عناصر المادة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنَّته إلى يوم الدِّين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
هذا هو الدرس الثاني في هذه الدورة العلمية، وهو الدرس الأول في التعليق على كتاب “السلسبيل في شرح الدليل” في هذا اليوم السبت الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من عام 1440 للهجرة، والذي يُوافقه السابع والعشرون من الشهر السابع من عام 2019 للميلاد.
وسيكون هذا الدرس في كتاب “المناسك”، ونحن الآن مُقبلون على موسم الحج، وبعضهم يُعبر بـ”المناسك”، وبعضهم يُعبر بـ”كتاب الحج”.
والمؤلف قال: “كتاب الحج”.
ووجه تعبير بعض العلماء بـ”المناسك” حتى يشمل الحجَّ والعمرة، ولكن العمرة تُعتبر حجًّا أصغر.
كتاب الحج
قال المؤلف رحمه الله:
تعريف الحج
الحج معناه في اللغة: القصد.
هذه المادة “الحاء والجيم” تدور حول معنى القصد.
وأما تعريف الحجّ شرعًا فالحجّ أشهر من أن يُعَرَّف، لكن جَرَتْ عادة الفقهاء على تعريف الأبواب التي يقومون بشرحها.
فهناك عدة تعريفاتٍ، ومن أجودها: التَّعبد لله تعالى بأداء النُّسك على ما جاء في السُّنة.
وهذا تعريف الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهو تعريفٌ جامعٌ مانعٌ، ولا بد من إضافة كلمة “التَّعبد”؛ لأن الحجَّ عبادةٌ، فلا بد أن يقصد الحاجُّ التَّعبد لله بهذه العبادة بأداء النُّسك حتى يشمل الحجَّ والعمرة، فإذا كان حجًّا فالمقصود: بأداء أفعال الحجّ على ما جاء في السُّنة، وسيأتي الكلام عن العمرة وتعريفها.
هناك بعض الفقهاء عرَّف الحجَّ بأنه: “قصد مكة لعملٍ مخصوصٍ في زمنٍ مخصوصٍ”، لكن هذا التعريف غير مانعٍ؛ لأنه يدخل فيه مَن قصد مكة للتجارة -مثلًا- في زمنٍ معينٍ، فهو قد قصد مكة لعملٍ مخصوصٍ في زمنٍ مخصوصٍ؛ ولذلك فالتعريف الأول أجود.
تعريف العمرة
العمرة معناها في اللغة: الزيارة.
ومعناها شرعًا: زيارة البيت الحرام على وجهٍ مخصوصٍ.
مادة العمرة في الأصل معناها: الزيارة؛ ولذلك انتبه لهذا التَّعريف، فهذا له أثرٌ في مسألة عمرة المكي.
عمرة المكي
المقصود بالمكي: مَن كان من أهل مكة، أو كان مُقيمًا في مكة، ويريد أن يأتي بعمرةٍ، فهنا لا بد أن يُحرم من خارج حدود الحرم، من الحِلِّ، وأقرب الحِلِّ وأدناه: التَّنعيم، وهذا له أدلةٌ، لكن من جهة النظر قالوا: إن حقيقة العمرة في اللغة هي الزيارة، ولا يصدق على الإنسان أنه زائرٌ إلا إذا أتى من الحِلِّ للحرم، أما إذا كان داخل الحرم ما يصدق عليه أنه زائرٌ، فأخذوا هذا من التعريف اللغوي للعمرة.
فلاحظ هنا كيف أن هذه التعريفات تُفيدنا في بعض المسائل والأحكام الشرعية؛ ولذلك الحاجّ المكي وهكذا مَن كان مُقيمًا في مكة إذا أراد الحجَّ من أين يُحرم؟
يُحرم من مكة، ولا يحتاج إلى أن يخرج خارج حدود الحرم؛ لأنه أصلًا سيجمع بين الحِلِّ والحرم، فإن عرفة من الحِلِّ، ومُزدلفة ومِنًى من الحرم، فهو سيجمع بين الحِلِّ والحرم، لكن في العمرة لن يجمع بين الحِلِّ والحرم إلا إذا خرج خارج حدود الحرم، هذه الفائدة.
إذن أفادنا إياها هذا التعريف للعمرة.
فضل الحج
الحج عبادةٌ عظيمةٌ من أفضل وأجلّ وأعظم العبادات، بل إن ظاهر الأحاديث الواردة في فضله أنه يُكفر جميع الذنوب حتى الكبائر، وهذه خصيصةٌ للحج لا توجد في غيره من العبادات.
فمثلًا: الصلوات الخمس لا تُكفر الكبائر، وصيام رمضان لا يُكفر الكبائر، وصلاة الجمعة لا تُكفر الكبائر، ويدل لهذا قول النبي : الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكَفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر أخرجه مسلمٌ في “صحيحه” [1].
أما الحج فالذي ورد فيه أنه يُكفر جميع الذنوب، ومن ذلك قول الله : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، ومعنى: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ كما قال ابن جرير الطبري وغيره: إنَّ المقصود أنه يرجع من ذنوبه ولا إثم عليه، وليس المعنى: لا حرج عليه، وإنَّما المقصود أنه يرجع من ذنوبه ولا إثم عليه؛ لأنه لا يُقال: لا حرج عليه إذا تأخر، التَّأخر أفضل، كيف يُقال: لا حرج عليه إذا تأخر؟! لكن المقصود: أنه يرجع من ذنوبه وقد حُطَّتْ عنه جميع الآثام، سواء تعجَّل أو تأخَّر إذا اتَّقى الله في حَجِّه.
وإذا كان يرجع ولا إثم عليه، فمعنى ذلك: أنه لا إثم عليه صغيرًا ولا كبيرًا، قد حُطَّتْ عنه جميع الآثام.
وأيضًا قول النبي : مَن حجَّ لله فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُق رجع كيوم ولدته أمه متفقٌ عليه [2]، وهل الذي ولدته أمه عليه ذنوبٌ صغائر أو كبائر؟
أبدًا، حُطَّتْ عنه جميع الذنوب والآثام.
وأيضًا قول النبي : الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [3].
وفي قصة إسلام عمرو بن العاص -وعمرو بن العاص يقولون عنه: أحد دُهَاة العرب الأربعة- لما أراد أن يُسلم قال للنبي : ابسط يمينك أُبايعك. فبسط النبي يده، وقبض عمرو يده، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لك يا عمرو؟ قال: أردتُ أن أشترط. قال: تشترط بماذا؟ قال: أن يُغفر لي. فقال النبي : أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحجَّ –وهذا موضع الشاهد- يهدم ما كان قبله؟ هذا الحديث أخرجه مسلمٌ في “صحيحه” [4].
وأن الحجَّ يهدم ما كان قبله هنا جعل النبي الحجَّ مُكَفِّرًا للذنوب كالإسلام وكالهجرة.
فقوله: يهدم ما كان قبله ظاهره أنه يُكفر جميع الذنوب.
وجاء في حديث العباس بن مِرْدَاس أيضًا ما يدل على أن الحجَّ يُكفِّر جميع الذنوب، حتى ما كان مُتعلقًا بحقوق العباد [5]، لكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، والأقرب -والله أعلم- أن تكفير الحجّ للذنوب إنما هو لما كان مُتعلقًا بحقوق الله تعالى.
هل الحجّ يُكفر ما يتعلق بحقوق العباد؟
أما ما كان مُتعلقًا بحقوق العباد فلا يُكفره الحجّ ولا القتل في سبيل الله، ما يُكفره شيءٌ؛ ولهذا في “السلسبيل” عبارة نُقلتْ عن الإمام ابن تيمية رحمه الله، قال الإمام ابن تيمية في (صفحة 205) -الذي معه “السلسبيل”- قال الإمام ابن تيمية: “حقوق العباد من المظالم وغيرها لا تسقط بالحجِّ باتفاق الأئمة، والحديث الذي يُروى في سقوط المظالم وغيرها بذلك في حديث العباس بن مِرْدَاس حديثٌ ضعيفٌ”.
حقوق العباد -أيها الإخوة- أمرها عظيمٌ عند الله ، عظَّم النبي شأنها في أعظم مجمعٍ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أين؟ ومتى؟
أعظم مجمعٍ خطب فيه النبي عليه الصلاة والسلام، مَن يُجيب هذا السؤال؟
نعم، في الحجِّ، في أي مكانٍ؟
في عرفة لما حجَّ معه قُرابة مئة ألفٍ، يعني: أكثر الصحابة، فعدد الصحابة -كما قال ابن حزمٍ وغيره- مئةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفًا، يعني: حجَّ أكثر الصحابة، وخطب فيهم خطبةً عظيمةً، من أعظم الخطب، افتتحها النبي بقوله: أيها الناس، إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد [6].
فجعل النبي حُرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم كحُرمة اليوم الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام، هل هناك حُرمةٌ أعظم من اليوم الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام؟
حُرمة حقوق العباد، وحُرمة دماء العباد وأموالهم وأعراضهم كحُرمة اليوم الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام.
سبحان الله!
انظر إلى تعظيم الشريعة لشأن حقوق العباد، ومع ذلك -مع الأسف- كما ترون الآن واقع المسلمين!
الآن معظم أخبار القتلى التي نسمعها يوميًّا قتلى من المسلمين!
وترون الآن واقع المسلمين المرير بشأن تعظيم حُرمات المسلمين.
ولذلك حتى في شأن أموال المسلمين، مع أن الأموال أسهل مُقارنةً بالدماء وبالأعراض، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: مَن اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، فقال له رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن قَضِيبًا من أَرَاكٍ [7].
ما القَضِيب من الأراك؟
عُود سِوَاكٍ.
وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ في “صحيحه”.
حتى وإن كان قَضِيبًا من أراكٍ، عُود السِّواك، ما دام أن أخيك المسلم أخذتَه منه وأنت مُتعمدٌ.
فانظر إلى هذا الوعيد: فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، وهذا من نصوص الوعيد، وفي اللفظ الآخر: لَقِيَ الله وهو عليه غضبان [8]، وهو عُود أَرَاكٍ، فما بالك بمَن يقتطع أموالًا أكثر من هذا؟! وما بالك بمَن يتعدى على أعراض المسلمين؟! وما بالك بمَن يتعدى على دماء المسلمين؟!
فحقوق العباد ما يُكفرها شيءٌ، حتى الشهيد الذي قُتِلَ في سبيل الله، الذي باع نفسه لله، تُحَطُّ عنه جميع الذنوب إلا ما كان مُتعلقًا بحقوق العباد، فهذه تبقى لأصحابها يوم القيامة، بل حتى المقتول قصاصًا الذي قَتَلَ غيره، ثم اقتُصَّ منه القصاص، إنما هو حقٌّ لأولياء الدم، أما حقُّ المقتول فيبقى له يوم القيامة.
حقوق العباد أمرها عظيمٌ -أيها الإخوة- ما يُكفرها الحجُّ، ولا الشهادة في سبيل الله، ولا أي شيءٍ، تبقى لأصحابها يوم القيامة، والقصاص بين الناس يوم القيامة يكون بالحسنات والسيئات.
ومن أعظم الحسرات: أن يرى الإنسان أجور أعمالٍ كان يعملها لله من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وصدقاتٍ وغير ذلك تذهب هذه الأجور في موازين غيره بسبب سُوء سلوكه، وسُوء خُلُقه، وتعديه على الناس: ظلم هذا، أكل مال هذا، قذف هذا، سخر من هذا، اغتاب هذا، ثم يوم القيامة تُوزع حسناته وهو ينظر، تُوزع على الناس، فإن فَنِيَتْ حسناته أُخِذَ من سيئاتهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار، فيتحسَّر الحسرات العظيمة.
قد يكون إنسانٌ يُسابق للخير بالصلاة والصيام والصدقات والزكاة، لكن عنده سُوء خُلُقٍ، وعنده جرأةٌ على حقوق العباد؛ فيأخذون من حسناته وهو ينظر، وهذا من أعظم ما يكون من الحسرة.
وإنك لتعجب عندما ترى بعض مواقع التواصل الاجتماعي، تدخل على حساب أحدهم فتجده مليئًا بالسباب وبالشتم وبالقذف في الأعراض، وبتصنيف الناس، وبالوقوع في أعراض أناسٍ هم غافلون، كما قال الله تعالى في شأن المُحصنات: الْغَافِلَاتِ [النور:23].
إنسانٌ غافلٌ، ويأتي آخر ويقع في عِرْضِه ويقذفه ويسبه ويسخر منه، فهذا ما أعظم مُصيبته عندما يلقى ربَّه ! فتُؤخذ حسناته التي عملها لله، وتُعطى لهؤلاء الذين وقع في أعراضهم.
فهذه القضية من القضايا المهمة التي ينبغي أن تكون حاضرةً في ذهن المسلم، وألا يغفل عنها: أن يكون مُعَظِّمًا لحُرمات العباد.
فالحج إذن لا يُكفِّر ما كان مُتعلقًا بشأن حقوق العباد، ولا يُكفِّرها أيُّ شيءٍ آخر؛ ولهذا لما أتى رجلٌ للنبي وقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيل الله تُكَفَّر عني خطاياي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم إن قُتِلْتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ، مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غير مُدْبِرٍ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: كيف قلتَ؟ فأعاد عليه، فأعاد عليه النبي وقال: إلا الدَّين، فإن جبريل قال لي ذلك [9].
إلا الدَّين يعني: إلا ما كان مُتعلقًا بحقوق العباد فلا تُكفِّرها الشهادة في سبيل الله.
خصائص الحج
الحج يتميز بعدة خصائص، فالحج له ميزات وخصائص تُميزه عن بقية العبادات، منها:
أولًا: ما ذكرنا من أن الحجَّ يقع مُكَفِّرًا لجميع الذنوب بما فيها الكبائر إلا ما كان مُتعلقًا بحقوق العباد، بخلاف غيره من العبادات.
ومن أهل العلم مَن قال: إن الكبائر كلها لا بد فيها من توبةٍ. وهذا صحيحٌ، لكن ظاهر النصوص -كما قال ابن حجرٍ وغيره- أن الحجَّ له خصوصيةٌ في تكفير الكبائر.
الحاشية السفلية