكدًا، هذا قول أكثر أهل العلم، والذي عليه المذاهب الأربعة أكثر أهل العلم على هذا أنه مستحب استحبابًا مؤكدًا؛ وذلك لأنه قد وردت صوارف تصرف الأمر في هذه الأحاديث من الوجوب إلى الندب، ومن ذلك: قصة عثمان لما تأخر عن صلاة الجمعة، وأتى وعمر يخطب والقصة في الصحيحين، أنكر عليه عمر تأخره، فقال: ما إن لبثت إلا توضأت، قال: والوضوء أيضًا؟ [26].

فهذا دليل على هذا، قاله عثمان بمحضر من الصحابة، دليل على أنه لا يجب الغسل، فلو كان واجبًا لما اقتصر عثمان على الوضوء؛ ولما أقره عمر والصحابة على ذلك.

وأيضًا جاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أن النبي  قال: من توضأ يوم الجمعة، ودهن من دهنه، أو مس من طيب بيته، ثم خرج لا يفرق بين اثنين، ثم صلى ما كتب له ثم أنصت إلى أن تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [27]، فهنا في هذا الحديث ذكر الوضوء فقط، ولم يذكر الغسل، ولو كان الغسل واجبًا لذكره.

أيضًا في حديث سمرة -وإن كان في إسناده مقالٌ-: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل [28] لكنه ضعيف، لكن يُستأنس به، ويمكن أن يعضد الأدلة السابقة.

قال الجمهور: وأما قول النبي : غسل الجمعة واجب على كل محتلم فهل عهد من النبي أنه يعبر عن الواجب بقوله: واجب؟ هل عهد في غير هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا محرم، وهذا مكروه؟

لم يعهد هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، ما عهد عنه عليه الصلاة والسلام في لسانه ولغته أنه كان يعبر عن الشيء الواجب بقوله: واجب، وبناء على ذلك نرجع لمعنى الواجب عند العرب، فإذا رجعنا لمعنى الواجب عند العرب وفي لغة العرب، فنقول: إن العرب تقول إذا أرادت أن تأكد شيئًا: حقك علي واجب، فتريد بذلك تأكيده، فمعنى غسل يوم الجمعة واجب ليس واجبًا بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، ولكن المقصود به متأكد.

وهذا القول هو القول الراجح: أن غسل الجمعة مستحب وليس واجبًا؛ لأن أدلة الجمهور أقوى من أدلة أصحاب القول الأول، قال:

الاغتسال من غسل الميت

ثم لغسل ميت.

أي: أنه يستحب الاغتسال من غسل الميت، يعني من تغسيله؛ وذلك لحديث أبي هريرة أن النبي : من غسّل ميتًا، فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ [29]، وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد، ومن العلماء من ضعفه، ومنهم من قال: إنه موقوف، لكن كثير من الحفاظ أثبتوه، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن القطان وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة، وقواه ابن القيم، وقال الحافظ ابن حجر: “هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنًا”.

وقد ذكر له الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل ستة شواهد وقال: “لا شك في صحته” فالأقرب أنه ثابت وهو على الأقل حسن.

لكن لم يقل أحد من العلماء: بأن الاغتسال من تغسيل الميت واجب، ولهذا قال الخطابي: “لا أعلم أن أحدًا من الفقهاء يوجب الاغتسال على من غسل الميت، ولا الوضوء على من حمله، ويشبه أن يكون الأمر على الاستحباب”، فعند العلماء إذًا: يستحب الاغتسال من غسل الميت، ومما يؤيد هذا أنه قد روي عن بعض الصحابة كابن وعمر وأبي هريرة وابن عباس أنهم أمروا غاسل الميت بالوضوء.

فنقول إذًا: من غسّل ميتًا فيستحب له أن يغتسل إن تيسر، فإن لم يتيسر فليتوضأ على سبيل الاستحباب لا الوجوب، وهكذا من حمل الميت يستحب في حقه الوضوء؛ لأننا قلنا: إن هذا الحديث ثابت، وهذا الحديث: من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ فيستحب في حقه أيضًا الوضوء، قال:

الاغتسال للعيد

ثم لعيد في يومه.

يعني: يستحب الاغتسال للعيد، والمقصود لصلاة العيد، وقد ورد في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي كان يغتسل لعيد الفطر والأضحى” [30] وهذا الحديث رواه ابن ماجه، ولكنه حديث ضعيف لا يصح.

والأحكام الشرعية لا تبنى على أحاديث ضعيفة؛ ولهذا فالصواب أنه لا يستحب الاغتسال لصلاة العيد، وإنما يكون مباحًا، لا نقول: إنه مستحب؛ بل الاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل صحيح، الحديث المروي في ذلك حديث ضعيف، قال:

الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء

ولكسوف.

يعني: يستحب الاغتسال لصلاة الكسوف قياسًا على الجمعة، ولكن هذا القياس قياس مع الفارق؛ لأن الجمعة قد ورد فيها النص ولم يرد مثل هذا في الكسوف؛ ولأن الكسوف يقع بغتة؛ ولأنه لا قياس في العبادات، القياس لا يستقيم، ولا يصح في العبادات؛ ولهذا تجد الفقهاء يقولون: لا قياس في العبادات تنظيرًا لكن عند التطبيق تجد أنهم يقيسون، فنحن نقول هنا نستدل بالقاعدة: “أنه لا قياس في أبواب العبادات” قال:

واستسقاء.

كذلك أيضًا قالوا: قياسًا على الجمعة والعيد، ولكن أيضًا هذا القياس نقول فيه كما قلنا في القياس السابق: قياس لا يستقيم؛ لأن النص إنما ورد في الجمعة، ولم يرد في غيرها؛ ولأن صلاة الاستسقاء تختلف عن صلاة الجمعة؛ ولأنه لا قياس في العبادات، فإذًا نقول: إنه لا يستحب الاغتسال لا للعيد، ولا للكسوف ولا للاستسقاء، قال:

لجنون أو إغماء

وجنون.

يعني: لو جن ثم أفاق، وهذا أيضًا ليس عليه دليل، والصواب أنه لا يستحب، قال:

وإغماء.

الإغماء جاء في الصحيحين: “أن النبي أغمي عليه ثم اغتسل” [31].

فنقول: إنه يُستحب الاغتسال بعد الإغماء، ولعل من حكمته أنه يُنشط البدن.

قال:

اغتسال المستحاضة لكل صلاة

ولاستحاضة لكل صلاة.

يعني: يستحب للمرأة المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لزينب بنت جحش لما استحيضت: … ثم اغتسلي لكل صلاة [32] ولكن هذا الحديث رواه أبو داود، لكنه حديث ضعيف، وقد رواه البخاري من حديث أم حبيبة بلفظ: وتوضئي لكل صلاة [33] على أن في إسناده أيضًا مقالًا.

ومعنا بحث لعلنا نقرأه -إن شاء الله- بعدما ننتهي من الدرس.

قيل: إنها مدرجة من أحد الرواة، لكن أم حبيبة اجتهدت فكانت تغتسل لكل صلاة.

الخلاصة: أن الصواب أنه لا نقول: باستحباب الاغتسال للمستحاضة؛ لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على استحباب ذلك، وقلنا: الحديث المروي في ذلك حديث ضعيف.

اغتسال الإحرام ودخول مكة

ولإحرام.

هذا قد ورد في حديث زيد بن ثابت عند الترمذي: أن النبي كان إذا أراد أن يحرم تجرد لإهلاله واغتسل [34] وهو حديث حسن أو صحيح، فيشرع الاغتسال عند الإحرام.

ولدخول مكة.

وهذا قد جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا أراد أن يدخل مكة بات في ذي طوى واغتسل [35].

وذكر أن النبي كان يفعل ذلك، هذا يدل على استحباب الاغتسال لدخول مكة.

وحَرَمها.

يعني: دخول مكة وحرمها، الحكم واحد.

الاغتسال للوقوف بعرفة

ولوقوف بعرفة.

وهذا قيل: إنه قد روي عن ابن عمر، لكنه اجتهاد منه، والاستحباب حكم شرعي؛ ولذلك نقول: الأظهر أننا لا نقول باستحباب الاغتسال في الوقوف بعرفة، قال:

يستحب الاغتسال: لطواف زيارة وطواف وداع ومبيت بمزدلفة ورمي جمار

وطواف زيارة، وطواف وداع، ومبيت بمزدلفة، ورمي جمار.

يعني: كل واحد منها يستحب له الاغتسال، قالوا: لأنها أنساك يحصل فيها اجتماع، أنساك يجتمع لها، فاستحب لها الغسل قياسًا على الإحرام.

ولكن هذا القول محل نظر؛ لأن القول باستحباب الاغتسال يحتاج إلى دليل ظاهر، وليس هناك دليل ظاهر يدل على استحباب الاغتسال لما ذكر.

ولذلك الصواب أننا لا نقول: باستحباب الاغتسال لما ذكره المؤلف من طواف الزيارة، وطواف الوداع، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، الصواب أن الاغتسال لها لا نقول: إنه مستحب، وإنما هو مباح كسائر أنواع الاغتسالات المباحة.

طيب، إذا أردنا بعد ذلك من هذه الستة عشر، كم يشرع الاغتسال؟

نعدُّها مرة ثانية، ما هي الخمسة؟ تعدُّها لنا؟

الجمعة، قلنا: هذا لا إشكال فيه، كذلك في تغسيل الميت، والإغماء، والإحرام، ودخول مكة.

إذًا من هذه الستة عشر، نحن قلنا: لم يبق إلا القليل ما بقي منها إلا خمسة، هذه التي ورد فيها الدليل، أما ما عداها فإما أنها مبنية على علل، أو مبنية على أحاديث ضعيفة، وهذا الذي ينبغي لطالب العلم تمحيص كلام الفقهاء عندما يقولون: يستحب كذا وكذا، لا بد أن يطلب الدليل، ويتأكد من أن هذا الدليل صحيح، قال:

يتيمم لما يسن له الاغتسال لحاجة

ويتيمم للكل لحاجة؛ ولما يسن له الوضوء إن تعذر.

يعني: في الأغسال الخمسة إذا لم يجد ماء فيتيمم لهذه الأغسال، وكذلك ما يسن له الوضوء إن تعذر الوضوء إما لعدم وجوده أو تعذر استعماله فإنه يتيمم.

باقي مسألة من الدرس السابق نبهنا عليها أحد الأخوة يقول: بالنسبة للطهارة للطواف.

طهارة الطواف هذه قلنا: محل خلاف بين العلماء، والجمهور على أنه تشترط الطهارة لصحة الطواف، هذا الذي هو عليه المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة: افعلي ما يفعله الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت [36]، ومنعها من الطواف بالبيت؛ لأنها كانت حائضًا، واستدل بذلك جمهور الفقهاء على اشتراط الطهارة لصحة الطواف.

وذهب بعض أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا تشترط الطهارة لصحة الطواف، قالوا: بأنه لا دليل يدل لذلك، وأما حديث عائشة فإنما منعها النبي من الطواف لا لأجل اشتراط الطهارة، وإنما لأن الحائض ممنوعة من اللبث في المسجد.

ولا شك أن الأحوط في هذه المسألة هو قول الجمهور، وهذا قول أكثر أهل العلم قديمًا وحديثًا، خاصة وأن الجمهور يرون أن الطهارة شرط، وبناء على ذلك لا يصح الطواف، ويترتب على القول بعدم صحة الطواف عدم صحة النسك، ومعلوم أن النسك لا يعتد برفضه؛ ولذلك نقول: الأحوط هو قول الجمهور، لكن ربما يحتاج القول الآخر خاصة إذا استفتى الإنسان بعدما وقع في هذا الأمر.

نكتفي بهذا القدر.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 343.
^2 رواه أبو داود: 206، والنسائي: 193، وأحمد: 868.
^3 رواه أحمد: 847.
^4, ^6 سبق تخريجه.
^5 رواه البخاري: 130، ومسلم: 313.
^7 رواه البخاري: 291، ومسلم: 348.
^8 رواه أبو داود: 4402، والنسائي: 7307.
^9 رواه أبو داود: 355، والترمذي: 605، وقال: حسنٌ، والنسائي: 191، وأحمد: 20611.
^10 رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211.
^11 رواه البخاري: 1253، ومسلم: 939.
^12 رواه أبو داود: 102، والترمذي: 25، وابن ماجه: 397، وأحمد: 11370.
^13 رواه أبو داود: 175.
^14, ^15 رواه مسلم: 330.
^16 رواه مسلم: 332.
^17, ^19 رواه البخاري: 272.
^18 رواه البخاري: 274.
^20 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^21 رواه مسلم: 325.
^22 رواه ابن ماجه: 270، والنسائي: 230، وأحمد: 14976.
^23 رواه ابن حبان: 1083.
^24 رواه البخاري: 858، ومسلم: 846.
^25 رواه البخاري: 877، ومسلم: 844.
^26 رواه البخاري: 878، ومسلم: 845.
^27 رواه البخاري: 910.
^28 رواه أبو داود: 354، والترمذي: 497، وابن ماجه: 1091، والنسائي: 1380، وأحمد: 20089.
^29 رواه أبو داود: 3161، والترمذي: 993، وابن ماجه: 1463، وأحمد: 9862.
^30 رواه ابن ماجه: 1315.
^31 رواه البخاري: 687، ومسلم: 418.
^32 رواه أبو داود: 292.
^33 رواه البخاري: 327، ومسلم: 334.
^34 رواه الترمذي: 830، وقال: حسنٌ.
^35 رواه مسلم: 1259.
^36 رواه البخاري: 294، ومسلم: 1211.
مواد ذات صلة
  • (4) أحكام الغسل

    الأسئلة والأجوبة حكم وضوء مس المرأة بشهوة هناك من يسأل يقول: مس المرأة بشهوة، أليس مَظِنَّةً لخروج المذي؟ نقول: نعم،…

zh