الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(4) باب إثبات حوض نبينا ﷺ وصفاته- من حديث “إني لبعقر حوضي..”
|categories

(4) باب إثبات حوض نبينا ﷺ وصفاته- من حديث “إني لبعقر حوضي..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، اللهم آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

تتمة باب إثبات حوض نبينا وصفاته

لا زلنا في كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ” في هذا اليوم الثلاثاء، الثامن من شهر رجبٍ من عام 1441 للهجرة.

وكنا في الدرس السابق قد ابتدأنا في أحاديث صفة حوض النبي ، وذكرنا بعض صفاته ولم نستكمل هذه الأحاديث، فنستمع لما تبقَّى من هذه الأحاديث في هذا الباب.

القارئ:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ عليه وعلى آله أكمل الصلاة وأتم التسليم، اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والسامعين ووالدينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

سعة حوض النبي

قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:

حدثنا أبو غسَّان المِسمعي ومحمد بن المثنَّى وابن بشارٍ -وألفاظهم متقاربةٌ- قالوا: حدثنا معاذٌ، وهو ابن هشامٍ: حدثني أبي، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن مَعدان بن أبي طلحة اليَعمَري، عن ثوبان، أن نبي الله  قال: إني لَبِعُقْر حوضي أذود الناس لأهل اليَمَن، أضرب بعصاي حتى يَرفضَّ عليهم، فسئل عن عَرْضه فقال: من مقامي إلى عَمَّان، وسئل عن شرابه فقال: أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يَغُتُّ فيه مِيزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهبٍ، والآخر من وَرِقٍ [1].

الشرح:

نعم، كما ذكرنا حوض النبي عليه الصلاة والسلام: حوضٌ كبيرٌ متسعٌ جدًّا، ولكل نبيٍّ حوضٌ، لكن حوض نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام هو أعظمها وأكبرها وأوسعها، وهو حوضٌ طوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ، وهذا الحوض قد وردت فيه أحاديث عن النبي بلغت حد التواتر.

أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من يشرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا.

وقلنا: إنه طوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ، وجاء في بعض الروايات…؛ وذلك أن الناس يوم القيامة يكونون على الأرض وقد مدت.

الأرض الآن كرويةٌ، يوم القيامة تمد؛ كما قال سبحانه: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الانشقاق:3]، ويحشر الله تعالى جميع البشر، هم عددٌ كثيرٌ جدًّا لا يحصيهم إلا الله، الآن سكان الأرض أكثر من سبعة ملياراتٍ، وعدد الأنبياء كما جاء في حديث أبي ذرٍّ : مئةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفًا [2]، كل نبيٍّ في أمةٍ، فكم هؤلاء البشر؟

أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام نسبتها إلى بقية الأمم كالشعرة في جلد الثور، خلقٌ عظيمٌ، وليس فقط الإنس، معهم الجن، والملائكة تنزل، الملائكة كلها التي في السماء تنزل إلى الأرض، وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان:25]، وتُحشر معهم الوحوش والطير، وجميع الحيوانات، فموقفهم مهيبٌ جدًّا.

وتدنو الشمس منهم حتى تكون على قدر ميلٍ، ويلجمهم العرق إلجامًا على قدر ذنوبهم، وهو يومٌ طويلٌ جدًّا، مقداره خمسون ألف سنةٍ، لكن الحساب يبدأ بعد خمسةٍ وعشرين ألف سنةٍ…، عند منتصف النهار كما ورد عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ ، أن الحساب يكون بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ.

طيب، خمسٌ وعشرون ألف سنةٍ مدةٌ طويلةٌ جدًّا، كم نسبة عمرك إليها؟! فيومٌ ثقيلٌ، ويومٌ طويلٌ، يكرم الله ​​​​​​​ المؤمنين من هذه الأمة بالشرب من حوض نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذه الشربة إذا شربوا منه، شربوا شربةً لا يظمئون بعدها أبدًا.

وهذا الحوض وردت صفاته بعدة أوصافٍ، مر معنا في الدرس السابق جملةٌ منها، في هذا الحديث قال:

إني لَبِعُقْر حوضي: لبعقر يعني: مؤخرة حوضي.

أذود الناس لأهل اليمن، يعني: أطرد الناس عنه غيرَ أهل اليمن، وهذا فيه منقبةٌ لأهل اليمن، والمقصود بأهل اليمن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام: أهل اليمن المعروفة الآن، وكذلك منطقة عَسيرٍ وما حولها تدخل في مسمَّاها، وهذه منقبةٌ وكرامةٌ لهم؛ وذلك لتقدمهم في الإسلام، وحسن إسلامهم.

وقيل أيضًا: لأن الأنصار من أهل اليمن، والمقصود: المؤمنون منهم، أما غير المؤمنين فلا، لكن المقصود المؤمنون منهم.

قال: أضرب بعصاي حتى يرفضَّ، يعني: يسيل عليهم.

فسئل عن عَرْضه، فقال: من مقامي إلى عَمَّان، عَمَّان: عاصمة الأردن، وفي الرواية الأخرى: من أَيْلَة إلى عَمَّانَ [3]، وفي الرواية الأخرى: من جَرْباء إلى أَذْرُح [4]، وكل هذه لأجل التقريب، وفي الرواية الأخرى: طوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ [5].

كل هذه لأجل التقريب؛ لأن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، مختلفةٌ عنها تمامًا، يعني: الجنة عرضها فقط كعرض السماء والأرض، ما بالك بطولها؟! فأمور الآخرة مختلفةٌ عن أمور الدنيا، لكن هذا من باب التقريب، تقريب هذه المعاني للأذهان.

وأشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وعليه أباريق كنجوم السماء.

القارئ:

وحدثنيه زهير بن حربٍ: حدثنا الحسن بن موسى: حدثنا شيبان، عن قتادة بإسناد هشامٍ بمثل حديثه، غير أنه قال: أنا يوم القيامة عند عُقْر الحوض.

وحدثنا محمد بن بشارٍ: حدثنا يحيى بن حمادٍ: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن ثوبان، عن النبي حديث الحوض، فقلت ليحيى بن حمادٍ: هذا حديثٌ سمعته من أبي عوانة؟ فقال: وسمعته أيضًا من شعبة، فقلت: انظر لي فيه، فنظر لي فيه فحدثني به.

وحدثنا عبدالرحمن بن سلَّامٍ الجُمَحي: حدثنا الربيع -يعني ابن مسلمٍ- عن محمد بن زيادٍ، عن أبي هريرة، أن النبي قال: لأذودن عن حوضي رجالًا؛ كما تُذاد الغريبة من الإبل [6].

الشرح:

لأذودن عن حوضي رجالًا، يعني: يأتي أناسٌ يريدون أن يشربوا منه، فيردهم.

كما تذاد الغريبة من الإبل: لو كان للإنسان مجموعةٌ من الإبل، ودخلت معهم ناقةٌ غريبةٌ، أليس يذودها؟ يذودها، ما تدخل حوشه الخاص به، هكذا أيضًا النبي عليه الصلاة والسلام يذود أناسًا لا يشربون من الحوض.

القارئ:

وحدثنيه عبيدالله بن معاذٍ: حدثني أبي: حدثنا شعبة، عن محمد بن زيادٍ، سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ، بمثله.

وحدثني حرملة بن يحيى: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، أن أنس بن مالكٍ حدثه أن رسول الله قال: قَدْر حوضي كما بين أَيْلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء [7].

الشرح:

نعم، هذا اختلاف في التقديرات، قلنا: من باب التقريب؛ ولتعدد من حضر، فكان عليه الصلاة والسلام يُقرِّب لهم المسألة بحسب فهمهم، وبحسب ما يعرفون من البلدان، ففي الروايات السابقة: ما بين مقامي إلى عَمَّان، وهنا: ما بين أيلة وصنعاء، والمقصود: أن طوله وعرضه متسِعٌ، أن طوله متسعٌ وكذلك عرضه.

وفيه من الأباريق كعدد نجوم السماء، عدد نجوم السماء: كثيرةٌ جدًّا، وهذا يدل على عظيم سعته.

القارئ:

وحدثني محمد بن حاتمٍ: حدثنا عفان بن مسلمٍ الصفَّار: حدثنا وُهَيْبٌ، قال: سمعت عبدالعزيز بن صهيبٍ يحدث، قال: حدثنا أنس بن مالكٍ، أن النبي قال: لَيَرِدَنَّ عليَّ الحوض رجالٌ ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورُفعوا إليَّ اختُلِجوا دوني، فلأقولن: أي رب، أُصَيحابي أصيحابي! فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك [8].

الشرح:

نعم، وهذا يرجح القول بأن المقصود بهم: أهل الردة، قد ذكرنا في الدرس السابق أقوال العلماء في ذلك، وأن الشاطبي قال: “إنهم أهل البدع”، إن هؤلاء الذين يُذادون عن الحوض: أهل البدع، وقيل: المراد بهم: أصحاب المعاصي الكبائر.

وقيل: إن المقصود بهم: المرتدون، الذين ارتدوا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الأقرب؛ بدليل قوله : أصيحابي أصيحابي! [9]، وأيضًا يقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، هذا فيه إشارةٌ إلى أنهم كانوا موجودين زمن حياته عليه الصلاة والسلام، فهذا هو الأقرب، والله أعلم.

وهؤلاء المرتدون قاتلهم الصحابة ؛ كما في عهد أبي بكرٍ الصديق .

القارئ:

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن حُجْرٍ، قالا: حدثنا علي بن مُسهِرٍ، ح، وحدثنا أبو كُريبٍ، حدثنا ابن فُضيلٍ جميعًا، عن المختار بن فُلْفُلٍ، عن أنسٍ، عن النبي  بهذا المعنى، وزاد: آنيته عدد النجوم.

وحدثنا عاصم بن النضر التيمي وهُرَيم بن عبدالأعلى -واللفظ لعاصمٍ– قالا: حدثنا معتمِرٌ، قال: سمعت أبي قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالكٍ، عن النبي قال: ما بين ناحِيَتَي حوضي كما بين صنعاء والمدينة [10].

وحدثنا هارون بن عبدالله: حدثنا عبدالصمد: حدثنا هشامٌ، ح، وحدثنا حسن بن عليٍّ الحُلواني: حدثنا أبو الوليد الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، كلاهما عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي بمثله، غير أنهما شكَّا فقالا: أو مثل ما بين المدينة وعَمَّان، وفي حديث أبي عوانة: ما بين لابَتَي حوضي [11].

وحدثنا يحيى بن حبيبٍ الحارثي ومحمد بن عبدالله الرُّزِّيُّ، قالا: حدثنا خالد بن الحارث، عن سعيدٍ، عن قتادة، قال: قال أنسٌ: قال نبي الله : تُرى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء [12].

عدد الأباريق التي على الحوض

الشرح:

ترى فيه أباريق: الأباريق: التي يسقى بها الناس من هذا الحوض العظيم.

وقوله: كعدد نجوم السماء، بعض العلماء قالوا: إن هذا على ظاهره، وأن عدد الأباريق التي في الحوض كعدد النجوم.

وقال آخرون: إن هذا أسلوبٌ يراد به بيان كثرتها، وليس المقصود أنها كعدد نجوم السماء حقيقةً، ولكن من باب بيان الكثرة، وهذا هو الأقرب؛ لأن هذا أسلوبٌ معروفٌ عند العرب، إذا أرادوا أن يبينوا كثرة الشيء قالوا: كعدد النجوم، فالأقرب -والله أعلم- أن المقصود: أن الأباريق كثيرةٌ، وليس المقصود أنها هي فعلًا عدد نجوم السماء.

القارئ:

وحدثنيه زهير بن حربٍ: حدثنا الحسن بن موسى: حدثنا شيبان، عن قتادة: حدثنا أنس بن مالكٍ، أن نبي الله قال مثله وزاد: أو أكثر من عدد نجوم السماء.

حدثني الوليد بن شجاع بن الوليد السَّكُوني: حدثني أبي رحمه الله: حدثني زياد بن خيثمة، عن سماك بن حربٍ، عن جابر بن سمرة، عن رسول الله قال: ألا إني فَرَطٌ لكم على الحوض، وإن بُعْد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه النجوم [13].

وحدثنا قتيبة بن سعيدٍ وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن المهاجر بن مسمارٍ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاصٍ، قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافعٍ: أخبِرْني بشيءٍ سمعته من رسول الله ، قال: فكتب إليَّ: إني سمعته يقول: أنا الفرط على الحوض [14].

الشرح:

نعم، نلاحظ أن الإمام مسلمًا رحمه الله أطال في ذكر أحاديث الحوض؛ وذلك لأنها أحاديث كثيرةٌ بلغت حد التواتر، وكذلك أيضًا البخاري في “صحيحه” فعل.

اعتقاد أهل السنة في الحوض

ولذلك تجد أن أهل السنة يذكرون في عقائدهم الحوض: “ونؤمن بحوض النبي ، فهو حوضٌ عظيمٌ متسعٌ جدًّا، طوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يَصُب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا”، نسأل الله تعالى أن يسقينا من حوض نبيه شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا.

الطالب:

الشيخ: نعم، ذكرنا هذا، ذكرنا أنها وردت عدة رواياتٍ: صنعاء والمدينة، وعَمَّان والمدينة، وأَيْلة وصنعاء، وأَذرُح، وطوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ، وأن هذا المقصود به التقريب وليس التحديد، التقريب، وأن هذا يختلف باختلاف من كان يحضر للنبي عليه الصلاة والسلام من الصحابة ؛ فبعضهم مثلًا يعرف هذه المدينة، ولا يعرف تلك، فهذا من باب التقريب، هذا يعني أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين سعته العظيمة، فالمقصود هو التقريب، وليس التحديد.

بابٌ في قتال جبريل وميكائيل عن النبي يوم أحدٍ

القارئ:

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشرٍ وأبو أسامة، عن مِسعَرٍ، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعدٍ، قال: “رأيت عن يمين رسول الله وعن شماله يوم أُحدٍ رجلين عليهما ثيابٌ بياضٌ، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني: جبريل وميكائيل عليهما الصلاة السلام” [15].

وحدثني إسحاق بن منصورٍ: أخبرنا عبدالصمد بن عبدالوارث، حدثنا إبراهيم بن سعدٍ: حدثنا سعدٌ، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاصٍ، قال: “لقد رأيت يوم أُحدٍ عن يمين رسول الله وعن يساره رجلين عليهما ثيابٌ بيضٌ، يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد” [16].

الشرح:

الحكمة من قتال الملائكة مع المؤمنين

نعم، هذا يدل على أن الملائكة تقاتل مع المؤمنين، قد حصل هذا في غزوة بدرٍ، وتقاتل مع المسلمين إكرامًا لهم، وتكثيرًا لجيوشهم، وتقوية لقلوبهم، وإرعابًا لقلوب أعدائهم، هذه هي الحكمة من قتالها، مع أن الله تعالى قادرٌ على أن ينصر المسلمين على الكفار من غير حاجةٍ لأن يُنزل الملائكة، ولكن لأجل تحقيق هذه المعاني؛ من باب إكرام المؤمنين، وتكثير جيوشهم، وأيضًا تقوية قلوبهم؛ لأنهم إذا رأوا أن الملائكة نزلت وقاتلت معهم، لا شك أن هذا يعطيهم دفعةً معنويةً كبيرةً، وتقوى قلوبهم وتطمئن، ويزداد يقينهم إذا رأوا أن الملائكة تقاتل معهم.

وأيضًا فيه إرعابٌ للأعداء إذا علموا بأن الملائكة تقاتل مع المؤمنين، ولكن قتال الملائكة مع المؤمنين قال أهل العلم: إنه لم يخرج عن عادة القتال المعتاد بين الناس؛ ولهذا قال هنا: “كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد”، ولو أُذِن لمَلَكٍ واحدٍ من هؤلاء الملائكة بأن يصيح صيحةً في عسكر العدو لهلكوا في لحظةٍ، ولكن لو كان ذلك لكان هذا؛ لكان الإيمان بالغيب مشاهدةً؛ فبطل سر التكليف، هكذا قال أهل العلم.

يقول: لو أن الله تعالى أذن لملكٍ واحدٍ من هؤلاء الملائكة أن يصيح بهؤلاء الكفار لهلكوا في لحظةٍ، لكن هذا فيه منافاةٌ لحكمة الله ؛ لأن الإيمان بالغيب يتحول إلى مشاهدةٍ؛ فيبطل سر التكليف.

وكما قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا [الأنعام:158]، المقصود بــبَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ: ما هو في الآية؛ طلوع الشمس من مغربها، عندما يرى البشرية أن الشمس طلعت من مغربها؛ كل الناس على الأرض يؤمنون، كلهم بلا استثناء، لماذا؟ لأنهم رأوا آيةً كونيةً، انتقلوا من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة.

لكن لا ينفع الإيمان هنا، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]؛ لأن الآية الكونية ما أحد ينكرها، ما ينكرها إلا إنسانٌ مكابرٌ.

ولذلك لما حزن النبي عليه الصلاة والسلام على عدم إيمان قومه؛ قال الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً -يعني: آيةً كونيةً- فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4]، لو أراد الله تعالى من البشر الإيمان لأنزل آيةً كونيةً؛ فآمنوا كلهم، لكن انتقلوا من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة، الله تعالى يريد من البشر الإيمان بالغيب؛ ولهذا إذا بلغت الروح الحلقوم عند موت الإنسان لا تقبل التوبة، لماذا؟ لأن أي إنسانٍ يتوب، أي إنسانٍ، حتى فرعون -أعظم طاغية في تاريخ البشرية- آمن، قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90]؛ لأنه انتقل من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة، رأى الملائكة أمامه تقبض روحه، فهنا لا ينفع الإيمان ولا تنفع التوبة.

فإذنْ إذا انتقل الإنسان من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة لا ينفع الإيمان، ولا تنفع التوبة؛ فلذلك كان من حكمة الله أن الملائكة تقاتل كقتال البشر، وإلا لو أراد الله تعالى؛ أَذِن لملكٍ من الملائكة أن يصيح في هؤلاء الكفار فهلكوا في لحظةٍ واحدةٍ، لكن تقاتل كقتال البشر، وتنزل على صورة البشر؛ حتى لا ينتقل إيمان البشر من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة.

فضل الإنسان إنما هو إذا آمن بالغيب، أما بالشهادة؛ هذا ليس له فضلٌ، لا يمكن هذا لإنسانٍ عاقلٍ؛ ولذلك الناس عندما تطلع الشمس من مغربها يؤمنون كلهم، عندما تبلغ الروح الحلقوم كأي إنسانٍ يؤمن ويتوب، لكن هذا لا ينفع؛ لأنه انتقل من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالشهادة؛ هكذا الملائكة إذنْ؛ تقاتل كقتال البشر.

طيب، الملائكة عندما نزلت لم تنزل بصورتها الملائكية؛ وإنما أتت بصورة البشر، ومعنى ذلك: أن الملائكة قد تتشكل بصورة بني آدم، وتُرى حقيقةً بخلاف صورتها الأصلية.

فهنا في هذه القصة: سعد بن أبي وقاصٍ رأى ملكين عليهما ثيابٌ بيضٌ، “ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني: جبرائيل وميكائيل”، وقوله: “يعني”، هذا من أحد الرواة، الله أعلم، يحتمل أن يكونا جبريل وميكائيل عليهما السلام، ويحتمل أن يكونا غيرهما.

وهنا رآهما عليهما ثيابٌ بيضٌ، أيضًا لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يومًا مع أصحابه أتى رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحدٌ من الصحابة، فجلس بين يدي النبي ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وسأل النبي عدة أسئلةٍ؛ سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ومتى الساعة؟ وما أشراطها؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يجيب، ثم خرج، فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم [17]، جبريل، فأتى على صورة رجلٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فهذا دليلٌ على أن الملائكة قد تتشكل بصورة البشر.

وقد يأذن الله تعالى لبعض البشر برؤية الملائكة، وهنا اختص بذلك سعد بن أبي وقاصٍ، الصحابة لم يروا الملائكة تقاتل، إلا سعدًا هنا، سعد بن أبي وقاصٍ رآهم، وهذا فيه أيضًا فضيلةٌ لسعدٍ اختص بها، كون سعدٍ رأى الملائكة تقاتل، رأى هذين الملكين يقاتلان.

كما خُص عمران بن حصينٍ  بتسليم الملائكة عليه عند السحر، كان عمران بن حصينٍ  معه بواسير، بقي نحو ثلاثين عامًا صابرًا راضيًا محتسبًا، فكانت الملائكة تسلم عليه عند السحر، وما أخبر بذلك أحدًا.

ثم إنه كَوَى وأَخبَر؛ فانقطعت عنه الملائكة فترك الكي، وفي آخر حياته أصبحت الملائكة تسلم عليه؛ ولذلك من حصل له مثل هذا، ينبغي أن يكتم هذا لا يخبر به، لمَّا أَخبَر وكَوَى انقطع تسليم الملائكة عليه، ثم في آخر حياته رجعت الملائكة تسلم عليه [18].

أيضًا أُسيد بن حضيرٍ كان يقرأ القرآن، فكانت الملائكة تتنزل ويراها كأنها ظلةٌ عليها مصابيح، وكان عنده فرسٌ، وكان كلما اقتربت هذه الظلة منها جالت الفرس، فقال عليه الصلاة والسلام: تلك الملائكة أتت تستمع الذكر [19]، تستمع لتلاوة القرآن.

فالملائكة أحيانًا قد تتشكل بصورة البشر، ولله تعالى الحكمة في هذا، أيضًا: حتى الجن أيضًا قد يتشكلون بصورة البشر لبعض الناس، وليس لجميع الناس.

وهنا قال: “عليهما ثيابٌ بياضٌ”، وهذا دليلٌ على فضل البياض من اللباس؛ لأن الملائكة كانت عندما تتشكل بصورة البشر تختار اللون الأبيض؛ فهو لباس الملائكة؛ ولذلك جبريل  لما أتى النبي في صورةٍ رجلٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر؛ فهذا دليلٌ على أن أفضل ما يلبسه الإنسان: الثوب الأبيض.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن من خير ثيابكم البياض، فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم [20]، وأنه حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أصحاب السنن، وأحمد بسندٍ صحيحٍ من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

إذنْ فأفضل ما يلبسه الإنسان من الثياب: هي الثياب البيض، والسنة: أن يكفن في ثيابٍ بيضٍ، والملائكة عندما تتشكل بصورة بني آدم تأتي بشكل بشرٍ يلبس ثيابًا بيضًا.

طيب هنا قال: “يوم أُحدٍ”، وهذا دليلٌ على أن الملائكة أيضًا نزلت تقاتل مع المؤمنين يوم أحدٍ كما نزلت معهم يوم بدرٍ، ولم يختص ذلك بيوم بدرٍ؛ وإنما حتى في أحدٍ.

بابٌ في شجاعة النبي وتقدمه للحرب

القارئ:

حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وسعيد بن منصورٍ وأبو الربيع العتكي وأبو كاملٍ -واللفظ ليحيى؛ قال يحيى: أخبرنا، وقال آخرون: حدثنا- حماد بن زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: كان رسول الله أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلةٍ، فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا -وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرسٍ لأبي طلحة عُرْيٍ في عنقه السيف- وهو يقول: لم تُراعُوا، لم تُراعُوا، قال: وجدناه بحرًا، أو إنه لبحرٌ، قال: وكان فرسًا يُبَطَّأ [21].

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيعٌ، عن شعبة، عن قتادة، عن أنسٍ، قال: كان بالمدينة فزعٌ، فاستعار النبي فرسًا لأبي طلحة، يقال له: “مندوبٌ”، فركبه، فقال: ما رأينا من فزعٍ، وإنْ وجدناه لبحرًا [22].

وحدثنا محمد بن المُثَنَّى وابن بشارٍ، قالا: حدثنا محمد بن جعفرٍ، ح، وحدثنيه يحيى بن حبيبٍ: حدثنا خالدٌ -يعني ابن الحارث- قالا: حدثنا شعبة، بهذا الإسناد، وفي حديث ابن جعفرٍ قال: “فرسًا لنا”، ولم يقل: “لأبي طلحة”، وفي حديث خالدٍ: عن قتادة: سمعت أنسًا.

الشرح:

نعم، ابتدأ المؤلف هذا الباب بأربعة شيوخٍ له:

قال: حدثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصورٍ وأبو الربيع العَتَكي وأبو كاملٍ، فهي من رُباعيَّات المصنف رحمه الله، وهذا الحديث رواه أيضًا البخاري [23].

عن أنس قال: “كان رسول الله أحسن الناس” -يعني: خلقًا، كما جاء ذلك في الروايات الأخرى- “وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس”، فأتى بهذه الأوصاف الثلاثة: أحسن الناس خلقًا، وأجود الناس، وأشجع الناس.

واقتصار أنسٍ  على هذه الأوصاف الثلاثة؛ لأنها أمهات الأخلاق؛ فإن في كل إنسانٍ ثلاث قوًى:

  • الأولى: القوة الغضبية، وكمالها الشجاعة.
  • والثانية: القوة الشهوانية، وكمالها الجود.
  • والثالثة: القوة العقلية، وكمالها النطق بالحكمة.

فالشجاعة كان أشجع الناس، والجود كان أجود الناس، والنطق بالحكمة كان أحسن الناس خُلقًا، فهو عليه الصلاة والسلام جمع أحسن الأخلاق؛ ولهذا وصفه ربنا بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فقال: وَإِنَّكَ فأتى بحرف التأكيد (إنَّ)، ثم أتى باللام، وهي أيضًا مؤكدةٌ، ثم أتى بحرف الاستعلاء (على)، ثم وصف الخلق بأنه عظيمٌ، فهذا يدل على عظمة حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، فجمع أعظم الأخلاق، وأحسن الأخلاق، ومكارم الأخلاق.

فهنا أنسٌ اقتصر على ذكر هذه الأوصاف الثلاثة؛ لأنها أمهات الأخلاق، ثم ذكر أنسٌ  مثالًا لذلك، قال: “فزع أهل المدينة ذات ليلةٍ”، سمعوا صوتًا مرعبًا في الليل، لا يدرون ما هو، ففزعوا وخافوا، فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، فكان عليه الصلاة والسلام سبق وهو على فرسٍ لأبي طلحة ، استعار فرسًا لأبي طلحة يقال لها: “المندوب”.

“عُرْيٍ” معنى عُرْيٍ يعني: لا سَرْج عليه؛ لأن الفرس قد يكون عليه السرج، الذي يكون بين الراكب وبين ظهر هذه الفرس، وقد لا يكون، ويقال له: فرسٌ عُرْيٌ، فهذا من شدة استعجاله عليه الصلاة والسلام في الأمر ركب فرسًا عُرْيًا.

“في عنقه السيف” يعني: تقلد السيف وهو راجعٌ، على هذا السيف، يقول: لم تُراعُوا، لم تُراعُوا، يعني: لا رَوْع عليكم، وهذا أسلوبٌ معروفٌ عند العرب، إذا أرادوا أن يطمئنوا غيرهم قالوا: “لم تراعوا، لم تراعوا”، يعني: لا تخافوا، لا روع عليكم.

قال: وجدناه بحرًا: يعني: وجدنا هذا الفرس بحرًا، وإنه لبحرٌ؛ وذلك في سرعة جريه، فشبه النبي عليه الصلاة والسلام هذا الفرس في سرعة جريه بالبحر.

“وكان فرسًا يُبَطَّأ” يعني: معروفٌ أنه فرسٌ بطيءٌ، لكن لما ركبه النبي أدركته بركته، فسبحان الله! أصبح أسرع الجياد؛ ببركة النبي عليه الصلاة والسلام.

والنبي عليه الصلاة والسلام كان الصحابة يتبركون به وبآثاره، فلما ركب هذا الفرس نالته بركته، فأصبح فرسًا سريعًا، مع أنه كان قبل ذلك بطيئًا؛ ولذلك قال: “وكان فرسًا يُبَطَّأ”.

فوائد من الحديث

  • هذا الحديث فيه دليلٌ على شجاعة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لما حصل هذا الفزع ركب الفرس، وخرج قبل الناس كلهم؛ ليكشف الحال، ورجع قبل وصول الناس، وهذا دليلٌ على عظيم شجاعته عليه الصلاة والسلام، فكان أشجع الناس.

والشجاعة: هي قوة القلب في الإقدام على الأمور المحمودة، ويقابلها الجبن، والجبن من الصفات المذمومة، فبعض الناس يكون جبانًا، وأما الشجاعة فإنها محمودةٌ.

لكن الشجاعة خلقٌ فاضلٌ بين خلقين مذمومين، ما هما؟ الجبن والتهور، إذا زادت الشجاعة عن حدها أصبحت تهورًا، وإذا ضعفت أصبحت جبنًا.

وتجد أن الأخلاق الكريمة وسَطٌ بين خلقين مذمومين، الكرم خلقٌ كريمٌ بين خلقين مذمومين، وهما: البخل والإسراف والتبذير، أيضًا: الشجاعة خلق كريم بين الجبن وبين التهور.

فالشجاعة من الأخلاق الكريمة التي كانت العرب تتمدح بها، وتثني بها على الناس، ولا يمكن للإنسان أن ينال السيادة، والتميز في المجتمع إذا كان جبانًا، لا بد من الشجاعة.

وإذا اجتمع مع الشجاعة سداد الرأي، فهذا هو الذي يفوق غيره؛ كما قال المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أولٌ وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرةً

 نالت من العلياء كل مكان

لكن مَن الذي يجتمع عنده جودة الرأي والشجاعة؟ قليلٌ من الناس؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الناس كإبلٍ مئةٍ لا تكاد تجد فيها راحلةً [24]، قليلٌ من الناس؛ بعض الناس شجاعٌ، لكن ما عنده جودة رأيٍ، وبعض الناس على العكس؛ حكيمٌ وعنده جودة رأيٍ، لكنه جبانٌ، وبعض الناس لا رأيٌ ولا شجاعةٌ، والقسم الرابع من كان عنده حسن وجودة الرأي والشجاعة، وهذا هو أكمل الأصناف، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان عنده هذا الأمر، كان عنده جودة الرأي والشجاعة، فكان أشجع الناس، وانظر كيف أنه ركب هذا الفرس، واستعاره من أبي طلحة وذهب، ثم رجع للناس في المدينة وطمأنهم، وقال: لم تُراعُوا، لم تُراعُوا.

  • وأيضًا من فوائد هذا الحديث: عظيم بركته عليه الصلاة والسلام في انقلاب الفرس البطيء سريعًا، هذا فرسٌ معروفٌ، واشتهر بين الناس بأنه بطيءٌ، لكن لما ركبه النبي عليه الصلاة والسلام أصبح سريع الجري، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام شبهه بالبحر، قال: وإنْ وجدناه لبحرًا.
  • وأيضًا من فوائد هذه القصة: جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو، ما لم يتحقق الهلاك، فإذا انتاب الناس شيْءٌ، إذا أمكن الإنسان أن يذهب ويتحقق ويطمئن الناس؛ كان هذا حسنًا.
  • وأيضًا من فوائد هذه القصة: أن الناس عندما يصيبهم ذعرٌ وفزعٌ، ينبغي أن يحرص على تطمينهم وعدم ترويعهم، وهذا متأكِّدٌ خاصةً على أهل العلم.
  • ومن فوائده أيضًا: استحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب.
  • وأيضًا من فوائده: أنه لا بأس بتسمية الحيوانات بأسماء مناسبةٍ؛ ولهذا سمي هذا الفرس بالمندوب، وحيوانات النبي عليه الصلاة والسلام لها أسماءٌ؛ ناقته العضباء، وهذا الفرس بالمندوب، قال القاضي عياض: “كان في أفرُس النبي عليه الصلاة والسلام فرسٌ يقال له: “المندوب”، فربما يكون فرسًا آخر، أو أنه صار إليه بعد أبي طلحة، فهو محتملٌ.

قال النووي: “قلت: ويحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم”، وعلى كل حالٍ لا يترتب على الخلاف في هذه المسألة كبير فائدةٍ.

باب كان النبي  أجود الناس بالخير من الريح المرسلة

القارئ:

حدثنا منصور بن أبي مزاحمٍ: حدثنا إبراهيم -يعني ابن سعدٍ- عن الزهري، ح، وحدثني أبو عمران محمد بن جعفر بن زيادٍ -واللفظ له- أخبرنا إبراهيم، عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعودٍ، عن ابن عباسٍ، قال: “كان رسول الله أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان؛ إن جبريل  كان يلقاه في كل سنةٍ في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة” [25].

حدثناه أبو كريبٍ: حدثنا ابن مباركٍ، عن يونس، ح، وحدثني عبد بن حميدٍ: أخبرنا عبدالرزاق: أخبرنا معمرٌ، كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد نحوه.

الشرح:

نعم، هذا في بيان جود النبي ، والجود بمعنى: الكرم، وكان عليه الصلاة والسلام كريمًا سخيًّا جوادًا، والسخاء والكرم والجود من أعظم محاسن الأخلاق، والبخل ضده.

والجود والكرم يعتبر من نقاط القوة عند الإنسان، وهو يستر كثيرًا من عيوب الإنسان، وهو أيضًا العرب تتمدح به مع الشجاعة، ويقولون: إنه لا يمكن أن يكون سيدًا في قومه إلا من كان كريمًا شجاعًا، فالبخيل لا يمكن أن يكون سيدًا، والجبان لا يمكن أن يكون سيدًا.

“كان النبي كان أجود الناس بالخير”، كان كريمًا، وكان من جوده وسخائه أنه ما سُئل شيئًا فمنعه، ولا سُئل شيئًا فقال: لا، كما سيأتي، وسيذكر المؤلف أحاديث في جوده عليه الصلاة والسلام، وعظيم سخائه وكرمه، فكان أجود الناس بالخير، وكان معروفًا بالكرم.

لكن كان جوده يتضاعف في رمضان؛ ولهذا قال: “وكان أجود ما يكون في شهر رمضان”، والحكمة من كون جوده عليه الصلاة والسلام يتضاعف في رمضان، وأجود ما يكون في رمضان: أن مدارسته جبريل  القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سببٌ للجود، هكذا قال أهل العلم.

وأيضًا رمضان موسم الخيرات؛ لأن نعم الله تعالى على عباده فيه زائدةٌ، فكان يؤثر متابعة سنة الله في عباده، ذكر هذا الحافظ ابن حجرٍ في “الفتح”، يعني جود الله تعالى يتضاعف على عباده في رمضان، فكان عليه الصلاة والسلام أيضًا يحب أن يكون جوادًا في رمضان، يَكثر جوده وعطاؤه في رمضان.

قال: “وكان أجود ما يكون في رمضان”: “وكان أجود”، “أجودُ” بالرفع، ورُوي: “أجودَ” بالنصب، فإذا قلنا: أجودَ يكون خبرًا، يعني: كان رسول الله أجودَ، وإذا قلنا: “أجودُ” كان “أجودُ” اسم كان.

والنووي رحمه الله ذكر الوجهين والروايتين، وقال: “والرفع أصح وأشهر”، يعني: “وكان أجودُ ما يكون في شهر رمضان”.

“إن جبريل “، وهو الروح الأمين، أعظم الملائكة، “كان يلقاه في كل سنةٍ”، وقوله: “في كل سنةٍ”، جاء في بعض نسخ “صحيح مسلمٍ”: “في كل ليلةٍ”، والنووي رحمه الله قال: كذا في جميع النسخ: “في كل سنةٍ”، ونقله القاضي عياض عن عامة الروايات والنسخ، وفي بعضها: “كل ليلةٍ”، بدل: “كل سنة”، قال: وهو المحفوظ.

فالمحفوظ من الرواية: “كان يلقاه في كل ليلةٍ”، هذا الأصح في الرواية، فيكون إذنْ جبريل  يلقى النبي عليه الصلاة والسلام في كل ليلةٍ من ليالي رمضان، “حتى ينسلخ” يعني: إلى نهاية شهر رمضان، “فيعرض عليه رسول الله القرآن” من الذي يعرض على الآخر؟

النبي عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن على جبريل  ، أي يقرأ النبي على جبريل  القرآن عن ظهر قلبٍ.

لكن البخاري في “صحيحه” عقد ترجمةً قال: “بابٌ كان جبريل يعرض القرآن على النبي “، فهذا خلاف ما ذكرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام يعرض على جبريل القرآن، والبخاري قال: “بابٌ كان جبريل يعرض القرآن على النبي “.

وأجيب عن ذلك: بأنه لا تعارض؛ إذ إن كلًّا منهما يعرض القرآن على الآخر، وهذا هو معنى المدارسة، فعندما تقول: أنا أتدارس القرآن مع فلانٍ، معنى ذلك أنه يعرض عليك حفظه، وتعرض أنت حفظك عليه، هكذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض على جبريل ، وجبريل يعرض عليه؛ فلذلك لا تعارض بين الروايتين، كل منهما يعرض على الآخر، فيتدارسان القرآن.

وقال: “فإذا لقيه جبريل كان رسول الله أجود بالخير” -يعني: يتضاعف جوده إذا لقي جبريل – “أجود بالخير من الريح المرسلة”، والريح المرسلة: هي ريح الرحمة التي يرسلها الله لإنزال الغيث؛ بخلاف الريح العقيم الضارة.

فالريح إما أن تكون ريحًا مرسلةً بالرحمة، وإما أن تكون ريحًا عقيمًا، الريح العقيم التي أهلكت قوم عادٍ، هذه ريحٌ ضارةٌ، ريح عذابٍ، لكن الريح المرسلة هي ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث، وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]: هي الرياح التي تَذُرُّ السحاب، فكان عليه الصلاة والسلام يتضاعف جوده في رمضان.

من فوائد الحديث

وهذا الحديث فيه عدة فوائد:

منها أولًا: عظيم جود النبي عليه الصلاة والسلام، وعظيم سخائه وكرمه، كان أجود الناس، وأيضًا: كان جود النبي عليه الصلاة والسلام يتضاعف في رمضان، وذكرنا الحكمة في ذلك.

وأيضًا من الفوائد: استحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار؛ لأن النبي اختارها ليتدارس بها مع جبريل .

وقد يقول قائل: إن المقصود من المدارسة تجويد الحفظ، لكن يقال: إن الحفظ كان حاصلًا للنبي عليه الصلاة والسلام، والله تعالى يقول: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى:6]، وتجويد الحفظ يحصل ببعض المجالس، أما كل ليلةٍ من ليالي رمضان، فهذا يدل على فضل مدارسة القرآن في رمضان.

وأخذ بعض العلماء من هذا فائدةً، وهي أن مدارسة القرآن في الليل أفضل منه في النهار؛ لأن جبريل  يدارس النبي عليه الصلاة والسلام في الليل أو في النهار؟ في الليل؛ فقالوا: إن مدارسة القرآن في ليالي رمضان أفضل منها في النهار.

هل يستنبط من هذا: أن حلقات تحفيظ القرآن الكريم الأفضل أن تكون في ليالي رمضان أفضل من النهار؟ نعم، يستفاد هذه الفائدة، كون الحلقات تكون في الليل، تكون مثلًا بعد صلاة التراويح؛ أفضل من كونها في النهار؛ لأن من يفعل ذلك يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في مدارسته القرآن مع جبريل .

طيب، لماذا كان جبريل  يدارس النبي عليه الصلاة والسلام كل ليلةٍ؟ ونحن قلنا: إنه عليه الصلاة والسلام قد أقرأه الله القرآن فلا يَنسى، سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى:6]، يعني: ليس المقصود من التجويد الحفظ.

الجواب عن ذلك: قال أهل العلم: ليكون سنةً في الأمة؛ كتجويد التلاميذ على الشيوخ قراءتهم، وأنه ينبغي لمن حفظ القرآن أن يراجعه، وأن يجوده على قارئٍ متقنٍ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعبٍ : إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك سورة: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1]، قال أبيٌّ: وسمَّاني؟ قال: وسماك باسمك، فبكى أبي! [26].

طيب، لماذا اختار النبي عليه الصلاة والسلام أبيًّا من بين سائر الصحابة ؟ لأن أبيًّا كان معروفًا بالحفظ والضبط والإتقان، وكان من القراء المشهورين، اشتهر بذلك، فهذه الحكمة -والله أعلم- من هذه المدارسة ليس لأجل تجويد الحفظ؛ وإنما لأجل أن يكون سنةً في الأمة، وأن من حفظ القرآن ينبغي أن يدارس غيره به، لكي يتعاهد حفظه.

والقرآن يؤخذ بالتلقي، إذا أردت أن تحفظ القرآن لا بد من أن تحفظه بالتلقي على قارئٍ متقِنٍ، أما أن الإنسان يفتح المصحف ويريد أن يحفظ على نفسه؛ فهذا خطأٌ منهجيٌّ، لماذا؟

لأنه سيحفظ خطأً؛ فبعض الآيات تُنطق على غير المكتوب في المصحف؛ لأنه مكتوب بالرسم العثماني، فمعنى ذلك أنه سيحفظ حفظًا غير متقَنٍ؛ ولذلك أفضل طريقةٍ لحفظ القرآن: أن تحفظه على قارئٍ متقِنٍ، نعم، قد يستعان بالمسجلات التي فيها بعض القراء، لكن الأفضل أن يكون قارئًا؛ لأنه أحيانًا المسجل لا ينبه من يحفظ للخطأ، لكن إذا حفظت على قارئٍ متقنٍ ينبهك على الخطأ؛ ولذلك أفضل طريقة لحفظ القرآن: أن تحفظه على قارئٍ متقنٍ؛ مثل حلقات تحفيظ القرآن الموجودة الآن في المساجد ولله الحمد، فكون بعض الناس يقول: أنا أحفظ على نفسي، هذا من الناحية المنهجية خطأٌ، إذا أردت أن تحفظ القرآن؛ احفظه على قارئٍ متقنٍ، الْتحِق بحلقةٍ من حلقات التحفيظ، أو اتفِق مع أحدٍ من القراء المتقنين واحفظ عليه، هذه أكمل الأحوال، إن لم يتيسر هذا فاحفظه على مسجلٍ من أحد القراء المتقنين؛ أما أن تفتح المصحف وتحفظ وحدك، فهذا يترتب عليه أنك تحفظ خطأً؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يدارس جبريل  بالقرآن؛ ليكون هذا سنةً في الأمة.

وهنا بعض العلماء قال: إنه قد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض المصحف على جبريل في كل عامٍ مرةً في رمضان، إلا في العام الذي توفي فيه، عرض عليه المصحف مرتين، فقالوا: إن مدارسة النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل كانت كل ليلةٍ جزءًا؛ لأن رمضان كم يومًا؟ ثلاثون يومًا، معنى ذلك أنه قسَّم المصحف ثلاثين جزءًا.

فالله تعالى أعلم، يحتمل أن يكون هذا، لكن هذا استنباطٌ من بعض أهل العلم، وإن كان ليس فيه شيءٌ مرفوعٌ، لكن هذا هو الظاهر؛ لأنه كان يعرض عليه المصحف مرةً واحدةً، معنى ذلك أنه كان يقسم المصحف ثلاثين جزءًا لأجل هذه المدارسة.

ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم على مدارسة القرآن، أولًا على أن يسعى لحفظ ما تيسر من القرآن، وأيضًا إن استطاع أن يحفظ القرآن كاملًا فهذا هو المطلوب، وحفظ القرآن منقبةٌ عظيمةٌ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البررة [27] فهو منقبةٌ عظيمةٌ عَلِيَّةٌ رفيعةٌ، لكن إذا لم تيسر للإنسان حفظ القرآن كاملًا فلا أقل من أن يحفظ بعض الأجزاء وبعض السور.

فهذه المدارسة والحفظ شيءٌ، والتلاوة أيضًا يجعل لها نصيبًا آخر من وقته، التلاوة عملٌ صالحٌ عظيمٌ، وأثنى الله تعالى على من يعتني بالتلاوة، قال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ۝لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:29-30]، ومن قرأ حرفًا من القرآن له حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، عد بعض أهل العلم حروف القرآن وضَرَبها في عشرةٍ، قالوا: إذا ختمت القرآن فأنت موعود بأن تحصل على أكثر من ثلاثة ملايين حسنةٍ، هذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء.

فينبغي أن يجعل المسلم لنفسه كل يومٍ قدرًا معينًا من القرآن لا ينقص عنه، وهذا ما يسميه السلف حزبًا، ليس حزبًا بالمصطلح المعروف عند أهل التجويد، لا، الحزب يعني: قدرًا معينًا، وإذ قُدِّر أن عَرَض له عارضٌ يقضيه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من نام عن حزبه -يعني: من القرآن- فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كتب كأنما قرأه من الليل [28]، بعض الناس يجعل تلاوة القرآن على وقت فراغه؛ إن أتى المسجد مبكرًا قرأ القرآن؛ ولذلك ربما تمضي عليه أيامٌ كثيرةٌ ما قرأ فيها شيئًا من القرآن، وهذا تقصيرٌ كبيرٌ، هذا لا يليق بالمسلم، خاصةً طالب العلم.

وأعرف أناسًا أحياءً يُرزقون يختمون القرآن في رمضان في كل يومٍ مرةً، وفي غير رمضان في كل يومين مرةً، فهذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا حسد -يعني: لا غبطة- إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار -يعني: يقرؤه في ساعات الليل وساعات النهار، فهذا الذي ينبغي أن يغبط- ورجلٍ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق [29]، يعني: على إنفاقه، الغني هذا الذي ينفق الأموال في سبيل الله، وهذا الذي يقرأ القرآن ساعات الليل وساعات النهار، هذان هما اللذان ينبغي أن يُغبطا؛ وذلك لعظيم أجورهما وفضلهما.

باب كان رسول الله أحسن الناس خُلُقًا

القارئ:

حدثنا سعيد بن منصورٍ وأبو الربيع، قالا: حدثنا حماد بن زيدٍ، عن ثابتٍ البُنَاني، عن أنس بن مالكٍ، قال: “خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي: أُفًّا قط، ولا قال لي لشيءٍ: لم فعلت كذا؟! وهلا فعلت كذا؟!”، زاد أبو الربيع: “ليس مما يصنعه الخادم”، ولم يذكر قوله: “والله” [30].

وحدَّثَناه شيبان بن فَرُّوخٍ: حدثنا سلَّام بن مسكينٍ: حدثنا ثابتٌ البُنَاني، عن أنسٍ، بمثله.

وحدَّثَناه أحمد بن حنبلٍ وزهير بن حربٍ جميعًا، عن إسماعيل -واللفظ لأحمد- قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم: حدثنا عبدالعزيز، عن أنسٍ، قال: “لما قدم رسول الله المدينة؛ أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله ، فقال: يا رسول الله، إن أنسًا غلامٌ كَيِّسٌ؛ فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيءٍ صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟! ولا لشيءٍ لَمْ أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟!” [31].

الشرح:

نعم، أنس بن مالكٍ لما قدم النبي المدينة كان عمره عشر سنين، وفي الرواية الأخرى أن الذي أتى به أمُّه أم سُليمٍ، وكان أنسٌ يتيمًا، وكانت أم سليمٍ قد تزوجت أبا طلحة، فأتت به أمُّه وقالت: يا رسول الله، هذا أنسٌ غلامٌ يخدمك، ادع الله له -وهذا من حكمتها وعقلها- قال أنسٌ: «فدعا لي النبي بثلاث دعواتٍ رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأرجو الثالثة في الآخرة، قال: اللهم أكثر ماله وولده -هذه الأولى- وأطل عمره -هذه الثانية- واغفر ذنبه -هذه الثالثة- يقول: رأيت الأولى والثانية، قال: فأكثر الله مالي، فإني أكثر الأنصار مالًا، وإن بستاني ليثمر في السنة مرتين -العادة في البساتين أن تثمر في السنة مرةً واحدةً، إلا بستان أنسٍ، مرتين؛ ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام- قال: وأكثر الله ولدي، حتى أصبحت لا أحصيهم، وحدثتني -هذه في “البخاري”- ابنتي أُمَيْنة: أنه دُفن لصلبي سنة الحجاج بضعٌ وعشرون ومئةٌ من الولد لصلبي  -ليسوا أحفادًا، وهذا يدل على كثرة الإماء عنده؛ وإلا فحتى أربع زوجاتٍ لا يلدن هذا العدد الكثير، لكن يدل على أن عنده كثرة إماءٍ، فأكثر الله ولده، وأطال الله عمره- قال: حتى جاوزت المئة عامٍ، حتى استحييت من أهلي، واشتقت للقاء ربي -فرأى هاتين الثنتين في الدنيا- قال: وأنا أرجو الثالثة في الآخرة، وهي مغفرة الذنوب [32].

انظر بركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام! وهذا يدل على أن الدعاء بكثرة المال والولد لا بأس به، لكن ينبغي أن يقيد ذلك: “على طاعته”، وهكذا الدعاء بطول العمر؛ لأن طول العمر إما أن يكون نعمةً، أو يكون نقمةً؛ إذا كان على طاعة الله كان نعمةً؛ لأن الحسنات تكثر، وإذا كان على العمل السيئ يكون نقمةً؛ لأن السيئات تكثر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: خيركم: من طال عمره وحسن عمله؛ وشركم: من طال عمره وساء عمله [33]، كما عند الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ.

أنسٌ أتى به أبو طلحة ، أبو طلحة زوج أمه، يحتمل أن أمه أتت به، ثم أتى به بعد ذلك زوج أمه أبو طلحة، قال: “إن أنسًا غلامٌ كَيِّسٌ”، يعني: فطنٌ، يريد أن يرغب النبي عليه الصلاة والسلام فيه، وأم أنسٍ وأيضًا زوج أمه يريدان أن أنسًا ليس فقط لأجل خدمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن يتتلمذ عليه ويستفيد منه؛ كونه يخالط النبي عليه الصلاة والسلام ويكون معه ويخدمه سيستفيد فائدةً عظيمةً.

فوهبه للنبي عليه الصلاة والسلام؛ ليكون خادمًا، فخدم النبي عشر سنين، يقول: “والله ما قال لي: أفًّا قط” -أفٍّ قط ما قالها- “ولا قال لي لشيءٍ فعلته: لم فعلت كذا؟! ولا لشيءٍ لم أفعله: لِمَ لَمْ تفعل كذا؟!”، يعني: لم يكن ينتقده ولا يلومه، وهذا دليلٌ على عظيم حسن خلقه عليه الصلاة والسلام.

يقولون: إذا أردت أن تعرف حسن خلق إنسانٍ؛ فانظر إلى كيفية تعامله مع خادمه؛ إذا كان يتعامل مع خادمه تعاملًا راقيًا؛ فهذا دليلٌ على طيب معدنه وحسن خلقه، إذا تعامل مع الخادم تعاملًا حسنًا؛ سيتعامل مع الناس من باب أوْلى، لا تنظر لتعامله مع الوجهاء ومع الكبراء، ولا مع من يرجو منهم مصلحةً، لا، انظر تعامله مع الخدم، وتعامله مع من له عليهم سلطةٌ.

فالنبي عليه الصلاة والسلام انظر لكلام خادمه، كلام خادم النبي عليه الصلاة والسلام عنه، فإذا كان هذا تعامله مع خادمه؛ فما بالك بتعامله مع سائر الناس؟!

وأنس  يقول: “خدمته في السفر وفي الحضر”، يعني: في جميع الأحوال، فانظر إلى عظيم خلقه عليه الصلاة والسلام!

القارئ:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نميرٍ، قالا: حدثنا محمد بن بشرٍ: حدثنا زكرياء: حدثني سعيدٌ، وهو ابن أبي بردة، عن أنسٍ، قال: “خدمت رسول الله تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟! ولا عاب عليَّ شيئًا قط” [34].

الشرح:

كان عليه الصلاة والسلام لا يعيب شيئًا قط إذا دخل البيت؛ إن أعجبه الطعام أكله، وإلا تركه، وهذا من حسن الخلق، ألا يعيب الإنسانُ ولا ينتقد.

بعض الناس تجده ينتقد كل شيءٍ، لا يعجبه العجب، كما يقال، هذا ينافي حسن الخلق، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعيب شيئًا، الطعام إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، لكن ما كان يعيب شيئًا.

القارئ:

حدثني أبو معنٍ الرَّقَاشي زيد بن يزيد: حدثنا عمر بن يونس: حدثنا عكرمة، وهو ابن عمارٍ، قال: قال إسحاق: قال أنس: كان رسول الله من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجةٍ، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله ، فخرجت حتى أمر على الصبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنَيْس، أذهبت حيث أمرتك؟ قال قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله [35].

قال أنسٌ: “والله لقد خدمته تسع سنين، ما علمته قال لشيءٍ صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟! أو لشيءٍ تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟!” [36].

وحدثنا شيبان بن فَرُّوخٍ وأبو الربيع، قالا: حدثنا عبدالوارث، عن أبي التَّيَّاح، عن أنس بن مالكٍ، قال: “كان رسول الله أحسن الناس خُلقًا” [37].

الشرح:

نعم، هنا النبي عليه الصلاة والسلام أرسل أنسًا لحاجةٍ، فهو صبيٌّ عمره عشر سنين، قال: “والله لا أذهب”، وفي قرارة نفسه أنه سيذهب، انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام معه، مر عليه وهو يلعب مع الصبيان في السوق، قبض بقفاه مداعبًا له، قال: يا أُنيس، وهو يضحك، ثم قال: أذهبت حيث أمرتك؟، انظر إلى هذا التعامل الراقي معه، ما عنَّفه، ما عاتبه، ما قال: لماذا لم تُنفِّذ ما أمرتك به، تعامل معه بهذه الطريقة، داعبه بطريقة مداعبة الصبيان، أمسك به من قفاه وهو يضحك، ويقول: يا أُنيس، يعني: لِمَ لَمْ تذهب؟ اذهب إلى حيث أمرتك.

انظر إلى موقع هذا في نفس أنسٍ ! وهنا قال: “خدمته تسع سنين”، وفي الرواية السابقة: “عشر سنين”، وجمع الشراح بينها قالوا: إن المقصود: تسع سنين وأشهرٌ، فبعض الرواة جَبَر الكسر فقال: عشر سنين، وبعضهم حذف الكسر فقال: تسع سنين.

وقال: “ما علمته قال لشيءٍ صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟! أو لشيءٍ تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟”، كان عليه الصلاة والسلام لا يعاتب ولا يعنف، ولا يلوم ولا ينتقد، وهذا من حسن وكريم خُلُقه عليه الصلاة والسلام.

ونكتفي بهذا القدر في التعليق على “صحيح مسلمٍ”.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

بعد الأذان نجيب على ما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

نجيب عما تيسر من الأسئلة:

السؤال: هذا سائلٌ يقول: ذكرت أن الله بحكمته لم يُظهر الملائكة في القتال، يعني تقاتل بالصفة الملائكية؛ كي لا تنتفي حكمة الإيمان بالغيب، كيف نجمع بين ذلك وبين ما أظهره الله تعالى من معجزات الأنبياء؛ كخروج ناقة ثمود، أليس في ذلك انتفاءٌ لحكمة التبليغ؟

الجواب: ظهور المعجزات أو الآيات على يد الأنبياء هذا لا بد منه؛ لأنه يأتي رجلٌ مثلهم يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويقول: إني رسولٌ من الله، طيب لا بد من الدليل والبرهان على أنه رسولٌ من الله، كيف يأتي بالبرهان؟ البرهان؛ يأتي بآيةٍ، يأتي بمعجزةٍ، فهذا لا بد منه؛ لإثبات أنه نبيٌّ، وأنه رسولٌ من عند الله؛ فكان مثلًا آية موسى : العصا، آية صالحٍ : الناقة، آية عيسى : يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، كل نبيٍّ له آيةٌ، ما هي آية نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام؟ القرآن، من حكمة الله أن جعل آية محمدٍ عليه الصلاة والسلام آيةً تبقى إلى قيام الساعة، يراها جميع أمته، سبحان الله! وعظمة القرآن وعجائب القرآن لا تنتهي، فهذا لا بد منه؛ لأجل أن يكون برهانًا على نبوته ورسالته.

وأما بالنسبة لقتال الملائكة، يعني: لو أذن الله تعالى لملكٍ من الملائكة فصاح بهؤلاء؛ أهلكهم في لحظةٍ؛ مثلما حصل لقوم لوطٍ لمَّا أتت الملائكة، وجعل الله تعالى عاليها سافلها، لكن الله تعالى جعلهم يقاتلون كما يقاتل البشر؛ لأجل أن تبقى حكمة الإيمان بالغيب، وألا ينتقل من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالمشاهدة، فهذا من حكمة الله .

السؤال: هذا سائلٌ يقول: أنا محتاجٌ للنقد؛ هل هناك تمويلٌ معينٌ ليس فيه شبهةٌ؟

الجواب: أفضل طريقةٍ للحصول على السيولة النقدية عن طريق البنوك؛ هو التورق بطريق أسهم الشركات النقية، فتقول للبنك: أريد تورقًا في أسهم شركاتٍ، وتسميها -يعني: عندنا بالمملكة يوجد أكثر من مئة شركةٍ من الشركات النقية- وتقول: اشتروا لي أسهم هذه الشركات وسوف أشتريها منكم، أو أن البنك يملكها أصلًا ويبيعها عليك بثمنٍ مؤجلٍ، ثم تبيعها أنت في السوق لطرفٍ ثالثٍ، أو توكل البنك يبيعها لطرفٍ ثالثٍ.

لماذا قلنا: إن هذه أفضل طريقةٍ للحصول على السيولة النقدية؟ لأن التملك فيها واضحٌ، والقبض فيها واضحٌ، والتعيين فيها واضحٌ، فأنت تشتري أسهمًا تملكها تدخل محفظتك، فأنت ملكتها وقبضتها، وأصبحت متعينةً بخلاف بعض السلع؛ بعض السلع من التورق مثلًا في المكيفات أو الأرز، قد لا يكون التعيين واضحًا أو القبض واضحًا، لكن الأسهم التملك فيها واضحٌ، والقبض فيها واضحٌ، والتعيين فيها واضحٌ، وأيضًا هي بعيدةٌ عن الصورية، بيعٌ وشراءٌ حقيقيٌّ؛ ولهذا لما ذكرتُ هذا لأحد المستفتين، قال: أخشى أن الأسهم إذا دخلت محفظتي تنزل قيمتها، قلت: وهذا يؤكد حِلها؛ لأنه بيع وشراءٌ حقيقيٌّ، قد ترتفع وقد تنخفض، ليست صوريةً؛ ما دام أنها قد ترتفع وقد تنخفض فهذا يؤكد حِلها، فهذه أفضل طريقةٍ للحصول على السيولة النقدية عن طريق البنوك، التورق في أسهم الشركات النقية.

السؤال: ما معنى حرف “ح” قبل: “حدثنا”، في السند؟

الجواب: نعم، هذا عندما يريد المصنف أن يذكر طريقًا آخر لرواية هذا الحديث؛ يأتي فيه من طريق، ثم يقول: “ح، وحدثنا فلان”، فهذا يعني يكون طريقًا آخر لأجل تقوية السند.

السؤال: ما حكم قول: “الله بالخير”، بدلًا من: “الله يمسيك بالخير”؟

الجواب: لا بأس بها، يعني على تقدير محذوفٍ، عندما يقول: الله بالخير، يعني الله يمسيك بالخير، أو الله يصبحك بالخير، لكنه حَذَف كلمة “يصبحك” أو “يمسيك”، فلا بأس بها، لكن الأكمل والأحسن أن يأتي بها كاملةً، فيقول: مساك الله بالخير، أو صبحك الله بالخير، وهذه إنما تكون بعد السلام، ولا تكون بدلًا عن السلام، يعني يقول: السلام عليكم، صبحك الله بالخير، السلام عليكم، مساك الله بالخير.

السؤال: هل الأفضل في رمضان ختم القرآن في كل يومٍ، أو ما ورد في الحديث في ثلاثة أيامٍ كما ورد عن الصحابي؟

الجواب: الحديث: لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاثٍ [38]، حديثٌ ضعيفٌ، ولو صح فكما قال الحافظ ابن رجبٍ، قال: إنه يستثنى من ذلك الأوقات الفاضلة؛ فلا بأس بختم القرآن في أقل من ثلاثٍ.

والسلف رُوي عنهم في هذا طرقٌ في قراءة القرآن، وفي ختمه قصصٌ مرويةٌ عن السلف في هذا كثيرة؛ فالإمام الشافعي رحمه الله معروفٌ من سيرته أنه كان يختم القرآن في رمضان في كل يومٍ مرتين، وفي غير رمضان في كل يومٍ مرةً.

والإنسان إذا قرأ القرآن، وكان متقِنًا مجوِّدًا يستطيع أن يختم القرآن في سبع ساعاتٍ ونصفٍ، لكن بشرط أن يكون متقنًا للقراءة، سبع ساعاتٍ ونصفٌ كافيةٌ بأن تختم القرآن، فليس هذا أمرًا صعبًا؛ إنما هو ميسورٌ على من يسَّره الله.

لكن بالنسبة للحفاظ، ميزة الحافظ أنه يقرؤه في أي وقتٍ، يعني يقرؤه في السيارة، ما دام حافظًا، يقرؤه وهو في أي مكانٍ، وحتى لو قرأ من المصحف فقراءة الحافظ أسرع من غير الحافظ؛ لأنه متقنٌ مجودٌ؛ ولذلك يسهل عليه أن يختم القرآن.

فنقول: خَتْم القرآن في أقل من ثلاثٍ لا بأس به؛ لأن الحديث: لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاثٍ، حديثٌ ضعيفٌ، لكن المأثور عن أكثر السلف أنهم كانوا يختمون القرآن في كل أسبوعٍ مرةً؛ لأن هذا هو الذي أوصى به النبي عليه الصلاة والسلام عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، فقال: اقرأ القرآن في كل جمعةٍ مرةً [39]، يعني: في كل أسبوعٍ مرةً.

لكن بعض السلف رُوي عنهم من يختم في ثلاثة أيامٍ، ومنهم من يختم في كل يومٍ، كما رُوي ذلك عن الإمام الشافعي وغيره، وكما ذكرت أن هناك أناسًا عُبَّادًا، أحياءً يرزقون، يختمون القرآن كل يومٍ مرةً، وأعرفهم، أحياءٌ يرزقون، وفي رمضان ربما بعضهم يختم مرتين، أنا رأيت أناسًا يختمون القرآن مرتين في رمضان، يعني في كل يوم مرتين، وهذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء.

السؤال: ما حكم التبرع بالأعضاء؟

الجواب: التبرع بالأعضاء يرجع لمسألةٍ خلافيةٍ، والخلاف فيها قويٌّ: هي موت الدماغ هل يعتبر موتًا بالمعنى الشرعي؟ وذلك لأن الأعضاء.. لا يمكن التبرع بالأعضاء إلا بأعضاء الميت دماغيًّا، أما غير الميت دماغيًّا تتلف أعضاؤه مباشرةً، تتلف، لا يستفاد منها، إلا القرنية، في حدود ثلاثين دقيقةً على أقصى حدٍّ، معنى ذلك: أن التبرع بالأعضاء إنما يكون من الميت دماغيًّا.

طيب هل الميت دماغيًّا هو ميتٌ، أو حيٌّ؟

هذه مسائل مشكلةٌ، مسائل عويصةٌ، قد اختلفت فيها المجامع الفقهية، المجامع الفقهية اختلفت، “المجمع الدولي” يرى أنه ميتٌ شرعًا، و”مجمع الرابطة” يرى أنه ليس ميتًا، وأنا حضرت عدة مؤتمراتٍ فقهيةٍ طبيةٍ، وكل مرةٍ أحضر فيها مؤتمرًا جديدًا تزداد المسألة عندي غموضًا وإشكالًا، ما استطعت أن أصل إلى نتيجةٍ، هي من المسائل المشكلة؛ لأن هناك من يقول: إنه ميتٌ شرعًا، طيب ماذا نقول؟ هذا الميت دماغيًّا إذا قِسْتَ حرارته؛ وجدت حرارته سبعةً وثلاثين، وتجد الضغط ضغط إنسانٍ حيٍّ، يتبول، يتعرق، يتغوط، فهذه خصائص إنسانٍ حيٍّ.

يقولون: إن هذه حياةٌ نباتيةٌ، بل قال بعضهم: لو أتي بإنسانٍ قُطع رأسه، ووضعت فيه هذه الأجهزة وجدت أنه يفعل كذلك، تجد حرارته كما في الميت دماغيًّا.

طيب إذا قلنا بهذا، أنا قلت لمن قال: إنه يعتبر موتًا شرعًا، قلت: طيب لو افترضنا أن هذا الميت دماغيًّا قريبٌ لك، أخٌ لك، فيترتب على هذا أنه يجوز لزوجته أن تتزوج بعدما تعتد، وتقسم تركته، هو لا زال في المستشفى، لا زال ميتًا دماغيًّا، تقسم تركته وتتزوج زوجته! فهذا مشكلٌ.

لكن في المقابل لو قلنا أيضًا: إن هذا الميت دماغيًّا حيٌّ وليس ميتًا شرعًا، يترتب على ذلك القول بمنع التبرع بالأعضاء، والتبرع بالأعضاء نفع الله تعالى به نفعًا عظيمًا، وأنقذ به أناسٌ كثيرون من الموت، أعرف رجلًا له ثلاثون عامًا يعيش على كبدٍ مزروعةٍ، وخلال هذه الفترة تزوج، ولا أدري هل أنجب أم لا؟ لكن ثلاثون عامًا..، ففائدتها كبيرةٌ؛ ولذلك أنا متوقفٌ في هذه المسألة؛ لم يتضح لي فيها قولٌ راجحٌ.

لكن ما دام أن المسألة خلافيةٌ؛ يظهر أن الأمر فيه سعةٌ إن شاء الله تعالى، ما دام أنها مسألةٌ خلافيةٌ؛ فمن قال بذلك يكون قد أخذ بأحد القولين في المسألة.

طيب، نعم.

الطالب:

الشيخ: والله المسألة خلافيةٌ لم يتضح لي فيها رأيٌ راجحٌ، الله أعلم.

السؤال: إذا جامع الرجل زوجته بحائلٍ ولم يُنزل، هل يجب عليه الغسل، خاصةً أن الحائل لا يمنع كمال الاستمتاع، مثل الذي يباع الآن في الصيدليات؟

الجواب: نعم، إذا جامع الرجل زوجته؛ وجب الغسل وإن لم يُنزل، حتى وإن كان من وراء حائلٍ، كان في أول الإسلام، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنما الماء من الماء [40]، ثم نُسخ ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا جلس بين شُعَبها الأربع ثم جَهَدها؛ فقد وجب الغسل وإن لم يُنزل [41]، واشترط الفقهاء في ذلك تغييب الحشفة، رأس الذكر، إذا حصل هذا وجب الغسل، سواءٌ أنزل أو لم يُنزل، ويجب على الرجل والمرأة جميعًا.

السؤال: وهذا سؤالٌ يقول فيه السائل: المرأة المُحِدة على زوجها، هل لها الذهاب للتحفيظ، وهي متعلمةٌ وليست معلمةً، وهل لها زيارة بناتها؟

الجواب: أما زيارة بناتها فليس لها ذلك، وإنما بناتها هن اللاتي يزرنها، الحق لها، هي أمهن، وهي معتدةٌ، فهي تبقى في بيتها وبناتها وأقاربها هم الذين يزورونها، فهي لا تزور غيرها، وإنما تمكث في بيتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: امكثي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله [42]، يعني: حتى تنقضي عدتك.

فالأصل أن المرأة المحدة لا تخرج من بيتها إلا لحاجةٍ، لا تخرج إلا لحاجةٍ؛ كأن تذهب للمستشفى، أو تذهب للمحكمة، أو تذهب للسوق لشراء حوائجها إذا لم تجد من يشتري لها، وهكذا أيضًا لو كانت متعلمةً لا بأس أن تذهب للمدرسة، أو إذا كانت موظفةً لا بأس أن تذهب لوظيفتها؛ لأن هذا يعتبر من الحاجة.

وعلى ذلك: إذا كانت متعلمةً في دار التحفيظ لا بأس أن تذهب وتتعلم؛ لأنها متعلمةٌ، ويعتبر هذا من الحاجة، إنما الممنوع خروجها لغير حاجةٍ؛ كأن تذهب للنزهة، أو للزيارات، هذا هو الذي تكون ممنوعةً عنه، أما ذهابها لأي حاجةٍ من الحاجات فلا بأس به، على أن ذهابها للحاجة ينبغي أن يكون نهارًا، وألا يكون ليلًا؛ لأنه قد ورد التشديد في الليل بالنسبة للمحدة؛ ولأن المقصود هو البيتوتة في بيت زوجها، أن تبيت في بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، والبيتوتة تكون في الليل، فالليل بالنسبة لها أشد من النهار.

فإذا كان لها حاجةٌ فتَقضي حوائجها في النهار دون الليل، إلا عند الضرورة لا بأس بالليل.

السؤال: ما هو الذكر الوارد في سجود التلاوة؟

الجواب: سجود التلاوة مثل سجود الصلاة، فيقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، يكررها عشر مراتٍ هذا هو الأفضل، ويكفي مرةً واحدةً، الواجب مرةً واحدةً، ثم يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

وقد جاء في حديث الشجرة أنه يقول: اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، وارفعني بها ذكرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود [43]، هذا الحديث في سنده مقالٌ، إن أتى به فحسنٌ، وإن لم يأت به واكتفى بالتسبيح فيكفي، وقال الإمام الشافعي: إنه يقول ما جاء في آية الإسراء: سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:108]؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك، قال: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:107-108]، فإن أتى بهذا كان حسنًا.

فالحاصل أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، يكررها عشر مراتٍ، هذا هو الأفضل، يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، أيضًا يقول: سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وإن أتى بالدعاء أيضًا -وإن كان في سنده مقالٌ- إن أتى به فحسنٌ: اللهم اكتب لي بها أجرًا.. إلى آخر الدعاء، فإن أتى به كان حسنًا.

لكن المهم هو أن يقول: سبحان ربي الأعلى، مرةً واحدةً، هذا هو الحد الأدنى، الحد الأدنى أن يقول في سجود التلاوة: سبحان ربي الأعلى، مرةً واحدةً، وما زاد على ذلك فهو نافلةٌ.

الطالب:

الشيخ: المحاذاة معناها: أن تكون المسافة بين المحاذِي والمحاذَى إلى الكعبة واحدةً، فمثلًا المسافة ما بين السيل أو قرن المنازل إلى الكعبة هي نفس المسافة ما بين ذات عرقٍ والكعبة، هذا هو التفسير الصحيح للمحاذاة، أن تكون المسافة بين المحاذي والمحاذى واحدةً.

وعلى ذلك: تكون جدة داخل المواقيت؛ لأن هناك بعض العلماء المعاصرين قالوا: إن جدة يجوز الإحرام منها، وأخطؤوا في فهم المحاذاة، فالمحاذاة جعلوا خطوطًا بين المواقيت، وهذا غير صحيحٍ، هذا التفسير غير صحيحٍ.

التفسير المعروف عند أهل العلم: أن تكون المسافة بين المحاذي والمحاذى واحدةً، وإذا قلنا بهذا التفسير، تكون جدة داخل المواقيت، يجوز أن يؤخر الإحرام إلى جدة، وأنت إذا أتيت بالطائرة من أي جهةٍ فلا بد أن تحاذي أحد المواقيت، لا بد، إلا جهةً واحدةً يمكن أن تصل فيها إلى جدة من غير محاذاة لأيٍّ من المواقيت، ما هي هذه الجهة؟ نعم، من جهة الغرب من بلدة سواكن في السودان، بلدة سواكن في السودان تستطيع أن تصل من سواكن إلى جدة ولا تحاذي أي ميقاتٍ؛ ولهذا قال الفقهاء: يستثنى من ذلك أهل سواكن بالسودان؛ فيجوز لهم الإحرام من جدة، فقط أهل سواكن في السودان، مَن عداهم لا بد أن يحاذوا أحد المواقيت فيحرموا من الميقات.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2301.
^2 رواه أحمد: 22288.
^3 رواه مسلم: 2300.
^4 رواه البخاري: 6577، ومسلم: 2299.
^5 رواه مسلم: 2292، بنحوه.
^6 رواه مسلم: 2302.
^7, ^10, ^11, ^12 رواه مسلم: 2303.
^8, ^9 رواه مسلم: 2304.
^13, ^14 رواه مسلم: 2305.
^15, ^16 رواه مسلم: 2306.
^17 رواه مسلم: 8.
^18 رواه مسلم: 1226.
^19 رواه البخاري: 5018، ومسلم: 796.
^20 رواه أبو داود: 3878، والترمذي: 994، وابن ماجه: 1472، وأحمد: 2219.
^21, ^22 رواه مسلم: 2307.
^23 رواه البخاري: 2820.
^24 رواه مسلم: 2547.
^25 رواه مسلم: 2308.
^26 رواه البخاري: 3809، ومسلم: 799.
^27 رواه البخاري: 4937، ومسلم: 798.
^28 رواه مسلم: 747.
^29 رواه البخاري: 7529، ومسلم: 815.
^30, ^31, ^34, ^36 رواه مسلم: 2309.
^32 رواه البخاري: 1982، 6334، ومسلم: 660، 2480، مختصرًا ومطولًا.
^33 رواه الترمذي: 2329، وأحمد: 17680، بنحوه.
^35, ^37 رواه مسلم: 2310.
^38 رواه أبو داود: 1390، وأحمد: 6775، بنحوه.
^39 رواه البخاري: 5052، ومسلم: 1159، بنحوه.
^40 رواه مسلم: 343.
^41 رواه البخاري: 291، ومسلم: 348.
^42 رواه أبو داود: 2300، والترمذي: 1204، والنسائي: 3528، وابن ماجه: 2031، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
^43 رواه الترمذي: 579.