عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، اللهم آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
هذا هو الدرس الثالث في شرح كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ” في هذا اليوم الثلاثاء غرة رجبٍ من عام 1441 هـ.
باب شفقته على أمته
وكنا قد وصلنا في كتاب الفضائل إلى باب شفقته على أمته، ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، ووقفنا عند حديث أبي هريرة .
القارئ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والسامعين ووالدينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:
وحدثنا قتيبة بن سعيدٍ: حدثنا المغيرة بن عبدالرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : إنما مَثَلي ومثل أمتي كمثل رجلٍ استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذٌ بحُجَزكم وأنتم تقحمون فيه [1].
وحدثناه عمرو الناقد وابن أبي عمر، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، بهذا الإسناد نحوه.
حدثنا محمد بن رافعٍ: حدثنا عبدالرزاق: حدثنا معمرٌ، عن همام بن منبِّهٍ، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله ، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله : مَثَلي كمثل رجلٍ استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن، ويغلبنه فيتقحَّمن فيها، قال فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذٌ بحُجَزكم عن النار، هَلُمَّ عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقحَّمون فيها [2].
حدثني محمد بن حاتمٍ: حدثنا ابن مهديٍّ، حدثنا سَلِيمٌ، عن سعيد بن ميناء، عن جابرٍ قال: قال رسول الله : مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذٌ بحُجَزكم عن النار، وأنتم تفلَّتون من يدي [3].
الشرح:
نعم، هذا الحديث بهذه الروايات، أراد النبي أن يضرب به مثلًا لسعيه عليه الصلاة والسلام في إنقاذ أمته من النار؛ وذلك بما يبينه لهم من شريعة الله ، وما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، ويقول: مثلي ومثل أمتي يعني: موقف الأمة مما جاء به النبي كمثل رجلٍ استوقد نارًا يعني: أوقد وأضرم نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، والمقصود بالدواب: ما يدب على الأرض، فيشمل ذلك الطير، ويكون ذكر الفراش من بعده من باب ذكر الخاص بعد العام.
والذي يظهر أن المقصود بالدواب هنا: الحشرات الصغيرة التي تندفع وتقع في النار، فيشمل ذلك الفراش، وبعض الحشرات التي مثلها، التي عندما ترى النار تأتي مسرعةً وتقع وتندفع فيها، فهذا الفَراش عندما يأتي ويقع في النار يتسارع في الوقوع في النار؛ لضعفه وضعف تمييزه، فهو يسرع في الوقوع فيما يهلكه.
هكذا النبي عليه الصلاة والسلام يحذر وينذر من النار، قال: فأنا آخذٌ بحُجَزكم، والحجز: جمع حجزةٍ، والمقصود به: مَعقِد الإزار والسراويل، يعني كأنه يريد أن يذب أمته ويمنعهم من دخول النار، ولكن بعض الناس يتقحم النار، يعني: هو يمنعهم ويصدهم، لكنهم يتقحمون النار بوقوعهم في المعاصي، وبوقوعهم في الموبقات، فهذا مقصود النبي ، أن بعض الناس كالفراش الذي يريد أن يقع في النار، وهناك من يأتي ويحاول أن يمنعه، وهو يحرص على أن يقع…، يطرده من هنا، ويأتي من هنا، يطرده من هنا، ويأتي من هنا، حتى يقع في النار، فإذا وقع الفراش في النار هلك، هكذا النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يمنع أمته من الوقوع في النار؛ وذلك بتحذيرهم من أسباب دخول النار، ولكن قال: وأنتم تفلتون من يدي، لكن بعض الناس هو يريد أن يحجزهم من الوقوع في النار، لكنهم يتفلتون من يديه بإصرارهم على الوقوع فيما يغضب الله ، وبالوقوع في معاصيه، فهذا مثلٌ عظيمٌ ضربه لنا النبي .
وفيه الدلالة على عظيم حرصه وشفقته على أمته، وأنه حريصٌ على إنقاذهم من النار، ونجاتهم من النار، وطريق النار معبَّدٌ بالشهوات، وأما طريق الجنة فمعبدٌ بالمكاره، كما قال عليه الصلاة والسلام: حُفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره [4].
فمن أراد طريق الجنة لا بد من الصبر، لا يمكن أن يجد طريق الجنة محفوفًا بغير المكاره، بل هو محفوفٌ بالمكاره، فينال الإنسان ما يناله من الابتلاءات، ومن المصاعب؛ لأن سلعة الله غاليةٌ؛ ولهذا قال سبحانه: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214].
فطريق الجنة محفوفٌ بالمكاره، وطريق النار محفوفٌ بالشهوات، فبعض الناس عندما يرى هذا الطريق المحفوف بالشهوات يسرع فيه، وهذا يوقعه في النار، والنبي يُنذر في أحاديث كثيرةٍ، ويحذر من سلوك هذا الطريق الذي يوقع الإنسان في النار.
فهذا مثلٌ ضربه عليه الصلاة والسلام في بيان أن هناك من أمته من يخالف أوامر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يريد أن يمنعه بتلك الأوامر والنواهي، لكنه يخالف ذلك، فيقع بأعماله في النار، توقعه أعماله في النار، كمثل الفراش والحشرات التي عندما ترى النار تأتي إليها مسرعةً، وتقع فيها.
من فوائد حديث: إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا
- وأخذ العلماء من هذا الحديث فائدةً أخرى: وهي أن الإنسان أحوج إلى النِّذَارة منه للبشارة؛ لأن جِبِلَّة الإنسان مائلةٌ إلى الحظ العاجل، وإلى الشهوات، فهو بحاجةٍ إلى الإنذار والتحذير أكثر من حاجته إلى التبشير، وإن كان الأنبياء وأتباع الأنبياء يبشرون وينذرون: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء:165]، لكن النذارة أهم من البشارة، والإنسان إلى النذارة أحوج منه إلى البشارة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أرسلهم الله تعالى فأنذروا أقوامهم، أنذروهم من النار، ومما يوقع في النار، ومن عذاب الله .
- ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: بيان شفقته عليه الصلاة والسلام، وحرصه على نجاة أمته من النار، وشبه نفسه بمن يأخذ بحُجَز الناس ويدفعهم؛ لكي لا يقعوا في النار، لكنهم يتفلتون منه، فيقعون في النار، فهذا يدل على حرصه عليه الصلاة والسلام على نجاة أمته من عذاب الله تعالى.
القارئ:
وحدثنا عمرو بن محمدٍ الناقد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي قال: مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يُطيفون به، يقولون: ما رأينا بنيانًا أحسن من هذا، إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة [5].
وحدثنا محمد بن رافعٍ: حدثنا عبدالرزاق: حدثنا معمر، عن همام بن منبِّهٍ، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله ، فذكر أحاديث منها: وقال أبو القاسم : مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ ابتنى بيوتًا فأحسنها وأجملها وأكملها، إلا موضع لَبِنةٍ من زاويةٍ من زواياها، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وَضعتَ هاهنا لبنةً فيتم بنيانك، فقال محمدٌ : فكنت أنا اللبنة [6].
وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حُجْرٍ، قالوا: حدثنا إسماعيل يَعنون ابن جعفرٍ، عن عبدالله بن دينارٍ، عن أبي صالحٍ السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنةٍ من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلَّا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين [7].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريبٍ، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله : مثلي ومثل النبيين…، فذكر نحوه.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عفان: حدثنا سَلِيم بن حيان: حدثنا سعيد بن ميناء، عن جابرٍ، عن النبي قال: مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارًا فأتمها وأكملها، إلا موضع لبنةٍ، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول الله : فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء عليهم السلام [8].
وحدثنيه محمد بن حاتمٍ: حدثنا ابن مهديٍّ: حدثنا سَلِيمٌ بهذا الإسناد مثله، وقال بدل: أتمها: أحسنها.
الشرح:
هذا مثلٌ ثالثٌ ضربه النبي ، المثل الأول كمثل إنسانٍ أتى جيشًا، وقال: أنا النذير العريان، وهذا تكلمنا عنه في الدرس السابق.
والمثل الثاني: مثل الفَراش التي تقع في النار، وهذا هو المثل الثالث: كان من هديه عليه الصلاة والسلام ضرب الأمثال؛ لأجل التعليم، كان يستخدم عدة أساليب في تعليم الناس، ومن هذه الأساليب: ضرب المثل، وهذا أيضًا من أساليب القرآن الكريم.
لكن ضرب المثال يحتاج إلى فقهٍ وفهمٍ عميقٍ؛ ولهذا قال : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].
شريعة الأنبياء واحدةٌ في العقائد مختلفةٌ في الفروع
فهذا المثل يقول فيه عليه الصلاة والسلام: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ ابتنى بيوتًا فأحسنها وأجملها -وفي الرواية الأخرى: بنى بنيانًا، فأحسنه وأجمله– إلا موضع لبنةٍ من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان، ويقولون: هلَّا أو ألا وضعت هاهنا لبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين، فشبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده، ورفع بنيانه، وبقي منه لبنةٌ واحدةٌ، ويتم به إصلاح البيت.
وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شريعتهم واحدةٌ، وقد بُعث عليه الصلاة والسلام متممًا ومكملًا لما جاء به الأنبياء من قبله، فهو خاتم الأنبياء، وقد بعث متممًا لمكارم الأخلاق، قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق [9].
وشريعة الأنبياء واحدةٌ في العقائد، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وفي الآية الأخرى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2].
فهم يدعون الناس إلى تحقيق التوحيد، وإلى إخلاص الدين لله ، وإن كانت الشرائع قد تختلف فيما بينها في الفروع، فصلوات الأمم السابقة تختلف كمًّا وكيفًا عن صلاتنا، وهكذا بالنسبة لبقية الفروع.
وأما بالنسبة للعقائد والأصول فهي واحدةٌ، وهي متفقةٌ، فهو عليه الصلاة والسلام مكملٌ لما أتى به الأنبياء والرسل من قبله؛ ولهذا قال: فأنا اللبنة، يعني: ليكمل هذا البنيان العظيم الحسن، الذي جعل الناس يطوفون به ويتعجبون منه، وهو شريعة الله تعالى.
فهؤلاء الأنبياء جعلهم الله تعالى واسطةً يبلغون مراد الله من البشر، ماذا يريد الله من البشر، وما يأمر الله تعالى به الناس، وما ينهاهم عنه، فهذا من رحمة الله تعالى بالناس أن أرسل هؤلاء الأنبياء والرسل.
ومن حكمته سبحانه أن جعل الأنبياء والرسل من جنس البشر، بل من جنس أقوامهم، وقد بعث الله تعالى عددًا كثيرًا من الأنبياء، وجاء في حديث أبي ذرٍّ: أن عددهم مئة وأربعة وعشرون ألفًا، وهذا عددٌ كثيرٌ، وهذا يدل على كثرة الأمم؛ لأن كل أمةٍ فيها نبيٌّ، وقد يكون هناك أكثر من نبيٍّ في زمنٍ واحدٍ، كما في لوطٍ وإبراهيم، وموسى وهارون.
لكن هذا العدد يدل على كثرة البشر، وأنهم خلقٌ عظيمٌ وكثيرٌ لا يحصيه إلا الله ، ونحن في آخر هذه الأمة؛ كما قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1].
وجعل الله تعالى نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فلا نبي بعده.
لكن من حكمة الله أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان؛ لأنه قد رفع بجسده وروحه إلى السماء، ومن حكمة الله أن البشر إنما يموتون في الأرض، وليس في السماء، فينزل في آخر الزمان يحمله ملكان، ينزل عند خروج المسيح الدجال؛ لأن المسيح الدجال من تقدير الله سبحانه وحكمته أنه يعطيه خوارق فيفتن بها كثيرًا من الناس؛ يقول للسماء: أمطري، فتمطر، والأرض: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها، إلى غير ذلك من الخوارق، ويعجز البشر عنه، لا قبل للبشر به، ويحتل الأرض كلها في وقتٍ وجيزٍ جدًّا سريعٍ، يحتل الكرة الأرضية كلها، ما يتبقى إلا مكة والمدينة يعجز عنهما؛ لأن عليهما ملائكة يحرسونهما.
فإذا حكم الأرض، واحتلها كلها، البشر لا طاقة لهم به، وعاث في الأرض فسادًا، فهنا يُنزل ربنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد حدد عليه الصلاة والسلام مكان نزوله في الجامع الأموي بدمشق في سوريا.
وذلك لأنه -والله أعلم- أن الطائفة الناجية المنصورة تكون في ذلك الزمان هناك، ولله تعالى الحكمة في هذا، فينزل عيسى بن مريم، ويلحق المسيحَ الدجال، هذا المسيح الدجال الذي أرعب الناس، وأفسد عليهم دينهم وفتنهم، واحتل الأرض كلها.
سبحان الله! ما إن يرى المسيح عيسى بن مريم إلا ويذوب كما يذوب الملح، فيلحقه المسيح عيسى بن مريم، حتى يقتله عند باب لُدٍّ في بفلسطين.
بعد ذلك عيسى بن مريم هو الذي يحكم الأرض، لكن بماذا يحكمها؟ هذا هو السؤال، وهذا موضع الشاهد، بماذا يحكم؟ بالإسلام، وليس بالمسيحية، يحكم بشريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
ولو كان يحكم بالمسيحية، هذا فيه منافاةٌ لكون النبي عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، لكنه يحكم بالإسلام، وبهذا يحكم الإسلام الأرض كلها، حتى لا يبقى بيت شجرٍ ولا حجرٍ ولا مدرٍ إلا أدخله الله تعالى هذا الدين بعز عزيزٍ، أو ذل ذليلٍ، هذا متى؟ عند نزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
فيصدق على هذا قول الله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33].
بعد ذلك يبعث الله تعالى ريحًا طيبةً تقبض روح كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، فلا يبقى إلا شرار الناس يتهارجون كتهارج الحمر، وعليهم تقوم الساعة.
فإذن نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء، نزول عيسى بن مريم إنما ينزل للحكم بشريعة الإسلام، فلا ينافي هذا كون نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والرسل.
فالأنبياء والرسل إذن دينهم واحدٌ، وشريعتهم واحدةٌ؛ ولهذا جعل النبي عليه الصلاة والسلام ما جاؤوا به كالبناء الواحد، وأنه ما بقي في هذا البناء إلا لبنةٌ واحدةٌ، قال: فأنا اللبنة، فهو مكملٌ لما جاء به الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
شفاعة النبي لأمته
القارئ:
قال مسلمٌ: وحُدِّثت عن أبي أسامة، وممن رَوى ذلك عنه إبراهيم بن سعيدٍ الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثني بريد بن عبدالله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي قال: إن الله إذا أراد رحمة أمَّةٍ من عباده، قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمةٍ، عذبها ونبيها حيٌّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره [10].
الشرح: قال: وحُدِّثت، يعني: هذا ليس من عادة الإمام مسلمٍ أنه يأتي بهذه الصيغة: “حُدِّثت”، يقول: حدثني، أو حدثنا، لكن قوله: وحدثت، قال المازري: إن هذا من الأحاديث المنقطعة.
المازري تكلمنا عنه في درس الأمس، درس الاثنين، وذكرنا أنه جمع مع الفقه والحديث الطب، فهو فقيهٌ محدثٌ طبيبٌ، جمع هذه العلوم كلها.
المازري قال: إن هذا من الأحاديث المنقطعة؛ لأنه لم يُسمِّ الذي حدثه عن أبي أسامة، قال: حُدِّثت، وتعقبه النووي فقال: هذا ليس انقطاعًا، وإنما هو رواية مجهولٍ، وأنه قد وقع في بعض النسخ من “صحيح مسلمٍ”، قال: حدثنا محمد بن مسيب الأرعياني، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيدٍ، فيكون بهذا متصلًا.
و”صحيح مسلمٍ” و”صحيح البخاري” تلقتهما الأمة بالقبول، الأصل فيما يرويه البخاري ومسلمٌ الصحة.
قال: عن أبي موسى، عن النبي قال: إن الله إذا أراد رحمة أمةٍ من عباده، قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها، يعني: شفيعًا.
وهذا كما حصل لهذه الأمة، فإن الله تعالى قبض نبيه قبلها، فهو شافعٌ لها، فالنبي يشفع لأمته، وقد توفي عليه الصلاة والسلام وعمره ثلاث وستون سنةً.
فهو قد قبضه الله تعالى قبل أمته، فهو شفيعٌ لأمته يشفع لبعض أمته من أهل الكبائر، يشفع لهم في الخروج من النار، ممن مات على التوحيد، في الخروج من النار وفي دخول الجنة.
وعندما يشفع النبي الشفاعة العظمى يقول الله تعالى له: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطهْ، واشفع تشفَّع [11]، كل الناس بمن فيهم أولو العزم من الرسل، يقول: نفسي نفسي، إلا هذا النبي العظيم الكريم، يقول: أمتي أمتي، فيقول الله له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك [12].
ولهذا أكثر من يدخل الجنة من الأمم من هذه الأمة، وكل الناس يتمنى أنه من هذه الأمة لما يرى من كرامة الله لها، وهذه الأمة تشهد للأنبياء؛ كما قال النبي : يؤتى بنوحٍ، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيؤتى بأمته، ويقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، فيقول الله لنوحٍ: من يشهد معك؟ فيقول: أمة محمدٍ، فتقول أمة نوحٍ لأمة محمدٍ: كيف تشهدون وأنتم إنما جئتم بعدنا؟! قالوا: حدثنا بذلك نبينا فصدقناه؛ فنحن نشهد على ذلك [13]، هذا في “صحيح البخاري”، وهذا معنى قول الله : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، فيكرم الله هذه الأمة إكرامًا عظيمًا، مع أن نسبتها في البشر نسبةٌ قليلةٌ جدًّا.
يصف النبي عليه الصلاة والسلام نسبة هذه الأمة، يقول: كالشعرة في جلد الثور [14]، ما نسبة الشعرة في جلد الثور؟ نسبةٌ قليلةٌ جدًّا، ومع ذلك يكرم الله تعالى هذه الأمة، وهي أكثر الأمم دخولًا الجنة، وهي خير أمةٍ أخرجت للناس.
وإذا أراد الله هلكة أمةٍ، عذبها ونبيها حيٌّ؛ كما حصل مثلًا لقوم نوحٍ، عذبهم الله ونبيهم حيٌّ، فإن نوحًا دعا قومه تسعمئةٍ وخمسين سنةً، وسلك معهم جميع أساليب الدعوة، ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، ما نفعت معهم جميع الأساليب، حتى يئس منهم.
قال: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، كلما أتى مولودٌ رجا أن يؤمن، إذا هو أسوأ من أبيه، وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، فأهلكهم الله بالغرق، وأنجاه الله تعالى ومن آمن: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].
كذلك أيضًا الأمم الأخرى؛ قوم عادٍ، وقوم ثمود، والأمم الأخرى أهلكهم الله ، وقوم لوطٍ أهلكهم الله تعالى قبل أنبيائهم، ونبيهم ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره، فكانت العاقبة لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أما هذه الأمة فقبض الله نبيه قبل أمته ليكون شافعًا لها، فهذا من مزايا هذه الأمة، ومن إكرام الله لهذه الأمة.
باب حوض النبي
القارئ:
وحدثني أحمد بن عبدالله بن يونس: حدثنا زائدة، حدثنا عبدالملك بن عميرٍ قال: سمعت جندبًا يقول: سمعت النبي يقول: أنا فَرَطُكم على الحوض [15].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيعٌ، ح وحدثنا أبو كريبٍ: حدثنا ابن بشرٍ جميعًا، عن مسعرٍ، ح وحدثنا عبيدالله بن معاذٍ: حدثنا أبي، ح وحدثنا محمد بن المثنى: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قالا: حدثنا شعبة كلاهما، عن عبدالملك بن عميرٍ، عن جندبٍ، عن النبي بمثله.
الشرح:
نعم، هنا عقد المؤلف هذا الباب، باب حوض نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وأطال فيه، ذكر فيه عدة أحاديث كالبخاري، والأحاديث الواردة في حوض النبي قد بلغت حد التواتر:
مما تواتَرَ حديث من كذبْ | ومن بنى لله بيتًا واحتسبْ |
ورؤيةٌ شفــاعةٌ والحوضُ | ومسحُ خفين وهذي بعضُ |
فالأحاديث الواردة في الحوض بلغت حد التواتر، وهذا الحوض حوضٌ عظيمٌ، ويقول عليه الصلاة والسلام: أنا فرطكم، فرطكم يعني: سابقكم إلى الحوض، يقف عليه الصلاة والسلام على هذا الحوض، ويسبق أمته إليه.
وهذا الحوض حوضٌ عظيمٌ سيأتي وصفه من كلام النبي ، من يشرب منه لا يظمأ أبدًا؛ لأن الناس في الموقف يوم القيامة يصيبهم عطشٌ شديدٌ، فإن الشمس تدنو منهم حتى تكون على قدر ميلٍ.
وتكون الأرض مستويةً وممدودةً، وينالهم من الغم والكرب ما لا يطيقون معه ولا يحتملون.
إن الله تعالى يبعث الناس حفاةً عراةً غُرْلًا في ذلك الموقف المهيب العظيم الشديد، الذي يجعل الولدان شيبًا: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]، أرأيت الطفل يشيب من أهوال ذلك اليوم.
ثم هو يومٌ طويلٌ جدًّا وثقيلٌ، كم مقدار الموقف يوم القيامة؟ مقداره خمسون ألف سنةً، ولكن دلت الأدلة على أن الحساب يبدأ بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ، كما في قول الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، والقيلولة عند منتصف النهار.
وجاء عن الصحابة؛ كابن مسعودٍ وابن عباسٍ وغيرهم : أن الحساب يكون منتصف ذلك اليوم، يعني: بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ.
طيب كم نسبة عمرك إلى هذا؟ كم تعيش؟ ستين، سبعين، مئةً، كم نسبته إلى خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ، يومٌ طويلٌ جدًّا وثقيلٌ، حتى إن الإنسان يرى أحب الناس إليه في الدنيا يفر منه، يفر من أمه وأبيه وزوجته وأولاده وأخيه، وجميع من يحب، كل يقول: نفسي نفسي، يومٌ عظيمٌ ثقيلٌ طويلٌ.
في ذلك اليوم يكرم الله المؤمنين بكراماتٍ؛ منها: أنه يُظل سبعة أصنافٍ تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، المذكورين في الأحاديث: شابٌّ نشأ في طاعة الله، وإمامٌ عادلٌ، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه… إلى آخره [16].
ومن هذه أيضًا الكرامات للمؤمنين: هو أنهم يشربون من حوض نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء المؤمنون من أمته فقط.
والظاهر: أن لكل نبيٍّ حوضًا، لكن أعظمها وأوسعها وأكبرها وأحلاها هو حوض نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
ومتى يكون الشرب؟ قيل: إن الشرب يكون في الموقف، يعني في هذا الموقف العصيب، الذي ينتظر الناس فيه.
وقيل: إنه يكون بعد الحساب والنجاة من النار، وهذا محتملٌ، والله تعالى أعلم، أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، لا تَقِس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، لا ندري كيف يأتي الناس الحوض؟ وكيف يشربون منه؟ ومتى هذا يكون؟ لكن نؤمن بذلك، بأنه يكون عند وقت الشدة والكربة، يأتي المؤمنون من هذه الأمة إلى حوض نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فيجدونه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فمن يشرب منه يشرب شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا.
ويورد المصنف رحمه الله عدة أحاديث في أوصاف هذا الحوض، وأن هناك أناسًا يُرَدُّون عنه، يريدون أن يشربوا منه ويردون عنه، نستمع لهذه الأحاديث.
من الذين يُرَدُّون عن الحوض؟
القارئ:
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ: حدثنا يعقوب، يعني ابن عبدالرحمن القاريَّ، عن أبي حازمٍ قال: سمعت سهلًا يقول: سمعت النبي يقول: أنا فَرَطُكم على الحوض، من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازمٍ: فسمع النعمان بن أبي عياشٍ وأنا أحدثهم هذا الحديث، فقال: هكذا سمعتَ سهلًا يقول؟ قال: فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيدٍ الخدري لسمعته يزيد فيقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي [17].
وحدثنا هارون بن سعيدٍ الأَيْليُّ: حدثنا ابن وهبٍ: أخبرني أبو أسامة، عن أبي حازمٍ، عن سهلٍ، عن النبي ، وعن النعمان بن أبي عياشٍ، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي ، بمثل حديث يعقوب.
الشرح: نعم، يعني عندما يكون النبي عليه الصلاة والسلام على الحوض، يأتي أناسٌ فيريدون أن يشربوا من الحوض، فيحال بينهم وبينه، تمنعهم الملائكة من أن يشربوا من هذا الحوض، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي، من هم هؤلاء؟ قيل: إنهم هم المرتدون، الذين ارتدوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، والذين قاتلهم أبو بكرٍ الصديق .
وقيل: إنهم أهل البدع الذين بدلوا السنة، ولهذا ذهب الشاطبي، قال: ليسوا كفارًا؛ لأنهم لو كانوا كفارًا لقال: كفروا بعدك، ولم يقل: بدلوا بعدك، فهم من أهل البدع.
وقيل: إنهم أصحاب المعاصي والكبائر، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام.
ولكن إذا تأملنا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام هنا: أعرفهم ويعرفوني، وهذا يؤكد رجحان القول الأول، وهو أن المقصود بهم المرتدون؛ لأنه ارتد بعض الناس بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وهم قليلٌ ليسوا كثيرًا، ولهذا؛ سيأتي بعض الروايات: أُصَيْحابي [18]، قليلٌ.
وأيضًا جاء وصفٌ بـ”طائفة”، والطائفة تصدق على الثلاثة، فهم قلةٌ، وفيها الرد على الرافضة، ومن وافقهم، الذين قالوا: إن أكثر الصحابة ارتدوا، ويستدلون بهذا الحديث: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فنقول: إنما قُصد بهم أناسٌ قليلون، حصلت منهم الردة، وقاتلهم الصحابة في عهد أبي بكرٍ الصديق ، وانتصروا عليهم، فهؤلاء ارتدوا، وهم قلةٌ، وأما أكثر الصحابة -فالحمد لله- على الإسلام، وهم الذين نقلوا لنا الشريعة.
لكن هؤلاء نفرٌ قليلٌ، هذا إذا حملناه على أن المقصود بهم المرتدون، على أن بعض العلماء؛ كالشاطبي وغيره، قالوا: لا، إن المقصود بهم أهل البدع، وليس المقصود بهم هؤلاء المرتدون، المقصود بهم أهل البدع، هم الذين بدلوا سنة نبيه .
صفة حوض النبي
القارئ:
حدثنا داود بن عمرو الضَّبِّيُّ، حدثنا نافع بن عمر الجُمَحي، عن ابن أبي مُلَيكة قال: قال عبدالله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله : حوضي مسيرة شهرٍ، وزواياه سواءٌ، وماؤه أبيض من الوَرِق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا [19].
الشرح:
نعم، هذه جملةٌ من أوصاف هذا الحوض العظيم، قال: حوضي مسيرة شهرٍ، وهذا يدل على اتساعه، يعني بقدر ما يسير الإنسان على الإبل مدة شهرٍ، فهذا يدل على مسافةٍ كبيرةٍ، وكما ذكرنا أن عالم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا.
وزواياه سواءٌ: جاء في الرواية الأخرى: طوله شهرٌ، وعرضه شهرٌ [20].
وماؤه أبيض من الوَرِق يعني: أبيض من الفضة، أبيض بياضًا ناصعًا، أرأيت بياض الفضة؟ أبيض منها.
وريحه أطيب من المسك: رائحته زكيةٌ جدًّا أطيب من رائحة المسك.
وكيزانه يعني: أباريقه التي يُشرب فيها، وفي بعض الروايات جاء: أباريقه كنجوم السماء.
فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا: من شرب شربةً واحدةً لا يظمأ بعده أبدًا.
القارئ:
قال: وقالت أسماء بنت أبي بكرٍ: قال رسول الله : إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ أناسٌ دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي؟ فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم قال: فكان ابن أبي مُلَيكة يقول: «اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو أن نفتن عن ديننا» [21].
الشرح:
نعم، هذا حصل بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، هناك طوائف من العرب ارتدوا، وطوائف منعوا الزكاة، ولكن الصحابة قاتلوهم .
القارئ:
وحدثنا ابن أبي عمر: حدثنا يحيى بن سُلَيم، عن ابن خُثَيم، عن عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة، أنه سمع عائشة، تقول: سمعت رسول الله يقول وهو بين ظهراني الصحابة: إني على الحوض أنتظر من يرد عليَّ منكم، فو الله لَيُقتَطَعَن دوني رجالٌ، فلأقولن: أي رب مني ومن أمتي؟ فيقول: «إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم [22].
وحدثني يونس بن عبدالأعلى الصَّدَفي: أخبرنا عبدالله بن وهبٍ: أخبرني عمرٌو، وهو ابن الحارث، أن بُكَيرًا، حدثه عن القاسم بن عباسٍ الهاشمي، عن عبدالله بن رافعٍ مولى أم سلمة، عن أم سلمة زوج النبي ، أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله ، فلما كان يومٌ من ذلك، والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقالت: إني من الناس، فقال رسول الله : إني لكم فرطٌ على الحوض، فإياي لا يأتين أحدكم فَيُذَب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا [23].
الشرح:
نعم، هذا في حديث أم سلمة، وهو بمعنى الحديث السابق، أم سلمة كانت في بيتها، فجاريتها تمشطها، فسمعتْ النبي يقول: أيها الناس، فتريد أن تستمع، قالت لها الجارية: هذا خطابٌ للرجال، فهنا أم سلمة قالت: إني من الناس.
وهذا يدل على أن الأصل فيما يخاطب به الرجال يخاطب به النساء، الأصل في خطاب الرجال أنه يشمل النساء، إلا بدليلٍ يقتضي التخصيص، ففي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هذا يشمل الرجال والنساء.
ولهذا قالت أم سلمة رضي الله عنها: “إني من الناس”، وحتى أيضًا ما وجه للرجال يشمل النساء: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، يشمل الرجال والنساء، فالأصل إذنْ: أن ما خُوطِب به الرجال يخاطب به النساء، إلا بدليلٍ يقتضي التخصيص.
قال: إني لكم فرطٌ على الحوض، بمعنى الأحاديث السابقة: سابقٌ لكم على الحوض، وأنه يُذَب أناسٌ من أمته عن هذا الحوض، كما يذب البعير الضال، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنهم من أمتي، إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك.
وهذا على التفسيرات السابقة التي أقربها: أن المقصود بهم المرتدون الذين وقعت منهم الردة بعد وفاة النبي .
خشية النبي على أمته من الدنيا
القارئ:
وحدثني أبو معنٍ الرقاشي وأبو بكر بن نافعٍ وعبد بن حُميدٍ، قالوا: حدثنا أبو عامرٍ، وهو عبدالملك بن عمرٍو: حدثنا أفلح بن سعيدٍ: حدثنا عبدالله بن رافعٍ قال: كانت أم سلمة تحدث أنها سمعت النبي يقول على المنبر وهي تمتشط: أيها الناس، فقالت لماشطتها: كُفِّي رأسي…، بنحو حديث بُكَيرٍ عن القاسم بن عباسٍ.
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ: حدثنا ليثٌ، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامرٍ، أن رسول الله خرج يومًا فصلى على أهل أحدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطٌ لكم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها [24].
الشرح:
نعم، هذا كان في آخر حياة النبي ، ذهب وصلى على شهداء أحدٍ كالمودع للأموات وللأحياء، ثم أتى وصعد على المنبر وقال: إني فرطٌ لكم، وأنا شهيدٌ عليكم، والله إني لأنظر إلى حوضي الآن، كأنه جُلِّيَ له حتى يصفه.
وإني قد أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، لكنه عليه الصلاة والسلام أبى أن يأخذ مفاتيح الخزائن، وقال: بل أصبر، أجوع يومًا فأصبر، وأشبع يومًا فأشكر [25].
وإني والله ما أخاف عليكم في الرواية الأخرى: ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف عليكم أن تُفتح عليكم الدنيا، فتتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم [26]، وفي هذه الرواية قال: إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها، فهنا خشي النبي عليه الصلاة والسلام على أمته من التنافس في الدنيا، فلم يخش عليهم من الوقوع في الشرك، كما كانوا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، ولم يخش عليهم أيضًا من الفقر، وإنما خشي عليهم من أمرٍ واحدٍ، وهو الذي وقع، وهو الذي كانت له آثارٌ سيئةٌ على الأمة، وهو الترف وتنافُس الناس في الدنيا.
وكان الناس لما كانوا في زمن شدةٍ وفقرٍ، لم تكن هناك أمورٌ حدثت من الفتن والقلاقل، حتى عهد عمر ، وأول ثمان سنين من خلافة عثمان .
بعد ثمان سنين من خلافة عثمان مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، كثرت الغنائم؛ لأنهم كل يومٍ يفتحون بلدًا، ويأخذون من غنائمها، وتوزع الغنائم على الناس؛ لأن هذه كانت الدولة قديمًا تختلف عن الدولة الحديثة.
دولةٌ قديمةٌ فقط تحفظ الأمن الداخلي والخارجي، والتقاضي بين الناس، ما يأتيها من أموالٍ يوزع على الناس، فكان كل يومٍ توزَّع غنائم، فانتقل الناس من حالة الفقر والشدة إلى حالة الغنى والترف.
هذا سبب إشكالاتٍ للناس، أصبح الناس يتحدثون، وأصبح الناس ينقمون على الخليفة عثمان ، وأصبح من الناس من يفعل ذلك، إلى أن حصل ما حصل من الفتن العظيمة، والتي انتهت بمقتل عثمان ، كان سببها هو انفتاح الدنيا على الناس، لما انفتحت الدنيا على الناس، وكثرت الأموال بأيدي الناس، واغتنى الناس، كثرت الفتن، وكثرت القلاقل، وهذه من آثار الترف وكثرة الأموال بأيدي الناس.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها، يعني: تتنافسوا في الدنيا، فتهلككم كما أهلكتهم.
ولهذا؛ عندما نتأمل تاريخ المسلمين، نجد أن بداية الفتن أتت مع انفتاح الدنيا على الناس، لما كان الناس في فقرٍ وفي شدةٍ ما كانت توجد فتنٌ، لكن لما كثرت الأموال بأيدي الناس، بدأوا يتفرغون ويتكلمون، وهناك من يحرضهم؛ كابن سبأٍ ومن معه، حرضوهم على الخليفة عثمان حتى حصل ما حصل من الفتن العظيمة.
القارئ:
وحدثنا محمد بن المثنَّى: حدثنا وهب -يعني ابن جريرٍ- حدثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مرثدٍ، عن عقبة بن عامرٍ قال: صلى رسول الله على قتلى أحدٍ، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال: إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أَيْلَة إلى الجُحْفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله على المنبر [27].
الشرح:
نعم، صلاة النبي على قتلى أحدٍ هي صلاة خاصةٌ، وإلا فإن الشهيد الذي يقتل في المعركة لا يصلى عليه، بل لا يغسَّل، ويكفن في ثيابه التي مات فيها بدمائه، ولا يصلى عليه.
وأما صلاة النبي على قتلى أحدٍ، هذه صلاةٌ خاصةٌ؛ ولذلك لم يصل عليهم بعد موتهم مباشرةً، صلى عليهم بعد ثمان سنين، وهذا يدل على أنها صلاةٌ خاصةٌ، كالمودع للأموات وللأحياء.
لكن شهيد المعركة الذي يقتل في المعركة بين المسلمين والكفار، هذا لا يغسل، ويكفن في ثيابه، ولا يصلى عليه، كفى ببارقة السيوف فتنةً؛ لأنه ليس بحاجةٍ تحط عنه ذنوبه كلها، ليس بحاجةٍ لذلك؛ لأن صلاة الناس عليه، يسألون الله تعالى له، يشفعون له، وهو قد حطت عنه ذنوبه، وباع نفسه لله ، فيأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
فلذلك لا يصلى على شهيد المعركة، لكن لا بد أن يكون قتل على خط المواجهة، أما لو أنه مثلًا أصيب، ثم مات في المستشفى فلا، هذا يصلى عليه، يغسل ويكفن ويصلى عليه، لكن إذا قتل في خط المواجهة بين المسلمين والكفار، هذا لا يغسل، ويكفن في ثيابه التي مات فيها، ولا يصلى عليه.
فإن قال قائلٌ: أليس النبي صلى على قتلى أحدٍ؟
نقول: إن هذه صلاةٌ خاصةٌ؛ بدليل أنه لم يصل عليهم بعد موتهم مباشرةً، وإنما صلى عليهم بعد ثمان سنين، وفي آخر حياته عليه الصلاة والسلام، كالمودع للأحياء وللأموات.
قال: وإنَّ عرضه كما بين أَيْلة إلى الجُحْفة، في الرواية السابقة: إن عرضه مسيرة شهرٍ، قال القاضي عياضٌ: هذا الاختلاف في تقدير عرض الحوض ليس موجبًا للاضطراب؛ لأنه أتى في أحاديث مختلفةٍ رواها جماعةٌ من الصحابة سمعوها في مواطن مختلفةٍ، وضربها النبي عليه الصلاة والسلام لتقريب الأفهام.
فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذه التقديرات من باب التقريب، وليست من باب التحديد، وإلا فعالم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا، يختلف في كل شيءٍ، فالإنسان لا يستطيع أن يتصور عالم الآخرة، يعني مختلفٌ تمامًا، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما في الجنة: ليس فيها شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماء، الاسم هو الاسم، لكن الحقيقة مختلفةٌ تمامًا.
ويضرب بعض العلماء مثالًا لذلك لتوضيح هذه الفكرة، يقول: لو أن جنينًا في بطن أمه، قيل له: إنك ستخرج إلى الدنيا، وأن هذه الدنيا فيها شمسٌ وقمرٌ، وجبالٌ وأشجارٌ وأحجارٌ، وليلٌ ونهارٌ، وبشرٌ، و..، وصف له الدنيا، وهو في رحم أمه، في الرحم في ظلمات ثلاثٍ، هل سيتصور؟
لن يتصور، كيف الدنيا؟ كيف الشمس؟ كيف القمر؟ كيف..؟ لن يتصور، فيقول: كما أن حال الدنيا بالنسبة للجنين مختلفةٌ تمامًا، أيضًا الآخرة بالنسبة للناس في الدنيا مختلفةٌ تمامًا، كمثل هذا الجنين بالنسبة للدنيا أو أعظم، فعالم الآخرة متخلفٌ تمامًا.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يسوق هذه الأحاديث من باب التقريب للأفهام؛ ولهذا تارةً يقول: عرضه شهرٌ، وتارةً يقول: ما بين أيلة إلى الجحفة، كل هذا؛ لأجل تقريب الفهم، وأن عرضه متسعٌ جدًّا.
وإذا كانت الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، ما بالك بطولها؟! عالمٌ آخر، فالإنسان في هذه الدنيا حجمه صغيرٌ جدًّا، لا بد للإنسان أن يعرف مقداره وحجمه.
يعني: أنت الآن في الأرض، كم عدد سكان الأرض؟ أكثر من سبعة ملياراتٍ، كم حجمك في الأرض؟ الأرض هذه كحبة رملٍ في صحراء شاسعةٍ بالنسبة للمجرة، مجرة درب التبانة التي نعيش فيها، الكون فيه بلايين وليس ملايين، بلايين المجرات.
فالإنسان مخلوقٌ صغيرٌ جدًّا؛ ولذلك عالم الآخرة عالمٌ مختلفٌ، فنؤمن به كما ورد، لكنه مختلفٌ، فهذه الروايات تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أراد تقريب المسألة للأفهام، وإلا فهي ليست على سبيل التحديد، ولذلك؛ تارةً يعبر بعرض الحوض شهر، وتارةً يعبر ما بين أيلة إلى الجحفة، وسيأتي أيضًا تقديراتٌ أخرى كل هذه من باب التقريب لفهم هذه المسألة.
صفة سعة حوض النبي
القارئ:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريبٍ وابن نُميرٍ، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شَقيقٍ، عن عبدالله قال: قال رسول الله : أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقوامًا ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك [28].
وحدثناه عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، عن جَريرٍ، عن الأعمش، بهذا الإسناد، ولم يذكر: أصحابي أصحابي.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما، عن جريرٍ، ح وحدثنا ابن المثنَّى: حدثنا محمد بن جعفرٍ: حدثنا شعبة، جميعًا، عن مغيرة، عن أبي وائلٍ، عن عبدالله، عن النبي ، بنحو حديث الأعمش، وفي حديث شعبة عن مغيرة: سمعت أبا وائلٍ.
وحدثناه سعيد بن عمرٍو الأشعثي: أخبرنا عَبْثرٌ، ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن فُضيلٍ، كلاهما، عن حُصينٍ، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، عن النبي ، نحو حديث الأعمش ومغيرة.
حدثنا محمد بن عبدالله بن بَزِيعٍ: حدثنا ابن أبي عديٍّ، عن شعبة، عن معبد بن خالدٍ، عن حارثة، أنه سمع النبي قال: حوضه ما بين صنعاء والمدينة، فقال له المستورد: ألم تسمعه قال: الأواني؟ قال: لا، فقال المستورد: تُرَى فيه الآنية مثل الكواكب [29].
الشرح:
نعم، الآنية مثل الكواكب التي هي الأباريق، التي هي الكيزان، كل هذه الأباريق التي يُشرب فيها مثل الكواكب.
القارئ:
وحدثني إبراهيم بن محمد بن عرعرة: حدثنا حَرَمِي بن عمارة: حدثنا شعبة، عن معبد بن خالدٍ، أنه سمع حارثة بن وهبٍ الخزاعي يقول: سمعت رسول الله يقول: وذكر الحوض بمثله، ولم يذكر قول المستورد وقوله.
حدثنا أبو الربيع الزهراني وأبو كاملٍ الجحدري، قالا: حدثنا حمادٌ، وهو ابن زيدٍ: حدثنا أيوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : إن أمامكم حوضًا، ما بين ناحيتيه كما بين جَرْباء وأَذْرُح [30].
الشرح:
نعم، مكانان أيضًا كأيلة والجحفة، وجرباء وأذرح، وعرضه شهرٌ، هذه كلها على سبيل التقريب لبيان عظيم سعة هذا الحوض.
القارئ:
حدثنا زهير بن حربٍ، ومحمد بن المثنَّى، وعبيدالله بن سعيدٍ، قالوا: حدثنا يحيى وهو القطان، عن عبيدالله، أخبرني نافعٌ، عن ابن عمر، عن النبي قال: إن أمامكم حوضًا كما بين جَرْباء وأَذْرُح وفي رواية ابن المثنى: حوضي.
وحدثنا ابن نُميرٍ، حدثنا أبي، ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشرٍ، قالا: حدثنا عبيدالله، بهذا الإسناد مثله وزاد: قال عبيدالله: فسألته قال: قريتين بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليالٍ، وفي حديث ابن بشرٍ: ثلاثة أيامٍ.
الشرح:
يعني: جَرْباء وأَذْرُح قريتان بالشام، بينهما مسيرة ثلاثة أيامٍ، إذا قال العلماء: مسيرة يومٍ، ومسيرة يومين، ومسيرة ثلاثة أيامٍ، ماذا يقصدون؟
الطالب:…
الشيخ: نعم، بسير الإبل، يعني لو سارت الإبل المحملة، كم تسير؟ كم تسير الإبل المحملة؟ فيقولون: إنها تسير في النهار مسيرة (40 كيلومترًا)، الإبل المحملة تسير في النهار في الزمن المعتدل (40 كيلومترًا)، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع مكث عشرة أيامٍ، ما بين المدينة إلى مكة عشرة أيامٍ، وما بين المدينة إلى مكة (400 كيلو)، مع ذلك يقطع كل يومٍ كم؟ (40 كيلومترًا).
ولذلك لما قال الفقهاء: إن أقل مسافةٍ للقصر مسيرة يومين قاصدَين، أو مسيرة يومٍ وليلةٍ، فأربعون وأربعون ثمانون، فأقل مسافةٍ للقصر (80 كيلومترًا)، فانتبهوا لهذه المصطلحات.
معنى ذلك مسيرة ثلاث ليالٍ، أو ثلاثة أيامٍ، كم تكون بالكيلو؟ (120 كيلو)، فيكون هذا هو عرض الحوض، وهذا كما ذكرنا على سبيل التقريب للأفهام، ولذلك؛ ورد بعدة ألفاظٍ وعدة رواياتٍ.
كثرة آنية حوض النبي
القارئ:
وحدثني سُويد بن سعيدٍ: حدثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النبي بمثل حديث عبيدالله.
وحدثنا حرملة بن يحيى: حدثنا عبدالله بن وهبٍ: حدثني عمر بن محمد، عن نافع، عن عبدالله، أن رسول الله قال: إن أمامكم حوضًا كما بين جرباء وأذرح، فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا [31].
الشرح:
هنا قوله: كنجوم السماء، بعض العلماء قالوا: إنه على ظاهره، ولكن الذي يظهر أن هذا من باب التقريب، نجوم السماء كثيرةٌ جدًّا، كأنه يقول: فيها أباريق كثيرةٌ جدًّا، فهو عليه الصلاة والسلام يستخدم الأسلوب العربي الذي يأتي بمثل هذه الأساليب.
فإذا قال: كنجوم السماء، المقصود بذلك الكثرة.
القارئ:
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر المكي، واللفظ لابن أبي شيبة -قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران حدثنا- عبدالعزيز بن عبدالصمد العَمِّي، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذرٍّ قال: قلت: يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفس محمدٍ بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المُصْحِيَة، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، وعرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل [32].
الشرح:
خص الليلة المظلمة، يقول: لأن النجوم تظهر فيها أكثر، وهنا قال: من شرب منها لم يظمأ.
يشخب فيه ميزابان من الجنة: قيل: إنه يَصب في هذا الحوض ميزابان من نهر الكوثر من الجنة.
من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله: هذا يدل على أنه مربعٌ.
ما بين عمان إلى أيلة: وهذا أيضًا تقديرٌ آخر، يعني ورد: ما بين أيلة إلى الجحفة، وما بين عمان إلى أيلة، وأيضًا: عرضه شهرٌ، وما بين جرباء وأذرح، كل هذا من باب التقديرات؛ لأجل التقريب للأفهام.
أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل: وهذا أيضًا من باب التقريب، وإلا فهو فوق ذلك؛ لأن عالم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا.
ولذلك من الأدعية العظيمة أن يسأل المسلم ربه أن يسقيه من حوض نبيه عليه الصلاة والسلام، نسأل الله تعالى أن يسقينا من حوض نبيه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.
ونستكمل إن شاء الله قراءة بقية أحاديث الحوض في الدرس القادم، ونقف عند هذا القدر.
وبالنسبة للإجابة عن الأسئلة في هذا الدرس عندنا بعد نصف ساعةٍ برنامج فتوى من قناة الرسالة، فسنجيب عن الأسئلة التي وردتنا في البرنامج، وإن شاء الله تعالى من لم يتيسر الإجابة عن أسئلته الأسبوع القادم بإذن الله .
فنعتذر عن الإجابة عن الأسئلة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1, ^2 | رواه مسلم: 2284. |
---|---|
^3 | رواه مسلم: 2285. |
^4 | رواه البخاري: 6487، ومسلم: 2822. |
^5, ^6, ^7 | رواه مسلم: 2286. |
^8 | رواه مسلم: 2287. |
^9 | رواه أحمد: 8952. |
^10 | رواه مسلم: 2288. |
^11 | رواه البخاري: 3340، ومسلم: 193. |
^12 | رواه مسلم: 202. |
^13 | رواه البخاري: 7349 بنحوه. |
^14 | رواه البخاري: 6528، ومسلم: 221 بنحوه. |
^15 | رواه مسلم: 2289. |
^16 | رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031. |
^17 | رواه مسلم: 2290. |
^18 | رواه البخاري: 4625، ومسلم: 2304. |
^19, ^21 | رواه مسلم: 2292. |
^20 | رواه مسلم: 2300 بنحوه. |
^22 | رواه مسلم: 2294. |
^23 | رواه مسلم: 2295. |
^24, ^27 | رواه مسلم: 2296. |
^25 | رواه الترمذي: 2347، وقال: حسنٌ، وأحمد: 22190 بنحوه. |
^26 | رواه الترمذي: 2462، وقال: صحيحٌ، وابن ماجه: 3997 بنحوه. |
^28 | رواه مسلم: 2297. |
^29 | رواه مسلم: 2298. |
^30, ^31 | رواه مسلم: 2299. |
^32 | رواه مسلم: 2300. |